فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 11‏]‏ ووجه الارتباط أن الأول‏:‏ كان قدحاً في التوحيد وهذا قدح في النبوة، والمراد من الموصول جهلة المشركين، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسرار‏:‏ 0 9‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1 2‏]‏ وقيل‏:‏ المراد به اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت رسولاً من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية، وهو كما ترى، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه

‏{‏لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله‏}‏ أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا، وهو استكبار منهم بعدّ أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام ‏{‏أَوْ تَأْتِينَا ءايَةٌ‏}‏ أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال، وقيل‏:‏ المراد إتيان آية مقترحة، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر ‏{‏كذلك قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم‏}‏ جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته ‏{‏مِّثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏ هذا الباطل الشنيع ‏{‏فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2 11‏]‏ ‏{‏اجعل لَّنَا إلها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق ‏{‏كذلك‏}‏ بـ ‏{‏تَأْتِينَا‏}‏ وحينئذ يكون الوقف عليه لا على ‏{‏ءايَةً‏}‏ أو جعل ‏{‏مِّثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏ متعلقاً بـ ‏{‏تشابهت‏}‏ وحينئذ يكون الوقف على ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة

‏{‏تشابهت قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقيل‏:‏ في التعنت والاقتراح، والجملة مقررة لما قبلها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني‏:‏ وذلك غير جائز لأنه فعل ماض والتاآن المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الإشكال، وقال ابن سهمي في الشواذ‏:‏ إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد‏.‏

تتقطعت بي دونك الأسباب *** وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم

‏{‏قَدْ بَيَّنَّا الآيات‏}‏ أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ‏{‏لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أي يعلمون الحقائق علماً ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم‏}‏ كما صرح به بعض المحققين، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين‏.‏ والآية رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الاتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم ‏{‏لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله‏}‏ إيذاناً بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ أي متلبسا مؤيداً به فالظرف مستقر، وقيل‏:‏ لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده، وفسر الحق بالقرآن أو بالاسلام وبقاؤه على عمومه أولى ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ حالان من الكاف، وقيل‏:‏ من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد‏:‏ إنا أرسلناك لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا‏؟‏ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي‏.‏

‏{‏وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم‏}‏ تذييل معطوف على ما قبله، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم‏؟‏ا،  وقرأ أبيّ و‏(‏ ما‏)‏ بدل و‏{‏لا‏}‏ وابن مسعود ‏(‏ولن‏)‏ بدل ‏(‏ذلك‏)‏ وقرأ نافع، ويعقوب لا تسأل على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلاً لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي أنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ، والنهي مجازي، ومن الناس من جعله حقيقة، والمقصود منه بالذات نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال‏:‏ ليت شعري ما فعل أبواي‏؟‏ فنزلت ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله عليه وسلم كما في «المنتخب» عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي‏:‏ لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها، قال السخاوي‏:‏ الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما‏.‏ والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول‏:‏ إنهما أفضل من عَلِيّ القاري وأضرابه‏.‏ والجحيم النار بعينه إذا شب وقودها ويقال‏:‏ جحمت النار تحجم جحماً إذا اضطربت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ‏}‏ بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللإشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم على ما روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت، والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب، ومنه طريق ملول أي مسلوك معلوم كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد تطلق الباطل كالكفر ملة واحدة، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقاً لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنغام‏:‏ 161‏]‏ وقد يطلق الدين على الفروع تجوزاً، ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظراً إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على الباطل أيضاً، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسماً للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه والنسخ والتبديل يقع فيها، وتطلق على الأصول الكلية تجوزاً قاله بعض المحققين‏.‏ ووحدت الملة وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر، وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى هُوَ الهدى‏}‏ فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم حق وغير باطل فأجيبوا بالقصر القلبي أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهدى الله تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى على أبلغ وجه لإضافة الهدي إليه تعالى وتأكيده بأن وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري، وجعله نفس الهدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جواباً لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما، وقيل‏:‏ يصح أن يكون لاقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب‏:‏

‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم‏}‏ أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بالملة وكان الظاهر ولئن اتبعتها إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذاناً بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييراً أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضاً‏.‏

‏{‏بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم‏}‏ أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره

‏{‏مالك مِنَ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ جواب للقسم الدال عليه السلام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل‏:‏ إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخراً عن الشرط وتأويل الجملة الإسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخراً مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه، وقيل‏:‏ إنه جواب لِكِلاَ الأمرين القسم الدال عليه اللام وإن الشرطية لأحدهما لفظاً وللآخر معنى وهو كما ترى، والخطاب أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضاً من المبالغة في الإقناط ما لا يخفى، وقيل‏:‏ الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهراً للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121 - 122‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيهاً على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ماقيل إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام

‏{‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ أي يقرءونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدراً تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه، و‏{‏حَقّ‏}‏ منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر، وجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف وأن يكون حالاً أي محقين والخبر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ ويحتمل أن يكون يتلونه خبراً لا حالاً، ‏{‏أولئك‏}‏ الخ خبراً بعد خبر أو جملة مستأنفة، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض، والضمير للكتاب أي أولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب عكرمة وقتادة، فالمراد من ‏(‏الكتاب‏)‏ حينئذ القرآن، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإليه ذهب ابن كيسان، فالمراد من الكتاب حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ إلى ‏{‏الهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 12‏]‏ أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الله تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد‏.‏

‏{‏وَمن يَكْفُرْ بِهِ‏}‏ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضاً‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل‏:‏ بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة أولاً‏:‏ بلفظ القبول متقدمة على العدل وهنا‏:‏ النفع متأخرة عنه، ولعله كما قيل إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطي المقدم وجوداً تقدمه ذكراً، والمتأخر وجوداً تأخره ذكراً، وقيل‏:‏ إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير نعمة بها فضلهم على العالمين وهي نعمة الإيمان ببني زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين لا المفضولين وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات‏}‏ في متعلق ‏{‏إِذْ‏}‏ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها بـ ‏{‏قَالَ‏}‏ الآتي، وبعضهم بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت والمشهور‏:‏ تعلقها بمضمر مقدم تقديره اذكر أو اذكروا وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد؛ فإن المقصد من تذكيرهم وتخويفهم تحريضهم على قبول دينه صلى الله عليه وسلم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك المقصد من قصة إبراهيم عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة على ملة الإسلام؛ وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه نال الإمامة بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظالمين وأن الكعبة كانت مطافاً ومعبداً في وقته مأموراً هو بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعياً مبتهلاً كما هو في دين النبي صلى الله عليه وسلم وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته؛ ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على ‏{‏نِعْمَتِيَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 122‏]‏ أي‏:‏ اذكروا وقت ابتلاء إبراهيم فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في الظلمة ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظالمين واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل ‏{‏اتقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏ بين المعطوفين والابتلاء في الأصل الاختبار كما قدمنا  والمراد به هنا التكليف، أو المعاملة معاملة الاختبار مجازاً، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى لكونه عالم السر والخفيات و‏(‏ إبراهيم‏)‏ علم أعجمي، قيل‏:‏ معناه قبل النقل أب رحيم وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير، والكلمات جمع كلمة وأصل معناها اللفظ المفرد وتستعمل في الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال واختلف فيها، فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إنها العشرة التي من الفطرة، المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة‏.‏

والاستطابة، والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضاً‏:‏ لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة ‏(‏112‏)‏ ‏{‏التائبون‏}‏ الخ، وعشر في الأحزاب ‏(‏53‏)‏ ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ الخ، وعشر في المؤمنين و‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ إلى ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1 4 3‏]‏ وفي رواية الحاكم في «مستدركه» أنها ثلاثون، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفظ لحدود الله تعالى، والإيمان المستفاد من ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ أو من ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ في الأحزاب، الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصيام والحفظ للفروج، والذكر والذي في المؤمنين‏:‏ الإيمان والخشوع والإعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة والرعاية للعهد، والأمانة اثنين، والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة، كالإيمان والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعداداً إنما ينافي تغايرها ذاتاً ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحداً ‏{‏والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4 2، 5 2‏]‏ غير الفاعلين للزكاة لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضاً فلا إشكال وقيل‏:‏ ابتلاه الله تعالى بسبعة أشياء‏:‏ بالكوكب، والقمرين، والختان على الكبر، والنار، وذبح الولد، والهجرة من كوثى إلى الشام، وروي ذلك عن الحسن، وقيل‏:‏ هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام، ‏(‏وقيل، وقيل‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى ثلاثة عشر قولاً، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما ‏(‏إبراهام‏)‏ وأبو بكرة ‏(‏إبراهِم‏)‏ بكسر الهاء وحذف الياء وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع ‏(‏إبراهيم‏)‏ ونصب ‏(‏ربه‏)‏ فالابتلاء بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد، والمراد‏:‏ دعا ربه بكلمات مثل ‏{‏رَبّ أَرِنِى كَيْفَ يُحْيِىَ الموتى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 62‏]‏ و‏{‏اجعل هذا البلد امِنًا‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 5 3‏]‏ ليرى هل يجيبه‏؟‏ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز‏.‏ وأما ما قيل‏:‏ إنه وإن صح من العبد لا يصح أو لا يحسن تعليقه بالرب فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ الابتلاء ويجوز أن يكون ذلك في مقام الإنس، ومقام الخلة غير خفي

‏{‏فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ الضمير المنصوب للكلمات لا غير، والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود لإبراهيم وأن يعود لربه على كل من قرائتي الرفع والنصب فهناك أربعة احتمالات الأول‏:‏ عوده على ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ منصوباً، ومعنى‏:‏ ‏{‏أتمهن‏}‏ حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق‏.‏

الثاني‏:‏ عوده على ‏{‏خَشِىَ رَبَّهُ‏}‏ مرفوعاً، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على إتمامهن أو أتم له أجورهن، أو أدامهنّ سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين‏.‏ الثالث‏:‏ عوده على إبراهيم مرفوعاً والمعنى عليه أتم ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم يأت بعدها بما يضيعها‏.‏ الرابع‏:‏ عوده إلى ‏{‏رَبَّهُ‏}‏ منصوباً والمعنى عليه فأعطى سبحانه إبراهيم جميع ما دعاه، وأظهر الاحتمالات الأول والرابع، إذ التمدح غير ظاهر في الثاني مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث، ولأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول‏.‏

‏{‏قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ استئناف بياني إن أضمر ناصب ‏{‏إِذْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ فماذا كان بعد‏؟‏ فأجيب بذلك، أو بيان لابتلى بناء على رأي من جعل الكلمات عبارة عما ذكر أثره وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت ‏{‏إِذْ‏}‏ بـ ‏{‏قَالَ‏}‏ كما ذهب إليه أبو حيان‏:‏ يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله، وقيل‏:‏ مستطردة أو معترضة، ليقع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ إن جعل خطاباً لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ و‏(‏ جاهل‏)‏ من جعل بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، و‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ إما متعلق بـ ‏(‏جاعل‏)‏ أي لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماماً كائناً لهم والإمام اسم للقدوة الذي يؤتم به‏.‏ ومنه قيل لخيط البناء‏:‏ إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالاً من صيغها كالإزار واعترض بأن الإمام ما يؤتم به، والإزار ما يؤتزر به فهما مفعولان ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك وليس فليس ويكون جمع آم اسم فاعل من أم يؤم كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملاً للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدي به في شيء ولو باطلاً كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 1 4‏]‏ إلا أن المراد به ههنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة كما هو مقتضى تعريف الناس وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأموراً باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ ولو بعضه لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك، فالمراد من ‏(‏الناس‏)‏ حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي ولكن في عقائد التوحيد وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلاً كما يشير إليه قوله تعالى؛

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 0 9‏]‏ وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر‏.‏

ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سبباً لجعله إماماً، وقيل‏:‏ إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من الكلمات يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضاً بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون إتمام الكلمات سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام ‏{‏وَمِن ذُرّيَتِى‏}‏ عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيداً وجعله على معنى‏:‏ ماذا يكون من ذريتي بعيد‏.‏ وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي اجعل من ذريتي إماماً لأنه عليه السلام فهم من ‏{‏إِنّى جاعلك‏}‏ الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافاً إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولون بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال ‏{‏وَمِن ذُرّيَتِى‏}‏ في معنى‏:‏ بعض ذريتي فكأنه قال‏:‏ وجاعل بعض ذريتي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب «العباب»‏:‏ إنه وارد في القراآت السبعة المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم، ودفع الثالث‏:‏ بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله‏:‏ واجعل بعض ذريتي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعات الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر؛ ونظير هذا العطف ما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«اللهم ارحم المحلقين قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ اللهم ارحم المحلقين قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ والمقصرين»

وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما في الحديث‏:‏ «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله» واعترض أيضاً بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة ذريته عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ماقيل، وليس كذلك؛ وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل‏:‏ يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام والذرية نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره، وقيل‏:‏ إنها تشمل الآباء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 14‏]‏ يعني نوحاً وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات ضم الذال وفتحها وكسرها وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الباء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأول ذريوية فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت ذريية كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت، أو فعيلة من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هرباً من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا‏:‏ وهو الأظهر لكثرة مجئيها كحرية ودرية، وعدم احتياجها إلى الإعلال وإنما ضمت ذاله لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر‏:‏ دهري‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني أيضاً؛ والضمير لله عز اسمه

‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبياً كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الإشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلاً على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة، وعبر عنها ‏{‏بِهِ‏}‏ للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقبل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلاً منهم في وقته المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ والمتبادر من الظلم الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع إطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك و‏{‏إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 3 1‏]‏ والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حالة الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الإمامة سواء كان عادلاً في باق العمر أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم، فعلى الأول‏:‏ يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني‏:‏ جهل الخليل، وحاشاه وعلى الثالث‏:‏ المطلوب، وحياه، وعلى الرابع‏:‏ إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي يدعونها ودون إثباته خرط القتاد وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضاً بأن نقول‏:‏ هو على قسمين، أحدهما‏:‏ من يكون ظالماً قبل الإمامة ومتصفاً بالعدالة وقتها اتصافاً مطلقاً بأن صار تائباً من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفاً بالعدالة المطلقة، والثاني من يكون ظالماً قبل الإمامة ومحترزاً عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال شاملاً لهذا القسم ولا بأس به إذا أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به؛ فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم، والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة، والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ، وغني لفقير، وجائع لشبعان، وحي لميت وبالعكس، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلاً على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الإمامة لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا‏؟‏ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها ههنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق على عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل، أو التزام جامع وهما مناط العيوق إنما يدعو إليه حمل الإمامة على النبوة، وقد علمت أن المبنى الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارىء والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاءاً كما منع عنها ابتداءاً لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن وبه قال بعض السلف إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله‏:‏ هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذين قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاءاً أيضاً بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعاً، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال‏:‏ إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهداً وهو كما ترى، وقرأ أبو الرجاء، وقتادة، والأعمش ‏(‏الظالمون‏)‏ بالرفع على أن ‏(‏عهدي‏)‏ مفعول مقدم على الفاعل اهتماماً ورعاية للفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا البيت‏}‏ عطف على ‏{‏وَإِذِ ابتلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ والبيت من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا ‏{‏مَثَابَةً لّلنَّاسِ‏}‏ أي مجمعاً لهم قاله الخليل وقتادة أو معاذاً وملجأ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعاً يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم قاله مجاهد وجبير أو مرجعاً يحق أن يرجع ويلجأ إليه قاله بعض المحققين أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره قال عطاء وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي لتأنيث البقعة وهو قول الفراء‏.‏ والزجاج وقال الأخفش‏:‏ إن التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة ‏(‏مثابات‏)‏ على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم ‏{‏سَوَاء العاكف فِيهِ والباد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ فهو وإن كان واحداً بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل‏:‏ إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعماً منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم ‏{‏وَأَمْناً‏}‏ عطف على ‏{‏مَثَابَةً‏}‏ وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف؛ أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجيء إليه من القتل وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من الملتجىء قصاص مطلقاً ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل ‏(‏أمنا‏)‏ مفعولاً ثانياً لمحذوف على معنى الأمر أي واجعلوه أمنا كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن ظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل، اكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائناً ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه أمن الناس دخولاً أولياً

‏{‏واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى‏}‏ عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملاً لـ ‏{‏إِذْ‏}‏، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه ‏{‏واتخذوا‏}‏ وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين ‏(‏جعلنا‏)‏ و‏(‏ عهدنا‏)‏ ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم رأس المخاطبين‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ إما للتبعيض أو بمعنى في أو زائدة على مذهب الأخفش والأظهر الأول، وقال القفال‏:‏ هي مثل اتخذت من فلان صديقاً وأعطاني الله تعالى من فلان أخاً صالحاً، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس، وجابر، وقتادة، وغيرهم، وأخرجه البخاري وهو قول جمهور المفسرين وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضاً، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم فالمقام في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما كذا قالوا إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع بما هو الموضع اليوم لما في «فتح الباري» من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضاً كيف يمكن رفع البناء حين القيام عليه حال كونه في موضعه اليوم‏؟‏ا وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعاً، وأيضاً المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع أشكل التعيين بماهو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعاً في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في «الفتح» من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم كذا ذكره بعض المحققين فليفهم وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر‏:‏

«أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر‏:‏ أفلا نتخذه مصلى فقال‏:‏ لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية» والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر من المصلى موضع الصلاة مطلقاً، وقيل‏:‏ المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية» فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى اتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولاً، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏واتخذوا‏}‏ بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو يحنئذ معطوف على ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده وهو الكعبة قبلة يصلون إليها‏.‏

فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا المصلى بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلابة بعلاقة القرب والمجاورة

‏{‏وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل‏}‏ أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى بـ ‏(‏إلى‏)‏ يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسمعيل علم أعجمي قيل‏:‏ معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولداً، ويقول‏:‏ اسمع إيل أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون

‏{‏أَن طَهّرَا بَيْتِىَ‏}‏ أي بأن طهرا على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ مصدرية وصلت بفعل الأمر بياناً للموصى المأمور به، وسيبويه وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمراً أو نهياً والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الإسمي كون صلته خبرية‏.‏ والموصول الحرفي مثله، وقدروا هنا قلنا ليكون مدخول الحرف المصدري خبراً، ويردّ عليهم أولاً أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه وثانياً‏:‏ أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثاً‏:‏ أن تقدير قلنا يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون ‏{‏ءانٍ‏}‏ هذه مفسرة لتقدم ما يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسراً لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئاً هو‏:‏ أن طهرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعاً كالحائض؛ وخص مجاهد، وابن عطاء، ومقاتل، وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامراً على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل‏:‏ المراد بَخرَاهُ ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل‏:‏ أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسمعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 6 2‏]‏ وكان إسمعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مثابة وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ‏{‏نَاقَةُ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3 7‏]‏ لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علواً كبيراً

‏{‏لِلطَّائِفِينَ‏}‏ أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، والطائف اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد وإليه ذهب عطاء وغيره وقال ابن جبير‏:‏ المراد الغرباء الوافدون مكة حجاجاً وزواراً‏.‏ ‏{‏والعاكفين‏}‏ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء‏:‏ هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد‏:‏ المجاورون له من الغرباء، وقيل‏:‏ هم المعتكفون فيه ‏{‏والركع السجود‏}‏ وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيراً ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذاناً بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود‏.‏ وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيأة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيآت وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا ءامَنَّا‏}‏ الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7 3‏]‏ أي اجعل هذا المكان القفر بلداً الخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم ‏(‏53‏)‏ ‏{‏رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا‏}‏ ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسؤول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه‏.‏ وإما غيره بأن يكون المسؤول أولاً‏:‏ مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانياً‏:‏ الأمن المعهود، ولك أن تجعل ‏{‏هذا البلد‏}‏ في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7 3‏]‏ الخ فتطابق الدعوتان حينئذٍ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلداً والمطلوب كونه آمناً على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلداً كاملاً في الأمن كأنه قيل‏:‏ اجعله بلداً معلوم الاتصاف بالأمن مشهوراً به كقولك كان هذا اليوم يوماً حاراً، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل‏:‏ ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 7‏]‏ وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمناً أهله فأسند ‏{‏مَا‏}‏ للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالاً، أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجذب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل‏؟‏‏؟‏ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي والقرامطة وغيرهم وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئاً آخر لا يجدي نفعاً كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل‏:‏

إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر *** وكان النداء بلفظ الرب مضافاً لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر‏.‏

‏{‏وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات‏}‏ أي من أنواعها بأن تجعل قريباً منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجىء إليه من الأقطار الشاسعة قد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل‏:‏ من الأردن وطاف بها حول البيت سبعاً فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله؛ وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهاراً للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيراً ما يقوم مقام جمع الكثرة، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض، وقيل‏:‏ لبيان الجنس‏.‏

‏{‏مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الاخر‏}‏ بدل من ‏{‏أَهْلِهِ‏}‏ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ عطف على ‏{‏مَنْ ءامَنَ‏}‏ أي وارزق من كفر أيضاً فالطلب بمعنى الخبر على عكس ‏{‏وَمِن ذُرّيَتِى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع ‏{‏لاَ يَنَالُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ الخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضياً عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في «البحر» من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير‏:‏ قال إبراهيم وارزق فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي أرزق من آمن ومن كفر بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً‏}‏ على الأول‏:‏ معطوف على ‏{‏كُفِرَ‏}‏ وعلى الثاني‏:‏ خبر للمبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير أنا لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحساناً، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سبباً للتمتع المطلق لكنه يصلح سبباً لتقليله وكونه موصولاً بعذاب النار وقليلاً صفة لمحذوف أي متاعاً أو زماناً قليلاً وقرأ ابن عامر ‏{‏فَأُمَتّعُهُ‏}‏ مخففاً على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبيّ فنمتعه بالنون وابن عباس ومجاهد ‏{‏فَأُمَتّعُهُ‏}‏ على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في ‏{‏قَالَ‏}‏ عائداً إلى إبراهيم وحسن إعادة ‏{‏قَالَ‏}‏ طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه أخذ في كلام آخر وكونه عائداً إليه تعالى أي‏:‏ قال الله فأمتعه يا قادر يا رازق خطاباً لنفسه على طريق التجريد بعيد جداً لا ينبغي أن يلتفت إليه‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار‏}‏ الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادراً من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلاً مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبِكِلاَ المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 3 1‏]‏ و‏{‏يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8 4‏]‏ و‏{‏فيؤخذ بالنواصى والاقدام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1 4‏]‏ ويؤيد الثاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1 7‏]‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1 7‏]‏ الآية و‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8 9‏]‏ والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعاً به وقوعاً محققاً حتى كأنه مربوط به، قيل‏:‏ إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضاً كأنه شبه حال الكافر الذي أدَرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلاً إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهراً حمل ‏(‏ثم‏)‏ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر إضطره بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب اضطره بضم الطاء وأبيّ نضطره بالنون، وابن عباس ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن أطره بإدغام الضاد في الطاء خبراً قال الزمخشري وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف ادغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في ‏{‏نغفر لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏ والضاد في الشين في ‏{‏لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2 6‏]‏ والشين في السين في ‏{‏العرش سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراد‏:‏ 2 4‏]‏ والكسائي الفاء في الباء في ‏{‏نَخْسِفْ بِهِمُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 9‏]‏ ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا مضطجع ومطجع إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل‏:‏ اضتر فأبدلت التاء طاءاً، ثم وقع الإدغام ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي وبئس المصير النار إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدراً على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ‏}‏ عطف على ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏ وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضاراً لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه ‏{‏القواعد مِنَ البيت‏}‏ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عالياً مرتفعاً، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيأته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيأة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيأة صار البناء عليه سبباً للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك ‏{‏يَرْفَعُ‏}‏ بمعنى يبني عليها، وقيل‏:‏ القواعد ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ القواعد عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل‏:‏ الرفع بمعنى الرفعة والشرف، والقواعد بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية وفيه بعد إذ لا يظهر حينئذٍ فائدة لذكر القواعد‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية متعلقة بـ ‏{‏يَرْفَعُ‏}‏ أو حال من ‏{‏القواعد‏}‏ ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى‏.‏

‏{‏وإسماعيل‏}‏ عطف على ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل‏:‏ كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إسمعيل مبتدأ وخبره محذوف أي يقول‏:‏ ربنا، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسمعيل فيه أصلاً بناءً على ما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلاً صغيراً، والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتى بالحجر الأسود‏؟‏‏؟‏‏؟‏ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضاً، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخاً فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها باباً واحداً ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح عند أهل الله تعالى إشارات ورموز لمن ألقى السمع وهو شهيد فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقى القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه‏:‏

‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والارض *حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل‏:‏ خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه‏:‏

ولو ترك القطا ليلاً لناما *** ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ يقولان ربنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل ‏{‏يَرْفَعُ‏}‏ وقيل‏:‏ معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقاً لـ ‏{‏إِذْ‏}‏ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجباً، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسمعيل عليهما السلام‏.‏

‏{‏إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم‏}‏ تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لإظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك فمسلمين إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظراً إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله‏.‏ وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه ‏{‏مُسْلِمِينَ‏}‏ بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية، وقد قيل به هنا، ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِنَا‏}‏ عطف على الضمير المنصوب في ‏{‏أَجَعَلْنَا‏}‏ وهو في محل المفعول الأول و‏{‏أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ في موضع المفعول الثاني معطوف على ‏{‏مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 3 11‏]‏ أو من قوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ باعتبار السياق إن في ذريتهما ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابعث‏}‏ الخ ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون ‏(‏أمة‏)‏ المفعول الأول ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِنَا‏}‏ حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها ومسلمة المفعول الثاني وكان الأصل واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك فالواو داخلة في الأصل على ‏(‏أمة‏)‏ وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، و‏(‏ من‏)‏ عند بعضهم على هذا بيانية على حد ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون ‏(‏من‏)‏ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره؛ ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر‏.‏

‏{‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏}‏ قال قتادة‏:‏ مَعالِمُ الحج، وقال عطاء وجريج‏:‏ مواضع الذبح، وقيل‏:‏ أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالباً والبعد عن العادة، ‏{‏وَأَرِنَا‏}‏ من رأى البصرية ولهمزة الأفعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في «المفصل» والراغب في «مفرداته» وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود ‏(‏وأرهم مناسكهم‏)‏ بإعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب وأرْنا بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة ‏(‏فخذ‏)‏ في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله‏:‏

أرنا إداوة عبد الله نملؤها *** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وقول الزمخشري‏:‏ إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضاً موجود في كلام العرب العرباء ‏{‏وَتُبْ عَلَيْنَا‏}‏ أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفاً لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه، وإن قيل‏:‏ إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراءاً للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإجابة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل‏:‏ بحذف المضاف أي على عصاتنا زال الإشكال كما إذا قلنا‏:‏ إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهواً، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس إن تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جداً، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعاً كما لا يخفى وقرأ عبد الله ‏{‏وَتَبَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ بضمير جمع الغيبة أيضاً ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم‏}‏ تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ‏}‏ أي ارسل في الأمة المسلمة وقيل‏:‏ في الذرية وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد ‏{‏رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا من ذريتهما فهو المجاب به دعوتهما، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني» وأراد صلى الله عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته على المبالغة ولما كان إسمعيل عليه السلام شريكاً في الدعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسمعيل أيضاً إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلاً في الدعاء، ووهم من قال‏:‏ إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسمعيل عليهما الصلاة والسلام‏.‏ وقرأ أبيّ ‏{‏وابعث فِيهِمْ فِى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الأثر أنه لما دعي إبراهيم قيل له‏:‏ قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان‏.‏

‏{‏يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَتُكَ‏}‏ أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما،  وقيل‏:‏ خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة ‏(‏رسولاً‏)‏ وقيل‏:‏ في موضع الحال منه‏.‏

‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب‏}‏ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره‏.‏

والظاهر‏:‏ أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون الرسول صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعواً به غير بين ولا مبين‏.‏

والحكمة أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة للكتاب أو الكتاب نفسه، وكرر للتأكيد اعتناءً بشأنه، وقد يقال‏:‏ المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون تعليم الكتاب عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الحكمة الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام؛ فتشمل الحكمة النظرية والعملية، قالوا‏:‏ وبينها وبين ما في ‏(‏الكتاب‏)‏ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس علماً وعملاً غير مذكور في ‏(‏الكتاب‏)‏ وأنت تعلم أن هذا القول بعد سماع قوله تعالى‏:‏

‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقوله سبحانه تعالى‏:‏ ‏{‏تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9 8‏]‏ مما لا ينبغي الإقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في ‏(‏الكتاب‏)‏ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر‏.‏

‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهرتهم أو يشهد لهم بالتزكية والعدالة بعيد ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحداً منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل ‏(‏العزيز‏)‏ هنا على من لا مثل له كما قاله ابن عباس أو المنتقم كما قاله الكلبي و‏(‏ الحكيم‏)‏ على العالم كما قيل لا يخلو عن بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم‏}‏ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملته وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد ‏{‏إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ أي جعلها مهانة ذليلة‏.‏ وأصل السفه الخفة، ومنه زمام سفيه أي خفيف وسفه بالكسر كما قال المبرد وثعلب‏:‏ متعد بنفسه، و‏{‏نَفْسَهُ‏}‏ مفعول به، وأما ‏(‏سفه‏)‏ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء في الحديث‏:‏ «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» وقيل‏:‏ إنه لازم أيضاً، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة؛ وقيل‏:‏ إن النصب بنزع الخافض أي في نفسه فلا ينافي اللزوم وهو قول لبعض البصريين وقيل‏:‏ على التمييز كما في قول نابغة الذبياني‏:‏

ونأخذ بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام

وقيل‏:‏ على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلاً‏:‏ إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان، وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة كما قيل به في البيت وأن البصريين منعوا مجىء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلاً من الضمير في ‏{‏يَرْغَبُ‏}‏ لأنه استثناء من غير موجب، وسبب نزول الآية ما روي أن عبد الله  بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام؛ فقال لهما‏:‏ قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة‏:‏ إني باعث من ولد إسمعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر، فنزلت ‏{‏وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا‏}‏ أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ صفوة الشيء أي خالصه‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏ أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون الراغب عن ملة إبراهيم سفيهاً إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية والصلاح جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير السفيه سوى خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالاً مقررة لجهة الإنكار واللام لام الابتداء أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظاً لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم وارتضاه الرضي ويحتمل أن يكون عطفاً على ما قبله، أو اعتراضاً بين المعطوفين واللام جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والإشعار بأن المدعي لا يحتاج إلى البيان، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى‏:‏ ماضوية لمضيها من وقت الإخبار، والثانية‏:‏ اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة، والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها، وكلمة ‏(‏في‏)‏ متعلقة بـ ‏(‏الصالحين‏)‏ على أن أل فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره، أو بمحذوف أي صالح أو أعني، وجعله متعلقاً بـ ‏(‏اصطفيناه‏)‏ وفي الآية تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالاً من المستكن في الوصف بعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

ظرف لاصطفيناه والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضاً أو حالاً مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب بـ ‏(‏اذكر‏)‏ كأنه قيل‏:‏ اذكر ذلك الوقت لتفق على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفاً لـ ‏{‏قَالَ‏}‏ وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل، والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويراً لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال‏:‏ المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد ‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 91‏]‏ ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة كما قيل به وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في الجواب إلى ‏{‏العالمين‏}‏ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهراً‏.‏