فصل: تفسير الآية رقم (81)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ جَاء الحق‏}‏ الإسلام والدين الثابت الراسخ‏.‏

والجملة عطف على جملة ‏{‏قُلْ‏}‏ أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد‏.‏

‏{‏وَزَهَقَ الباطل‏}‏ أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف‏.‏ وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا‏.‏

‏{‏إِنَّ الباطل‏}‏ كائناً ما كان ‏{‏كَانَ زَهُوقًا‏}‏ مضمحلاً غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقاً لكونه كان لم يكن، وصيغة فعول للمبالغة‏.‏

أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول‏:‏ ‏{‏جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏{‏جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 49‏]‏، وفي رواية الطبراني في الصغير‏.‏ والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوى به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول‏:‏ ‏{‏جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا‏}‏ حتى مر عليها كلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى، و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان وقدم اهتماماً بشأنه، وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من الابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك‏.‏ وفي «الخبر» من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى أو للتبعيض ومعناه على ما في «الكشف» وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الإطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء‏.‏

وفيه أيضاً أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة، وآيات الشفاء وهي ست ‏{‏وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏شِفَآء لِمَا فِى الصدور‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 69‏]‏ ‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

قال السبكي‏:‏ وقد جربت كثيراً، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له‏:‏ اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقي ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته، وكذا داود في المجلد الثاني من تذكرته، ومن ينكر لا يعبأ به، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن‏.‏ والنخعي‏.‏ ومجاهد، وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال‏:‏ هي من عمل الشيطان‏.‏

وأجاز ذلك ابن المسيب، والنشرة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع، منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها، وقال مالك‏:‏ لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقا بذلك مدافعة العين، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول البلاء رجاء الفرج والبر كالرقي التي وردت السنة بها من العين، وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع، وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقاً، وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيراً أو صغيراً مطلقاً، وهو الذي عليه الناس قديماً وحديثاً في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وإسقام الأوهام إلا خساراً أي هلاكاً بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث أنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجاً ازدادوا بذلك هلاكاً، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان، ورجح أبو السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبىء عن حصول بعض مبادىء الإسلام فيهم، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الإهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سبباً لذلك، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مداراً للشفاء والهك‏.‏

كماء صار في الأصداف درا *** وفي ثغر الأفاعي صار سما

هذا وربما يقال‏:‏ إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب واسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفى به ادواء الريب وأقسام الوهم وكذا آيات القصص، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة‏.‏

وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عز وجل وبإمكان الحشر بل يكون أيضاً في الرسالة وصدقه صلى الله عليه وسلم في دعواها، وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة من إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعاً من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وإسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك، والقول بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى‏.‏

والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال‏:‏ هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر، والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء على الرحمة فتأمل والله تعالى الموفق‏.‏

وقرأ البصريان ‏{‏نُنَزّلُ‏}‏ بالنون والتخفيف‏.‏ وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف ورواها المروزي عن حفص‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏شِفَاء وَرَحْمَةٌ‏}‏ بنصبهما، قال أبوحيان‏:‏ ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظير ذلك ‏{‏والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ في قراءة نصب ‏{‏مطويات‏}‏ وقول الشاعر‏:‏

رهط ابن كوز محقبي أدراعهم *** فيهم ورهط ربيعة بن حذار

ثم قال‏:‏ وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني، وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدا لا يحتاج إلى ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا‏}‏ بالصحة والسعة ونحوهما ‏{‏عَلَى الإنسان‏}‏ أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر، وقيل‏:‏ المراد به الوليد بن المغيرة ‏{‏أَعْرَضَ‏}‏ عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلاً عن القيام بمواجب شكرنا ‏{‏وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره، وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أو في بتأدية المراد منه، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من من ترك العطف على ما بين في محله، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضاً كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه‏.‏ وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان ‏{‏وناء‏}‏ هنا وفي فصلت فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله‏:‏

حتى إذا ما التأمت مفاصله *** وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئاً على شماله، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه، وقيل‏:‏ معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض ‏{‏بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر‏}‏ م مرض أو فقر أو نازلة من النوازل ‏{‏كَانَ‏}‏ شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى يرجو فضلنا في الشدة، وفي إسناد المساس إلى السر بعد إسناد الأنعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك وللفلاسفة ومن يحذو حذوهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالإطلاع عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا‏:‏ إن الأول تعالى تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله بإفاضة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من بخل الحق تعالى مجده عن ذلك‏.‏

وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفاً على معنيين، أحدهما ماهو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين، الأول عدم محض ليس بإزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن النفس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه وما عدا من المهيآت المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما وظلم ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود، وهذا الشر منبعه الإمكان الذاتي، والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق بالهيولي وهذا الشر منبعه الهيولي ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولاً‏.‏

وثانيهما‏:‏ ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحبر المفسدين للثمار والمطر المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل وازسراف والجهل المركب والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها إعدام، وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم كمال لذات، والبرهان عليه أنه لو كان أمراً وجودياً فلا يخلو إما أن يكون شراً لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدماً لشيء أصلاً لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شراً لذلك الشيء ضرورة أن كل ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كمال له لا يكون شراً له فإذاً ليس الشر إلا عدم ذلك اليء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية كالظلم فإنه وإن كان شراً بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام، وكذا الإحراق كمال للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر أما عدم ذات أو عدم كمال لها فالوجود من حيث أنه وجود خير محض والعدم من حيث أنه عدم شر محض، ثم إنك قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الوجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابهاً لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلاً فإن ذلك ليس شراً له لأجل كونه إنساناً بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث أنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم‏.‏

وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره، وأما ما يكون شراً محضاً أو مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجد له أصلاً حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلاً كما توهمه كفرة المجوس، ثم كل ما كان خيراً محضاً أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب، وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جملة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل مقتضياً بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عندك ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضاً شروراً بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالاً وضياء وكمالاً كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسناً وملاحة وإشراقاً وصباحة‏.‏

ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابلة بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال‏:‏ إن الفاعل للكل إذا كان مختاراً فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا‏:‏ إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية‏.‏

وقول الإمام‏:‏ إن الفلاسفة لما قالوا ءالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشى من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلاً فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فو فضل لا فضول، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضاً في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الأفهام‏.‏

هذا ثم إنه سبحانه بعد ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الانعام ومقابله ذكر ما يصلح جواباً لمن يقول‏:‏ لم كان الأمر كذلك‏؟‏

‏[‏بم فقال عز قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ‏}‏ أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط ‏{‏يَعْمَلُ‏}‏ عمله ‏{‏على شَاكِلَتِهِ‏}‏ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة‏.‏

وهذا التفسير مروي عن الفراء‏.‏ والزجاج‏.‏ واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَبُّكُمْ‏}‏ الذي برأكم متخالفين ‏{‏أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً‏}‏ أسد طريقاً وأبين منهاجاً وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر‏.‏ وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسرين دون الأولين‏.‏ ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه‏.‏

وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفساً مشرقة حرة ظاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة ‏{‏والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ‏}‏ وإن كانت نفساً كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة ‏{‏والذى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها‏.‏ وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريباً، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل للاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا‏:‏ إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضاً في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأكل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبراز على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض‏:‏ إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين‏.‏

وقال بعض المتأخرين من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة؛ والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجاً خاصاً يسمى مرضاً فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها، وفي الحديث القدسي‏:‏ «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الياطين فاجتالتهم عن دينهم»، وفي الأثر‏:‏ «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ماعصوا ولبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه

ولولا المزعجات من الليالي *** لما ترك القطا طيب المنام

ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم إعوجاجهم، ولذا قيل‏:‏ الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولاً لعروضهما لهم ورخصة في لحوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتهان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمراً آخر، وانظر إلى طبيعة التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذاته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلاً وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

ثم اعلم أنه روى عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن فقال عمر‏:‏ لم أر آية أرجى من التي فيها ‏{‏غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 3‏]‏ قدم الغفران قبل قبول التوبة، وقال عثمان‏:‏ لم أر آية أرجى من ‏{‏نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقال علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ لم أر أرجى من ‏{‏قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ الآية، وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقاً يعمل على شاكلته فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح ‏{‏الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحداً إنكاراً ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسؤول عنه الروح الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاهرة إن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص عليه في البحر‏.‏ وغيره، نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من المساء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا‏:‏ ‏{‏وْمَ يَقُومُ الروح والملائكة‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الروح المسؤول عنه‏:‏ هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح جناحات منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة‏.‏ وأخرج هو وغيره أيضاً عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في‏:‏ هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة‏.‏ وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجه وطعن الإمام في ذلك بما طعن‏.‏ وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال‏:‏ الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال‏:‏ الإنس والجن عشرة أجزاء فالانس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء، وقال الحسن‏.‏ وقتادة‏:‏ الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ‏}‏

‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأولى وقدمه وليس بشيء كما ستسمعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وضمير يسألون لليهود فقد أخرج اليخان‏.‏ وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه فسألوه فقالوا‏:‏ يا محمد ما الروح‏؟‏ فما زال متوكئاً على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما نزل الوحي قال ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح‏}‏ الآية، وقال بعضم‏:‏ لقريش لما أخرج أحمد‏.‏ والنسائي والترمذي‏.‏ والحاكم وصححاه‏.‏ وابن حبان‏.‏ وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطو ناشئاً نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ‏}‏ الخ‏.‏

وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشاً بعثت النضر بن الحرث‏.‏ وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم سلوهم محمداً فانهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤا وسألوه فبين لهم صلى الله عليه وسلم القضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية؛ وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر، وأياً ما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه فيالصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام، وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضاً دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف ‏{‏قُلِ الروح‏}‏ أظهر في مقام الإضمار إظهاراً لكمال الاعتناء ‏{‏مِنْ أَمْرِ رَبّى‏}‏ كلمة ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، وقيل‏:‏ بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى، وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر‏.‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال‏.‏

أخرج ابن إسحاق‏.‏ وابن جرير عن عطاء بن يسار قال‏:‏ نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا‏:‏ يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 58‏]‏ أفعنيتنا أم قومك قال‏:‏ كلا قد عنيت قالوا‏:‏ فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى ‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ إلى قَوْلُهُ سبحانه‏}‏ ‏{‏أَن اا للَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27، 28‏]‏ وكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن المراد في الآية ‏{‏تبياناً لكل شيء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏ من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي‏.‏

وفي رواية النسائي‏.‏ وابن حبان‏.‏ والترمذي‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية‏:‏ أوتينا علماً كثيراً أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ البحر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ الآية، ولا يخفى أن هذا أيضاً لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلاً بالنسبة إلى ما فوقه وكثيراً بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر، وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك قال اليهود‏:‏ نحن مختصون بهذا الخطاب فقال‏:‏ بل نحن وأنتم فقالوا‏:‏ ما أعجب شأنك ساعة تقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ وساعة تقول‏:‏ هذا فنزل ‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏ الخ، يقال‏:‏ تقدم ولا يلزم منه التناقض أيضاً على نحو ماب أن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود‏.‏ والأعمش ‏{‏وَمَا أُوتُواْ‏}‏ فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي‏:‏ إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد‏:‏ معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أن الروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه

‏{‏ما رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن االعلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل‏:‏ من فقد حساً فقد فقد علماً، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوساً منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلاف وكذا لا يدرك شيئاً من عرضياته ليرسمه بها فضلاً عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين‏.‏

وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي «الكشف» أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال‏:‏ لقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد‏.‏ والترمذي وقال‏:‏ حديث صحيح وسئل البخاري عنه فقال‏:‏ حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ اني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال‏:‏ يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت، لا أدري رب قال‏:‏ يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ لا أدري رب قال‏:‏ يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث و‏{‏رَأَيْتُ‏}‏ يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطاً بالبناء للمفعول والروح مضبوطاً بالرفع والاشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر‏.‏

ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك، ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏أَلاَ لَهُ الخلق والامر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 45‏]‏ ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح‏}‏ ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالاً عن الماهية؛ والثاني كونه سؤالاً عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ومبنى هذا أيضاً الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ احتجاجاً على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخباراً بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذٍ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجاً على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم‏.‏

وههنا أبحاث لا بأس بإيرادها‏:‏ البحث الأول‏:‏ في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، وظاهر كلاء الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله وأبطل ذلك الإمام بسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصاناً وذبولاً ونمواً والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلاً وبعضاً ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلاً وغير المعلوم غير المعلوم‏.‏

ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيراً ما رؤي في صورة دحية الكلبي وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلاً قرداً باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول‏:‏ يا أهلي، ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة على فاحذروا مثل ما حل بي فصرح صلى الله عليه وسلم بأن هناك شيئاً ينادي غير المحمول كان الأهل أهلاً له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل إن الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل‏:‏ إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، وقيل‏:‏ إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل‏:‏ هو الدم الحال في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحاً لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال ابن القيم في كتابه الروح‏:‏ إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع‏.‏

الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به، ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة‏.‏ وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني‏.‏ وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي‏.‏ وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جداً يهب للروح روحاً ويورث للصدر شرحاً، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال‏:‏ إن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال‏:‏ هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عرياً عن الملابس الحسية، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أنا النذير العريان ‏"‏ ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الإجرام، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن ‏"‏ وفي رواية «على صورته»، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ‏"‏ ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قرباً بالذات والصفات مجرداً عن علائق الإجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول‏:‏ إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبراً للبدن وإذا انقصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده‏.‏

البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه‏:‏ أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثاً زمانياً كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قبل منهم محمد بن نصر المروزي‏.‏ وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعاً وقد افترى، واستدل لذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ‏"‏ قال ابن الجوزي في تبصرته‏:‏ قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الإخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة‏.‏

وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم الحديث الصحيح ‏"‏ إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً دماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ‏"‏ ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقاً قبل لقيل، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في «روضة المحبين» و«نزهة المشتاقين» باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فليفهم

وذهب افلاطون ومن تقدمه من فلاسفة إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحاً وتعديلاً، ويقال هنا‏:‏ إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن المادة ههنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترناً به لا مبايناً عنه فالأولى أن يقال‏:‏ إن البدن الإنساني لما استدعى لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمراً موصوفاً بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتاً مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من حيث أن البدن استدعاها بل من حيث عدم انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمراً مادياً وجود المبدأ الفياض أفاد جوهراً قدسياً وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهراً وعرضاً باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجرداً ومادياً باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتاً مادية فعلاً فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض‏.‏

البحث الثالث‏:‏ اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه «إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا» الحديث ظاهرفي ذلك‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏ وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية نارية والروح نورية روحانية، وعن آخر أن النفس ناسوتية والروح لاهوتية، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر الروج الروحانية المرادة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ الثابت تعينها في عالم الأرواح وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس بحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس؛ 8‏]‏ والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقاً وقد يتغايران، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتاً، وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا‏:‏ إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحاً ثم قد تترقى إلى أن تصير سراً من أسرار الله تعالى‏.‏

وتفصيل الكلام حينئذٍ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها، الأولى‏:‏ تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما، الثانية‏:‏ تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية، الثالثة‏:‏ تحلي النفس بالصور القدسية، الرابعة‏:‏ فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله، ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة‏.‏

والغضب‏.‏ والحرص‏.‏ والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك الفضول الدنيوية طلباً للكمالات الأخروية ويعزم عزماً تاماً ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل‏:‏ إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائماً في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها‏.‏

يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أموراً غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئاً منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانياً عن نفسه غافلاً عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار حقيقية تارة وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فتجعله هباءاً منثوراً ويندك حينئذٍ جبال إنيته فيخر لله تعالى خروراً ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجىء إلى البقاء والصحو صار مستغرقاً في عين الجمع محجوباً بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم، وفوق ذلك مرتبة يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء بالحق على وجه لا يوجب التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل، ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقاً بأخلاق الله تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضاً قائماً بالنفس فءن هذا مما لا يتصور أبداً، والقول به خروج عن الشريعة والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها، ولعل مرادهم بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سراً من أسرار الله تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار والله تعالى الموفق للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك‏.‏

البحث الرابع‏:‏ اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا‏؟‏ فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل الكتاب على أنه لا يبقى إلا الله تعالى وحده وهو يستدعي هلاك الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام يموتون فالأرواح البشرية أولى، وأيضاً أخبر سبحانه عن أهل النار أنهم يقولون ‏{‏أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ ولا تحقق إلا ماتتان إلا بإماتة البدن مرة وإماتة الروح أخرى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إنها لا تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد، وإن قلنا بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب، والصواب أن يقال‏:‏ موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصاً بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك، وما ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه‏.‏

وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضاً، واحتج الشيخ عليه بأن قال‏:‏ قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معاً في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر فإن كانا معاً فلا يخلو إما أن يكونا معاً في الماهية أولا في الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فلا يخلو إما أن يكون المقدم هو النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانياً أو ذاتياً والأول باطل لما ثبت أن النفس ليست موجودة قبل البدن، وأما الثاني فباطل أيضاً لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولاً لامتنع عدم البدن إلا لعدم النفس، والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن، وباطل أيضاً أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك، والثاني باطل أما أولاً فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالاً مجردة عن الحيز والوضع، وأما ثانياً فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سبباً للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة، ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذاً ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلاً فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر‏.‏

فإن قيل‏:‏ ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس‏؟‏ فنقول‏:‏ قد بين أن الفاعل إذا كان منزهاً عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطاً للحدوث فقط وكان غنياً في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثراً في عدم ذلك الشيء، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعداً لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك‏.‏

البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان‏:‏ نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضاً باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز، وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر في حديث الشهداء ففي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة أي أنها تكون في أبدان على تلك الصور، ويؤيد ذلك رواية ابن ماجه عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر، وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة، وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئاً من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر‏.‏

البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان‏:‏ الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة تكلم بها صلى الله عليه وسلم اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد ما ذكر، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك، وروي ابن المبارك عن كعب قال‏:‏ جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك، وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضاً وهو نص الإمام الشافعي، وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعاً «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه، ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك وخرجه ابن ماجه ورواه خلق كثير، وروي ابن منده من حديث أم بشر مرفوعاً ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء، وقال وهب بن منبه‏:‏ إن لله تعالى في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين، وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر في النار يقولون ربنا لا تلحق بنا اخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا، وقيل‏:‏ مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم، وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث، واستدل له بعضهم بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى» وبانه صلى الله عليه وسلم حين زار الموتى قال‏:‏ «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ورجح ابن عبد البر أن مستقر أوراح ما عدا الشهداء بأفنية القبور، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتاً من الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت أولها اشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا يقال مستقرها أفنية القبور، وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، وقال بعضهم‏:‏ لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك، نعم جاء في حديث البراء بن عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عيلين ويقول الرب تعالى شأنه‏:‏ ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم اني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ الآية لكن قال الحافظ ابن رجب‏:‏ إن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ الخ باعتبار الأبدان، وقالت طائفة‏:‏ مستقر الأرواح مطلقاً في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار‏.‏

ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في السماء والنار ليست فيها، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا‏.‏ والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء عليهم السلام، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة، وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه‏.‏ وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة‏.‏ وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوى إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام ومنها ما هو في كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام اه، قال القرطبي‏:‏ وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع واترضاه الجلال السيوطي‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال‏:‏ بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه‏.‏

وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها العدم المحض وهو مبني على أنها من الأعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم، ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برحان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال‏:‏ والنفس مبراة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابة والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له وموته خمود إلا ما شاء الله تعالى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتي يحيي بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمناً فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام قائماً في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمى من علو إلى الأرض اه، وفيه القول بالمغايرة بين الروح والنفس، وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة، ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه الا عرفه ورد عليه السلام ليس نصاً في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالاً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى‏.‏

وللروح مع ذلك أحوالاً وأطواراً لا يعلمها إلا الله تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الاستغراق وهو المراد برد الروح في خبر «>ما من أحد يسلم على الارد الله تعالى روحي فأرد عليه السلام» والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الاذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من الله تعالى حتى أن بعض الأرواح الظاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الاحياء يقظة وان أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبني على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحبة وإن قامت قرينة عليها، وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي الله تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له‏:‏ أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله غي أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فات خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ إن على من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فاتى الرجل خالداً فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسخ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا، وقيل‏:‏ إن أبا بكر لم يرد الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال، ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير، وربما يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم لا مطلقاً كما هو المشهور، وتحقيقه في سرح الشمائل للعلامة بن حجر ثم أعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه وان تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع، واعلم أيضاً أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال إنها داخل العالم أو خارجه كام سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانه من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم، وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة، وقال آخر‏:‏ إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب يوم القيامة‏.‏

والفلاسفة قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل ما علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولاً للآخر لا بد الجواز من دليل، وعلى ما ذكره هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر في صور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام انه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، وأنت تعلم ما يقولون في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت خبر «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» ومن هنا قالوا‏:‏ من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري هي عبارة، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل‏:‏ تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان، وقيل‏:‏ تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء، ومن الناس من قال‏:‏ إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء الله تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها، هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص، ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية والله عز وجل ولي الكرم والجود، ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها السياق، وإنما عبر عنه بالموصول تفخيماً لشأنه ووصفاً له بما في حيز الصلة ابتداء إعلاماً بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق، واللام الأولى موطئة للقسم ‏{‏ولنذهبن‏}‏ جوابه النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول اللام عليه وهو ظاهر وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة، والمراد بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدور وهو أبلغ من الأفعال، ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ‏{‏إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ‏}‏ أي القرآن ‏{‏عَلَيْنَا وَكِيلاً‏}‏ أي متعهداً وملتزما استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه حال كونه متوقعاً أن يكون محفوظاً في السطور والصدور كما كان قبل فالوكيل مجاز عما ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ‏}‏ استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري‏.‏ وابن عطية‏.‏ وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور، والاستدراك على ما صرح به الطيبي‏.‏ وغيره‏.‏ واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ‏}‏ وقال في الكشف‏:‏ إنه ليس استدراكاً عن ذلك فإن المستثنى منه ‏{‏وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏ وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ إلا من رحم في رأي، وقولهم‏:‏ لا تكونن من فلان إلا سلاماً بسلام فقد صرح الرضى وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه، وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق، والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بـِ ‏{‏لا تجد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الاذهاب ضمناً والقاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من ‏{‏وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏ أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فانك تجدها مستردة، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ إن ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون نصباً على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى، والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله، ولا يخفى ما فيه من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل‏.‏ والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحقق وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة، فقد أخرج البيهقي‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس‏.‏ وابن عمر قالا‏:‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلاً لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل‏:‏ يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات‏؟‏ قال‏:‏ من أراد الله تعالى خيراً أبقى في قلبه لا إله إلا الله»

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال‏:‏ يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه‏.‏

وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعاً لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز وجل‏:‏ مالك‏؟‏ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلي ولا يعمل بي؛ وأخرجي محمد بن نصر نحو موقوفاً على عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ سيرفع القرآن من المصاحف والصدور، ثم قرأ ‏{‏وَلَئِن شِئْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏ الآية، وفي البهجة أنه يرفع أولاً من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال‏:‏ إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ‏}‏ لم يزل ولا يزال ‏{‏عَلَيْكَ كَبِيرًا‏}‏ ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل‏:‏ إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة‏.‏

وقال صاحب التحرير‏:‏ يحتمل أن يقال‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكيناً له صلى الله عليه وسلم‏.‏

والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه انتهى، وكلا القولين كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن‏}‏ أي اتفقوا ‏{‏على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان‏}‏ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم ‏{‏لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ أي هذا القرآن وأوثر الاظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازاً عن أن يتوهم أن له مثلا معيناً وإيذاناً بأن المراد نفي الاتيان بمثل ما أي لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل‏:‏ المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الاتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الاتيان بمثله وحدهم أعجز وليسس بذاك، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي ادراجهم إذ لا يلائمه حينئذ ‏{‏لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ وفيه أنه ليس المراد نفي الاتيان بمثله من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل، وجملة ‏{‏لاَ يَأْتُونَ‏}‏ جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان ‏{‏لاَ يَأْتُونَ‏}‏ جزاء الشرط وإن كان مرفوعاً بناءاً على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضياً يجوز الرفع في الجواب كما في قول زهير‏:‏

وإن أتاه خليل يوم مسغبة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهراً مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه، ولا يجوز عند البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافاً للفراء، وأما قول الأعشى‏:‏

لئن منيت بنا عن غب معركة *** لا تلفنا عن دماء الخلق تنتفل

فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم، وحيت كان المراد بالاجتماع على الاتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الاتيان بمثله، والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض ظهيراً ولو كان الخ؛ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة، والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الاتيان به فضلاً عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الاتيان بمثله، فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا‏:‏ أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فانا لا نراه متناسقاً كتناسق التوراة فقال صلى الله عليه وسلم لهم‏:‏ أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالوا‏:‏ إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وفيه رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فانا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم‏:‏ نحن نقدر الخ اهتماماً به فإن قولهم ذلك منشأ طلبهم الآية الغريبة‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريراً لما قبلها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏ كما قيل لكن لا لما قيل من أن الاتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الاتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام انتهى، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير‏:‏ أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق ألا رده بمثله فصرح بنفيه تقريراً له من النظر وعدم الجدوى، هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لم كان قديماً لم يكن مقدوراً فلا يكون معجزاً كالمحال، وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير‏.‏

وقال صاحب التقريب‏:‏ الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضاً المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضاً سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله، واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الأنعام ومسدد الأفهام‏.‏