فصل: تفسير الآية رقم (89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا‏}‏ كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر ‏{‏فِى هذا القرءان‏}‏ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة ‏{‏مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول ‏{‏صَرَفْنَا‏}‏ على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر، ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏صَرَفْنَا‏}‏ بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ، وأيا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ أي جحوداً وفسر به لثبوت الصدق باصل الاعجاز، والمراد بالناس المذكورون أولاً وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيداً وتوضيحاً، والمراد بالأكثر قيل‏:‏ من كان في عهده صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب‏.‏

واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب ‏{‏كَفُورًا‏}‏ على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت الازيدا لأن أبي قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الآباء، وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيداً فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره، وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفوراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعي عليه وبعضه من المحالات العقلية ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ‏}‏ بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح، وقرأ باقي السبعة ‏{‏تَفْجُرَ‏}‏ من فجر مشدداً والتضعيف للتكثير لا للتعدية‏.‏

وقرأ الأعمس‏.‏ وعبد الله بن مسلم بن يسار ‏{‏تَفْجُرَ‏}‏ من أفجر رباعياً وهي لغة في تجر ‏{‏لَنَا مِنَ الارض‏}‏ أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي ‏{‏يَنْبُوعًا‏}‏ مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة، والمراد عينا لا ينضب ماؤها، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين، والأول مروى عن مجاهد وكفى به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَكُونَ لَكَ‏}‏ خاصة ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة ‏{‏مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ‏}‏ خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما ‏{‏فَتُفَجّرَ الانهار‏}‏ أي تجريها ‏{‏خِلاَلَهَا‏}‏ نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة واثنائها ‏{‏تَفْجِيرًا‏}‏ كثيراً والمراد اما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تُسْقِطَ السماء‏}‏ الجرم المعلوم ‏{‏كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا‏}‏ جمع كسفة كقطعة وقطع لفظاً ومعنى وهو حال من السماء والكاف في ‏{‏كَمَا‏}‏ في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطاً مماثلاً لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تُسْقِطَ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 68‏]‏ وليس بشيء، وقيل‏:‏ أن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك أن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس، وقرأ مجاهد ‏{‏فِى السماء‏}‏ بياء الغيبة ورفع ‏{‏السماء‏}‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏{‏كِسَفًا‏}‏ بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع‏.‏ وأبو بكر في غيرهما‏.‏ وحفص فيما عدا الطور في قول‏.‏ وفي النشر إنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقاً كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئاً مكسوفاً أي مقطوعاً ‏{‏أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً‏}‏ أي مقابلا كالعشير والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عياناً وهذا كقولهم ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلاً بما تدعيه يعنون شاهداً يشهد لك بصحة ما قلته وضامناً يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله‏:‏

ومن يك أمسى في المدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب

وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلاً بمقابلة ومعاينة، وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالاً من الملائكة، وفي «الكشف» جعله حالاً من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة لا تتي بهما جماعة ليكون حالاً على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم ‏{‏أَوْ نرى رَبَّنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً انتهى‏.‏ وقرأ الأعرج ‏{‏قُبُلاً‏}‏ من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ‏}‏ من ذهب كما روى عن ابن عباس‏.‏ وقتادة وغيرهما، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب، وقرأ عبد الله ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ وجعل ذلك في البحر تفسيراً لا قراءة لمخالفته سواد المصحف ‏{‏أَوْ ترقى فِى السماء‏}‏ أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقى في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة، وقيل‏:‏ المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر‏:‏

وقد يسمى سماء كل مرتفع *** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

‏{‏وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ‏}‏ أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها ‏{‏حَتَّى تُنَزّلَ‏}‏ منها ‏{‏عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ‏}‏ بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك ‏{‏قُلْ‏}‏ تعجباً من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم ‏{‏سبحان رَبّى‏}‏ أو قل ذلك تنزيهاً لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كاتيان الله تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر ‏{‏قَالَ سبحانك رَبّى‏}‏ أي قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ كسائر الرسل عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه، و‏{‏بَشَرًا‏}‏ خبر كان و‏{‏رَسُولاً‏}‏ صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشراً توطئة لذلك رداً لما أنكروه من جواز كون الرسول بشراً ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولاً كسائر الرسل بشراً مثلهم، وزعم بعض أن ذكر ‏{‏بَشَرًا‏}‏ ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقرة نفسه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر ‏{‏بَشَرًا‏}‏ لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال‏:‏ هل كنت إلا بشراً والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك، وذكر رسولاً لنفي أن يأتي به بقدرة الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولاً والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه‏.‏

وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة الآثار كما ستعلمه قريباً إن شاء الله تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم، وقال الخفاجي‏:‏ إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى‏.‏

وجوز بعضهم كون بشراً حالاً من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أنه له صلى الله عليه وسلم حالاً آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية‏.‏ هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئاً وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الخ نزل في عبد الله بن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إلينا، وأخرج ابن إسحق‏.‏ وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة‏.‏ وشيبة ابني ربيعة‏.‏ وأبا سفيان بن حرب‏.‏ والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود‏.‏ والوليد بن المغيرة‏.‏ وأبا جهل‏.‏ وعبد الله بن أبي أمية‏.‏ وأمية بن خلف وناساً آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض؛ ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروه فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا‏:‏ يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلاً من الغرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب ما لا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جتئكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا‏:‏ يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلته عند الله تعالى وأنه بعثك رسولاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة يغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيراً ونذيراً فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا‏:‏ فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا‏:‏ يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وأنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائهم‏:‏ لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال‏:‏ يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أموراً يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله لا نؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظنن إني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ الآية وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ الآية اه والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس‏}‏ أي الذين حكيت أباطيلهم ‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ‏}‏ مفعول منع وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏ ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للايمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ فاعل منع أي إلا قولهم‏:‏ ‏{‏أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏‏؟‏ منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم‏.‏

وإنما عبر عنه بالقول إيذاناً بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسماً لمواد شبههم مقتضياً للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعاً قاله بعض المحققين، وظاهر ذلك أن القول لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلاً، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلى الله عليه وسلم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتاً وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر‏.‏

والظاهر أن الآية أخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم أولاً من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقاً للحق المزيح للريب ‏{‏لَّوْ كَانَ‏}‏ أي لو وجد ‏{‏فِى الارض‏}‏ بدل البشر ‏{‏ملائكة يَمْشُونَ‏}‏ كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه ‏{‏مُطْمَئِنّينَ‏}‏ ساكنين مقيمين فيها، وقال الجبائي‏:‏ أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه ‏{‏لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً‏}‏ يعلمهم ما لا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتاع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبين فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوساً زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون، وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة، وإنزال الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مراراً في صورة دحية الكلبي‏.‏

وقد صح أن إعرابياً جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم ‏"‏ مما لا يجدي نفعاً لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه‏.‏

وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية‏:‏ إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فازعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لاوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم، وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع‏.‏

ونصب ‏{‏مَلَكًا‏}‏ يحتمل أن يكون على الحالية من رسولاً صفة له، وكذا الكلام في قوله تعالى ‏{‏أبعث الله بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏، ورجح غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه، أما الأول‏:‏ فلأن منطوقه ابعث الله تعالى رسولاً حال كونه بشراً لا ملكاً ولنزلنا عليهم رسولاً حال كونه ملكاً لا بشراً وهو المقصود، وأما الثاني‏:‏ فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشراً مرسلاً لا بشراً غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكاً مرسلاً لا ملكاً غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم، وقال «صاحب الكشف» تبعاً لشيخه العلامة الطيبي في ذلك‏:‏ لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني

‏{‏أبعث الله بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏ فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت أعني الرسالة كما تقول أضربت قائماً زيداً ولو قلت أضربت زيداً قائماً أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائماً لا الضرب مطلقاً، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله، وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة اه، وهو أكثر تحقيقاً‏.‏ واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل ما لا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلى الجن الإنس إجماعاً معلوماً من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك فقد وهم وأجيب بمنع كونها ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القوم أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشراً وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكاً ومرامهم نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المكورين وهذا لا ينافي بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة والسلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا أن اجتمتعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفاً، ويقال نحو هذا في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام مرسلاً إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق وقال كابن تيمية لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي‏.‏

وقال إبراهيم اللقاني‏:‏ لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل تكليفهم به، وقال السبكي في «فتاويه»‏:‏ الجن مكلفون بكل شيء من هذه الشريعة لأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس وأن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها فنقول‏:‏ إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصاباً بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لا نلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة في شيء خاص اه‏.‏ ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة بعضهم على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام حاصلاً بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بوساطة أحد منهم، وأنكر بعضم إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم وبعدم الإرسال إليهم جزم الحليمي‏.‏ والبيهقي من الشافعية‏.‏ ومحمود بن حمزة الكرماني في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الاجماع عليه وجزم به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكتة علي ابن الصلاح والجلال المحلي في «شرح جمع الجوامع» وصريح آية ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ إذ العالم ما سوى الله تعالى وصفاته، وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب الأول، نعم استدل أهل المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه، وقد ادعى بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم رسولاً حال كونه ملكاً لا بشراً‏.‏ وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا تدل الآية إلا على تعين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة التعين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة الاجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء إليهم والإفاضة عليهم، نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام إليهم صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمناً يعتد بهم كما يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل مشاركاً لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة اه فتدبر‏.‏

فلعل الله سبحانه يمن عليك بما روى الغليل وتأمل في جميع ما تقدم فلعلك توفق بعون الله تعالى إلى الجرح والتعديل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم ثانياً من جهتك بعدما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأساً ‏{‏كفى بالله‏}‏ عز وجل وحده ‏{‏شَهِيداً‏}‏ على أني قد أديت ما على من مواجب الرسالة أكمل أداء وإنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد، وقيل شهيداً على أني رسول الله تعالى إليكم بإظهار المعجزة على وفق دعواي، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ وكذا بقوله سبحانه تعليلاً للكفاية ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ‏}‏ أي الرسل والمرسل إليهم ‏{‏خَبِيرَا بَصِيرًا‏}‏ أي محيطاً بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك، وزعم الخفاجي أن الثاني أوفق بالسباق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق رداً لإنكارهم أن يكون الرسول بشراً وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ‏}‏ الخ لا وجه له لأن معناه التهديد والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وأنهم إنما ذكروا هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والاستنكاف عن الحق وفيه من التسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم ما فيه، وأنت تعلم أن إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه، ولا ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية، وأيضاً يبقى أمر أوفقيته بيني وبينكم في البيت ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكى، هذا وإنما لم يقل سبحانه بيننا تحقيقاً للمفارقة وإبانة للمباينة، ونصب ‏{‏شَهِيداً‏}‏ أما على الحال أو على التمييز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَهْدِ الله‏}‏ كلام مبتدأ غير داخل في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة أي من يهد الله تعالى إلى الحق ‏{‏فَهُوَ المهتد‏}‏ إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب والأكثرون حذفوا ياء المهتدي ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ يخلق فيه الضلال لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ أي أنصاراً ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ عز وجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم ولياً على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على ما هو المشهور وقيل قال سبحانه ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد، وضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ عائد على من باعتبار معناه كما أن ‏{‏هُوَ‏}‏ عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى‏.‏

وفي إيثار الأفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال، وذكر أبو حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن‏.‏ وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولاً إذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضْلِلِ‏}‏ ضمي محذوف مفرد إذ تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال‏:‏ وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه ‏{‏مَن يَهْدِ الله‏}‏ وإن كان في جملة أخرى اه‏.‏ وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول ‏{‏يُضْلِلِ‏}‏ كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول ‏{‏يَهْدِ‏}‏ وحيئنذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لا يخفي فتفطن، وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ لمجيء ومن بالواو، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ‏}‏ أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيدان بكمال الاعتناء بأمر الحشر، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية لما قاله الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ حين يقومون من قبولهم ‏{‏عَلَى وُجُوههمْ في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيئاً بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال‏:‏ قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على جوههم‏؟‏ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر‏.‏

فقد أخرج أبو داود‏.‏ والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف كمشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم‏؟‏ قال‏:‏ إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب» وإما سحباً بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى ‏{‏يوم يسحبون في النار على وجوههم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48‏]‏ ويشهد له ما أخرجه أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ‏}‏ الخ فقال‏:‏ حدثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم، وأخرج أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنكم تحشرون رجالاً وركباناً وتجرون على وجوهكم‏}‏ وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48‏]‏ الثاني لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه فالمراد ونحشرهم يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روى عن ابن عباس حمل الأحوال الآتية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طرز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك ‏{‏عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل والقال، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلاً من تلك الحال وهو كما ترى‏.‏

واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع‏.‏

نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئاً يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينقطون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروى أيضاً عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل عمياً عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صماً عما مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل‏:‏ يحصل لهم ذلك حقيقة بعدو قوله تعالى لهم

‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَأْوَاهُمُ‏}‏ أي مستقرهم ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ على تقدير جعله حالاً ويحتمل أن يكون استئنافاً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ يحتمل أيضاً الاستئناف ويحتمل أن يكون حالاً من جهنم كما قال أبو البقاء، وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال الطبرسي‏:‏ هو حال منها لأنها توضع متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالاً منها‏.‏

وجوز جعله حالاً مما جعلت الجملة الأولى منه لكن بعد اعتبارها في النظم والرابط الضمير المنصوب في ‏{‏زِدْنَاهُمْ‏}‏ وهو كما ترى والاستئناف أقل مؤنة، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدراً خبت النار سكون اللهب قال في «البحر» يقال خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة، وقال الراغب‏:‏ خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء، وفي «القاموس» تفيسر خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه‏.‏ ومن الغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير ‏{‏خَبَتْ‏}‏ في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور، والسعير اللهب، والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهباً وتوقداً بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت‏.‏ أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية إن الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقاً جديداً عاودتهم، ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الأفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عياناً حيث لم يروها برهاناً كما يفصح عند ما بعد‏.‏ واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏ يدل على أن النار لا تتجاوز عن انضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلوداً غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها فكأنه قيل كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها، وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم الخ ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏