فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ أي كثيراً ما أهلكنا ‏{‏مّنَ القرون‏}‏ تمييز لكم والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة، وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعاً أنه مائة سنة، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم دعا لرجل فقال‏:‏ عش قرناً فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة ‏{‏مِن بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما، وقال الحوفي‏:‏ من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد‏.‏

‏{‏وكفى بِرَبّكَ‏}‏ أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلاً آنفاً في مثل هذا التركيب ‏{‏بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا‏}‏ محيطاً بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادىء الأعمال الظاهرة تقدماً وجودياً، وقيل تقدما رتبياً لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضاً، والجار والمجرور متعلق بخبيراً بصيراً على سبيل التنازع‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ متعلق بكفى وهو وهم، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما هن قسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه‏.‏ وفي «الكشاف» أنه سبحانه نبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بِرَبّكَ‏}‏ الخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير، وبيانه كما في «الكشف» أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علماً أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاماً ويكون الكلام ناقصاً عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خالياً عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏(‏ من كان يريد‏)‏ أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك ‏(‏العاجلة‏)‏ فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبيء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة ‏(‏كان‏)‏ هنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روى الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى ‏(‏من كان يريد حرث الدنيا‏)‏ وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى ‏(‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها‏)‏ ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى ‏(‏عجلنا له فيها‏)‏ أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز وجل ‏(‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏)‏ ‏(‏ما نشاء‏)‏ أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد ‏(‏لمن نريد‏)‏ تعجيل ما نشاء له وقال أبو إسحق الفزاري أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل وعن نافع أنه قرأ ‏(‏ما يشاء‏)‏ بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كشمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح وتقييد المعجل ولمعجل له بما ذكر من المشيئة والارادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين ولا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى ‏(‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون‏)‏ أعمال كلهم ولا كل أعمالهم وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وذكر المشيئه في أحدهما والارادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن ‏(‏ثم جعلنا له‏)‏ مكان ما عجلنا له ‏(‏جهنم يصليها‏)‏ يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في ‏(‏له‏)‏ وقال أبو حيان إنها حال من ‏(‏جهنم‏)‏ وهي مفعول أول لجعلناه و‏(‏ له‏)‏‏}‏ الثاني

وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك ‏(‏مذموما‏)‏ حال من فاعل يصلى وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما ودأمته دأما بمعناه ‏(‏مدحورا‏)‏ أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى قال الإمام إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى ‏(‏جعلنا له جهنم يصلاها‏)‏ إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص اهـ ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولابد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى ‏(‏ومن أراد الآخرة‏)‏ إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكى غير القول الأول والذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد من رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق مادام فيها كما يصدق على الكافر المخلد

وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَرَادَ‏}‏ الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضاً ‏{‏الاخرة‏}‏ أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ أي الذي يحق ويليق بها كما تنبىء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولاً به على أن المعنى عمل عملها أو مصدراً مفعولاً مطلقاً ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء كانت للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ وحينئذٍ لا يعتبر فيما سبق أيضاً ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل‏.‏

‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ إيماناً صحيحاً لا يخالطه قادح، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز ‏{‏مِنْ‏}‏ فلا تنفع إرادة ولا سعى بدونه وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ بعنوان اتصافه بما تقدم، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان ‏{‏كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ مثاباً عليه مقبولاً عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي ههنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم‏:‏ هو هو؛ وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعاراً بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر‏:‏

إن أجز علقمة بن سعد سعيه *** لا أجزه ببلاء يوم واحد

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول ‏{‏نُّمِدُّ‏}‏ مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مدداً للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلاً على ما سبق تصريحاً وتلويحاً واتكالاً على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء وَهَؤُلاء‏}‏ بدل من ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعاً لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل به بمحض التفضل كما قيل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ أي دنيوياً كان أو أخروياً‏.‏

والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم ‏{‏مَحْظُورًا‏}‏ ممنوعاً عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها‏.‏

وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا ‏"‏ وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحداً، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال‏:‏ حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان‏:‏ ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل‏:‏ وكان أعقلهم أيها القوم أني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من باب هذا الذي تنافسون عليه‏.‏ وفي «الكشاف» أنه قال‏:‏ إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتوهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر‏.‏ وقرىء ‏{‏أَكْثَرَ تَفْضِيلاً‏}‏ بالثاء المثلثة، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصلهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولاً مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظوراً من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الخ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن‏.‏

وقتادة فقد روى عنهما أنهما قالا‏:‏ في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل، وقيل تخصيص لدلالة السياق‏.‏

وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقاً لشمول الإمداد له حيث قالوا‏:‏ لا يمنعه من عاص لعصيانه‏.‏ واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلاً عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى ‏{‏مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل‏.‏ واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة ارجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال‏:‏ يحتمل عدم القبول لما روى عن رب العزة جل شأنه‏:‏ ‏{‏أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه‏}‏‏.‏

ويمكن أن يقال‏:‏ إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصاً للآخرة يجب كونه مقبولاً، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال‏:‏ لو كان إطلاع الناس مرجحاً أو مقوياً لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرماً لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحاً لم يقتضى إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرماً اقتضى سقوطه من أصله للاخبار، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره‏}‏ ‏[‏الزلزلة له‏:‏ 7‏]‏ قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقاً بهذين القسمين، وتمام الكلام في هذا المقام في «الزواجر» عن «اقتراف الكبائر»، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل نمن القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو فمحرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فيه أربع إشارات‏.‏ إشارة التقديس سبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان‏.‏ وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسمائه وكذا بعدم ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب‏.‏ وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر غير واحد أن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف، وأصلها الذل والخضوع وحيث أن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ بقوله‏:‏ إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهماً بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كمال مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عبداً محضاً زاهداً في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 19‏]‏ ولما أمر صلى الله عليه وسلم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أنا سيد ولد آدم ولا فخر ‏"‏ بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نهعتاً إلهياً أصلاً بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطاني‏:‏ ما وجدت شيئاً يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت‏:‏ يا رب بماذا أتقرب إليه‏؟‏ قال‏:‏ تقرب إلى بما ليس لي قلت‏:‏ يا رب وما الذي ليس لك‏؟‏ قال‏:‏ الذلة والافتقار‏.‏

وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لإله سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى و‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ وهما كذلك وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏أَعُوذُ بِكَ مِنكَ‏}‏ وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال‏:‏ إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرى به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال‏:‏ إن ذلك إلى المحدد ثم ألقى البدن هناك وقد تقدم ذلك، وفي أسرار القرآن أن عليه الصلاة والسلام أسرى به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي‏.‏

ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقد ذكروا أن الجميع الوارثين معراجاً إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنات لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلاً يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسوراً على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض مغلقاته ولم يكنمن خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلى والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن أسراً آته عليه الصلاة والسلام كان أربعاً وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكاناًما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات؛ وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال‏:‏

ومن لولي قال طي مسافة *** يجوز جهول ثم بعض يكفر

وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلاً يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهراً غريب، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين، وكأن مجهل قائلها بني تجهيله على أن في ذلك قولاً بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافاً للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه وادعى بعضهم الضرورة في ذلك، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، ومثل طي المسافة ما يحكمونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهول ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب إليه المرجع والمآب؛ وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها، والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها والأفاصل مشاهدة الفات في مقام القلب ‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏ قال سهل‏:‏ أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغرفة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا‏.‏

وقال الوراق‏:‏ إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك ولله تعالى در من قال‏:‏

وأنت باب الله أي امرىء *** أتاه من غيرك لا يدخل

وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدل على الله تعالى وقد أحسن من قال‏:‏

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا *** كفى لمطايانا بنورك هادياً

ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏ فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به، وقال سهل‏:‏ أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكري عن مسألتين أعطيه أفضل ما أعطى السائلين ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل‏}‏ أي ليل الكون وظلمة البدن ‏{‏والنهار‏}‏ أي نهار الإبداع والروح ‏{‏ءايَتَيْنِ‏}‏ يتوصل بهما إلى معرفة الذات والصفات ‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ بالفساد والفناء ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق ‏{‏لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ وهو كمالكم الذي تستعدونه ‏{‏وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن ‏{‏وَكُلَّ شىْء‏}‏ من العلوم والحكم ‏{‏فَصَّلْنَاهُ‏}‏ بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال ‏{‏تفصيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ لا إجمالاً فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏ الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان، فمنهم من قال إنه رسول العقل، ومنهم من قال رسول الشرع ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة‏}‏ لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا‏}‏ عن ذوي العقول ‏{‏مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ في سخط الله تعالى وقهره ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الاخرة‏}‏ لصفاء استعداده وسلامة فطرته ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترضيه الشريعة، وقال بعضهم‏:‏ السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي إلى الله تعالى بالهمم ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه ‏{‏فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ مقبولاً مثاباً عليه، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوباً برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصاً لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنماهي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 20‏]‏ عن أحد مطيعاً كان أو عاصياً لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة ‏{‏انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة ‏{‏وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْصِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏ فهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏فَتَقْعُدَ‏}‏ بالنصب على النهي، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائماً أم جالساً، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول‏:‏ ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها، وقيل‏:‏ بمعنى الصيرورة من قولهم‏:‏ شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت‏.‏ وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على ذا المثل ولا يطرد، وقال بعضهم‏:‏ إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولاً يعني القول المذكور فلا يقال‏:‏ قعد كاتباً بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في «البحر والحواشي الشهابية» ولا حجة فيه‏.‏

وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قاها واستعمال البغداديين على هذا، ثم أنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة‏.‏ وتعقب بأن فيه نظراً إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلاً و‏{‏مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ إما خبر ان لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعاً على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجاً مفتقراً مثلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلهاً ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكاً لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما داه، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً وهو من باب التعبير بالحال الغالبة، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أي أمر ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ أي بأن لا تعبدوا الخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا الخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القوى دون حروفه ولا ناهية لا غير، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضاً وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك‏.‏ وفي «الكشاف» تفسير قضى بأمر أمراً مقطوعاً به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلاً والمتضمن قيداً وقال بعضهم‏:‏ أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص‏.‏ وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد‏.‏ وابن منيع، وابن المنذر‏.‏ وابن مروديه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم ‏{‏ووصى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه‏}‏ فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس ‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير‏.‏ وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود‏.‏ وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضاً وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بمحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضاً نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي‏.‏ وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولاً كان أو فعلاً وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه‏}‏ أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعماً بالنعم العظام وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة‏.‏

‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحساناً، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضاً، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي‏:‏ إن كان المصدر منحلاً بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائباً عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفاً مطلقاً لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه‏.‏

‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏ إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحق بوجوبه، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري‏:‏

فأما ترى لمتي هكذا *** فقد أدرك الفتيات الخفارا

وعليه قول ابن دريد‏:‏

أما ترى رأسي حاكي لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجى

ومعنى ‏{‏عِندَكَ‏}‏ في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، و‏{‏أَحَدُهُمَا‏}‏ فاعل للفعل، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه و‏{‏كِلاَهُمَا‏}‏ معطوف عليه‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏أَمَّا‏}‏ فأحدهما على ما في «الكشاف» بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البرغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل للمثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك‏.‏ واستشكلت البدلية بأن ‏{‏رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا‏}‏ على ذلك بدل بعض من كل لأكل من كل لأنه ليس عينه و‏{‏كِلاَهُمَا‏}‏ معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده‏.‏ وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله‏:‏

فكنت كذي رجلين رجل صحيحة *** وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العفط بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحهدما، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال، وعن أبي علي الفارسي أن ‏{‏أَحَدُهُمَا‏}‏ بدل من ضمير التثنية و‏{‏كِلاَهُمَا‏}‏ تأكيد للضمير، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيداً للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعاً لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه، ومن هنا قال في «الدر المصون» لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية و‏{‏كِلاَهُمَا‏}‏ توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وأبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل ‏{‏كِلاَهُمَا‏}‏ فاعلاً له فإنه سالم عماسمعت في غيره ولذا اختاره في البحر، وتوحيد ضمير الخطاب في ‏{‏عِندَكَ‏}‏ وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك، وذكر أنه وحد الخطاب في ‏{‏لاَ تَجْعَلْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏ للمبالغة وجمع في ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه‏}‏ لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا‏}‏ أي لواحد منهما حخالتي الانفراد والاجتماع ‏{‏أُفّ‏}‏ هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراآت سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة‏.‏ فقرأ نافع‏.‏ وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء‏.‏ وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياساً جلياً لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقاً في عرف اللغة كقولك‏:‏ فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئاً قليلاً أو كثيراً، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْهَرْهُمَا‏}‏ للاعتناء بشأنه، والنهر كما قال الراغب الزجر بأغلاظ، وفي «الكشاف» النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك‏.‏

وقال الإمام‏:‏ المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ‏}‏ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه ‏{‏وَلاَ تَنْهَرْهُمَا‏}‏ المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثاً فتأمل‏.‏

‏{‏وَقُل لَّهُمَا‏}‏ بدل التأفيف والنهر ‏{‏قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ أي جميلاً لا شراسة فيه، قال الراغب‏:‏ كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولاً صادراً عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب، وليس القول الكريم مخصوصاً بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه‏:‏ إذا دعواك فل لبيكما وسعديكم‏.‏

وأخرج هو وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال‏:‏ قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل‏}‏ أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان‏.‏ الأول‏:‏ أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون ‏{‏جَنَاحَ الذل‏}‏ بل خفض الجناح تمثيلاً في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحاً تبعياً أو مستقلاً، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد‏:‏

وغداة ريح قد كشفت وقرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيهاً مضمراً ويثبت له الجناح تخييلاً والخفض ترشيحاً فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما، وأيضاً هو إذا رأى جارحاً يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام، وفي «الكشف» أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحه أمره بخفضه تكميلاً وماعسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحاً فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلاً لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلاً فيما سلف‏.‏

وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏مَّنَ الذل‏}‏ بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت منه ذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليلاً ‏{‏مِنَ الرحمة‏}‏ أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل، قال في «الكشف» ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبداً بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجاً إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول‏:‏

يا من أتى يسأل عن فاقتي *** ما حال من يسأل من سائله ما ذلة السلطان إلا إذا

أصبح محتاجاً إلى عامله *** ‏{‏وَقُل رَّبّ ارحمهما‏}‏ وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموماً لكل أحد؛ وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين، وأياً ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد‏.‏

وأبو داود‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏كَمَا رَبَّيَانِى‏}‏ الكاف للتشبيه، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معاً وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل‏:‏ رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني ‏{‏صَغِيرًا‏}‏ وفيه بعد‏.‏

وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل، وقال الطيبي‏:‏ إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 23‏]‏ قال في «الكشف» وهو وجه حسن وأما الحمل على أن ما المصدرية جعلت حيناً أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما عليّ في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة واحدة، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة‏؟‏ فقال‏:‏ نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏ ثم يكبرون في ادبار الصلاة، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً لكفى، وقد روى ابن حبان‏.‏ والحاكم وقال‏:‏ صحيح على شرط مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين ‏"‏

وصح أن رجلاً جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه فقال‏:‏ أحي والداك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ففيهما فجاهد وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ لو علم الله تعالى شيئاً أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار ‏"‏‏.‏ ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلاً يطوف بالكعبة حاملاً أمه على رقبته فقال‏:‏ يا ابن عمر أتراني جزيتها‏؟‏ قال‏:‏ لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيراً‏.‏

وروى مسلم وغيره ‏"‏ لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ‏"‏ وروى البيهقي في الدلائل‏.‏ والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول‏:‏ إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله‏؟‏ قال‏:‏ سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ‏:‏ والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقيناً لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي فقال‏:‏ قل وأنا أسمع فقال‏:‏ قلت

غذوتك مولوداً ومنتك يافعا

تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت

لسقمك إلا ساهراً أتملل

كأني أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها

لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيها أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معداً للخلاف كأنه

برد على أهل الصواب موكل

قال‏:‏ فحينئذٍ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال‏:‏ «أنت ومالك لأبيك ‏"‏ والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أبوك ‏"‏

ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضاً‏.‏ فقد روى ابن ماجه ‏"‏ يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما‏؟‏ فقال‏:‏ نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ‏"‏ ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل‏:‏ ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال‏:‏ فاعمل به»‏.‏

وأخرج البيهقي عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى باراً‏.‏ وأخرج عن الأوزاعي قال‏:‏ بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى ديناً إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب باراً ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض ديناً إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقاً» وأخرج هو أيضاً وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب براً»‏.‏

وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له‏:‏ أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال‏:‏ إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال‏:‏ أتدري لم أتيتك‏؟‏ قال‏:‏ قلت لا قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من أحب أني صل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده ‏"‏ وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك‏.‏ وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال‏:‏ تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين، إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكراً للغالب كما في نظائر أخر‏.‏

وللحليمي ههنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة‏.‏

وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلى الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفاً فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلاً لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقاً أولاً‏؟‏ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر‏:‏ إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسناً فأقول‏:‏ العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرماً من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع‏.‏

وبيان هذا الضابط أن قولنا‏:‏ أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرماً فمثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا‏:‏ أن يؤذي ما لو أخذ فلساً أو شيئاً يسيراً من مال أحد والديه لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالاً كثيراً بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراماً صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا‏:‏ ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرماً نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقاً لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرماً فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقاً إذا كان معتقداً الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقاً لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراماً، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرماً كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرماً، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر؛ وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف الخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له‏:‏ أحي والداك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ففيهما فجاهد، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال‏:‏ ارجع فاضحكهما كما أبكيتهما، وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه‏.‏

وروى أبو سعيد الخدري أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل لك أحد باليمن‏؟‏ قال‏:‏ أبواي قال‏:‏ أذنا لك قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما‏.‏ ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا‏:‏ ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافراً فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حراً أو عبداً، وقولنا‏:‏ أو أن يخالفه في سفر الخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيداً، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافاً لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئاً من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذل في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إشارة للولد فلا تكون عقوقاً وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني وذكر بعض المحققين‏:‏ أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاءً ليس بالهين عرفاف‏.‏

ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلاً في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقاً لا يفسق ولده بمخالفته حينئذٍ لعذره وعليه فلو كان متزوجاً بمن يحبهاف أمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل لأمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالاً لأمر والده، فقد روى ابن حبان في صحيحيه أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال‏:‏ إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال‏:‏ ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول‏:‏ «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع‏.‏ وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فآتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ طلقها، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلاً فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال‏:‏ هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد‏.‏ وتعقب ما نقل عن البقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين عرفاً كان كبيرة وإن لم يكن محرماً لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاءً عظيماً فتأمل‏.‏

ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه‏:‏ إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكى أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول‏:‏ هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد‏:‏ ما نكتب على قبرك فقال‏:‏ اكتبوا عليه‏:‏

هذا جناه أبي علي *** وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج وعدم الولد‏:‏ وتركت فيهم نعمة العدم التي

سبقت وصدت عن نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة *** ترمى بهم في موبقات الآجل

وقال ابن رشيق‏:‏

قبح الله لذة لشقانا *** نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفق

د فإيجادنا علينا بلاء *** وقيل للإسكندر‏:‏ أستاذك أعظم منة عليك أم والدك‏؟‏ فقال‏:‏ الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول‏:‏ هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الواقع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال‏:‏ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعاً لحق الوالدين لزم أن يكون دافعاً لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضاً يعارض ذلك التعريض التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجلى الأمور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ‏}‏ من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالاً، وفي «الكشف» أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ تعالى شأنه ‏{‏كَانَ لِلاْوَّابِينَ‏}‏ أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو منه البشر ‏{‏غَفُوراً‏}‏ لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرخ بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً‏}‏ لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضاً فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل‏:‏ كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر‏؟‏ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائماً بالكلاءة، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروى عن ابن جبير، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجاً أولياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاتِ ذَا القربى‏}‏ أي ذا القرابة منك ‏{‏حَقَّهُ‏}‏ الثابت له، قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمساكين وابن السبيل‏}‏ فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضاً بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية، واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم المحتاجين وإن لم يكونوا أصلاً كالوالدين ولا فرعا كالولد، والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفاً فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف‏:‏ لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان‏.‏ وفي المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قال لأبيه قربني فقد عقه ‏"‏ والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه‏.‏

وفي «الكشف» أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلاً على إيجاب نفقة المحارم، وتعقب أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَقَّهُ‏}‏ يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلاً وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية، والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعاً فتدبر، وقيل‏:‏ المراد بذي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن السدي، وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام‏:‏ أقرأت القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه‏؟‏ قال‏:‏ وإنكم القرابة الذي أمر الله تعالى أن يؤتى حقه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ورواه الشيعة عن الصادق رضي الله تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس‏.‏ وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص، وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر، وما أخرجه البزار وأبو يعلى‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدكاً لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام على أن في القلب من صحة الخبر شيء بناءً على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طلبها رضي الله تعالى عنها ذلك إرثاً بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور يأبى القول بالصحة كما لا يخفى ‏{‏وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وقد أخرج ابن المنذر‏.‏

وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ التذير إنفاق المال في غير حقه‏.‏ وفي «مفردات الراغب» وغيره أن أصله القاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم‏.‏

وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي «الكشف» بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضاً بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته ههنا فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

p> ‏{‏إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين‏}‏ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزاً في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به المماثل مجازاً أي أنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التذير أو الصديق والتابع مجازاً أيضاً أي أنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضاً أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد‏.‏

‏{‏وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا‏}‏ من تتمة التعليل أي مبالغاً في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به‏.‏

وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذيهو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى‏.‏ ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقاً، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبدياً عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناءً على ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئاً ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ ‏{‏ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ والخطاب عام له صلى الله عليه وسلم ولغيره، والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك الرزق، ونصب ‏{‏ابتغاء‏}‏ على أنه مفعول له‏.‏

قال في «الكشف» قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في «الكشاف»، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير ‏{‏تُعْرِضَنَّ‏}‏ أي مبتغياً، وجعله حالاً من الضمير المجرور بعيد‏.‏

وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفاً والابتغاء مجازاً عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضاً بالشرط وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال‏:‏ جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ‏"‏ ظنوا ذلك من غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام عليهم فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ الآية وفسر الرحمة بالفىء لكن أنت تعلم إن هذا غير ظاهر بناءً على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات، وكأنه لهذا قيل‏:‏ إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل الخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل‏.‏

وجوز أن يتعلق ‏{‏ابتغاء‏}‏ بجواب الشرط أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا‏}‏ أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري‏.‏ واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب اما ويلحق بها‏.‏ وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقاً أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جارياً مجرى التفسير، والإعراض على هذا على حقيقته، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى‏.‏

وجملة ‏{‏تَرْجُوهَا‏}‏ على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفاً لرحمة وأن تكون حالاً من الفاعل و‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ متعلق بترجوها‏.‏

وجوز أن يكون صفة لرحمة، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً، قال الحسن‏:‏ أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم، وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولاً ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم الله تعالى ويسر لكم، وفسره ابن زيد برزقنا الله تعالى وإياكم بارك الله تعالى فيكم‏.‏

وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدراً ثم يؤول بذا ميسور، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذٍ ميسوراً بل ميسر لما أرادوه‏.‏

وميسور مصدراً مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل‏.‏

والحق أن اعتباره مصدراً خلاف الظاهر، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به، وعن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئاً‏:‏ رزقك الله تعالى ونحوه قائلاً إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، ولعمري إنه مغزى بعيد، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلاً على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولاً ميسوراً ولا تعرض له وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد‏.‏ واستشكل العز بن عبد السلام جعل ‏{‏ابتغاء‏}‏ من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئاً يحصل لنا أو لم ننتظر‏.‏ وأجاب بأن المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى‏.‏