فصل: تفسير الآية رقم (61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون‏}‏ شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكى عنه عليه السلام

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذي يريدون بهم ما يريدون ماهو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكاراً لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشركما قيل، كيف لا وهم بجوابهم المحكى

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه، قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول‏.‏ وجعل ‏{‏بَلِ‏}‏ إضراباً عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به‏.‏

وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام‏:‏ بما سمعت إضراباً عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك، ولم يقولوا بعذابهم مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم من التكذيب، قيل‏:‏ وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن، ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضاً، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة كما قال للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما، وحيث كان ذلك مستدعياً لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالاً ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر، ونسبة المجيء بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية، وجوز أن تكون للملابسة، وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏واتيناك بالحق‏}‏ أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم، عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراء عنه، وجوز أن يراد ‏{‏بالحق‏}‏ الاخبار بمجيء العذاب المذكور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ تأكيداً له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه، وعلى الأول‏:‏ تأكيداً إثر تأكيداً، ومن الناس من جوز كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول، ولا يخفى حاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ شروع في ترتيب مبادىء النجاة أي اذهب بهم في الليل‏.‏ وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهوس ير الليل، وقال الليث‏:‏ يقال‏:‏ أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره، وروى صاحب الإقليد ‏{‏فسر‏}‏ من سار وحكاها ابن عطية و«صاحب اللوامح» عن اليماني وهو عام، وقيل‏:‏ إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوباً من سرى‏.‏

‏{‏بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏ بطائفة منه أو من آخره، ومن ذلك قوله‏:‏

افتحي الباب وانظري في النجوم *** كم علينا من قطع ليل بهيم

وقيل‏:‏ هو بعد ما مضى منه شيء صالح، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل، وعلى قراءة ‏{‏سر‏}‏ لا شيء من ذلك، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى‏.‏ وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت ‏{‏بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ‏}‏ بفتح الطاء‏.‏

‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أوالهم، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ‏}‏ أي منك ومنهم ‏{‏أَحَدٌ‏}‏ فيرى ما وراءه من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده، وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجراً لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض يصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال‏:‏

تلفت نحو الحي حتى وجدتني *** وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه‏.‏

قال المدقق‏:‏ وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل فـ يالحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقية وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلامرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعاً في التنزيل ‏{‏وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏}‏ قيل‏:‏ أي إلى حيث يأمركم الله تعالى بالمضي إليه وهو الشام على ما روى عن ابن عباس‏.‏ والسدي، وقيل‏:‏ مصر وقيل‏:‏ الأردن وقيل‏:‏ موضع نجاة غير معين فعدى ‏{‏امضوا‏}‏ إلى ‏{‏الساحر حَيْثُ‏}‏ وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع‏.‏

واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه، وأما تعدية ‏{‏امضوا‏}‏ إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليباً، وأجيب بأن تعلق ‏{‏حَيْثُ‏}‏ بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلاً عند الأخفش كقوله‏:‏

للفتى عقل يعيش به *** حيث تهدي ساقه قدمه

أراد حين تهدي، ولا تستعمل غالباً إلا ظرفاً وندر جرها بالباء في قوله‏:‏

كان منا بحيث يفكي الإزار *** وبإلى في قوله‏:‏

إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم *** وبفي في قوله‏:‏

فأصبح في حيث التقينا شريدهم *** طليق ومكتوف اليدين ومرعف

وقال ابن مالك‏:‏ تصرفها نادر، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله‏:‏

إن حيث استقر من أنت راعيه *** حمى فيه عزة وأمان

فحيث اسم إن، وقال أبو حيان‏:‏ إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت حمى وحيث الخبر لأنه ظرف، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلاً ولا مفعولاً به ولا مبتدأ اه، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولاً به عن الفارسي، وخرج عليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسماً لأن خلافاً لابن ماكل، وزعم الزجاج أنها اسم موصول، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف، قال نجم الأئمة‏:‏ اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفاً للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال‏:‏ يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفاً لمضمونها فيكون كأنك قلت‏:‏ يوم قدوم زيد فيه اه، و‏{‏حَيْثُ‏}‏ على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو‏:‏

بيض المواضي حيث ليّ العمائم *** وحيث سهيل طالعاً، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظاً بأن تضاف إلى محذوفة معوضاً عنها ما كقوله‏:‏

إذا ريدة من حيث ما نفحت له *** أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في ‏{‏يُؤْمَرُونَ‏}‏ عائداً عليها، وقد نص بعضهم على أن ‏{‏حَيْثُ‏}‏ لا يصح عود الضمير عليها والذي في «البحر» أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها ‏{‏امضوا‏}‏ بنفسه كما تقول‏:‏ قعدت حيث قعد زيد، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما‏.‏

ونقل عن بعضهم القول بأن ‏{‏الساحر حَيْثُ‏}‏ هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ‏}‏ ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون ‏{‏تُؤْمَرونَ‏}‏ مع أن فيه استعمال ‏{‏حَيْثُ‏}‏ في أقل معنييها وروداً من غير موجب، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولاً وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة لمناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَضَيْنَا‏}‏ أي أوحينا ‏{‏إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر‏}‏ مقضياً مثبتاً فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته، وجعل المضمن حالاً كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره ‏{‏أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ‏}‏ على أنه بدل منه كما قال الأخفش، وجوز أبو البقاء كونه بدلاً من الأمر إذا جعل بياناً لذلك لا بدلاً، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر الخ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 65‏]‏ والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابساً لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد، وقرأ زيد بن علي، والأعمش رحمهم الله تعالى ‏{‏ءانٍ‏}‏ بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل‏:‏ ما ذلك الأمر‏؟‏ فقيل في جوابه‏:‏ إن دابر الخ أو على البدلية بناء على أن في الوحي معنى القول، قيل‏:‏ ويؤيده قراءة عبد الله ‏{‏وَقُلْنَا أَنَّ دَابِرَ‏}‏ الخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ أي داخلين في الصباح فإن الأفعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد، وهو من أصبح التامة حال من ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ وجاز بناء على أن المضاف بعضه، وقد قيل‏:‏ بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك، وليس العامل معنى الإضافة خلافاً لبعضهم، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، واختار أبو حيان كونه حالاً من الضمير المستكن في ‏{‏مَقْطُوعٌ‏}‏ الراجع إلى ‏{‏دَابِرَ‏}‏ وجاز ذلك مع الاختلاف إفراداً وجمعاً رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية‏.‏

وقدر الفراء‏.‏ وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول‏:‏ أنت راكباً أحسن منك ماشياً‏.‏ وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصحيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَآء أَهْلُ المدينة‏}‏ شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولاً على سبيل الإجمال، وهذا مقدم وقوعاً على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضاً مما يأبى عنه الطبع السليم، والمراد بالمدينة سذوم وبأهلها أولئك القوم المجرمون، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاءوا منزل لوط عليه السلام ‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم‏:‏ إن عنده عليه السلام ضيوفاً مرداً في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى‏}‏ الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبراً لهؤلاء، وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف، وقيل‏:‏ بحسب اعتقادهم لذلك، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليه السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَفْضَحُونِ‏}‏ أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه، يقال‏:‏ فضحته فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، ويقال‏:‏ فضح الصبح إذا تبين للناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُخْزُونِ‏}‏ أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل، والهوان، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَفْضَحُونِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 68‏]‏ أكثر تأثيراً في جانتبه عليه السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار، عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني استحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء، واستظهر بعضهم الأول، وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل‏:‏ لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك، وقيل‏:‏ رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعماً منه، وقال بعض الأجلة‏:‏ المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة‏.‏ وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام وكذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أُوذِينَا لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين‏}‏ أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فأنهم قالوا‏:‏ ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلناإذ لولا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك، ولما رآهم لا يقلعون عماهم عليه ‏{‏قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ يعني نساء القوم أو بناته حقيقة‏.‏ وقد تقدم الكلام في ذلك، واسم الإشارة مبتدأ و‏{‏بَنَاتِى‏}‏ خبره، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن، وجوز أن يكون ‏{‏بَنَاتِى‏}‏ بدلاً أو بياناً والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى، وأن يكون ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي، والمتبادر الأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 72‏]‏

‏{‏قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ شك في قبولهم لقوله فكأنه قال‏:‏ إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل‏:‏ إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله تعالى دون ما حرم، والوجه الأول كما في «الكشف» أوجه‏.‏ وفي الحواشي الشهابية‏:‏ أنه أنسب بالشك، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل، وعلى الوجهين المفعول مقدر، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم ما عليه جمهور المفسرين‏.‏

وأخرج البيهقي في الدلائل‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ الخ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه، فلا يرد ما قاله «صاحب الفرائد» من أنه تقدي من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص، وأياً ما كان فعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلاً، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم، ونقل ذلك عن الجوهري، وقال ابن يعيش‏:‏ لا يستعمل إلا فيه أيضاً وجاء شاذار عملي وعدوه من القلب، وقال أبو الهيثم‏:‏ معنى ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ لدينك الذي تعمل ويفسر بالعبادة، وأنشد‏:‏

أيها المنكح الثريا سهيلا *** عمرك الله كيف يلتقيان

أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال على ما نقل عن ابن الأعرابي عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد، وتركت فلاناً يعمر ربه أي يعبده وعهو غريب‏.‏ وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه‏:‏ الأصل عمرتك الله تعالى تعميراً فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافاً إلى مفعوله الأول، ومعنى عمرتك أعطيتك عمراً بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني أعني الاسم الجليل فهو على هذا منصوب، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلاً أي عمرك الله سبحانه تعميراً، وجوز الرضى أن يكون عمرك فيه منصوباً على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لا فعلن، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له، ولا بأس بإضافة عمر إليه تعالى، وقد جاء مضافاً كذلك قال الشاعر‏:‏

إذا رضيت على بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى‏:‏

ولعمر من جعل الشهور علامة *** منها تبين نقصها وكمالها

وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال‏:‏ لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلى أبدى، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم، قال النابغة‏:‏

لعمري وما عمري على بهين *** وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ خطاباً بالشخص حلفاً بحيلة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله‏.‏

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و‏{‏عُمُرِكَ‏}‏ بدون لام ‏{‏إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ‏}‏ أي لفى غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ يتحيرون فكيف يسمعون النصح، وأصل العمة عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك، والضمائر لأهل المديسنة، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية، وقيل‏:‏ ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق، ومن هنا قيل‏:‏ الجملة اعتراض وجملة ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ حال من الضمير في الجار والمجرور، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في ‏{‏سَكْرَتِهِمْ‏}‏ والعامل السكرة أو معنى الإضافة، ولا يخفاك حاله، وقرأ الأشهب ‏{‏سَكْرَتِهِمْ‏}‏ بضم السين، وابن أبي عبلة ‏{‏سكراتهم‏}‏ بالجمع، والأعمش ‏{‏سكرهم‏}‏ بغير تاء، وأبو عمر وفي رواية الجهضمي ‏{‏يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ‏}‏ بفتح الهمزة، وقال أبو البقاء‏:‏ وذلك على تقدير زيادة اللام، ومثله قراءة سعيد بن جبير ‏{‏إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ يعني صيحة هائلة، والتعريف للجنس، وقيل‏:‏ صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد؛ وقال الإمام‏:‏ ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية‏:‏ الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ داخلين في وقت شروق الشمس، قال المدقق‏:‏ والجمع بين مصبحين ومشرقين باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق؛ وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم، ومنه الأخيذ الأسير، ولك أن تقول‏:‏ ‏{‏مَقْطُوعٌ‏}‏ بمعنى يقطع عما قريب انتهى، وقيل‏:‏ ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ حال مقدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلْنَا عاليها‏}‏ أي المدينة كما هو الظاهر‏.‏ وجوز رجوعه إلى القرى وان لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل و‏{‏سَافِلَهَا‏}‏ الثاني له، وقد تقدم الكلام في ذلك ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ في تضاعيف ذلك ‏{‏حِجَارَةً‏}‏ كائنة ‏{‏مّن سِجّيلٍ‏}‏ من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه ‏{‏سِجّينٍ‏}‏ بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل‏:‏

ضربا تواصى به الأبطال سجينا *** وهو كما ترى‏.‏ وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال‏:‏ لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث سخينا بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضاً، وقيل‏:‏ هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به، وقد مر الكلام في ذلك أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما ذكر من القصة ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق ‏{‏لِلْمُتَوَسّمِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ للناظرين، وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما‏:‏ للمتفرسين، وقال مجاهد‏:‏ للمعتبرين، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة‏.‏ وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب، وقال ثعلب‏:‏ التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر‏:‏

أو كلما وردت عكاظ قبيلة *** بعثوا إلى عريفهم يتوسم

وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره، ويقال‏:‏ توسمت فيه خيراً أي ظهرت علاماته لي منه، قال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إني توسمت فيك الخير أعرفه *** والله يعلم أني ثابت البصر

والجار والمجرور في موضع الصفة ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ أو متعلق به، وهذه الآية على ما قال الجلال السيوطي أصل في الفراسة، فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جرياً على طريق إياس بن معاوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏ أي المدينة المهلكة وقيل القرى ‏{‏لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ‏}‏ أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل‏:‏ الضمير للآيات، وقيل‏:‏ للحجارة، وقيل‏:‏ للصيحة أي وإن الصيحة صد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏ و‏{‏مُّقِيمٌ‏}‏ قيل معلوم، وقيل‏:‏ معتد دائم السلوك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها ‏{‏لآيَةً‏}‏ عظيمة ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فانهم الذين يعرفون ان سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع، واما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لاكل القصة كما فيما سلف، وقيل‏:‏ للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانَ أصحاب الايكة لظالمين‏}‏ هم قوم شعيب عليه السلام؛ والايكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الايك، قال الشاعر‏:‏

تجلو بقادمتي حمامة ايكة *** بردا اسف لقاتة بالأثمد

والمراد بها غبضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم وقيل السدر فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ بلدة كانوا يسكنونها، واطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علماف، وأيد القول بالعملية أنه قرىء في الشعراء ‏(‏176‏)‏ وص ‏(‏13‏)‏‏}‏ ‏{‏ليكة‏}‏ ممنوع الصرف، و‏{‏إن‏}‏ عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى الا، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ جاز يناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب؛ والضمير لاصحاب الأيكة‏.‏

وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك‏.‏ روى غير واحد عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها ناراً فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة ‏{‏وَإِنَّهُمَا‏}‏ أي محلى قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل‏:‏ الضمير للأيكة ومدين، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لارسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلهما، فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيباً عليه السلام» ولا يخلو عن بعد بل قيل‏:‏ إن القول الأول كذلك أيضاً لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها ‏{‏لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ أي لبطريق واضح يتكرر مع الأخبار عنها آنفاً، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم‏:‏ الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وانهما لبطريق من الحق واضح‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ‏.‏

وقال مؤرج الإمام‏:‏ الكتاب في لغة حمير، والأخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر‏}‏ يعني ثمود ‏{‏المرسلين‏}‏ حين كذبوا رسولهم صالحاً عليه السلام، فإن من كذب واحداً من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، وقيل‏:‏ المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل‏:‏ الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه، وقال الشاعر‏:‏

قدنى من نصر الخبيبين قدى *** والقول بأنه نزل كل من الناقة وسقبها منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له ألاً فيما أرى‏.‏

والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا بسكنونه، قال الراغب‏:‏ يسمى ما أحيط به الحجارة حجراً وبه سمى حجر الكعبة وديار ثمود، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذراً من أن يصيبهم مثل ما أصابهم‏.‏

وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم باهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وءاتيناهم ءاياتنا‏}‏ من الناقة وسقبها وشربها ودرها‏.‏

وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة‏.‏ ودنوا نتاجها عند خروجها‏.‏ وعظمها حتى لم تشبهها ناقة‏.‏ وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعاً، وقيل‏:‏ كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل، وهو على الإجمال ليس بشيء، وقيل‏:‏ المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبتوتة في الأنفس والآفاق وفيه بعد، وقيل آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام‏.‏

وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال‏:‏ الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفى كونه معه مأموراً بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه، وقد يقال‏:‏ بتكرار النزول حقيقة ولا يخفي قوة الإيراد، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام، ومتى صح أن يقال‏:‏ أن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال‏:‏ إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول ‏{‏فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ غير مقبلين على العمل بما تقتضيه، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤوس الآي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءامِنِينَ‏}‏ من نزول العذاب بهم، وقيل‏:‏ من الموت لاغترارهم بطول الأعمار، وقيل‏:‏ من الانهدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها، وقال ابن عطية‏:‏ أصح ما يظهر لي في ذلك انهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن وتفريع قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أظهر في تأييد الأول، ووقع في سورة الأعراف ‏(‏78، 91‏)‏‏}‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ووفق بينهما بان الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها، واستشكل التقييد بمصبحين مع ما روى في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم، فإن هذا يقتضي أن أخد الصيحة اياهم بعد الضحوة لا مصبحين‏.‏ وأجيب بأنه ان صحت الرواية يحمل ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل‏:‏ يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفاً، وفيه تأمل فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏ ولم يدفع عنهم ما نزل بهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى فما الأولى نافية وتحتمل الاستفهام و‏{‏مَا‏}‏ الثانية يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه‏.‏

وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الاغناء المطلق فانه أمر مستمر، وفي الآية من التهكم بهم ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق‏}‏ أي الا خلقا متلبساً بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور، وقد اقتضت الحكمة اهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشاداً لمن بقى إلى الصلاح ‏{‏وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ‏}‏ ولا بد فننتقم أيضاً من أمثال هؤلاء، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي، وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه اهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة، وفي التفسير الكبير في وجه النظم انه تعالى لما ذكر اهلاك الكفار فكأنه قيل‏:‏ كيف يليق ذلك بالرحيم‏؟‏ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض‏.‏

وتعقبه المفسر بانه إنما يستقيم على قول المعتزلة، ثم ذكر وجهاً آخر ذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى الله عليه وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه، ثم إنه تعالى لما بين انزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى الله عليه وسلم إن الساعة لآتية وان لله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بنيهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، وإلى جواز تفسير ‏{‏الحق‏}‏ بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، وذكر أنه ينبىء عن ذلك الجملة الثانية؛ ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى‏.‏

واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقاً مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقاً بالحق، وهو كلام خال عن التحقيق ‏{‏فاصفح‏}‏ أي أعرض عن الكفرة المكذبين ‏{‏الصفح الجميل‏}‏ وهو ما خلا عن عتاب على ما روي غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب ‏{‏الصفح‏}‏ نفسه بترك الترثيب وذكر انه أبلغ من العفو وفي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل‏:‏ أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وحاصل ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضى وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم، وعلى هذا فالآية غير منسوخة، وعن ابن عباس‏.‏

وقتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك إنها منسوخة بآية السيف، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم، وآثار هذا الأخير العلامة الطيبي قال‏:‏ ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداواة وتخلصاً إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ‏}‏ إلى آخره ففيه حديث الأعراض عن زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم ان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات‏}‏ إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليلقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملاً في شأن الهداية وافياً بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية، ثم قال‏:‏ ومنه يظهر أن الآية عطف على ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا‏}‏ الخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أنه أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يشتفي به عن الغليل وان من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الخلاق‏}‏ لك ولهم ولسائر الأشياء على الأطلاق ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه ان الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل، وقال بعض المدققين‏:‏ إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش‏.‏ ومالك بن دينار ‏{‏هُوَ الخالق‏}‏ وكذا في مصحف أبي‏.‏ وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير و‏{‏الخلاق‏}‏ مختص بالكثير و‏{‏العليم‏}‏ أوفق به، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا‏}‏ أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر‏.‏ وعلي‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وأبي العالية والضحاك‏.‏ وابن جبير‏.‏ وقتادة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وجاء ذلك مرفوعاً أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضاً عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة، وفي أخرى عد، يونس دونهما، وفي أخرى عد الكهف، وقيل‏:‏ السبع آل حم، وقيل‏:‏ سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعاً منها وإن لم يكن لفظها وهي الأسباع، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع الأمر والنهي والبشارة والإنذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم، وأصح الأقوال الأول‏.‏ وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه، وقال أبو حيان‏:‏ إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك‏.‏ وأورد على القول بأنها السبع الطول ان هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية، وروي هذا عن الربيع، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ هي السبع الطول فقال‏:‏ لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بايتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها‏.‏ واعترض بأن ظاهر ‏{‏ءاتيناك‏}‏ يأباه، وقيل‏:‏ إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير ‏{‏مّنَ المثاني‏}‏ بيان للسبع وهو على ما قال في موضع من الكشاف جمع مثى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد ان مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو ‏{‏كَرَّتَيْنِ‏}‏ ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثنى بمعنى التثنية والأل أرجح نظراً إلى ظاهر اللفظ والثاني نطراً إلى الأصل وقال في موضع آخر‏:‏ إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جميع مثنى مفعل منهما اما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثنى ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولاً عنه لا مخترعاً ابتداء، واطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروى هذا عن الحسن وأبي عبد الله رحمهما الله تعالى وعن الزجاج لأنه تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضاً‏:‏ لأنه نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة‏.‏

وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل‏:‏ لأن كثيراً من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم، وقيل‏:‏ لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن اطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم، وروي هذا الادخار في غيرها أيضاً وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به، وعن أبي زيد البلخي أن اطلاق المثاني على ذلك لأنه يثنى أهل الشر عن شرهم فتأمل، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه اطلاقها عليه مع الاختلاف في الافراد والجمع، وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك‏}‏ بالنصب عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك لين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الاسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** البيت بناء على أن القرآن في نفسه الاسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، واختار بعض تفسير ‏{‏القرءان العظيم‏}‏ كالسبع المثاني بالفاتحة لما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص ‏{‏الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 1‏]‏ بالسورة وأشد طباقاً للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى الله عليه وسلم القرآن كله اه، وأمر العطف معلوم مما قبله‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏والقرءان‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏المثاني‏}‏، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ لا تطمح بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ‏}‏ من زخارف الدنيا وزينتها ‏{‏أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ أصنافاً من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، وقيل‏:‏ رجالاً مع نسائهم، والنهي قيل له صلى الله عليه وسلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة، وقيل‏:‏ هو لأمته وان كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام، وأيد بما أخرجه ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته، فقد أخرج أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بابل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ الآية، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع‏.‏ ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه، وحاصلها مع ما قبل أوتيت النعمة العظمة الت كل نعمة وان عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغنى بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا، وجعل من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ‏"‏ بناء على أن «يتغن» من الغنى المقصور كيستغنى وليس مقصوراً على الممدود، ويشهد لذلك ما في الحديث الصحيح في الخيل ‏"‏ وأما التي هي له سترلا فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ‏"‏ وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحد أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً‏.‏ وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه، وقال العراقي‏:‏ أن الخبر مروى لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث‏.‏

وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى واذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون‏:‏ لو كانت لنا لقتوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت، فكأنه سبحانه يقول‏:‏ قد أعطيتكم سبعاً هي خير من سبع قوافل، وروى هذا عن الحسن بن الفضل‏.‏ وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى‏.‏ نعم روى أنه صلى الله عليه وسلم وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها الخ وهو غير معروف، وقد قالوا‏:‏ إنه لم يعهد سفره صلى الله عليه وسلم للشام، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كانلهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ حيث أنهم لم يؤمنوا، وكان صلى الله عليه وسلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه ويشق عليه عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث أنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مداراً للحزن عليهم، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ كناية عن التواضع لهم والرفق بهم، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له، والجناحان من ابن آدم جانباه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمة املخوفة بمن لم يؤمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين‏}‏ قيل‏:‏ إنه متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ الخ على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ محذوف أي آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك أنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عناداً وعداوة‏:‏ بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، وتفسير المقتسمين المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن‏.‏ وغيره، وفي «الدر المنثور» أخرج البخاري‏.‏ وسعيد بن منصور‏.‏ والحاكم‏.‏ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ هم أهل الكتاب جزءوه أجزاءً فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وجاء ذلك مرفوعاً أيضاً، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال‏:‏ «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90‏]‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اليهود والنصارى قال‏:‏ ‏{‏الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ‏}‏ ما عضين‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ آمنوا ببعض وكفروا ببعض ‏"‏ أو اقتسموه لأنفسهم استهزاءً به؛ فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول‏:‏ سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض، وحمل توسط قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ الخ بين المتعلق والمتعلق على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية‏.‏ وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه، وقيل‏:‏ هو متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 89‏]‏ لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل‏:‏ أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة‏.‏ والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك‏.‏ وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوماً حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاماً يقتضيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ ونظائره، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسام تخصيص من غير مخصص، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر، وقال ابن السائب‏:‏ ستة عشر رجلاً حنظلة بن أبي سفيان‏.‏ وعتبة‏.‏ وشيبة ابنا ربيعة‏.‏ والوليد بن المغيرة وأبو جهل‏.‏ والعاص بن هشام‏.‏ وأبو قيس بن الوليد‏.‏ وقيس بن الفاكه‏.‏ وزهير بن أمية‏.‏ وهلال عبد الأسود‏.‏ والسائب بن صيفي‏.‏

والنضر بن الحرث‏.‏ وأبو البختري بن هشام‏.‏ وزمعة بن الحجاج‏.‏ وأمية بن خلف‏.‏ وأوس بن المغيرة أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم‏:‏ لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر، ويقول الآخر‏:‏ كذاب، والآخر‏:‏ شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات، ويجعل ‏{‏الذين‏}‏ منصوباً بالنذير على أنه مفعوله الأول و‏{‏كَمَا‏}‏ مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذواً مثل هذيانهم‏.‏

وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعاً ومعلوماً للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصاً بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة‏.‏ والأسود‏.‏ وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى، وقيل‏:‏ إنه صفة لمفعول ‏{‏النذير‏}‏ أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر، أي النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين‏.‏

وتعقب أيضاً بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون ‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا‏}‏ من مقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يصلح لذلك، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى، وفيه من التعسف ما لا يخفى، وأيضاً فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز‏.‏

وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه، وقيل‏:‏ المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا‏.‏ على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام فأهلكهم الله تعالى، والاقتسام بمعنى التقاسم، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبهاً به للعذاب المنذر، والموصول إما مفعول أول للنذير أو لما دل هو عليه من ‏{‏أُنذِرَ‏}‏‏.‏

وتعقب أيضاً بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبيت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوماً ولا وجوداً تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي‏.‏ وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة، وبعض من يسلمها يقول‏:‏ يجوز أن يكون الموصول صفة ‏{‏المقتسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90‏]‏ مراداً بهم أولئك الرهط، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه، ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم‏:‏ ‏{‏وءاتيناهم ءاياتنا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 81‏]‏ بناءً على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق، وإن أبيت ذلك بناءً على ما سمعت هنا لك التزمنا كون الموصول مفعولاً وقلنا‏:‏ فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب كالاقتسام على قتل النبي، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي، وفيه بحث، وقيل‏:‏ المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى، وقال أبو البقاء وليته لم يقل‏:‏ إن ‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم‏.‏ وذكر ابن عطية‏.‏ وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً على المقتسمين أي أهل الكتاب، ومرادهم على ما قيل أن ‏{‏مَا‏}‏ في ‏{‏كَمَا‏}‏ موصولة، والمراد من المشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول ‏{‏قُلْ‏}‏ أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقاً لذلك، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضاً بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأنت تعلم أن فيه بعداً لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم، وقريب منه ما قيل‏:‏ المعنى ولقد آتيناك سبعاً من المثاني إيتاءً موافقاً للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم، وفيه ما فيه‏.‏

وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها‏:‏ والأقرب من الأقوال المذكورة أن ‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90‏]‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ الخ، وإن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية، وحديث جلة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل‏.‏

والمعنى لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم إيناءً مماثلاً لإنزال الكتابين على أهلهما، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتائين لا بين متعلقيهما، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال‏:‏ كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 121‏]‏ الخ للتنبيه على ما بين الإيتائين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبهاً به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم، وتقدم وجوده على المشبه زماناً لا لمزية تعود إلى ذاته، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلاً عن إيهام ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكاراً لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذاناً بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي، وتوسيط قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولقد بين أولاً علو شأنه ورفعة مكانه صلى الله عليه وسلم بحيث يستوجب اعتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه، ثم نهى عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبىء عن وشك زوالها عنهم، ثم عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظم‏.‏

ثم رجع إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحياً صادقاً، فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب اه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق‏.‏

وفي «البحر» بعد نقل أكثر هذه الأقوال وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى الله عليه وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 89‏]‏ لكم ولغيركم كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ وتكون الكاف نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير وقل قولاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفارة المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفاً لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشّرِ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ اه بحروفه، وهو كما ترى ركيك لفظاً ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب، وعضين جمع عضة وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء؛ فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء‏.‏

وقيل‏:‏ العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر‏:‏ عاضه وللساحرة عاضهة، وفي حديث رواه ابن عدي في «الكامل»‏.‏ وأبو يعلى في مسنده ‏"‏ لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة ‏"‏ وأراد صلى الله عليه وسلم الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة‏.‏

وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان، قيل‏:‏ وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له، وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده؛ ومثل هذا كثير مطرد، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول‏:‏ عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم‏.‏ وأسد، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم‏.‏