فصل: (سورة الكهف)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏[‏سورة الكهف‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏الكتاب‏}‏ الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر‏.‏ وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد مضافاً إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه، وفيه أيضاً إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبداً للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ‏}‏ أي للكتاب ‏{‏عِوَجَا‏}‏ أي شيئاً من العوج باختلال اللفظ من جهة الأعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملاً على ما ليس بحق أو داعياً لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط‏.‏ والعود وأورد عليه قوله تعالى‏:‏ في شأن الأرض ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏ فإن الأرض محسوسة وإعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى أعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح‏.‏

واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏قَيِّماً‏}‏ أي مستقيماً كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروى أيضاً عن ابن عباس، والمراد مما قبل أنه لا خلل في لفظه ولا في معناه، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بأهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد‏.‏

وقال الفراء‏:‏ المراد قيماً على سائر الكتب السماوية شاهداً بصحتها‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ المراد قيماً بمصالح العباد متكفلاً بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضاً لا تأكيد فكأنه قيل كاتباً صادقاً في نفسه مصدقاً لغيره أو كتاباً خالياً عن النقائض حالياً بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره، ونصبه بمضمر أي جعله قيماً على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيماً على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلفّ؛ وكان حفص يسكت على ‏{‏عِوَجَا‏}‏ سكتة خفيفة ثم يقول ‏{‏قَيِّماً‏}‏‏.‏

واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في ‏{‏لَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ أي لم يجعل له عوجاً حال كونه مستقيماً ولا عوج فيه على ما سمعت أولاً من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خالياً عن الإفراط والتفريط، وكذا على القولين الأخيرين، نعم قيل‏:‏ إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك‏.‏

وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ وفيه بحث، وجوز أن يكون حالا من الكتاب، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ الخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة، وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ وعلى قول‏.‏ وأيضاً يجوز أن يكون الواو في ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ للحال والجملة بعده حال من ‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ كقيما واختاره الأصبهاني‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه، وقال آخر‏:‏ إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفاً بالأفراد والجملية أن يكون الحال كذلك‏.‏

وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر، نعم فراراً من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراص والجملة اعتراضية، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجاً، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما، ولما كان ‏{‏قَيِّماً‏}‏ يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ الخ للاحتراس، وقدم للاهتمام كما في قوله‏:‏

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا *** ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر، وان قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ يدل على كونه مكملاً في ذاته، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَيِّماً‏}‏ يدل على كونه مكملاً لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وان ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى‏.‏

ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروى عن ابن عباس ومجاهد، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، وقال صاحب حل العقد‏:‏ يمكن أن يكون قيما بدلاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ قال أبو حيان‏:‏ ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد، وفي جواز ذلك خلاف، هذا وزعم بعضهم أن ضمير ‏{‏لَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ عائد على ‏{‏عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة، وقرأ أبان بن ثعلب ‏{‏قَيِّماً‏}‏ بكسر القاف وفتح الياء المخففة؛ وفي بعض مصاحف الصحابة ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا عِوَجَا قَيِّماً‏}‏ وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏انزل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ واللام للتعليل، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالإغراض كالسلف والماتريدية، ومن يأبى ذلك بجعلها لام العاقبة، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم، والفاعل ضمير الجلالة، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير

‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ أو ضميره صلى الله عليه وسلم، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَأْسًا شَدِيدًا‏}‏ إيذاناً بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد، والمراد الذين كفروا بالكتاب، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا ‏{‏مِن لَّدُنْهُ‏}‏ أي صادرا من عنده تعالى نازلاً من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يوضع موضع عند‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن ‏{‏لَّدُنْ‏}‏ أبلغ من عند وأخص وفيه لغات، وقرأ أبو بكر عن عاصم باشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتفاء الساكنين وكسر الهاء للاتباع، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الاشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون‏.‏ وغيره بأن هذا الاشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور، ولذا قيل‏:‏ إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء‏.‏ ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها، ولا يخفى ما فيه، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال‏.‏ وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل ‏{‏وَيُبَشّرُ‏}‏ بالنصب عطف على ‏{‏ينذر‏}‏ وقرىء شاذاً بالرفع‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ‏}‏ بالتخفيف ‏{‏المؤمنين‏}‏ أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب ‏{‏الذين يَعْمَلُونَ الصالحات‏}‏ أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان ‏{‏أَنَّ لَهُمْ‏}‏ أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور ‏{‏أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ هو كما قال السدى وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏مَّاكِثِينَ فِيهِ‏}‏ أي مقيمين في الأجر ‏{‏أَبَدًا‏}‏ من غير انتهاء لزمان مكثهم‏.‏

ونصب ‏{‏مَّاكِثِينَ‏}‏ على الحال من الضمير المجرور في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ والظرفان متعلقان به، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية، وتكرير الإنذار بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ متعلقاً بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبىء عنه ما بعد أن وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عز وجل، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ الخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه؛ وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعدما ذكر في الأول وهو المنذر به‏.‏ وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد‏.‏

وإجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعبد من باب الأولى لأن القول بالتبني وان كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضاً، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏ وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ‏}‏ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا ‏{‏مِنْ عِلْمٍ‏}‏ مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالة أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلاً لا لاخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لاستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم، واستظهر كون ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائداً على الولد وعدم العلم وكذا حال الجملة على ما سمعت، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولداً وليس بشيء، وجوز أن يعود على القول المفهوم من ‏{‏قَالُواْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ أي ليس قولهم ذلك ناشئاً عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع، وقال الطبري‏:‏ هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع ‏{‏وَلاَ لائَبَائِهِمْ‏}‏ الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز وجل، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدوة هؤلاء ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً‏}‏ أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعاً على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش‏.‏ والمبرد إلى الحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ الخ بتأويل المقالة، و‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ صفة ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيراً مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فيكف بمثل هذا المنكر‏.‏ وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفاً بأل أو مضافاً إلى معرف بها أو ضميراً مفسراً بالتمييز، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ وهي أيضاً تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة خارجة من أفواههم، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين‏.‏ وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب‏.‏ والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين‏.‏ وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة‏.‏ وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله‏.‏ وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها‏.‏ وقرىء ‏{‏كَبُرَتْ‏}‏ بسكون الباء وهي لغة تميم، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن يعمر‏.‏ وابن محيصن‏.‏ والقواس عن ابن كثير ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد‏.‏ واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام‏.‏

وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية‏.‏ واستدلاله على ذلك مبني على أن الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه ‏{‏إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا‏}‏ أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلاً والضميران لهم ولآبائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع‏}‏ أي قاتل ‏{‏نَّفْسَكَ‏}‏ وفي معناه ما في صحيح البخاري ملك‏.‏ والأول مروى عن مجاهد‏.‏ والسدى‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن عباس‏.‏ وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة‏:‏

لعلك يوماً ان فقدت مزارها *** على بعده يوما لنفسك باخع

وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخو عاقتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق‏:‏

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه *** لشيء نحته عن يديه المقادر

وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الإطلاع، وقرىء ‏{‏باخع نَّفْسَكَ‏}‏ بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري، وأشار إليه سيبويه في الكتاب‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ العمل والإضافة سواء، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل ‏{‏على ءاثارهم‏}‏ أي من بعدهم‏.‏ يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه‏.‏ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة‏.‏ وشيبة بن ربيعة‏.‏ وأبا جهل بن هشام‏.‏ والنضر بن الحرث‏.‏ وأمية بن خلف‏.‏ والعاصي بن وائل‏.‏ والأسود بن المطلب‏.‏ وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه كا يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزناً شديداً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع‏}‏ الخ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر‏.‏

‏{‏إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث‏}‏ الجليل الشأن، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة واضرابهم القائلين‏:‏ بأن الألفاظ حادثة، وإن شرطية، والجملة بعدها فعل الشرط، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور، وقيل الجواب فلعلك الخ المذكور، وهو مقدم لفظاً مؤخر معنى، والفاء فيه فاء الجواب، وقرىء ‏{‏إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ‏}‏ بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن، وهو متعلق بباخع على أنه علة له‏.‏ وزعم غير واحد أنه لا يجوز أعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال، ولا يعمل وهو للمضي، وإن الشرطية تقلب الماضب بواسطة ‏{‏لَمْ‏}‏ الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة‏.‏

وتعقبه بعض الأجلة بنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أولاً فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال‏.‏

ووجه ذلك في الكشف بإنه إذا كنات علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها، وتعقب بأنه غير مسلم، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلى الله عليه وسلم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية، وتعقب أيضاً بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضي فكيف لو استمر أو تجدد‏؟‏ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر، وانتصاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسَفاً‏}‏ بباخع على أنه مفعول من أجله‏.‏

وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفاً لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر فعل مقدر أي تأسف أسفاً، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الإنفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضباً ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحزن والغضب فقال‏:‏ مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزناً وجزعاً، وبهذا النظر قال الشاعر‏:‏

فحزن كل أخى حزن أخو الغضب *** وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب، وفي رواية أخرى بالحزن‏.‏ وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم‏.‏

وعن مجاهد تفسيره بالجزع، وأهل الحزن أكثر، ولعل للترجى وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقف منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم‏.‏

وقال العسكري‏:‏ هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك، وقيل موضع الاستفهام، وجعله ابن عطية إنكارياً على معنى لا تكن كذلك، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها هنا للاشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك، وفي الآية عندّ غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلى الله عليه وسلم في شدة الوجد على أعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفاً على مفارقتهم وتلهفاً على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف‏.‏ وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلى الله عليه وسلم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض‏}‏ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيواناً أو نباتاً أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول ‏{‏زِينَةً لَّهَا‏}‏ تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضاً وزينة كل شيء بحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات، ومن قال بالعموم قال‏:‏ لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار، ولعمري أنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم؛ وقيل أن ‏{‏مَا‏}‏ هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير‏.‏ والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جداً، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء وغيرهم تغليباً للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك اصناف وقد يقال‏:‏ المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ‏}‏ وقد نص سبحانه على بعض الملكفين بأنهم زينة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الألاض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجاً عن الزينة، ونصب ‏{‏زِينَةُ‏}‏ على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء‏.‏ وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولاً له نحو قمت إجلالاً لك لتقابلني بمثل ذلك، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق‏.‏

وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء، والابتلاء في الأصل الاختبار، وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز وجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك، ورده أهل السنة في محله وقالوا‏:‏ إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل، ولولوا هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم ‏{‏أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل فيب شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوى الزهد مثلاً كان أحسن، وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهمت النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحسن عملا كما أخرج ذلك ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أحسنكم عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال‏:‏ أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الأحسن أحسن ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضاً لا إلى الحسن والأحسن فقط للأشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين، وأي إما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم‏}‏ وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا‏.‏ ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن أشكال، وأفعل التفضيل باق على الصحيح على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ممن ليس أحسن عملاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ‏}‏ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ‏{‏مَا عَلَيْهَا‏}‏ مما جعلناه زينة، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك ‏{‏صَعِيداً‏}‏ أي تراباً ‏{‏جُرُزاً‏}‏ أي لا نبات فيه قاله قتادة، وقال الراغب‏:‏ الصعيد وجه الأرض، وقال أبو عبيدة هو المستوى من الأرض وروي ذلك عن السدى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو الطريق الذي لا نبات فيه، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب، والظاهر أنه ليس معنى حقيقياً والمعنى الحقيقى ما ذكرناه، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي محروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لإنبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر‏:‏

أن العجوز خبة جروزا *** تأكل كل ليلة قفيزاً

وفي القاموس أرض جرز وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال، والمراد تصيير ما على الأرض تراباً ساذجاً بعدما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان تراباً إذا اضمحل جسده ولم يبق منه أثر الا التراب‏.‏

وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضاً كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ الخ تعليل لما في لعل من معنى الاشفاق وقوله سبحانه ‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ‏}‏ الخ تكميل للتعليل، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فانا قد جعلنا على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل‏:‏ لا تحزن فانا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلاً للاشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فانا بعثناك منذراً ومبشراً وإما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضاً لأن العلل غير حقيقية، وقيل‏:‏ في وجه الربط ان ما تقدم تضمن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن وهذا تضمن ارشاده إلى التخلق ببعض اخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فانت أيضاً يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاَد ينساق الذهن إليه فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ‏}‏ خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد، و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض، وقيل‏:‏ هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبن ‏{‏أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ‏}‏ في بقائهم على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر ‏{‏مِنْ ءاياتنا‏}‏ أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية ‏{‏عَجَبًا‏}‏ أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفاً لذلك بالمصدر مبالغة، وهو خبر لكانوا و‏{‏مِنْ ءاياتنا‏}‏ حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها، وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏عَجَبًا وَمِنْ ءاياتنا‏}‏ خبرين وأن يكون ‏{‏عَجَبًا‏}‏ حالاً من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم، ومن هنا يعلم وجه الربط، وفي «الكشف» أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلى الله عليه وسلم وإنه لا ينبغي أن يبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ‏}‏ الخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلى الله عليه وسلم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجباً وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني اغرب ليحصل الترقي، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقرراً عند السامع معلوماً عنده، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالاً وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشاً بالسؤال وكانوا عالمين، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضاً يقتضي العلم بل أولى انتهى، وقال الطبري‏:‏ المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس‏.‏

ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن إسحاق وفي القلب منه شيء، وقيل‏:‏ المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل اعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه‏.‏

والمقصود بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً وليس بشيء، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جزراً لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعاً فهو غار، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

وليس بها إلا الرقيم مجاورا *** وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي‏.‏

وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق آخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لا أدري ما الرقيم وسألت كعباً فقال‏:‏ اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في «الصحيحين» وغيرهما‏.‏

فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أنني اشتريت منه بقراً وأنه أتاني يطلب أجره فقلت أعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي‏:‏ إنما لي عندك فرق من أرز فقلت‏:‏ اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء‏.‏ فقال الآخر‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إليّ وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت‏:‏ اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن ابن عباس‏.‏ وأنس‏.‏ والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحاً إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيراً أو شراً فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَوَى‏}‏ معمول ‏{‏عَجَبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ أو ‏{‏كَانُواْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ أو اذكر مقدراً، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ ‏{‏الفتية إِلَى الكهف‏}‏ واتخذوه مأوى ومكاناً لهم، والفتية جمع قلة لفتى، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضاً على فتيان، وقال ابن السراج‏:‏ إنه اسم جمع وقال غير واحد أنه جمع فتى كصبي وصبية، ورجح بكثرة مثله، والمراد بهم أصحاب الكهف، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة، فقد روي أنهم كانوا شباناً من أبناء أشراف الروح وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه، والظاهر مع الضمير اعتبارها، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد ‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ‏}‏ أي من عندك ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ عظيمة أو نوعاً من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع، و‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء متعلق بآتنا، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالاً من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر ‏{‏مِن لَّدُنْكَ‏}‏ إيماءً إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة ‏{‏وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري ‏{‏وهيى‏}‏ بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعمش عن أبي بكر عن عاصم ‏{‏رَّحِيمٌ وَهِىَ‏}‏ بلا همز انتهى‏.‏

وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياءً وأن يكون حذفها، والأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه إينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسة أو معقولة ثم استعمل في إحضاء الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا ‏{‏رَشَدًا‏}‏ إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداءً إليه، وقرأ أبو رجاء ‏{‏رَشَدًا‏}‏ بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال‏:‏ الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال‏:‏ إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية‏.‏

ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه، نعم فيما قاله نظر، والأولى جعل الدعاء عاماً في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهراً في كونه خاصاً في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور‏.‏

وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم ‏{‏مِن لَّدُنْكَ‏}‏ على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسؤول مرغوباً فيه لديهم، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسداً أي اجعل أمرنا كله رشداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ‏}‏ أي ضربنا عليها حجاباً يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم‏:‏ بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لاتنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة‏.‏

واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين‏.‏

ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن التصرف‏.‏ وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي ءن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعاً‏.‏ وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم‏.‏

والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق ‏{‏فِى الكهف‏}‏ ظرف لضربنا وكذا قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سِنِينَ‏}‏ ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية ‏{‏عَدَدًا‏}‏ أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عدداً، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالباً وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجباً من بين سائر الآيات العجيبة فءن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسه فهي كبعض يوم عند الله عز وجل‏.‏

وفي «الكشف» أن الكثرة تناسب نظراً إلى المخاطبين والقلة تناسب نظراً إلى المخاطب اه، وقد خفي على العز بن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن ههنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك‏.‏ وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوى الحديثية لا أظنه شيئاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بعثناهم‏}‏ أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم ‏{‏لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ أي منهم وهم القائلون ‏{‏لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ والقائلون‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحداً بعد واحد وعن مجاهد‏:‏ الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون، وقال الفراء‏:‏ الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم، واختلفوا في مدة لبثهم، وقال السدي‏:‏ الحزبان كافران، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشاً سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف؛ وقال ابن حرب‏:‏ الحزبان الله سبحانه وتعالى، والخلق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أَعْلَمُ أَمِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 140‏]‏ والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت ‏{‏أحصى‏}‏ أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير ‏{‏أَيُّ‏}‏ واختار ذلك الفارسي‏.‏ والزمخشري‏.‏ وابن عطية، وما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا لَبِثُواْ‏}‏ مصدرية، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَدًا‏}‏ وهو مفعول ‏{‏أحصى‏}‏ والأمد على ما قال الراغب‏:‏ مدة لها حد، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال‏:‏ باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم‏:‏ المدى والأمد يتقاربان، وليس اسماً للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازاً كما أطلقت الغاية عليها في قولهم‏:‏ ابتداء الغاية وانتهاؤها، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة‏.‏

ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضاً فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضاً، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلثمائة؛ وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد، واشتماله عليها انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو هو في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية‏.‏ نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمداً كائناً للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان‏.‏ وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجىء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضاً وليس بذاك‏.‏ وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي ‏{‏أحصى‏}‏ الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه، و‏{‏أَمَدًا‏}‏ على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه‏.‏ وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزاً للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولاً عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع‏.‏ والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولاً عن المفعول ‏{‏وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏ كما يكون محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقاً‏.‏ ولو جعل تمييزاً لما كان تمييزاً لمفرد‏.‏ ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلاً‏.‏

وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك‏.‏

واختار الزجاج والتبريزي كون ‏{‏أحصى‏}‏ أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو ‏{‏أيهم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ‏{‏أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلاً ماضياً يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك، واعترض أولاً بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كاعدى من الجرب وافلس من ابن المدلق، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقاً وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقاً كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور، والهمزة في ‏{‏أحصى‏}‏ ليست للنقل، وثانياً بأن ‏{‏أَمَدًا‏}‏ حينئذٍ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمصمر كما في قول العباس بن مرداس‏:‏

فلم أر مثل الحي حياً مصبحا *** ولا مثلنا لما التقينا فوارسا

أكر وأحمى للحقيقة منهم *** وأضرب منا بالسيوف القوانسا

لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلاً ثم قدرا وإن كان به فليس صالحاً لذلك، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديداً لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد، ولا يقال‏:‏ فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل يعضل حينئذٍ تنكير ‏{‏أَمَدًا‏}‏ والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوماً أو شهراً أو سنة فنكر على أنه سؤال إما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهداً ويكون الاحتمال على حاله، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيراً لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ ‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا ‏{‏أحصى‏}‏ أفعل تفضيل و‏{‏أَمَدًا‏}‏ مفعولاً له، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمداً تمييزاً وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولاً عن الفاعل قد ميزت حاله، وثالثاً بأن توهم الإشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم علين مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور، ورابعاً بأنه يلزم حينئذٍ أن يكون أصل الإحصاء متحققاً في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك، وفي «الكشف» أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظاً ومعنى أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون ‏{‏أحصى‏}‏ فعلاً ماضياً وكونه أفعل تفضيل، وجوز جعل أي موصولة ففي «البحر» إذا قلنا بأن ‏{‏أحصى‏}‏ أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لمبثوا أمداً من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه حينئذٍ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى‏.‏

وقرأ الزهري ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ بالباء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات، وأياً ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلاً لهشام على ما يزعمه تعالى الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً فقيل هو غاية بجعله مجازاً عن الإظهار والتمييز، وقيل‏:‏ المراد ليتعلق علمنا تعلقاً حالياً مطابقاً لتعلقه أولاً تعلقاً استقبالياً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقاً حالياً أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديراً غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز وجل وليس في شيء منهما إحصاءً أصلاً، ثم قال‏:‏ إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازاً بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعاً بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمداً فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى‏.‏

وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختبار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علماً فحيث وقع جعلوه مجازاً عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر، ثم قال‏:‏ وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره‏.‏

وفي «الكشف» توجيهاً لما في «الكشاف» أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهر ونميز لهم العارف بأمد مال بثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحداً منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب، والفرق بين ما في «الكشف» وما ذكره الخفاجي لا يخفى على بصير وما في «الكشف» أقل مؤنة منه‏.‏

وتصوير التمثيل بأن يقال‏:‏ بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جداً‏.‏ وقرىء ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ مبنياً للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه و‏{‏أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ الخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين الخ، وإذا جعل العلم عرفانياً كانت الجملة في موضع المفعول الثاني فقط وهو ظاهر‏.‏ وقرىء ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفعل محذوف أي ليعلم الناس‏.‏

والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت، وقال بعضهم‏:‏ أن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي «البحر» البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلاً ولا نائباً عنه وللكوفيين مذهبان، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقاً، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم‏}‏ شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر ‏{‏بالحق‏}‏ ما أصفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير ‏{‏نَقُصُّ‏}‏ أو ‏{‏مِنْ نبَأَهُم‏}‏ أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصاً ملتبساً بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبساً به أو نبأهم الملتبس به، ولعل في التقييد ‏{‏بالحق‏}‏ إشارة إلى أن في عهده صلى الله عليه وسلم من يقص نبأهم لكن بالحق‏.‏

وفي «الكشف» بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتواً كبيراً دقيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلواً شديداً فجاس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات افسوس وفي بعضها طرسوس، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم الشرط فأخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم‏:‏ ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا‏:‏ إن لنا إلهاً ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحداً ولن نقر بما تدعونا إليه أبداً فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال‏:‏ ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شباناً فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فبها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجداً ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعاً قال قائل منهم‏:‏ أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم‏؟‏ قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً وليكن كهفهم قبراً لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عز وجل‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض‏:‏ أين تريدون أين تذهبون‏؟‏ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضاً فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضاً فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا رَبُّ السموات والارض إلى مّرْفَقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 14 16‏]‏ ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطلبونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال‏:‏ ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ماقصه الله سبحانه وتعالى‏.‏

وكانوا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن المنذر عن وهب بن منبه قال‏:‏ جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماماً قريباً من المدينة وآجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال‏:‏ أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعاً فماتا فيه فأتى الملك فقيل له‏:‏ قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت ههنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل‏:‏ ألست لو قدرت عليهم قتلتهم‏؟‏ قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشاً وجوعاً ففعل ثم كان ما كان، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة‏.‏

وفي «البحر» لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ‏}‏ استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفاً في الفتية ‏{‏بِرَبّهِمْ وزدناهم‏}‏ أي بسيدهم والناظر في مصالحهم، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكى عنهم‏.‏

‏{‏وزدناهم هُدًى‏}‏ بالتثبيت على الايمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا‏.‏

وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقيناً قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الايمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به صلى الله عليه وسلم قبل بعثه اه‏.‏ ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى‏.‏ وفي ‏{‏زِدْنَاهُمْ‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقاً وسياقاً، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والإخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد‏.‏ وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجاش‏.‏

وفي «الكشف» لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى ‏{‏وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل‏.‏

وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية، وعدي الفعل بعلي وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله‏:‏ يجرح في عراقيبها نصلي ‏{‏إِذْ قَامُواْ‏}‏ متعلق بربطنا، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم‏:‏ قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين‏.‏

أخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم‏:‏ هو أشبههم إني لأجد في نفسي يئاً ما أظن أحداً يجده قالوا‏:‏ ما تجد‏؟‏ قال‏:‏ أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضاً‏:‏ نحن كذلك فقاموا جميعاً ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والارض‏}‏ وقد تقدم آنفاً عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضاً إلا أنه قال‏:‏ إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك‏.‏

وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دعاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينماهم بين يديه تحركت هرة وقيل فارة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سراً إلى الايمان‏.‏ وقال عطاء‏:‏ المراد قيامهم من النوم وليس بشيء، ومثله منا قيل إن المراد قيامهم على الايمان، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها‏}‏ وجاؤا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فكيون المعنى لا نعبد أبداً من دونه إلهاً أي معبوداً آخر لا استقلالاً ولا اشتراكاً؛ قيل وعدلوا عن قولهم رباً إلى قولهم ‏{‏إلها‏}‏ للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية‏.‏

وقد يقال‏:‏ إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ وصح أنهم يقولون أيضاً‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك‏.‏ وجائا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما شركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الايمان، وابتدأوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وفي ذكر ذلك أولاً وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيداً لها فتأمل، ولا تعجل بالاعتراض‏.‏

والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من المنكرة بعده، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعوا إلهاً كائناً من دونه تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ أي قولاً ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولاً هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة، وجوز أبو البقاء كون ‏{‏شَطَطًا‏}‏ مفعولاً به لقلنا، وفسره قتادة بالكذب، وابن زيد بالخطا، والسدي بالجور، والكل تفسير باللازم، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في في البعد، وأنشدوا‏:‏

شط المراد بحزوى وانتهى الأمل *** وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه، ‏{‏وَإِذَا‏}‏ حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلهاً والله لقد قلنا الخ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود، والتضرع إليه، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك‏.‏