فصل: تفسير الآية رقم (39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى‏}‏ أي بسبب إغوائك إياي ‏{‏لازَيّنَنَّ‏}‏ أي أقسم لأزينن ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر، وقد جاء مصرحاً به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضاً‏:‏ ‏{‏لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ ومفعول ‏{‏أزينن‏}‏ محذوف أي المعاصي ‏{‏ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فإنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر، ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها، وذكر بعضهم أن هذا المعنى عرفى للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيراً لها، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزين محلاً يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه، ونحوه قول ذي الرمة‏:‏

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها *** إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة، وجوز جعل الباء للقسم و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أيضاً أي أقسم بإغوائك إياي لازينن، وأقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي أقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر ‏{‏فَبِعِزَّتِكَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بلإغواء غير متعارف انتهى، وفيه نظر ظاهر فإ قوله‏:‏ ‏{‏فَبِعِزَّتِكَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ يحتمل القسمية أيضاً، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعاً فالآية على الزاعم لا له‏.‏ نعم أن دعواه عدم تعارف القسم بالأغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يميناً شرعاً فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها، وفي نسبة الأغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عز وجل، وأول المعتزلة ذلك وقالوا‏:‏ المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لأفعلته أو أن المراد فعل به فعلاً حسناً أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الاغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب‏.‏

وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الاغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول‏:‏ وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة، وأيضاً من زعم أن حكيماً أو غيره يحصر قوماً في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية‏.‏

فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاغْوِيَنَّهُمْ‏}‏ حيث أفاد أن الاغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكاً لهم ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين‏.‏ ونافع‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك، وكان الظاهر وأن منهم من لا أغويه مثلاً، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه اثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا صراط عَلَىَّ‏}‏ أي حق لا بد أن أراعيه ‏{‏مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه تعالى، وقال أهل السنة‏:‏ إن ذلك وإن كان تفضلاً منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فنجيء بعلي لذلك أو إلى ما تضمنه ‏{‏المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلى من غير إعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك على إذا انتهى المرور عليه، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وليست ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ فيه بمعنى إلى‏.‏ نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها، وأخرج عن زياد بن أبي مريم‏.‏ وعبد الله بن كثير أنهما قرآ ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ وقالا‏:‏ ‏{‏على‏}‏ هي إلى وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل، وهي متعلقة بيمر مقدراً و‏{‏صراط‏}‏ متضمن له فيتعلق به‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلى وليس ذلك لك، والعرب تقول‏:‏ طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك، وعن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ إن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك على أي لا تفوتني، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ والمشارك على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول، واختار في «البحر» كونها إلى الإخلاص، وقيل‏:‏ الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال‏:‏ ‏{‏لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16، 17‏]‏ الخ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر‏.‏

وقرأ الضحاك‏.‏ وإبراهيم، وأبو رجاء‏.‏ وابن سيرين‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وحميد‏.‏ وأبو شرف مولى كندة‏.‏ ويعقوب، وخلق كثير ‏{‏عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ برفع ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ أي تسلط وتصرف بالاغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد، والاستثناء على هذا في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ منقطع واختار ذلك غير واحد، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء‏.‏

وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد‏.‏ والسيرافي‏.‏ وأكثر الكوفية، واختاره ابن خروف‏.‏ والشلوبين‏.‏ وابن مالك، وأجاز هؤلاء أيضاً استثناء النصف، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور‏.‏ والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف لما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة، واتفق النحويون كما قال أبوحيان وكذا الأصوليون عند الإمام‏.‏ والآمدي خلافاً لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقاً للمستثنى منه، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء وجواز له على الف إلا ألفين، وقيل‏:‏ إن كان المستثنى منه عدداً صريحاً يمتنع فيه النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان، وتحقيق هذه المسألة في الأصول، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أه قال‏:‏ المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل؛ وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذي هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى‏.‏

وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضاً ولا محذور في ذلك، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الإدعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان على ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً على تقدير إرادة الجنس أيضاً ويكون الكلام تكذيباً للملعون فيما أوهم أن له سلطاناً على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقاً له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيباً في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة‏.‏

‏{‏وَمِنْ‏}‏ على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون‏.‏ واستدل الجبائي بنفي أن يكون له سلطان على العباد على رد قول من يقول‏:‏ إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير، والأول بأن اعتباره ادخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه و‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ توكيد للضمير، وجوز أن يكون حالاً منه ويجعل على هذا الموعد مصدراً ميمياً ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكماً لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثاً لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعداً لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد، وفيه أيضاً إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفضاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 45‏]‏

‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روى ذلك عن عكرمة‏.‏ وقتادة، وأخرج أحمد في الزهد‏.‏ والبيهقي في البعث‏.‏ وغيرهما من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها»‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظي والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها، وجاء في ترتيبها عن الأعمش‏.‏ وابن جريج‏.‏ وغيرهما غير ذلك، وذكر السهيلي في كتاب الإعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن طكرها اه، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال‏:‏ إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها، وقيل‏:‏ الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم‏.‏

والجملة كما قال أبو البقاء يجوز أن تكون خبراً ثانياً ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالاً من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال ‏{‏لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ‏}‏ من الاتباع والغواة ‏{‏جُزْء مَّقْسُومٌ‏}‏ فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده، فياب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين، وروى هذا الترتيب في بعض الآثار، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين، وروى غير ذلك، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات‏.‏

ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة، وقرأ ابن القعقاع ‏(‏جز‏)‏ بتشديد الزاي من غير همزة ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن وثاب ‏{‏جُزْء‏}‏ بضم الزاي والهمز ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ حال من ‏{‏جُزْء‏}‏ وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجال والمجرور الواقع خبراً له، ورجح بأن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع فاعلاً بالظرف ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏مَّقْسُومٌ‏}‏ لأنه صفة ‏{‏جُزْء‏}‏ فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف، وكذا لا يجوز أن يكون صفة ‏{‏بَابٍ‏}‏ لأنه يقتضي أن يقال منها، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان‏:‏ أسوأ الناس حالاً من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصل إلى حرم القرب ‏{‏وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ رموه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم، والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون؛ وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ قال ابن عطاء‏:‏ أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبياناً للهدى فينتفع به من كان موسوماً بالسعادة منوراً بتقديس السر عن دنس المخالفة ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا وزيناها للناظرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16‏]‏ إشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو ‏{‏وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 17‏]‏ إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلاله ذاته عز وجل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق ‏{‏إِلاَّ مَنِ استرق السمع‏}‏ اختلس شيئاً من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 18‏]‏ نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولاً يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك‏:‏ إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظانا من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى مافي تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل‏:‏ الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلودنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئاً‏.‏

‏{‏والارض مددناها وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 19‏]‏ إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلى جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أولياه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير، وفي الخبر‏:‏ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» ثم أنه تعال لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والأزهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل‏:‏ أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكان الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ بالتدابير الجزئية ‏{‏وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 20‏]‏ ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم‏:‏ إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلظف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله‏.‏

‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء ‏{‏وَمَا نُنَزّلُهُ‏}‏ في عالم الشهادة ‏{‏إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل‏:‏ إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العبادة إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون‏:‏ إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول فأين تذهبون‏؟‏ ويقال‏:‏ خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال‏:‏ النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك ‏{‏وَأَرْسَلْنَا‏}‏ على القلوب ‏{‏الرياح‏}‏ النفحات الإلهية ‏{‏لَوَاقِحَ‏}‏ بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء‏:‏ رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكريم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقى من حرمها ‏{‏فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء‏}‏ أي سماء الروح ‏{‏مَاء‏}‏ من العلوم الحقيقية ‏{‏فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ‏}‏ وأحييناكم به ‏{‏وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ‏}‏ أي لذلك الماء

‏{‏بخازنين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏ لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم ‏{‏وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ‏}‏ القلوب بماء العلم والمشاهدة ‏{‏وَنُمِيتُ‏}‏ النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل‏:‏ نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة؛ وقيل‏:‏ نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي‏:‏ نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق‏:‏ نحيي القلوب بنور الايمان ونميت النفوس باتباع الشيطان؛ وقيل وقيل‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ الوارثون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 23‏]‏ للوجود والباقون بعد الفناء ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ‏}‏ وهم المشتاقون الطالبون للتقدم ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 24‏]‏ وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء‏:‏ من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناء والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل‏:‏ المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والاعراض، وقيل‏:‏ الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل‏:‏ الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 28‏]‏ فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماء بشراً لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد الإله، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال ‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ أضاف سبحانه الروح إلى نسه تشريفاً لها وتعظيماً لقدرها لماأنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل‏:‏ من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم ‏{‏فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30‏]‏ إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه ‏{‏أبى أَن يَكُونَ مع الساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 31‏]‏ ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا ‏{‏قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 33‏]‏ غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضاً أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل‏:‏

لو قال تيها قف على جمر الغضى *** لوقفت ممتثلاً ولم أتوقف

وقال بعض أهل الوحدة‏:‏ إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ أيضاً لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الإثنينية‏.‏ وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقاً فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم‏:‏

ما آدم في الكون ما إبليس *** ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل عبارة وأنت المعنى *** يا من هو للقلوب مغناطيس

وقال الحسين بن منصور‏:‏

جحودي لك تقديس *** وعقلي فيك منهوس

فمن آدم الاك *** ومن في البين إبليس

وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الواقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع ‏{‏قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 34‏]‏ طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قرباً من ربه ازداد خضوعاً وخشوعاً ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 35‏]‏ لم يد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافاً لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الارض‏}‏ أي لأزينن لهم الشهوات في الحهة السفلية ‏{‏وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39‏]‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون وحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه، وفي «الخبر» «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر» أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته‏.‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ أي الذي يناسبونك في الغوايم والبعد ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار‏.‏ أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال‏:‏ كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي‏:‏ أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثاً فقال إبليس‏:‏ أخبرني بأي شيء تنجو مني‏؟‏ قال النبي‏:‏ بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي‏:‏ إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ قال إبليس‏:‏ قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي‏:‏ ويقول الله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏ وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا اسعذت بالله تعالى منك قال إبليس‏:‏ صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي‏:‏ أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال‏:‏ آخذه عند الغضب وعند الهوى ‏{‏لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 44‏]‏ فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أي يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ أي مستقرون في ذلك خالدون فيه، والمراد بهم على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الحبر أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال‏:‏ وهذا هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقياً فالآتي بفرد يجب كونه متقياً، ولهذا قالوا‏:‏ ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضاً هذه الآية وردت عقيب قول إبليس‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ وعقيب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه‏.‏

وقد يقال‏:‏ لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب‏.‏

وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضاً فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏ الآية، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصاً بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد، وضم العين من ‏{‏عيون‏}‏ هو الأصل وبه قرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وحفص‏.‏ وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَعُيُونٍ ادخلوها‏}‏ أمر لهم بالدخول من قبله تعالى، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال لهم ادخلوها، وجوز أن يقدر مقولاً لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما، وقيل‏:‏ يقدر يقال لهم فيكون مستأنفاً، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏ادخلوها‏}‏ على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط‏.‏ وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه، وعنه ‏{‏ادخلوها‏}‏ بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها ‏{‏بِسَلامٍ‏}‏ أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلماً عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال، ويراد بالأمن في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانياً والأمن بغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ‏}‏ أي حقد، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها، وقيل‏:‏ قيل للحقد غل أخذاً له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما، وهذا النزع قيل في الدنيا، فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر عن كثير النوّا قال‏:‏ قلت لأبي جعفر إن فلاناً حدثني عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر‏.‏ وعمر‏.‏ وعلي رضي الله تعالى عنهم ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ‏}‏ قال‏:‏ والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزلا إلا فيهم‏؟‏ قلت‏:‏ وأي غل هو‏؟‏ قال‏:‏ غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية، ويشعر بذلك على ما قيل ما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم‏.‏ وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا‏}‏ الآية فقال رجل من همذان‏:‏ إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر، وقال‏:‏ فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك‏؟‏ وقيل‏:‏ إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال‏:‏ يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السر ونزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال‏:‏ ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ الفيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل، وقيل‏:‏ فيها قبل الدخول، فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن الحسن قال‏:‏ بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل»

وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين، وقيل‏:‏ معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم قبل النزع فتأمل‏.‏

‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 45‏]‏ وهي حال مترادفة أن جعل ‏{‏ادخلوها‏}‏ حالاً من ذلك أيضاً أو حال من فاعل ‏{‏ادخلوها‏}‏ وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 46‏]‏ أو الضمير المضاف إليه في ‏{‏صُدُورُهُمْ‏}‏ وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضاً، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ ويجوز أن يكون صفتين لإخوانا أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى المشتق أي متصافيين، ويجوز أن يكون ‏{‏متقابلين‏}‏ حالاً من المستتر في ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ سواء كان حالاً أو صفة، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو جزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك، ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش‏.‏ وجماعة وافقوه فيه، واختار كون ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ منصوباً على المدح؛ والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عز وجل وخلاصه من سجنه المشا إليه بما جاء في بعض الآثار «الدنيا سجن المؤمن»‏.‏ وكلب‏.‏ وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل، ويجمع أيضاً على أسرة، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية‏.‏ وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة‏.‏

وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع‏.‏

وقيل‏:‏ هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏متقابلين‏}‏ متساوين في التواصل والتزاور‏.‏

وفي بعض الأخباء إن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا‏}‏ أي في تلك الجنات ‏{‏نَصَبٌ‏}‏ تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلاً، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم‏.‏

وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلاً من رجال الدنيا؛ والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 45‏]‏ أو من الضمير في ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏ أو من الضمير في ‏{‏متقابلين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏ أو من الضمير في ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ أي هم خالدون فيها‏.‏ فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود، وهذا متكرر مع ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 46‏]‏ إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى مثلاً وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت‏:‏ إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏نَبّىء‏}‏ قيل‏:‏ مطلقاً، وقيل‏:‏ الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم ‏{‏عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم‏}‏ وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له، و‏{‏أَنَاْ‏}‏ إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل، وهو إما مبتدأ أو فصل، وأن وما بعدها قال أبو حيان‏:‏ ساد مسد مفعولي ‏{‏نَبّىء‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏ إن قلنا‏:‏ إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع، وقيل‏:‏ إن ذكرها حينئذٍ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم، وله وجه، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه‏:‏ وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة إنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويقوى أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة، وكذا ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال‏:‏ ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال‏:‏ إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي‏؟‏ ‏{‏نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏ الآية، وتقديم الوعد أيضاً يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور‏.‏

ومع ذلك كله في الآية ما تخشع منه القلوب، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وأخرج الشيخان‏.‏ وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام، وإنما سموا ضيفاً لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبوب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد، ولذا كان يكنى أبا الضيفان، واختلف في عددهم كما تقدم، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي أصحاب ضيف كما قاله النحاس‏.‏ وغيره، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره‏.‏

وقرأ أبو حيوة ‏{‏ونبيهم‏}‏ بإبدال الهمزة ياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على ‏{‏نَبّىء‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏ أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف لضيف بناءً على أنه مصدر في الأصل، وجوز أبو البقاء كونه ظرفاً له بناءً على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس‏.‏ وغيره، وأن يكون ظرفاً لخبر مضافاً إلى ‏{‏ضَيْفِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 51‏]‏ أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ عند ذلك‏:‏ ‏{‏سَلاَماً‏}‏ مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوباً به أي سلمت سلاماً من السلامة أو سلمنا سلاماً من التحية، وقيل‏:‏ هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولاً سلاماً ‏{‏قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه، وقوله عليه السلام هذا كان عند غير واحد بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير، وقيل‏:‏ كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذٍ بما أجابوا به ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام، وأيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ ظاهر فيما تقدم؛ ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس‏.‏

وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاءً بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلاً في هود فتذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ‏}‏ لا تخف وقرأ الحسن ‏{‏لاَ تَوْجَلْ‏}‏ بضم التاء مبنياً للمفعول من الإيجال، وقرىء ‏{‏لا‏}‏ من واجله بمعنى أوجله و‏{‏لا‏}‏ بإبدال الواو ألفاً كما قالوا تابة في توبة‏.‏

‏{‏يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ‏}‏ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً‏.‏

‏{‏بغلام‏}‏ هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاءً بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ ذي علم كثير، قيل‏:‏ أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبياً فهو على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى‏}‏ بذلك ‏{‏على أَن مَّسَّنِىَ الكبر‏}‏ وأثر في والاستفهام للتعجب، و‏{‏على‏}‏ بمعنى مع مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار و‏{‏على‏}‏ على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة‏.‏ وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأولى جعل ‏{‏على‏}‏ بمعنى في مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان‏.‏ ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏فَبِمَ تُبَشّرُونَ‏}‏ أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء‏.‏ وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة‏.‏

وقرأ الأعرج ‏{‏بشرتمون‏}‏ بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن ‏{‏لإِحْدَى الكبر‏}‏ بضم الكاف وسكون الباء‏.‏

وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء‏.‏

وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالاً لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء‏.‏ وقيل‏:‏ حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاءً بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرىء به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المؤنة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نوع الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم‏.‏

وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهي نون الرفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ بشرناك بالحق‏}‏ أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإياده من شيخ وعجوز ‏{‏فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين‏}‏ أي الآيسين من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفاً للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جل وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقاً أجل قدراً من ذلك، وينبىء عنه قول الملائكة عليهم السلام‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين‏}‏ على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا‏:‏ من الممترين ونحوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ وَمَن يَقْنَطُ‏}‏ استفهام إنكاري أي لا يقنط ‏{‏مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون‏}‏ أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب‏:‏ ‏{‏إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏ ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة‏.‏

وقرأ ابن وثاب‏.‏ وطلحة والأعمش‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏القانطين‏}‏ والنحويان‏.‏ والأعمش ‏{‏يَقْنَطُ‏}‏ بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث‏.‏ واستدل بالآية على تفسير ‏{‏الضالين‏}‏ بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو كما قال الراغب‏:‏ اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر «للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى» وقال الكمال بن أبي شريف‏:‏ العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقاً لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعاداً يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقاً اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ‏}‏ أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة ‏{‏أَيُّهَا المرسلون‏}‏ لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا، وتوسيط ‏{‏قَالَ‏}‏ بين كلاميه عليه السلام مشيراً إلى أن هناك ما طوى ذكره، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجرداً عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها على أن فيما ذكر بحثاً فقد قيل‏:‏ إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضاً إلى العدد؛ ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه، وأيضاً يرد على قوله‏:‏ ولذلك اكتفى الخ أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى المحراب أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏ وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضاً يخدش قوله‏:‏ ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏

فيجوز أن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَوْجَلْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 53‏]‏ تمهيداً للبشارة‏.‏ وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلاً عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدىء بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل‏:‏ المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوي ذكره بأنه بعيد وتوسيط ‏{‏قَالَ‏}‏ والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالاً إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى‏؟‏، وأما الثالث فلجواز أن يقال‏:‏ إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يكن يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال‏:‏ إنه لا يحسن أيضاً عند قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 52‏]‏ على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ هم قوم لوط عليه السلام، وجىء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذماً لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏إِلا ءالَ لُوطٍ‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يكون استثناءً من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعاً لأنهم ليسوا قوماً مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناءً من الضمير المستتر في ‏{‏مُّجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 58‏]‏ فيكون الاستثناء متصلاً لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ خبر الأبناء على ما سمعت سابقاً، وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حماراً أي لكن حماراً لم يجىء قالوا وقد يجىء خبرها ظاهراً نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قوميونس لما آمنوا كشفنا عنهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفياً وإثباتاً كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول‏:‏ لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة، وأيضاً معنى لكن الاستدراك، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال‏:‏ إنه في المعنى خبر وليس خبراً حقيقياً كما صرح به النحاة، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر‏.‏ نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبراً في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه، وفيه غفلة عن كونه مبنياً على ما نقل عن سيبويه، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبراً للكن فليراجع، وقيل‏:‏ قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى البعث مطلقاً فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وجملة ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ على هذا مستأنفة استئنافاً بياناً كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلا ءالَ لُوطٍ‏}‏ فما حال آل لوط؛ فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 58، 59‏]‏ الخ وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال‏:‏ لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقول المطلق أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً، وههنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين و‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناءً من استثناء انتهى‏.‏

وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين‏.‏ وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثنائين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وههنا قد تخلل ‏{‏منجوهم‏}‏ ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك؛ وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذٍ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه، وفي «الكشف» المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصاً وعدداً فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا ءالَ لُوطٍ‏}‏ في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح، وفيه أيضاً، فإن قلت‏:‏ لم لا يرجع الاستثناء إليهما‏؟‏ قلت‏:‏ لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعداً لا إلى جملة، وبعض جملة سابقة، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب‏.‏ الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ الآية فإن ‏{‏إِلاَّ الذين‏}‏ فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معاً لا إلى الجلد للدليل، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة‏.‏ الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللا خيرة فقط نحو أكرم العلماء واحتبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم‏.‏ الثالث‏:‏ إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب، الرابع‏:‏ أنه خاض بالأخيرة واختاره أبو حيان‏.‏

الخامس‏:‏ إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذى، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لوجعل الاستثناء من ‏{‏آل لوط‏}‏ لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من ‏{‏آل لوط‏}‏ إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالانجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الإمرأة محكوماً عليه بالإهلاك أو الإجرام‏.‏ ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضى فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشاً إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال‏:‏ لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه عن غير موجب والمستثنى منه مذكور، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافاً للكسائي حيث قال‏:‏ إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع، وكما وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله‏.‏ واختار ابن المنير كون ‏{‏إِلا ءالَ لُوطٍ‏}‏ مستثنى من ‏{‏قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 58‏]‏ على أنه منقطع قال‏:‏ وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعداً من حيث أن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوماً إلا زيداً وحسن ما رأيت أحداً إلا زيداً انتهى‏.‏

ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوماً إلا زيداً بل من قبيل رأيت قوماً أساءوا إلا زيداً فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين، قال في «همع الهوامع»‏:‏ ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال‏:‏ جاء قوم إلا ءجلاً ولا قام رجال إلا زيداً لعدم الفائدة، فإن أفاد جاز نحو ‏{‏فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلاً، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بخث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز، مع أن بعض الأصوليين أيضاً جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك‏.‏

نعم المصرح به في كثير من كتبا النحو نحو ما في «الهمع»‏.‏

وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعاً، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثراً ونظماً إلى الكمال بن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة، وأما الجواب عن سائر ما استشكلوه وسئل عنه الكمال فيغني عنه الإطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه، ومن هنا قال الشهاب‏:‏ أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضى أنه إذا اجتمع شيآن فصاعداً يصلحان لأن يستثني منهما فهناك تفصيل فاما أن يتغايرا معنى أولاً فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما برأب وابن الأزيدا أي زيد أب بار وابن بار، فإن لم يمكن الاشتراك نحو ما فضل ابن أبا إلا زيداً أو كان بعيداً نحوما ضرب أحد أحداً إلا زيداً فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولاً نحو ما فدى وصي نبيناً إلا علياً كرم الله تعالى وجهه، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيداً وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما، وإن تقدمهما معاً فإن كان أحدهما مرفوعاً لفظاً أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيداً أبا ابن أو من ابن، وإن لم يكن أحدهما مرفوعاً فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيداً واحداً على أحد ويقدر للأخير عامل، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضاً للأخير عامل، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالداً لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى‏.‏

وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيآن مثلاً يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه، وقال القاضي البيضاوي‏:‏ إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل ‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ مستثنى من ‏{‏آل لوط‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ أو من ضمير ‏{‏منجوهم‏}‏ وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة

‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ معترضة انتهى، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشي مطلقاً، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقاً أيضاً وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال‏:‏ المراد بالحكمين الحكم المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين إتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن و‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ خبراً له ثابتاً للآل فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض‏:‏ إن الحكمين وإن اختلفا ظاهراً إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه كالإخراج منه، وخذا بخلاف ما إذا كان استئنافاً فإنه يكون منقطعاً عنه ويكون جواباً لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض‏.‏ وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا‏:‏ إن هناك حكمين الإجرام والانجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضاً فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من ‏{‏آل لوط‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ ولذا جوز الرضى أن يقال‏:‏ أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيداً، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقياً بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري‏.‏ وفي «الحواشي الشهابية» أنه الحق دراية ورواية‏.‏ أما الأول‏:‏ فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارىء من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري، وأما الثاني‏:‏ فلما ذكر في التسهيل من أنه تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغاً في هذه الصورة كما إذا قلت‏:‏ لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك‏:‏ ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة، ثم أنه كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وأن كان مانعاً أيضاً كما صرح به الرضى فتدبر انتهى، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك‏.‏ وقرأ الأخوان ‏{‏لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59‏]‏ بالتخفيف‏.‏

‏{‏قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين‏}‏ أي الباقين في عداب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقي مع الكفرة لتهلك معهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع، وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏قَدَّرْنَآ‏}‏ بالتخفيف، وكسرت همزة ‏{‏ءانٍ‏}‏ لتعليق الفعل بوجود لام الإبتداء التي لها صدر الكلام، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب قال الزمخشري‏:‏ لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح، وقيل‏:‏ التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيهاً لكلام الزمخشري، ثم قال‏:‏ وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتء يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين‏.‏

نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدار مراد، وقال القاضي‏:‏ جاز أن يقال‏:‏ أجرى مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدوراً مراداً انتهى، وإنما أنكره لأنه اهعتزال تأباه الظواهر، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم‏:‏ بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها‏.‏

والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الزلفى والاختصاص، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة، وقيل‏:‏ ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل وقيل‏:‏ وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازاً‏.‏