فصل: الجزء الحادي عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏{‏لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏ وقال الخفاجي‏:‏ أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه‏.‏ ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل‏:‏ النضج عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة، وفي قوله‏:‏ إذ لا يحصل الخ منع ظاهر، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل، وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 162‏]‏ تعارضاً لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت واستلزامه تخفيف عذاب النار ممنوع، على أنا لو سلمنا الاستلزام، فالعذاب الذي لا يخفف ليس منحصراً بالعذاب بالنار والإيلام بحرارتها وحينئذٍ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏ وذكر الإمام أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفاً بالنسبة إلى الحالة الثانية، وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب شديداً‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه اه، وقد يقال‏:‏ ليس في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم، والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة، ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زِدْنَاهُمْ‏}‏ دون زدناها فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه ‏{‏كلما خبت زدناهم سعيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوههم عمياً وبكماً وصماً الخ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه ‏{‏جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي بسبب أنهم ‏{‏كَفَرُواْ بئاياتنا‏}‏ القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقاً فيشمل ما ذكر، و‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به، وجوز أن يكون ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ مبتدأً ثانياً والظرف خبره والجملة خبر لذلك، وأن يكون ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ بدلاً من ذلك أو بياناً والخبر هو الظرف، وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، وليس بشيء ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ منكرين أشد الإنكار ‏{‏أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين ‏{‏اثنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثاً جديداً وإما حال أي مخلوقين مستأنفين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر ‏{‏قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ من الأنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا، وقال بعض المحققين‏:‏ مثل هنا مثلها في مثلك لا يبخل أي قادر على أن يخلقهم، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أولاً بذلك حيث قيل‏:‏ ‏{‏خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏ ولا يخلو عن بعد، وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه تعالى، ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 19‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏ وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق، ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتأليفها وإفاضة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم ‏{‏أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏ بعد قولهم ‏{‏ائذا كنا عظاماً ورفاتاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏ فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول‏:‏ إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتساباً ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءاً لبدن آخر فضلاً عن أن تصير جزأً أصلياً له، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال‏:‏ إنه الصحيح، وكذا قال البد الزركشي، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا‏:‏ إن الله تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن فيكون‏.‏ وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا‏:‏ إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الاخشيد إلى أن الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها، وقال ابن شبيب‏:‏ إنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناءً يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي‏.‏

وأبو هاشم واتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه‏:‏ إن الله سبحانه يخلق فناءً واحداً لا في محل فيفنى به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه أنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل‏.‏

وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة‏.‏ وبشر المريسي‏.‏ والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر‏:‏ إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر‏.‏ وقال الأكثر والكعبي‏:‏ إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالاً فحالاً فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر‏.‏ وقال إمام الحرمين‏:‏ إنه الإعراض التي يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالاً فحالاً فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم‏.‏ وقال النظام‏:‏ إنه خلق الله تعالى الجوهر حالاً فحالاً فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الاعراض فإذا لم يوالى عز مجده على الجوهر خلقه فني، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجوداً لا في محل، ولعل وجه البطلان غني عن البيان‏.‏ واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاماً ورفاتاً فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر، وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضاً فناء عرفاً فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر‏.‏ ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن عجب الذنب لا يفنى وإن فنى ما عداه من أجزاء البدن لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة»‏.‏ وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» وصحح المزني أنه يفنى أيضاً وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت، والخلق منه والتركيب يمكن أي يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصاً في بقائه، ووافقه على ذلك ابن قتيبة، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقاً، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر‏.‏

وقال السعد‏:‏ إنه الحق وهو اختيار أمام الحرمين‏.‏ وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفياً ولا إثباتاً لعدم الدليل على شيء من الطرفين‏.‏

وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد‏:‏ فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والاعراض ثم يعادان جميعاً أو تعدم الاعراض دون الجواهر ثم تعاد الاعراض فقط‏؟‏ قلنا‏:‏ كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الحق وقوع الأمرين جميعاً إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل جداً ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً‏}‏ وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلاً للموت يخصه، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة على ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن‏.‏

وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظاً ومعنى والمعنى كما في «الكشف» وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلاً لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكناً في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم ‏{‏أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏ وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثاً ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة‏.‏

وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولاً فلأنه أقرب، وأما ثانياً فلأن جعل الأجل يدخل حينئذٍ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق ‏{‏فأبى الظالمون‏}‏ الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة ‏{‏إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ أي جحوداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ‏}‏ أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية، و‏{‏أَنتُمْ‏}‏ على ما ذهب إليه الحوفي‏.‏ والزمخشري‏.‏ وأبو البقاء‏.‏ وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس‏:‏

ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي *** جعلت لهم فوق العرانين ميسما

وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطناباً وتكراراً بحسب الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناءً على أن ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ بعينه ضمير ‏{‏تَمْلِكُونَ‏}‏ المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذٍ ترتب الإمساك، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاءً لو فعلاً مضمراً في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك‏.‏

وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي‏:‏ إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ‏:‏ إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة ‏{‏تَمْلِكُونَ‏}‏ خبرها وعلى هذا تخرج نظائره‏.‏

قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم‏:‏ وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في «لسان العرب»، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولاً أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره‏.‏

وجوز أن يكون مضمناً معنى البخل‏.‏ وتعقب بأنه ليس بشيء لفظاً ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك ‏{‏خَشْيَةَ الإنفاق‏}‏ أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحو عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال‏:‏ يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال‏:‏ أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، وقال بعضهم‏:‏ الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق‏.‏

وجوز أن يكون مجازاً عن لازمه وهو النفاد، ونصب ‏{‏خَشْيَةَ‏}‏ على أنه مفعول له، وجعله مصدراً في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر‏:‏

ولو أن دارك أنبتت لك أرضها *** ابرا يضيق بها فناء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرك إبرة *** ليخيط قد قميصه لم تفعل

مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عاماً فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلاً كما هو ظاهر ما بعد مع أنه قد أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة‏.‏

وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مباذلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل‏:‏

عدنا في زماننا *** عن حديث المكارم

من كفى الناس شره *** فهو في جود حاتم

وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان قَتُورًا‏}‏ مبالغاً في البخل، وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقراتهم وتتسع عليهم فبين سبحانه أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ المناسب في وجه الارتباط أن يقال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إليه إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلى الله عليه وسلم فهي قد جاءت مبنية تباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه‏.‏ فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث أنها تشعر بحرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم‏.‏

ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر إحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بمراده، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من التعنت والعناد مع رسوله صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بينات‏}‏ ظاهر السياق والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة واضحات الدلالة على نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند الله تعالى ولا ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات‏.‏ وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وسعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات، وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ والشعبي‏.‏ وقتادة‏.‏ وعكرمة‏.‏

وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن الحسن‏.‏

ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه فلا ضير في عدهما آيتين‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم في رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‏.‏ وفي «الكشاف» عنه رضي الله تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه الله تعالى على بني إسرائيل‏.‏ وتعقبه في «الكشف» بقوله فيه‏:‏ إن الحجر والطور ليسا من الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فى تسع آيات إلى فرعون وقومه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏ وذكر سبحانه في هذه السورة ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ والإشارة إلى الآيات ثم قال‏:‏ والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضاً منها غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عندما حق الهلاك اه، ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر، وما روي عن ابن عباس أولاً لائح الوجه ما فيه أشكال؛ ونسبه في «الكشاف» إلى الحسن وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك، وروي أن عمر بن عبد العزيز عليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه الآيات فعد ما عد وذكر فيه الطمس فقال عمر‏:‏ كيف يكون الفقيه إلا هكذا ثم قال‏:‏ يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك‏.‏

فقد أخرج أحمد‏.‏ والبيهقي‏.‏ والطبراني‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والترمذي وقال حسن صحيح‏.‏ والحاكم وقال صحيح لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن عسال «أن يهوديين قال‏:‏ أحدهما لصاحبه انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله فأتياه صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف»‏.‏

وفي رواية «أو قال لا تفروا من الزحف شك شعبة وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي» الخبر، ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام، وقال الشهاب الخفاجي‏:‏ إنه التفسير الصحيح، ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره، وقيل أطلقت عليها لأنها نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول، وقيل لا ضير أن يراد على ذلك بالآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك الأحكام من حيث أنها دالة عليها، وفيه وكذا في سابقه القول بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا صلى الله عليه وسلم من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام منها‏.‏ واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسؤول عنها تسع، وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلى الله عليه وسلم، وفي «الكشف» أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصاً بهم ليدل على إحاطة علمه صلى الله عليه وسلم بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله‏.‏

وقال بعض الآجلة‏:‏ إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلى الله عليه وسلم بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطوراً وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي اه‏.‏

وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصاً في ذلك نعم هو كالظاهر فيه لكن كثيراً ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعاً لا بد لنفي ذلك من دليل، وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه صلى الله عليه وسلم الخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي تسعاً أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل‏.‏

فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر ‏{‏مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ وقرأ جمع ‏{‏فسل‏}‏ والظاهر أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام، والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر‏.‏ وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسال على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وإنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبراً وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول المضمر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ‏}‏ وهو متعلق بسال على قراءته صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ‏}‏ لأنه لو كان فاسأل خطاباً لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضاً لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضاً من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله‏:‏

واعلم فعلم المرء ينفعه *** ان سوف يأتي كل ما قدرا

وهذا الوجه مستغن عن الإضمار و‏{‏إِذْ جَاءهُمُ‏}‏ متعلق عليه بآتينا ظرفاً ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلى الله عليه وسلم في وقت مجىء موسى عليه السلام، قال في «الكشف»‏:‏ والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسؤولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يجمل به موقع الاعتراض، وجوز أن يكون منصوباً باذكر مضمراً على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل ‏{‏فَاسْأَلِ‏}‏ اعتراضاً ويجعل اذكر بدلاً عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوباً كذلك بيخبروك مضمراً وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم‏.‏

ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفاً له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجىء، واعترض أيضاً بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجىء أو ذكره لا يلائمه‏.‏

ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذٍ هم الموجودون في زمانه صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام‏.‏

والفاء في ‏{‏فَقَالَ‏}‏ على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى لاظُنُّكَ ياموسى موسى مَّسْحُورًا‏}‏ سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال الفراء‏.‏ والطبري‏:‏ مسحوراً بمعنى ساحراً على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام رداً لقوله المذكور ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ يا فرعون ‏{‏مَا أَنزَلَ هَؤُلاء‏}‏ أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين‏:‏

والعيش بعد أولئك الأيام *** وقد مر ‏{‏إِلاَّ رَبُّ السموات والارض‏}‏ أي خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماءً إلى أن إنزالها من آثار ذلك، وفي «البحر» ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له‏:‏ ‏{‏وما رب العالمين‏؟‏ قال‏:‏ رب السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ تنبيهاً على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والكسائي ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ بضم التاء فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر‏.‏

وقد ذكر الجلال السيوطي في «الدر المنثور» أن سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم والله تعالى أعلم‏.‏

وجملة ‏{‏أَنزَلَ الله‏}‏ الخ معلق عنها سادة مسد ‏{‏عَلِمَتِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَصَائِرَ‏}‏ حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي‏.‏ وأبي البقاء‏.‏ وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعاً له وقد نص الأخفش‏.‏ والكسائي على جواز ما ضرب هنداً إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فءن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل؛ والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججاً وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ إشارة إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك ‏{‏وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون فِرْعَوْنُ *مَثْبُورًا‏}‏ أي هالكاً كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه للنسب بناءاً على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم بمهلكاً وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال‏:‏ أي مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر من قولهم‏:‏ ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعوناً محبوساً عن الخير‏.‏

وأخرج الشيرازي في الألقاب‏.‏ وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال‏:‏ رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن ‏{‏مَثْبُورًا‏}‏ في الآية فقال‏:‏ مخالفاً ثم قال‏:‏ الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه، وما ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل‏:‏ إن تفسيره بهالكاً ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطاباً لموسى وهارون عليهما السلام‏:‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولاً يتوقع من فرعون المكروه كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يطغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 45‏]‏ فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال سبحانه له‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏ وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمى وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وابن كعب ‏{‏وَأَنْ إخالك يَا فِرعون لمثبوراً‏}‏ على إن المخففة واللام الفارقة، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في «القاموس»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا فَأَرَادَ‏}‏ فرعون ‏{‏أَن يَسْتَفِزَّهُم‏}‏ أي موسى وقومه، وأصل الاستفزاز الإعاج وكني به عن إخراجهم ‏{‏مّنَ الارض‏}‏ أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد ‏{‏فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا‏}‏ أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فاخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْنَا‏}‏ على لسان موسى عليه السلام ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه ‏{‏لّبَنِى إسراءيل‏}‏ الذين أراد فرعون استفزازهم ‏{‏اسكنوا الارض‏}‏ التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة‏}‏ أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة ‏{‏جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفاً ولفيفاً، والمراد منه ما أشير إليه، وفسره ابن عباس بجميعاً وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم، ونص بعضهم على أن في ‏{‏بِكُمْ‏}‏ تغليب المخاطبين على الغائبين، والمراد بهم وبكم وما ألطفه ‏{‏مَّعَ لَفِيفًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ‏}‏ عود إلى شرح حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ الآية وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام، والآية مرتبطة بما عندها، والإنزال فيها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفاً، والظاهر أن الباء في الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن واحتمال أن يكون أولاً حالاً من ضميره تعالى خلاف الظاهر، والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي ما أنزلناه إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه، وقيل الباء الأولى للسببية متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة، وقيل‏:‏ هما للسببية فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏ وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشي بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيداً للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا‏}‏ للمطيع بالثواب ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية بعثته صلى الله عليه وسلم أثر تحقيق حقية القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُرْءانًا‏}‏ نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ فهو من باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هو مذهب سيبويه، وقال الفراء‏:‏ هو منصوب بأرسلناك أي مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى إنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في ‏{‏أرسلناك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏ السابق أو ‏{‏أرسلناك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏ وجملة ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ في موضح الصفة له أي آتيناك قرآناً فرقناه أي أنزلناه منجماً مفرقاً أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله‏:‏

ويوماً شهدناه سليماً وعامراً

وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس بينا حلاله وحرامه، وقال الفراء‏:‏ أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وأبي‏:‏ وعبد الله‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وقتادة‏.‏ والشعبي‏.‏ وحميد‏.‏ وعمر بن قائد‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وعمرو بن ذر‏.‏ وعكرمة‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقاً منجماً بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق، وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي ‏{‏على مُكْثٍ‏}‏ يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال‏:‏ نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوماً في عشرين، وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة وفي أخرى في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف على ما في «البحر» مبني على الاختلاف في سنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول‏:‏ أنزل الله القرآن على نبي الله صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر‏.‏

وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن، واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثاً وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ تعلموا القررن خمس آيات خمس آيات فءن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمساً خمساً‏.‏

وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال‏:‏ كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات، وكان المراد في الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه‏.‏

وقرأ أبي وعبد الله ‏{‏فَرَقْنَاهُ عَلَيْكَ‏}‏ ‏{‏لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ‏}‏ أي تؤدة وتأن فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل أي تطاول في المدة وتقضيها شيئاً فشيئاً، والظاهر تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضاً إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد‏.‏

وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق، وفي «البحر» لا يبالي بتعلق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً، ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه بفرقناه، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي تفريقاً أو فرقاً على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله، وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه أي متمكثاً‏.‏ ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن ‏{‏على مُكْثٍ‏}‏ من صفات القارىء أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلاً منهم، والمكث مثلث الميم وقرىء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر وهو لغة قليلة، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم‏.‏

‏{‏ونزلناه تَنْزِيلاً‏}‏ على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ الخ مفيد وذلك لأن الأول دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك وهذا أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ للذين كفروا ‏{‏بِهِ أَوْ‏}‏ أي بالقرآن ‏{‏أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏ أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالاً وعدم إيمانكم لا يورثه نقصاً‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك ‏{‏إِذَا يتلى‏}‏ أي القرآن ‏{‏عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ‏}‏ الخرور السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازاً وكذا يطلق على الوجه تعبيراً بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك؛ والظاهر أن هنا خروراً وسجوداً على الحقيقة، وقيل‏:‏ لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فاخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال‏:‏ وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه، وقيل‏:‏ فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فاقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء، وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحا على التراب أو أنه ربما خروا على الذقن كالمغشي عليهم لخشية الله تعالى، وقيل‏:‏ لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى‏.‏

وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جداً واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به‏.‏

ومعنى هذا الاختصاص على ما في «الكشف» أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه‏.‏ واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله‏:‏ إن الذقن أول ما يلقى الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب‏.‏ وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره فمعنى ‏{‏يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ‏}‏ يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله‏:‏

فخر صريعاً لليدين وللفم

فتأمل‏.‏

واختار بعضهم كون اللام بمعنى على، وزعم بعض عود ضميري ‏{‏بِهِ‏}‏ على النبي صلى الله عليه وسلم ويأباه السباق واللحاق، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن جرير أن ضمير ‏{‏مَا يتلى‏}‏ لكتابهم ولا يخفى حاله؛ والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ‏}‏ من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز قل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في «الكشف» والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ في الأول‏.‏

وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏ إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا اه، وهو بعيد جداً ولا يخلو عن ارتكاب مجاز‏.‏

وربما يكون في الكلام عليه استخدام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ أي في سجودهم أو مطلقاً ‏{‏سُبْحَانَ رَبّنَا‏}‏ عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب ‏{‏إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً‏}‏ إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالاً مما قبل أو مما بعد أي ساجدين، وجملة ‏{‏يَبْكُونَ‏}‏ حال أيضاً أي باكين من خشية الله تعالى، ولما كان البكاء ناشئاً من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد، وقد جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أن عبداً بكى في أمة لأنجى الله تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفىء بحوراً من النار وما أغروروقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة» وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في منخريه ومسلم أبداً، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال‏:‏ إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال‏:‏ ‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ ‏{‏وَيَزِيدُهُمْ‏}‏ أي القرآن بسماعهم ‏{‏خُشُوعًا‏}‏ لما يزيدهم علماً ويقيناً بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ صلى صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه‏:‏ يا الله يا رحمن فقال المشركون‏:‏ انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت، وعن الضحاك أنه قال‏:‏ قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة هذا الاسم فنزلت، والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏ وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوباً كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى، قال القاضي البيضاوي‏:‏ وهذا أجوب لقوله تبارك اسمه ‏{‏أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير، وقال صاحب الكشف‏:‏ الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال‏:‏ إنك لتقل الخ بأن الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال‏:‏ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى‏.‏

وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعييراً للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعييراً على الجمع بين اللفظين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيّا مَّا تَدْعُواْ‏}‏ يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال‏:‏ هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق حينئذٍ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلاً عن الجمع بين الاسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح‏.‏ وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها، وكان الجواب العتيد أن يقال‏:‏ إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا‏.‏

ومنع الأجوبية أيضاً الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز‏.‏ ودفع بأن المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير، ثم إنه لا مانع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد‏:‏ أي الأمرين تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهما إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال‏:‏ مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع، قال في التلويح‏:‏ وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه‏.‏ والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء، وقال الزمخشري‏:‏ هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيداً ثم يترك أحدهما استغناءً عنه فتقول دعوت زيداً، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك أن تغاير مدلولاً الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو أن اتحدا، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادى النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته، وما روي في سبب النزول أولاً ينادي على ما قيل على إرادة النداء، وقيل إن كانت الآية رداً على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت رداً على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذناً بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل، و‏{‏أَيّا‏}‏ اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏مِنْ‏}‏ بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله‏:‏

فأصبحن لا يسألنني عن بما به

شاذ، وجملة ‏{‏فَلَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له، وكأن أصل الكلام أياماً تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف‏.‏

وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين‏:‏ التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعاً فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل، وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولاً من باب الإطناب اه وهو كما ترى‏.‏

ونقل في «البحر» أن منهم من وقف على ‏{‏أَيّا‏}‏ على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏.‏ وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ‏{‏مَا‏}‏ لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموماً وهو لا يصح هنا، وضمير ‏{‏فَلَهُ‏}‏ عائد على المسمى أو المنادي المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادي لا للاسم واللفظ المنادى به، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيى الدين قدس سره غير ذلك في باب الإشارة، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما هو من صفات الجلال والجمال والإكرام، هذا واعلم أن الظاهر مما روى عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضاً‏.‏

ويدل عليه تخصيصه صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم فقد روى‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو وهو يقول‏:‏ اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى ‏"‏

وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ اسم الله تعالى الأعظم في هاتين الآيتين ‏{‏وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏ وفاتحة آل عمران ‏{‏الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1، 2‏]‏ ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسني على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازاً وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضاً وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقاً من الرحمة قطعاً ولذا جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ اه‏.‏

وقال في أواخره‏:‏ فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول‏:‏ الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعاً من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى، وقال الإمام الرازي في هذه الآية‏:‏ تخصيص هذين الاسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء، وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا‏:‏ الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مماذكره غير واحد من الأجلة، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر رداً لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار، وقد يجعل هذا وجهاً لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى‏.‏ وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقاً له لا يصحح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالاتفاق، نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم‏.‏

وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ إلى آخر الآية هو أمان من السرق وأن رجلاً من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردوداً فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدرا ثم قال‏:‏ إني أحصنت بيتي ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشكرون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ‏{‏وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلاً يقول بين الجهر والمخافتة، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازاً، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى الرحمن فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام قالوا‏:‏ قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال‏:‏ كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جداً وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جداً فقال عمر‏:‏ يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئاً؛ وقال أبو بكر‏:‏ يا عمر لو خفضت من صوتك شيئاً فأتياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال‏:‏ يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً وقال لعمر اخفض من صوتك شيئاً، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أناجي ربي وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ اطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولاتخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك‏.‏

وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت‏:‏ إنما نزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ في الدعاء، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد، وروى ذلك عن ابن عباس أيضاً ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون باللهم ارحمني، وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعراباً من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ أي جهراً اللهم ارزقنا أبلاً وولداً فنزلت، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت، وقيل‏:‏ الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال‏:‏ المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضاً، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولاً، والمخافتة أسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏:‏ لم يخافت من اسمه أذنيه، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتاً وخفوتاً وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه مر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة، وقيل منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهراً شديداً ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك، وقيل هي منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ وهو كما ترى، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذمر منك، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله ‏{‏وَلاَ تُخَافِتْ بِصَوْتِكَ وَلاَ تُحَرّكْ بِهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا‏:‏ عزير ابن الله والمسيح ابن الله تعالى والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ونفى اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولداً لصلب من باب أولى، وقد نفى ذلك صريحاً في قوله تعالى ‏{‏لَمْ يَلِدْ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ ظاهره أنه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون رداً على الوثنية ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل‏}‏ أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لاعتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحداً من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية، وليس المعنى على الوجهين ففي الذل والنص في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب لا يهتدي بمناره بل المراد أنه تعلى إذا اتخذ عبداً له ولياً فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة، وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر لا إن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ وإلى هذا ذهب «صاحب الكشف» وهو حسن، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب، وفي «الحواشي الشهابية» في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفى أن يكون له تعالى مولى يلتجىء هو سبحانه إليه، وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلاً منه عز وجل ورحمة فغاير بين الولايتين، ولعل الحق مع صاحب «الكشف»، ومن عجيب ما قيل إن ‏{‏مَّنَ الذل‏}‏ في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى، ولعمري أنه لا ينبغي أن يلتفت إليه‏.‏

وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الإمكان المقتضي للاحتياج وإثات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز وجل، وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في «الكشف»‏:‏ لك أن تخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة، وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء، وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفاً لإثبات أضادها على سبيل الكناية وهو وجه حسن؛ ولو حمل الكلام على ظاهره أيضاً لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلاً يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفاً لائقاً مؤيداً لاستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة اه‏.‏

وتعقب بأن ما ذكره من أن الحمد لله ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكرمي وفيه تأمل‏.‏ والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عز وجل فبنى الكلام على الترقي وبدىء من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة ولد القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك بعدما تقدم مؤكداً بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بأقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور، وروى غير واحد أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة والسلام كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز، وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال‏:‏ خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده فاتي على رجل رث الهيئة فقال‏:‏ أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال‏:‏ السقم والضر قال صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً الآية فاتى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد حسنت حالته فقال‏:‏ مهيم‏.‏ فقال‏:‏ لم أزل أقول الكلمات التي علمتني‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسمعيل بن أبي فديك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد قل‏:‏ توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً»

إلى آخر الآية، وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي‏:‏ «الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجي توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو وآخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً إلى وكبره تكبيراً ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره» هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة، وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ وأن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلى الله عليه وسلم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى أيصاله إلى مقام التمكين ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل‏}‏ الآية، ذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس‏.‏ فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتاً للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر ‏{‏إنَّ قُرآنَ الفَجْرِ كَانَ مشْهُوداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ أي تشهده ملائكة الليل والنهار؛ وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها، ‏{‏وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ‏}‏ أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات، وقيل إنما خص صلى الله عليه وسلم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم، والخليل المكرم ‏{‏عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وهو مقام الحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل ‏{‏وَقُلْ رَبّى أَدْخِلْنِى‏}‏ حضرة الوحدة في عين الجمع ‏{‏مُدْخَلَ صِدْقٍ‏}‏ إدخالاً مرضياً بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلاً؛ ‏{‏وَأَخْرِجْنِى‏}‏ إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني ‏{‏مُخْرَجَ صِدْقٍ‏}‏ سالماً من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة

‏{‏واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين ‏{‏وَقُلْ‏}‏ إذا زالت نقطة الغين عن العين ‏{‏جَاء الحق‏}‏ أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي ‏{‏وَزَهَقَ الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ وهو الوجود الإمكاني، ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

إلا كل شيء ما خلا الله باطل *** ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هو أجس النفس ووساوس الشيطان‏.‏

وقال فارس‏:‏ كا ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل ‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء‏}‏ من أمراض الصفات الذميمة ‏{‏وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية، ويقال هو شفاء من داء الشك لضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا‏:‏

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاء للذي أنا كاتم

‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الظالمين‏}‏ الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية ‏{‏إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه ‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشرُّ كان يَئوساً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏ لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر ‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 84‏]‏ على طريقته التي تشاكل استعداده وكل اناء بالذي فيه يرشح ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى‏}‏ أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والاين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ وهو علم المحسوسات ‏{‏مَن يَهْدِ الله‏}‏ بنوره بمقتضى العناية الأزلية ‏{‏فَهُوَ المهتد‏}‏ دون غيره ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ بمنع ذلك النور عنه ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ن دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز وجل ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ‏}‏ لانجذابهم إلى الجهة السفلية ‏{‏عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا ‏{‏إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏]‏ لعلمهم بحقيته، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار ‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 109‏]‏ لعظمته أو شوقاً لمنزله وحباً للقائه، قال أبو يعقوب السوسي‏:‏ البكاء على أنواع بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي خوفاً مما جرى به القلم في الفاتح ويظهر في الخاتمة وبكاء على الله عز وجل وهو أن يبكي تحسراً على ما يفوته من الحق تعالى، وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي يلاحظ منه في بكائه، وقال القاسم‏:‏ البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت، وبكاء الأئمة مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والرحيان ‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين ‏{‏أَيّا مَّا تَدْعُواْ‏}‏ أي ما طلبت من هذين المقامين ‏{‏فَلَهُ‏}‏ تعالى في هذه المقامين

‏{‏الاسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسماً لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيهرا، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير‏.‏ وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هو للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى الله بمعنى الاسم ويدعي الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهي وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلاً ومنعوتاً بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وه يمن نفس الرحمن فله الأسماء الحسن وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف، ولماعلمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد أن ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت ‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ فضلاً عن أن يكون له سبحانه ولد بطريق التولد ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئاً بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلاً وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل، وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في قوله سبحانه ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل‏}‏ لكن يغني عنه ما قدمناه

‏{‏وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏ قال بعضهم‏.‏ تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به، وقال ابن عطاء تكبيره عز وجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى، هذا وقد تم بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة‏.‏