فصل: (سورة الإسراء)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏[‏سورة الإسراء‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحاً بمعنى نزه تنزيهاً لا بمعنى قال سبحان الله؛ نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيراً حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف، وجعل سبحانمصدر سبح مخففاً وليس بذاك، وقد يستعمل علماً للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياساً ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى‏:‏

قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

وقال الرضى‏:‏ لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافاً فلا يكون علماً وإذا قطع فقد جاء منوناً في الشعر كقوله‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودى والجمد

وقد جاء باللام كقوله‏:‏

سبحانك اللهم ذو السبحان *** ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به‏:‏ حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله‏:‏

خالط من سلمى خياشيم وفا *** انتهى، وظااهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائماً وعو على جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده، وانتصر له صاحب الكشف فقال‏:‏ إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة بل من باب حاتم طى وعنترة عبس وذكر أنه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والإبعاد من الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإضهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه، وكأنه قيل‏:‏ ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصواباً انتهى‏.‏

وأورد على ما ذكره أولا أن منع إضافة العلم قياساً لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الإضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطارىء فما نلأحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى‏.‏ وما ذكر من دلالته على التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور، ففي العقد الفريد عن طلحة قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال‏:‏ تنزيه لله تعالى عن كل سوء‏.‏

وقال الطيبي في قول الزمخشري‏:‏ إنه دل على التنزيه البليغ عن جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى إن ذلك مما يأباه مقام الإسراء إباء العيوف الورود وهو مزيف بل معناه التعجب كما قال في النور الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه وليس بشيء، ففي الكشف أن التنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض، وجعله مداراً والتعجب تبعاً ههنا هو الوجه بخلاف آية النور، وذكر بعضهم أن الظاهر من كلام الكشاف في مواضع أنه لا يرتضي الجمع بين التنزيه والتعجب للمنافاة بينهما بل لأن كلا منهما معنى مستقل فالجمع بينهما جمع بين معنى المشترك، وعلى الجمع فالوجه ما ذكر أنه الوجه فافهم، وقيل إن سبحان ليس علماً أصلاً بلا تفصيل ففيه ثلاثة مذاهب، وذكر بعضهم أنه في الآية على معنى الأمر أي نزهو الله تعالى وبرئوه من جميع النقائص ويدخل فيها العجز عما بعد أو من العجز عن ذلك، والمتبادر اعتبار المضارع، والإسراء السير بالليل خاصة كالسرى فأسرى وسرى بمعنى وليست همزة أسرى للتعدية كما قال أبو عبيدة، وقال ابن عطية‏:‏ الهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي أسري ملائكته بعبده، قال في البحر‏:‏ وإنما احتاج إلى هذه الدعوى لاعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد فإذا قلت‏:‏ قمت بزيد يلزم منه قيامك وقيام زيد عنده وإذا جعلت الباء كالهمزة لا يلزم ذلك كما لا يخفى، وقال أيضاً‏:‏ يحتمل أن يكون أسري بمعنى سرى على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل أسلاي ملائكته وهو مبني على ذلك الاعتقاد أيضاً، وقال الليث‏:‏ يقال أسري لأول الليل وسرى لآخره وأما سار فالجمهور على أنه عام لا اختصاص له بليل أو نهار‏.‏ وقيل إنه مختص بالنهار وليس مقلوباً من سرى، وإيثار لفظة العبد للإيذان بتمحضه صلى الله عليه وسلم في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح مبدأ الإسراء ومنتهاه، والعبودية على ما نص عليه العارفون أشرف الأوصاف وأعلى المراتب وبها يفتخر المحبون كما قيل‏:‏

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

وقال آخر‏:‏

بالله ان سألوك عني قل لهم *** عبدي وملك يدي وما أعتقته

وعن أبي القاسم سليمان الأنصاري أنه قال‏:‏ لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم ننشرفك‏؟‏ قال‏:‏ بنسبتي إليك بالعبودية فأنزل الله تعالى ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ وجاء قولوا عبد الله ورسوله، وقيل إن في التعبير به هنا دون حبيبه مثلا سداً لباب الغلو فيه صلى الله عليه وسلم كما وقع للنصارى في نبيهم عليه السلام، وذكروا أنه لم يعبر الله تعالى عن أحد بالعبد مضافاً إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الإشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل ما بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ظهر له الفرق التام بين مقام الحبيب ومقام الكليم صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً في هذه السورة ما يفهم منه الفرق أيضاً فلا تغفل، وإضافة ‏{‏سبحانه‏}‏ إلى الموصول المذكور للأشعار بعلية ما حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْلاً‏}‏ ظرف لأسرى، وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء وأنها بعض من أجزاء الليل ولذلك قرأ عبد الله‏.‏ وحذيفة ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ أي بعضه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

واعترض بأن البعضية المستفادة من من التبعيضية هي البعضية في الأجزاء والبعضية المستفادة من التنكير البعضية في الأفراد والجزئيات فكيف يستفاد من التنكير أن الإسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الإسراء كان في ليال أو لإفادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسياق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز مقام الشهود بالمطلوب‏.‏ وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء‏.‏

وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلاً عن سيبويه‏.‏ وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معياراً للتعميم وظرفاً محدوداً فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السرى له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازاً عن بعضه كما إنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازاً كما لا يخفى، وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف، وقيل‏:‏ المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضاً، وينافيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث، وزعم أن ذكر ‏{‏لَيْلاً‏}‏ للتأكيد أو تجريد الإسراء وإرادة مطلق السير منه ناشىء من قلة البضاعة كما لا يخفى‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمة كون الإسراء ليلاً ‏{‏مّنَ المسجد الحرام‏}‏‏.‏

الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الحجر منه، فقد أخرج الشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا في الحجر وفي رواية في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه» الحديث، وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤوا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل‏:‏ ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيماناً وحكمة وختم عليه ثم خرج به إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجماً فركبه الخبر، ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام، وقيل‏:‏ المراد به الحرم وأطلق عليه لإحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدى المنتهى‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في دار فاختة أم هانىء بنت أبي طالب؛ فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها، وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشاً فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة والسلام وسعى رجال إلى أبي بكر فقال‏:‏ إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه على ذلك قال‏:‏ إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة فسمى الصديق، وكان في القوم من يعرف بين المقدس فاستنعتوه إياه فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا‏:‏ أما النعت فقد أصاب فيه فقالوا‏:‏ أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ووضعته كما كان فاسألوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا‏؟‏ قالوا‏:‏ هذه آية قال‏:‏ ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً فنفر بعيرهما مني فانكسر فاسألوهما عن ذلك قالوا‏:‏ هذه آية أخرى، ثم سألوه عن العدة والاحمال والهيئات فمثلت له العير فاخبرهم عن كل ذلك وقال‏:‏ تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان قالوا‏.‏

وهذه آية أخرى فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل‏.‏ هذه الشمس قد طلعت وقال آخر‏:‏ هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال فلم يؤمنوا وقالوا هذا سحر مبين قاتلهم الله أني يؤفكون وفي بعض الآثار أن أم هانىء قالت‏:‏ فقدته صلى الله عليه وسلم وكان نائماً عندي فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ويقال إنه تفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذي طوى وهو ينادي يا محمد يا محمد فأجابه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا ابن أخي أعييت قومك أين كنت‏؟‏ قال‏:‏ ذهبت إلى بيت المقدس قال‏:‏ من ليلتك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ هل أصابك الأخير‏؟‏ قال ما أصابني الأخير وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وكما اختلف في مبدأ الإسراء اختلف في سنته فذكر النووي في الروضة أنه كان بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وفي الفتاوي أنه كان سنة خمس أو ست من النبوة، ونقل عنه الفاضل الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء الجزم بأنه كان في السنة الثانية عشرة من المبعث‏.‏ وعن ابن حزم دعوى الإجماع على ذلك، وضعف ما في الفتاوي بأن خديجة رضي الله تعالى عنها لم تصل الخمس وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين‏.‏ وقيل كان قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر، ووقع في حديث شريك بن أبي نمرة عن أنس أنه كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم وقد خطأه غير واحد في ذلك، ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين حديث شريك الواقع فيه ذلك بطوله، ثم قال‏:‏ هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة‏.‏

وقد روى حديث الإسراء عن أنس جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب‏.‏ وثابت البناني‏.‏ وقتادة فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث‏.‏

وأجاب عن ذلك محيي السنة وغيره بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وكذا اختلف في شهره وليلته فقال النووي في الفتاوي‏:‏ كان في شهر ربيع الأول، وقال في شرح مسلم تبعاً للقاضي عياض‏:‏ إنه في شهر ربيع الآخر، وجزم في الروضة بأنه في رجب، وقيل‏:‏ في شهر رمضان، وقيل‏:‏ في شوال، وكان على ما قيل الليل السابعة والعشرين من الشهر وكانت ليلة السبت كما نقله ابن الملقن عن رواية الواقدي، وقيل‏:‏ كانت ليلة الجمعة لمكان فضلها وفضل الإسراء، ورد بأن جبرائيل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول يوم بعد الإسراء الظهر ولو كان يوم الجمعة لم يكن فرضها الظهر قاله محمد بن عمر السفري، وفيه أن العمري ذكر في شرح ذات الشفاء أن الجمعة والجنازة وجبتا بعد الصلوات الخمس، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر إن صلاة الجمعة فرضت بمكة ولم تقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفياً، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة‏.‏

ونقل الدميري عن ابن الأثير أنه قال‏:‏ الصحيح عندي أنها كانت ليلة الاثنين واختاره ابن المنير، وفي البحر قيل إن الإسراء كان في سبع عشرة من شهر ربيع الأول والرسول صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية ووعشرين يوماً، وحكى أنها ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عن الجرمى، وهي على ما نقل السفيري عن الجمهور أفضل الليالي حتى ليلة القدر مطلقاً، وقيل هي أفضل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى أمته عليه الصلاة والسلام، ورد بأن ما كان أفضل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فهو أفضل بالنسبة إلى أمته عليه الصلاة والسلام فهي أفضل مطلقاً نعم لم يشرع التعبد فيها والتعبد في ليلة القدر مشروع إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم واختلف أيضاً أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه في المنام‏.‏

وروى ذلك عن عائشة‏.‏ ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، ولعله لم يصح عنها كما في البحر، وكان رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صغيرة ولم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام، وكان معاوية كافراً يومئذ، واحتج لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ لأن الرؤيا تختص بالنوم لغة، ووقع في حديث شريك المتقدم ما يؤيده، وذهب الجمهور إلى أنه في اليقظة ببدنه وروحه صلى الله عليه وسلم والرؤيا تكون بمعنى الرؤية في اليقظة كما في قول الراعي يصف صائداً‏:‏

وكبر للرؤيا وهش فؤاده *** وبشر قلبا كان جماً بلاله

وقال الواحدي‏:‏ إنها رؤية اليقظة ليلاً فقط وخبر شريك لا يعول عليه على ما نقل عن عبد الحق، وقال النووي‏:‏ وأما ما وقع في رواية عن شريك وهو نائم وفي أخرى عنه بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه صلى الله عليه وسلم نائماً في القصة كلها‏.‏

واحتج الجمهور لذلك بأنه لو كان مناماً ما تعجب منه قريش ولا استحالوه لأن النائم قد يرى نفسه في السماء ويذهب من المشرق إلى المغرب ولا يستبعده أحد، وأيضاً العبد ظاهر في الروح والبدن، وذهبت طائفة منهم القاضي أبو بكر‏.‏ والبغوي إلى تصديق القائلين بأنه في المنام والقائلين بأنه في اليقظة وتصحيح الحديثين في ذلك بأنّ الإسراءكان مرتين إحداهما في نومه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة فاسري بروحه توطئة وتيسيراً لما يضعف عنه قوى البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ ثم أسري بروحه وبدنه بعد النبوة؛ قال في الكشف‏:‏ وهذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأخبار‏.‏

وحكى المازري في شرح مسلم قولاً رابعاً جمع به بين القولين فقال‏:‏ كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسري بروحه الشريفة عليه الصلاة والسلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه عليه الصلاة والسلام قوله‏:‏ أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب، وليس معنى الإسراء بالروح الذهاب يقظة كالإنسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقاً للعادة ومحلاً للتجب أيضاً إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف، والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخاً ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية‏.‏

وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضعا فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلا بد من القول بالصحة المذكورة والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمله، وقال العلامة البيضاوي‏:‏ الاستخالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال، وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان، أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الاجرام والابعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة‏.‏

والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين، وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جداً، وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول‏:‏ قرص الشمس ضعف كرة الأرض فاي معنى لما زاده، وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال‏:‏ مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال 3953439 ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءاً من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعة من المسافة 817551 ميلا وسدس ميل وخمس ربع أو ربع خمس ميل، ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك 817551 ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخاً من مقعره والله تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان الله تعالى ما أعظم شأنه اه‏.‏

وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق 006915 أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فاين الأقل من ثانية‏.‏

وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة ههنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني هي الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلاً للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزأً من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزأً من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءاً من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزأً من يوم بليلته، ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين، وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلاً لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين وهو بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصاً من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزأً من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي، وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة، وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك إذن قسمة ضيزى، نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع، على كتب القوم، ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما نرجو أن يبل به الغليل، هذا والعلماء درجات والله تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل الله سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك، وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة، والبحث في ذلك طويل، ولا يستدل على الاستحالة بلزوم الخرق والالتئام، وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول‏:‏ إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله، ولم تتعرض الآية لأنه صلى الله عليه وسلم كان في الإسراء به محمولاً على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أسري به على البراق ‏{‏إلى المسجد الاقصى‏}‏ وهو بيت المقدس، ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز، وقال غير واحد‏:‏ إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة، وقيل‏:‏ لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين، وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث‏.‏

واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل‏:‏ ركب خلفه عليه الصلاة والسلام، والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق‏.‏ واختلف أيضاً في استمراره عليه عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماء فقيل‏:‏ عرج عليه، والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه، وجاء في وصفه وعظمه ما جاء، ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه صلى الله عليه وسلم على البراق‏.‏ ومن الأكاذيب المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى، وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء خمسة مراكب، الأول‏:‏ البراق إلى بيت المقدس، الثاني‏:‏ المعراج منه إلى السماء الدنيا، الثالث‏:‏ أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة، الرابع‏:‏ جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى، الخامس‏:‏ الرفرف منها إلى قاب قوسين، ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين، وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء الله تعالى وقد كان له عشر مراقي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش والله تعالى أعلم‏.‏

ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى فلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى، ثم لما رجع عليه الصلاة والسلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه، ولعمري إنه حديث خرافة لا مستند له شرعاً ولا عقلاً‏.‏

وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية‏:‏

جو رفرف شد مشرف ازوجودش *** كرفت ازدست رفرف عرش زودش

بدست عرش تن جون خرقه بكذاشت *** علم برلا مكان بي خرقه افراشت

كلى برد ندا زين دهليزه يست *** بدان دركاه وإلا دست بردست

جهت رامهره ازششدر رهانيد *** مكانرا مركب ازتنكى جهانيد

مكاني يافت خالي ازمكان نيز *** كه تن محرم نبودا نجا وجان نيز

ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكاناً، وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات، وقال بعضهم‏:‏ أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني‏:‏

جز بحزوى فثم عالم لطف *** من بقايا أجساده الأرواح

ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكاراً ما عليه مزيد، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات، ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلاً إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله‏:‏

قصه بيرنك معراج ازمن بيدل مبرس *** قطره دريا كشت وبيغمر نميدا نم جه شد

والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة والسلام في مسيره كانت باقية على امتدادها، ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى وادياً طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه؛ وكانت المسافة في غاية الطول، ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى الله تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى قدر ثلثمائة ألف سنة، وقيل‏:‏ خمسين ألفاً، وقيل غير ذلك، وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة، وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر، وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا‏:‏ المنع مكابرة، وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة والله تعالى أعلم بصحتها، ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام، ومثله في ذلك قول من قال‏:‏ الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار، وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلابيب أبدانهم وقليل ما هم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضاً وذكر ما فيه والله تعالى الموفق‏.‏

وإنما أسرى به صلى الله عليه وسلم ليلاً لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة والسلام فإن الليل وقت الحلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلاً إلا من هو خاص عنده وقد أكرم الله تعالى فيه قوماً من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار، وأيضاً الاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار، وأيضاً قالوا‏:‏ إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وأيضاً أسري به ليلاً ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب‏.‏

وقال ابن الجوزي في ذلك‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم سراج والسراج لا يوقد إلا ليلاً وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم إن الآية ليست نصاً في دخوله عليه الصلاة والسلام المسجد الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذى لِمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض، وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبلة لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله، وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس، وقيل‏:‏ بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تنفجر من تحت صخرته والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال، والأربع التي يمنع من دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد؛ مسجد المدينة‏.‏ ومسجد مكة‏.‏ والأقصى‏.‏ والطور‏.‏ والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضاً‏.‏ وأبو داود‏.‏ وابن ماجه عن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس قال‏:‏ أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة‏.‏

وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة والسلام أنها قالت‏:‏ يا رسول الله فإن لم تستطع إحدانا أن تأتيه قال‏:‏ إذا لم تستطع إحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتاً يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه كان كمن صلى فيه، وروى بعضه أبو داود، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض لخبر أبي ذر قلت‏:‏ يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الحرام قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الأقصى قلت‏:‏ كم بينهما قال‏:‏ أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه، وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سليمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير، والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا‏}‏ أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في «صحيح البخاري»‏.‏

وغيره، واطلع عليه الصلاة والسلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى‏.‏

ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى خلقاً كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضاً لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء‏؟‏ فقال‏:‏ ألم تسمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏ فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا إلى أين يذهبون، وقد صلى صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس، وقال في «العقائق» وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص؛ وقال بعضهم‏:‏ كانت دعاء، وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام كما قال القاضي زكريا في «شرح الروض»، والحكمة في ذلك أن يظهر أنه أمام الكل عليه الصلاة والسلام، وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف، وكذا اختلف في أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه بعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله، وجاء في رواية أنه عليه الصلاة والسلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها، وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض، وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم، وقيل‏:‏ إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك، وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة؛ وإنما أسري به صلى الله عليه وسلم أولاً إلى بيت المقدس وعرج به ثانياً منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف الحضرة التي عرج إليها على ما قيل، وقيل‏:‏ توطيناً له عليه الصلاة والسلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريباً أيضاً، وقيل‏:‏ لتتشرف به أرض المحشر ذهاباً وإياباً، وقيل‏:‏ لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ إن لله تعالى باباً مفتوحاً من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسريه به صلى الله عليه وسلم إلى هناك أولاً ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء، وقيل‏:‏ إن اسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأرزقنا لقاءه فبدىء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلاً للإجابة، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن إراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل، وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبينا صلى الله عليه وسلم بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ وفرق بين الحبيب والخليل، وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 18‏]‏، وقال الخفاجي‏:‏ السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاوماً للمعراج فتأمل‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الآية لنرى محمداً صلى الله عليه وسلم للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة والسلام آية في أنه يصنع الله تعالى ببشر هذا الصنع، ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد، ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية، نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وكذا ليست الآية نصاً في المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له صلى الله عليه وسلم في الإسراء فقط بل قال بعضهم‏:‏ ليس في الآيات مطلقاً ما هو نص في ذلك، من هنا قالوا‏:‏ الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع؛ وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل، وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة والسلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه، وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبر فيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة، وقيل‏:‏ إن الإشارة بعد ذلك التصريح كافية فتدبر، وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ إلى صيغة المتكلم المعظم في ‏{‏بَارَكْنَا مِنْ ءاياتنا‏}‏ لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم، وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ يدل على مسيره عليه الصلاة والسلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَهُ‏}‏ على معنى بعد الاتصال وعز الحضور فيناسب التكلم معه، وأما الغيبة فلكونه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك اليق وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ ءاياتنا‏}‏ عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه، وأما الغيبة في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع البصير‏}‏ على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِعَبْدِهِ‏}‏ ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذ المعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام، قال الطيبي‏:‏ أنه هو السميع لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى، وأما على تقدير كون الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال‏:‏ أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا، وقال الجلبي‏:‏ إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى‏:‏

‏{‏مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏ فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَبْدِهِ‏}‏، وقيل‏:‏ للإشارة إلى اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر، ولا يمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقاً ولا هنا، قال الطيبي‏:‏ ولعل السر في مجىء الضمير محتملاً للأمرين الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفاً فافهم تسمع وتبصر، وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا إذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه صلى الله عليه وسلم بتلك الكرامة‏.‏

وزعم ابن عطية أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع البصير‏}‏ وعيد للكفار على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏لِيُرِيَهُ‏}‏ بياء الغيبة ففي الآية حينئذٍ أربع التفاتات‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي الكتاب وهو الظاهر أو موسى عليه السلام ‏{‏هُدًى‏}‏ عظيماً ‏{‏لّبَنِى إسراءيل‏}‏ متعلق بهدى أو بجعل واللام تعليلية والواو استئنافية أو عاطفة على جملة ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ لا على ‏{‏أسرى‏}‏ كما نقله في «البحر» عن العكبري‏.‏

وحكى نظيره عن ابن عطية لبعده وتكلفه، وعقب آية الإسراء بهذه استطراداً تمهيداً لذكر القرآن، والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجاً فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين ‏{‏أسرى بِعَبْدِهِ وَءاتَيْنَآ مُوسَى‏}‏ وبين ‏{‏هُدًى لّبَنِى إسراءيل‏}‏ ‏{‏وَيَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏أَلاَّ تَتَّخِذُواْ‏}‏ أي أي لا تتخذوا على أن تفسيرية ولا ناهية، والتفسير كما قال أبو البقاء لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي، وقيل لمحذوف أي آتينا موسى كتابة شيء هو لا تتخذوا، والكتاب وإن كان المراد به التوراة فهو مصدر في الأصل، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر‏.‏

وجوز في «البحر» أن تكون أن مصدرية والجار قبلها محذوف ولا نافية أي لئلا تتخذوا، وقيل يجوز أن تكون أن وما بعدها في موضع البدل من ‏{‏الكتاب‏}‏ وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة و‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ معمول لقول محذوف ‏{‏وَلاَ‏}‏ فيه للنهي أي قلنا لا تتخذوا‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة أن‏.‏

وكذا جوز أن تكون ‏{‏لا‏}‏ زائدة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ والتقدير كراهة أن تتخذوا ولا يخفى ما فيه‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وأبو عمرو من السبعة أن لا تتخذوا بياء الغيبة، وجعل غير واحد أن على ذلك مصدرية ولم يذكروا فيها احتمال كونها مفسرة، وقال شيخ زاده‏:‏ لا وجه لأن تكون أن مفسرة على القراءة بياء الغيبة لأن ما في حيز المفسرة مقول من حيث المعنى والذي يلقى إليه القول لا بد أن يكون مخاطباً كما لا وجه لكونها مصدرية على قراءة الخطاب لأن بني إسرائيل غيب فتأمل‏.‏ والجار عندهم على كونها مصدرية محذوف أي لأن لا يتخذوا ‏{‏مِن دُونِى وَكِيلاً‏}‏ أي رباً تكلون إليه أموركم غيري فالوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه أي المفوض إليه الأمور وهو الرب، قال ابن الجوزي‏:‏ قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل و‏{‏مِنْ‏}‏ سيف خطيب ودون بمعنى غير وقد صرح بمجيئها كذلك في غير موضع وهي مفعول ثان لتتخذوا و‏{‏وَكِيلاً‏}‏ الأول‏.‏

وجوز أن تكون من تبعيضية واستظهر الأول، والمراد النهي عن الإشراك به تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ نصب على الاختصاص أو على النداء؛ والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال‏:‏ من قرأ ‏{‏يَتَّخِذُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال، وقول بعضهم‏:‏ ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً ويخبر عن أحد فيقول‏:‏ يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي‏.‏

وجوز أن يكون أحد مفعولي ‏{‏تَتَّخِذُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ و‏{‏وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ الآخر وهو لكونه فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا ‏{‏وَمِنْ دُونِى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ حال منه و‏{‏مِنْ‏}‏ يجوز أن تكون ابتدائية‏.‏

وجوز أيضاً أن يكون بدلاً من ‏{‏وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزير‏.‏ وعيسى عليهما السلام ونحوهما أرباباً‏.‏ وفي التعبير بما ذكر إيماءً إلى علة النهي من أوجه، أحدها‏:‏ تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر، والثاني‏:‏ تذكير ضعفهم، وحالهم المحوج إلى الحمل، والثالث‏:‏ أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم، وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر، وجوز أبو البقاء كونه بدلاً من ‏{‏موسى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ وهو بعيد جداً‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏ذُرّيَّةِ‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير ‏{‏يَتَّخِذُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ قال أبو البقاء‏:‏ على القراءة بياء الغيبة، وقال ابن عطية‏:‏ ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر، وتعقبه أبو حيان في «البحر» بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضاً نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش‏.‏ والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب، وقد استدل على صحته في شرح التسهيل، وقرأ زيد بن ثابت‏.‏ وأبان بن عثمان‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ ومجاهد في رواية بكسر ذال ‏{‏ذُرّيَّةِ‏}‏ وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها، وعن زيد بن ثابت أيضاً أنه قرأ ‏{‏ذُرّيَّةِ‏}‏ بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعيلة كمطية ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي نوحاً عليه السلام ‏{‏كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ كثير الشكر في مجامع حالاته‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والبيهقي في الشعب‏.‏ والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال‏:‏ كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوباً أو طعم طعاماً حمد الله تعالى فسمي عبداً شكوراً، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن إبراهيم قال‏:‏ شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد الله تعالى إذا فرغ‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنما سمى الله تعالى نوحاً عبداً شكوراً لأنه كان إذا أمسى وأصبح قال‏:‏ ‏{‏سبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِى السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17، 18‏]‏ ‏"‏ وأخرج البيهقي‏.‏ وغيره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن نوحاً لم يقم عن خلاء قط إلا قال‏:‏ الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه» وهذا من جملة شكره عليه السلام‏.‏

وفي هذه الجملة إيماءً بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر، وهذا وجه ملائمتها لما تقدم، وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذٍ فلا يطلب ملاءمته مع ما سيق له الكلام إلا من حيث أنه كان من شأن من ذكر أعني نوحاً عليه السلام، وقيل ضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناءً على أن ضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل‏}‏ أخرج بن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم، وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحياً جزماً، وصرح غير واحد بتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهذا عدى بإلى، والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة، وقيل إلى بمعنى على وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس‏:‏ قال أي قضينا عليهم ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية‏.‏ وابن جبير ‏{‏الكتاب‏}‏ بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول أو اللوح المحفوظ على الأخير، وأخرج ابن المنذر‏.‏ والحاكم عن طاوس قال‏:‏ كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت‏:‏ إن أناساً يقولون لا قدر قال‏:‏ أو في القوم أحد منهم‏؟‏ قلت‏:‏ لو كان ما كنت تصنع به‏؟‏ قال‏:‏ لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه ‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب‏}‏ ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِى الارض‏}‏ جواب قسم محذوف، وحذف متعلق القضاء أيضاً للعلم به؛ والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم والله لتفسدن الخ ويكون هذا تأكيداً لتعلق القضاء، ويجوز جعله جواب ‏{‏قَضَيْنَا‏}‏ بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء الله تعالى لأفعلن كذا‏.‏ والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ونصر بن علي‏.‏ وجابر بن زيد ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ‏}‏ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال، وقيل من الغلبة‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ‏}‏ بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتكاب المعاصي ‏{‏مَّرَّتَيْنِ‏}‏ منصوب على أنه مصدر ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ‏}‏ من غير لفظه، والمراد إفسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليه السلام وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضاً ولم يسمعوا من زكريا فقال الله تعالى له‏:‏ قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ مما أوحى عليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها‏.‏

وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليها السلام قيل قالوا‏:‏ حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة، وقال ابن إسحق‏:‏ هي قتل شعيا عليه السلام وقد بعث بعد موسى عليه السلام فلما بلغهم الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليه السلام مات موتاً ولم يقتل‏.‏ وفي «الكشاف» أولاهما قتل زكريا وحبس أرمياً والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهما السلام، وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهما السلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه، ثم ضم ذلك مع حبس أرمياً في قرن غير سديد لأن أرمياً كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة‏.‏

واختار بعضهم وقيل‏:‏ إنه الحق أن الأول تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرمياً وجرحه إذ وعظهم وبشرهم بنبينا صلى الله عليه وسلم وهو أول من بشر به عليه الصلاة والسلام بعد بشارة التوراة، والأخرى قتل زكريا ويحيى عليهما السلام، ومن قال‏:‏ إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيى عليه السلام، واختلف في سببه قتله فعن ابن عباس وغيره أن سبب ذلك أن ملكاً أراد أن يتزوج من لا يجوز له تزوجها فنهاه عليه السلام وكان الملك قد عود تلك المرأة أن يقضي لها كل عيد ما تريد منه فعلمتها أمها أن تسأله دم يحيى في بعض الأعياد فسألته فأبى فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فيه بدرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى قتلها عليها سبعون ألفاً‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ إن يحيى عليه السلام كان حسناً جميلاً جداً فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى فقالت لابنتها‏:‏ سلى أباك رأس يحيى فسألته فأعطاها إياه، وقال الجبائي‏.‏ إن الله تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً‏}‏ لتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطاً مجاوزاً للحد، وأصل معنى العلو الارتفاع وهو ضد السفل وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏عَلِيّاً كَبِيراً‏}‏ بكسر العين واللام والياء المشددة، قال في «البحر» والتصحيح في فعول المصدر أكثر بخلاف الجمع فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو لهو ومهو خلافاً للفراء إذ جعل قياساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أولياهما‏}‏ أي أولى مرتى الإفساد‏.‏

والوعد بمعنى الموعود مراد به العقاب كما في «البحر» وفي الكلام تقدير أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود، وقيل الوعد بمعنى الوعيد وفيه تقدير أيضاً، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت أي فإذا حان موعد عقاب أولاهما ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ‏}‏ أرسلنا لمؤاخذتكم بتلك الفعلة ‏{‏عِبَادًا لَّنَا‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون الله تعالى أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولاً يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر منه تعال‏.‏ ى وقرأ الحسن‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ‏{‏عبيداً‏}‏ ‏{‏قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ذوي قوة وبطش في الحروب، وقال الراغب‏:‏ البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، ومن هنا قيل‏:‏ إن وصف البأس بالشديد مبالغة كأنه قيل‏:‏ ذوي شدة شديدة كظل ظليل ولا بأس فيه، وقيل إنه تجريد وهو صحيح أيضاً‏.‏ واختلف في تعيين هؤلاء العباد فعن ابن عباس‏.‏ وقتادة هم جالوت الجزري وجنوده، وقال ابن جبير‏.‏ وابن إسحاق هم سنجاريب ملك بابل وجنوده، وقيل هم العمالقة، وفي «الأعلام» للسهيلي هم بختنصر عامل لهراسف أحد ملوك الفرس الكيانية على بابل والروم وجنوده بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه قيل وهو الحق‏.‏

‏{‏فَجَاسُواْ خلال الديار‏}‏ أي ترددوا وسطها لطلبكم، قال الراغب‏:‏ جاسوا الديار توسطوها وترددوا بينها ويقاربه حاسوا وداسوا، وقرأ ‏{‏حاسوا‏}‏ بالحاء أبو السمال‏.‏ وطلحة، وقرىء أيضاً ‏{‏تجوسوا‏}‏ بالجيم على وزن تكسروا‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ الجوس والحوس طلب الشيء باستقصاء، و‏{‏وَلاَ خلال‏}‏ اسم مفرد ولذا قرأ الحسن ‏{‏خلال‏}‏ ويجوز أن يكون خلال جمع خلل كجبال جمع جبل، ويشير كلام أبي السعود إلى اختياره وكلام البيضاوي إلى اختيار الأول‏.‏

‏{‏وَكَانَ‏}‏ أي وعد أولاهما ‏{‏وَعْدًا مَّفْعُولاً‏}‏ محتم الفعل فضمير ‏{‏كَانَ‏}‏ للوعد السابق، وقيل‏:‏ للجوس المفهوم من ‏{‏جلسوا‏}‏ والجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل وحرقت التوراة، وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد أنه لم يكن ذلك وإنما جاس الغازون خلال الديار وانصرفوا بدون قتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة‏}‏ أي الدولة والغلبة، وأصل معنى الكر العطف والرجوع، وإطلاق الكرة على ما ذكر مجاز شائع كما يقال تراجع الأمر، ولام لكم للتعدية، وقيل‏:‏ للتعليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أي الذي فعلوا بكم ما فعلوا متعلق بالكرة لما فيها من معنى الغلبة أو حال منها، وجوز تعلقه برددنا، وهذا على ما في البحر إخبار منه تعالى في التوراة لبني إسرايل إلا أنه جعل ‏{‏رَدَدْنَا‏}‏ موضع نرد لتحقق الوقوع، وكان بين البعث والرد على ما قيل مائة سنة وذلك بعد أن تابوا ورجعوا عما كانوا عليه واختلف في سبب ذلك فروى اردشير بهمن بن اسفنديار بن كشتاسف بن لهراسف لما ورث الملك من جده كشتاسف ألقى الله تعالى في قلبه الشفقة على بني إسرائيل فرد اسراءهم الذين أتى بهم بختنصر إلى بابل وسيرهم إلى أرض الشام وملك عليهم دانيال فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وجعل بعضهم من آثار هذه الكرة قتل بختنصر ولم يثبت‏.‏

وفي البحران ملكاً غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وقيل‏:‏ رد الكرة بأن سلط الله تعالى داود عليه السلام فقتل جالوت‏.‏ وتعقب بأنه يرده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَدْخُلُواْ المسجد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏ الخ فإن المراد به بيت المقدس وداود عليه السلام ابتدأ بنيانه بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ولم يتمه وأتمه سليمان عليه السلام فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا الباء أو يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دَخَلُوهُ‏}‏ على الاستخدام وهو كما ترى، والحق أن المسجد كان موجوداً قبل داود عليه والسلام كما قدمنا‏.‏

‏{‏وأمددناكم بأموال‏}‏ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم ‏{‏وَبَنِينَ‏}‏ بعدما سبيت أولادكم ‏{‏وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ مما كنتم من قبل أو من أعدائكم، والنفير على ما قال أبو مسلم كالنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو، وقيل‏:‏ هو مصدر أي أكثر خروجاً إلى الغزو كما في قول الشاعر‏:‏

فأكرم بقحطان من والد *** وحمير أكرم بقوم نفيرا

ويروى بالحميريين أكرم نفيراً، وصحيح السهيلي أنه اسم جمع لغلبته في المفردات وعدم إطراد مفرده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ‏}‏ أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي عملتموها على الوجه المستحسن اللائق أو فعلتم الإحسان ‏{‏أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ‏}‏ أي لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ‏}‏ أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الإساءة ‏{‏فَلَهَا‏}‏ أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب فاللام بمعنى على كما في قوله‏:‏

فخر صريعاً لليدين وللفم *** وعبر بها لمشاكلة ما قبلها

وقال الطبري‏:‏ هي بمعنى إلى على معنى فاساءتها راجعة إليها، وقيل‏:‏ إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفي «الكشاف» أنها للاختصاص‏.‏ وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدي ضرر الإساءة إلى غير المذنب اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم، وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا، وقيل‏:‏ اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم، وتعميم الإحسام ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك وقال‏:‏ إنه أنسب وأتم وذا قيل إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده، وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية، ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط الله تعالى عليهم من قصدهم بالنهب والأسر ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر إن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم، والآية تضمنت ذلك وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة ما لا يخفى فتأمل‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ‏}‏ المرة ‏{‏الاخرة‏}‏ من مرتى إفسادكم ‏{‏لَيسُوءا‏}‏ متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه وهو جواب إذا أي بعثناهم ليسوؤا ‏{‏فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق وبالحزن والخوف الكلوح والسواد فالوجوه على حقيقتها، قيل ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم اه وهو كما ترى‏.‏

واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أخصر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيُتَبّرُواْ‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء‏}‏ هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِى الارض مَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ فالظاهر فإذا جغاء وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة عل شدة شكيمتهم في كفران النعم وإنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدواناً وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة فاجأهم الله عز وجل على الغرة نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه‏.‏

وقرأ أبو بكر‏.‏ وابن عامر‏.‏ وحمزة ‏{‏ليسؤ‏}‏ على التوحيد والضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف، والإسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول، ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والكسائي ‏{‏لنسوء‏}‏ بنون العظمة فإن الضمير لله تعالى لا يحتمل غير ذلك، وقرأ أبي ‏{‏لنسؤن‏}‏ بلام الأمر ونون العظمة أوله ونون التوكيد الخفيفة آخره ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏ وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء لأنها لا تقع جواباً بدونها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضاً ‏{‏لنسوءن‏}‏ و‏{‏ليسوءن‏}‏ بالنون والياء أولاً ونون التوكيد الشديدة آخراً، واللام في ذلك لام القسم والجملة جواب القسم سادة مسد جواب إذا؛ واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد‏}‏ لام كي والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله وهو متعلق ببعثنا المحذوف غيره فيكون العطف من عطف جملة على أخرى، وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر وأن تكون لام كي، والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلوا، وفي «الصحاح» أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به، وتحقيقه في محله ‏{‏كَمَا دَخَلُوهُ‏}‏ أي دخولاً كائناً كدخولهم إياه ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ فهو في موضع النعت لمصدر محذوف، وجوز أن يكون حالاً أي كائنين كما دخلوه، و‏{‏أَوَّلُ‏}‏ منصوب على الظرفية الزمانية، والمراد من التشبيه على ما في «البحر» أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال، وفيه أيضاً أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب ‏{‏وَلِيُتَبّرُواْ‏}‏ أي يهلكوا، وقال قطرب‏:‏ يهدموا وأنشد قول الشاعر‏:‏

وما الناس إلا عاملان فعامل *** يتبر ما يبني وآخر رافع

وقال بعضهم‏:‏ الهدم إهلاك أيضاً، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كلمة نبطية‏.‏

‏{‏مَا عَلَوْاْ‏}‏ أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين ‏{‏تَتْبِيرًا‏}‏ فظيعاً لا يوصف‏.‏

واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير فقال غير واحد‏:‏ إنهم بختنصر وجنوده، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل، وقيل الإسكندر وجنوده، وتعقبه أيضاً بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحواً من ثلثمائة سنة ثم قال لكنه إذا قيل‏:‏ إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حياً، وروى عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن‏.‏

وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال‏:‏ ما صدقتموني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم ثم قال‏:‏ إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا‏:‏ إنه دم يحيى عليه السلام فقال‏:‏ بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال‏:‏ إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا‏:‏ إنه دم يحيى عليه السلام فقال‏:‏ بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال‏:‏ يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحداً منهم فهدأ، واختار في «الكشف» وقال هو الحق إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفاً فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف‏.‏

وقيل‏:‏ اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعاً فيه رأي معلمه أرسطو، وعدتهم تزيد على سبعين ملكاً، ومدة ملكهم على مافي بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعاً وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على اصطخر، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة، وففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو من ثلثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولاً بختنصر وكان في زمن أرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحاً بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خراباً سبعين سنة، ثم أن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لماكثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى‏.‏

وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولاً وثانياً، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك‏:‏ عندي درهم ونصفه فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ‏}‏ بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ‏}‏ للإفساد بعد الذي تقدم منكم ‏{‏عُدْنَا‏}‏ للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين، وهذا من المقضي لهم في الكتاب أيضاً وكذا الجملة الآتية، وقد عادوا بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقصدهم قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليه الصلاة والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن‏.‏ وقتادة، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وغيره‏:‏ أي سجنا وأنشد في البحر قول لبيد‏:‏

ومقامه غلب الرقاب كأنهم *** جن على باب الحصير قيام

فإن كان اسماً للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره‏.‏ وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 18‏]‏ أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى‏.‏

وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد، قال الراغب‏:‏ كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ، وجاء الحصر بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال‏:‏ وتسميته بذلك إما لكونه محصوراً نحو محجب وإما لكونه حاصراً أي مانعاً لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه اه وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفاً يدرك بالتأمل، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلاً على كفرهم بالعود وذماً لهم بذلك وإشعاراً بعلة الحكم

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان‏}‏ الذي آتيناكه، وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه، وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَهْدِى‏}‏ أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام ‏{‏لِلَّتِى‏}‏ أي الطريقة التي ‏{‏هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللثي صفة لموصوف حذف اختصاراً وقدره بعضهم الحالة أو الملة، وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى، و‏{‏أَقْوَمُ‏}‏ أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال الله تعالى ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏ذَلِكَ دِينُ القيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ اه‏.‏ وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين‏}‏ بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والإخوان ‏{‏وَيُبَشّرُ‏}‏ بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته ‏{‏الذين يَعْمَلُونَ‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ التي شرحت فيه ‏{‏أَنَّ لَهُمْ‏}‏ أي بأن لهم بمقابلة أعمالهم ‏{‏أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ بحسب الذات وبحسب التضعيف عشراً فصاعداً وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين، وتخصيص الآخرة بالذكر من بينت سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الايمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذاباً مؤلماً، وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة في هذا القرآن حقيقة الايمان فافهم‏.‏

والعطف على ‏{‏أن لهم أجراً كبيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشراً به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ومصيبة العدو سرور يبشر به فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم، ويجوز أن تكون البشارة مجازاً مرسلاً بمعنى مطلق الاخبار الشامل للأخبار بما فيه سرور وللاخبار بما ليس كذلك، وليس فيه الجمع بين معنى المشترك أو الحقيقة والمجاز حتى يقال‏:‏ إنه من عموم المجاز وإن كان راجعاً لهذا أو العطف على ‏{‏يُبَشّرُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ أو ‏{‏يَهْدِى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ بإضمار يخبر فيكون من عطف الجملة على الجملة، ولا يخفى ما في الآية من ترجيح الوعد على الوعيد‏.‏

ونبه سبحانه على ما في «البحر» بوصف المؤمنين بالذين يعملون الصالحات على الحالة الكاملة لهم ليتحلى المؤمن بذلك وأنت تعلم أنه إن فسر الأجر الكبير بالجنة فهو ثابت للمؤمن العامل وللمؤمن المفرط إذ أصل الإيمان متكفل بدخول الجنة فضلاً من الله تعالى ورحمة، نعم ما أعد للعامل في الجنة أعظم مما أعد للمفرط، وإن فسر بما أعده الله تعالى في الآخرة من الجنة والدرجات العلي وأنواع الكرامات فيها التي لا يتكفل بها مجرد الايمان فظاهر أن ذلك غير ثابت للمؤمن المفرط فلا بد من التوصيف ولا يلزم منه عدم دخول المفرط الجنة، نعم يلزم منه أن لا يثبت له الأجر الكبير بالمعنى السابق، والآيات التي يفهم منها دخوله الجنة كثيرة ولعل هذه الآية يفهم منها ذلك واقتضى المقام عدم التصريح بحكمه‏.‏ وفي «الكشاف» أنه تعالى ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة لأن الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وأصحاب المنزلة بين المنزلتين إنما حدثوا بعد ذلك‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأنه مكابر فقد وقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين هفوات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها مذكور في الأحاديث الصحيحة اه‏.‏ والمقرر في الأصول أن الأكثر على عدالة الصحابة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ثم ما ذكره من المنزلة بين المنزلتين الظاهر أنه أراد به ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من أن متركب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإذا مات من غير توبة خلد في النار وقد رد ذلك في علم الكلام فتدبر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏