فصل: تفسير الآية رقم (23)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ‏}‏ أي لأجل شيء تعزم عليه ‏{‏لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك‏}‏ الشيء ‏{‏غَداً‏}‏ أي فيما يستقبل من الزمان مطلقاً وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولاً أولياً، فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين عليه الصلاة والسلام‏:‏ غداً أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم الوحي خمسة عشر يوماً على ما روى عن ابن إسحق، وقيل؛ ثلاثة أيام، وقيل‏:‏ أربعين يوماً فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه‏.‏

وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص‏.‏

وتقعب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناطق النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغتراراً برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الانصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال‏.‏

وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في «الكشف»‏:‏ إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقى أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى‏.‏

ورد بما يصلح أن يكون تأييداً لا رداً، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فكيون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول‏.‏ وجوز أيضاً أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبداً، ووجه ذلك في «الكشف» بأنه نهى عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبداً، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبداً يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله‏:‏ ‏{‏فَاعِلٌ ذلك غَداً‏}‏ أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غداً غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرف التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفاً أخذاً من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأولى وأن أمته صلى الله عليه وسلم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون الاستثناء متعلقاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى فَاعِلٌ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏ بأن يكون استثناء مفرغاً مما في حيزة من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذاً إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني افعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ إذا كان الاستثناء متعلقاً بـ ‏{‏أني فاعل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏ والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل‏:‏ إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلاً إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فإنا فاعله استقلالاً فإن اقترنت فلا لا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل‏.‏ وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وإنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال‏:‏ الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطيتك حقك غداً إن شاء الله تعالى أن يكون حانثاً إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال‏:‏ والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع‏.‏ وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوهاً مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير به الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال‏:‏ قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبراً قاطعاً أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال‏:‏ وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والأقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقاً أو كاذباً وهو أيضاً ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحاً‏.‏

وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون‏.‏ وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقاً ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيْكَ *مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ الخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله‏:‏ امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى‏.‏

وفي الحديث «من حلف على شيء فقال‏:‏ إن شاء الله تعالى فقد استثنى» فما قيل‏:‏ إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ ليس بسديد فكذا ما قيل‏:‏ إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر‏.‏

‏{‏واذكر رَّبَّكَ‏}‏ تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئته تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت ‏{‏إِذَا نَسِيتَ‏}‏ أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسياً لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال‏.‏ وقد أخرج ابن جرير‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهم عن ابه عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال‏:‏ له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال‏:‏ من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة قال‏:‏ وكان طاووس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن إبراهيم قال‏:‏ يستثني ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب‏.‏

ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة‏:‏ هذا يرجع إليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه‏.‏

ومن غريب ما يحكى أن رجلاً من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه‏:‏ يا فلان أني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد‏؟‏ فقال‏:‏ رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغاً من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم‏.‏ والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل، لا يقال‏:‏ إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا‏:‏ إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثنى ولو بعد حين بخلاف غيره‏.‏

فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال‏:‏ هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى، وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمراً فيما بعد، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جداً‏.‏

وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي جيب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، و‏{‏نَسِيتُ‏}‏ على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق‏.‏

وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية‏:‏ أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر ذها القول نظير ما مر‏.‏

‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى‏}‏ أي يوفقني ‏{‏لاِقْرَبَ مِنْ هذا‏}‏ أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي ‏{‏رَشَدًا‏}‏ إرشاداً للناس ودلالة على ذلك‏.‏

وإلى هذا ذهب الزجاج، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الاعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ الخ، وهو متعلق بمجموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية الخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ هو متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ‏}‏ إلى آخره؛ والمعنى عنده أدع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئاً أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيراً ومنفعة ‏{‏فهذا‏}‏ إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و‏{‏أَقْرَبُ‏}‏ على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل‏:‏ إنه متعلق بالمتعاطفات قبله و‏{‏هذا‏}‏ إشارة ما تضمنته من الخير أمراً ونهياً كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا واطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيراً ومنفعة، وقد هدى صلى الله عليه وسلم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي، وقال ابن الأنباري‏:‏ معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول‏:‏ إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول‏:‏ ‏{‏عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا‏}‏ وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ‏}‏ أحياء مضروباً على آذانهم ‏{‏ثالث مِاْئَةِ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏ وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 11‏]‏ واختار ذلك غير واحد، قال في «الكشف»‏:‏ فعلى هذا قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضاً لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكياً للتذييل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزاً له، ولو قيل‏:‏ فضربنا على آذانهم سنين عدداً وأتى به مبيناً أولاً لم يكن فيه هذه الدلالة البتة، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية فالتسع مقدار التفاوت، وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلثمائة وخمس وستون يوماً وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الإمام أن السنة الشمسية ثلثمائة وخمس وستون يوماً وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد إلا يلخاني والسنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوماً وثلاثة عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوماً وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلثمائة سنة تسع سنين وثلاثاً وسبعين يوماً وتسع ساعات وثمانياً وأربعين دقيقة ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت‏.‏ وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعاً زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، والعدول عن الظاهر يشعر به، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلاً من فصولها فلم يعبأ به، وكون التفاوت تسعاً تقريباً جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعاً فضلاً عن نصف، وقال الطيبي في توجيه العدول‏:‏ إنه يمكن أن يقال‏:‏ لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين‏.‏

وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوماً أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ الخ رافعاً للاختلاف مبيناً للحق؛ ويكون ‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ تقريراً ودفعاً للاحتمال نظيراً لاستثناء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن‏.‏

وقيل إنهم انتبهوا قليلاً ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يتقضيه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ الخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية‏.‏

وقال جمع‏:‏ إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول ‏{‏سَيَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ‏}‏ الآية ثم قال‏:‏ كم لبث القوم‏؟‏ قالوا‏:‏ ثلثمائة وتسع سنين فقال‏:‏ لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ فأخبر أنهم لا يعلمون وقال‏:‏ سيقولون لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعاً ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ ولا فرق بينه وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك‏.‏

نعم قرأ ابن مسعود ‏{‏قَالُواْ لَبِثُواْ كَهْفِهِمْ‏}‏ وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد‏.‏

والظاهر أن ضمير ‏{‏وازدادوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق، وقال الخفاجي‏:‏ إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال‏:‏ لبثوا ثلثمائة وبعضهم قال‏:‏ إنه أزيد بتسعة اه‏.‏ ولا يخفى ما فيه، وعلى القولين الظاهر أن ‏{‏بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ إشارة إلى المدة السابق ذكرها، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى، وقيل إنه تعالى لما قال‏:‏

‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلى الله عليه وسلم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسرو عطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى‏.‏

هذا ونصب ‏{‏تِسْعًا‏}‏ على أنه مفعول ‏{‏ازدادوا‏}‏ وهو مما يتعدى إلى واحد، وقال أبو البقاء‏:‏ إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بنى على افتعل تعدى إلى واحد، وظاهر كلام الراغب‏.‏ وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال‏:‏ زدته كذا فزاد هو وازداد كذا، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل، والجمهور على أن ‏{‏سِنِينَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ في القراءة بتنوين ‏{‏مِاْئَةِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء‏.‏ وابن الحاجب‏:‏ هو منصوب على البدلية من ‏{‏ثلثمائة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ على أنه عطف بيان لثلثمائة، وتعقبه في «البحر» بأنه لا يجوز على مذهب البصريين‏.‏

وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصوداً، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن الضحاك قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلثمائة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ قيل يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين‏؟‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏سنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وجوز ابن عطية الوجهين، وقيل‏:‏ على التمييز، وتعقب بأنهي لزم عليه الشذوذ من وجهين، وستعلم وجهه قريباً إن شاء الله تعالى، وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة، قال ابن الحاجب‏:‏ ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزاً لكان واحداً من ثلثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة‏.‏ ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفرداً وأما إذا كان جمعاً فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعاً في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعاً استعمل على اوصل، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعاً استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى‏.‏

وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع، وجوز الزجاج كون ‏{‏سِنِينَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ مجروراً على أنه نعت

فيها اثنتان وأربعون حلوبة *** سوداً كخافية الغراب الأسحم

حيث جعل سوداً نعتاً لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد، وقال أبو علي‏:‏ لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعاً وجعل سوداً وصفاً لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيراً لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفراً وثلاثون قبيلاً‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش‏.‏ والحسن‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وخلف‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن عيسى اوصبهاني‏.‏ وابن جبير الأنطاكي ‏{‏بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضاً ويرد بما رد به هناك، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزاً وهو متحقق إذا جر أيضاً وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالاً، وثانيهما كونه مفرداً ولكون الإفراد مشهوراً في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب‏:‏ إن الأصل في التمييز مطلقاً الجمع كما سمعت آنفاً لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياساً نظراً إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في «الكشف»، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفرداً منصوباً كما في قوله‏:‏

إذا عاش الفتى مائتين عاما *** فقد ذهب اللذاذة والفتاء

وقد يأتي جمعاً مجروراً بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا‏:‏ إن الجمع المذكور فيها قد أجرى مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوماً لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهداً من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهداً لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهداً‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود، وقرأ الضحاك ‏{‏ثلثمائة سنون‏}‏ بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون، وقرأ الحسن‏.‏ وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه ‏{‏سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏ بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم ‏{‏لَهُ غَيْبُ السموات والارض‏}‏ أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علماً ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى‏.‏

‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى‏.‏

وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك، ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده؛ ولابن هشام رسالة في ذلك، وأياً ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال‏:‏ إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلاً، ولكونه صار فضلة صورة أعطى حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلاً والفاعل لا يجوز حذفه عندهم، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول، وهذا الفعل لكونه ماضياً معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب، قال الرضي‏:‏ وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما في حديث «اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه» وبان صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول‏.‏

وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف‏.‏ ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظاً ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيداً حسناً ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر‏:‏

لقد وجدت مكان القول ذا سعة *** فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س، وأيضاً همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياساً مطرداً، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل التعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علماً لمعنى من المعاني، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطاً لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب، والباء زائدة في المفعول، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة‏.‏

وأيضاً نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول‏:‏ معنى خطاب الحسن قد انمحى، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه، هذا وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الآية‏:‏ أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ بصيغة الماضي فيهما وخرج ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم، وجوز أن يكون ‏{‏أبصار‏}‏ أفعل تفضيل وكذا ‏{‏أَسْمِعْ‏}‏ وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيراً به وسميعاً على أتم وجه وأعظمه ‏{‏مَّا لَهُم‏}‏ أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ تعالى ‏{‏مِن وَلِىّ‏}‏ من يتولى أمورهم ‏{‏وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ‏}‏ في قضائه تعالى ‏{‏أَحَدًا‏}‏ كائناً من كان ولا يجعل له فيه مدخلاً، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحداً من الخلق‏.‏

وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضاً بتهديد، وقيل يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض‏.‏ والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى ولياً، وقيل‏:‏ يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى، ثم لا يخفى عليك أن ما في «النظم الكريم» أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك‏.‏

وقرأ مجاهد ‏{‏وَلاَ يُشْرِكْ‏}‏ بالياء آخر الحروف والجزم، قال يعقوب‏:‏ لا أعرف وجه ذلك، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف‏.‏ وقرأ ابن عامر‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وقتادة‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وزيد‏.‏ وحميد بن الوزير عن يعقوب‏.‏ والجعفي‏.‏ واللؤلؤي عن أبي بكر ‏{‏وَلاَ تُشْرِكُواْ‏}‏ بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهى لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلى الله عليه وسلم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضاً بغيرة كقوله‏:‏

إياك أعني واسمعي يا جاره *** فيكون مآله إلى ذلك، وجوز أن يكون الخطاب له صلى الله عليه وسلم ويجعل معطوفاً على ‏{‏لا تَقْولَنَّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏ والمعنى لا تسأل أحداً عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحداً عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ‏}‏ ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه ‏{‏واتل‏}‏ الخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقاً ولا تكترث بقول من يقول لك ‏{‏ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏، وجوز أن يكون ‏{‏اتل‏}‏ أمراً من التلو بمعنى الاتباع أي اتباع ما أوحي إليك والزم العلم به، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحى إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحداً منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي، والمراد بما أوحى الخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل‏:‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخبار عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحى الخ ما تضمن هذا الاخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتاب تعالى‏.‏

‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل‏:‏ إن التبديل واقع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101‏]‏ الآية، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي‏:‏ المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه‏.‏ ومنهم من خص الكلمات بالاخبار لأن المقام للاخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر، وقول الإمام‏:‏ إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً توهم لا يقتدي به‏.‏

ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحى إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في البيان والإرشاد‏:‏ وأصله من الالتحاد بمعنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدراً، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري‏:‏

يا لهف نفسي ولهف غير مجدبة *** عني وما عن قضاء الله ملتحد

ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب‏}‏ قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلى الله عليه وسلم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حراً عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏قَيِّماً‏}‏ قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على ‏{‏الكتاب‏}‏ وجعله بعض أهل التأويل عائداً على ‏{‏عَبْدِهِ‏}‏ أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافاً عن جنابه وميلاً إلى ما سواه وجعله مستقيماً في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ أمر تكوين ‏{‏لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ‏}‏ وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات‏}‏ وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض‏}‏ من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات ‏{‏زِينَةً لَّهَا‏}‏ أي لأهلها ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء‏:‏ حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد‏:‏ حسن العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليه بالحرمة‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 8‏]‏ كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ قال الجنيد قدس الله سره‏:‏ أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسرى بك ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك‏.‏

‏{‏إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف‏}‏ قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ حين استقاموا في منازل الإنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً‏}‏ معرفة كاملة وتوحيداً عزيزاً ‏{‏وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ بالوصول إليك والفناء فيك ‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 11‏]‏ كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ‏{‏ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 21‏]‏ إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضاً‏:‏ هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ الايمان العلمي ‏{‏وزدناهم هُدًى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏ بأن أحضرناهم وكاشفناهم ‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضاً‏:‏ رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين‏.‏

‏{‏إِذْ قَامُواْ‏}‏ بنا لنا ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والارض‏}‏ مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده ‏{‏لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها‏}‏ إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى ‏{‏لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 14‏]‏ كلاماً بعيداً عن الحق مفرطاً في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس‏:‏ وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعى على ساق‏.‏

وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجيء في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان ‏{‏وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله‏}‏ أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوى ‏{‏فَأْوُواْ إِلَى الكهف‏}‏ فاخلوا بمحبوبكم ‏{‏يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ مطوي معرفته

‏{‏وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 16‏]‏ ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين‏:‏ العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصول إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه ‏{‏وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ‏}‏ لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الكفر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكاناً قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة‏.‏

وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراز في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشارقها‏.‏

وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» وقيل‏:‏ في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى‏.‏

وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولا يتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد‏}‏ الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز ‏{‏وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏ لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد ‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء‏:‏ هم مقيمون في الحضرة كالنومي لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومي منتبهون ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال‏}‏ أي ننقلهم من عالم إلى عالم؛ وقال ابن عطاء‏:‏ نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر‏:‏ نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل ‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد‏}‏ قال أبو بكر الوراق‏:‏ مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم‏.‏

وقل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم ‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ‏}‏ أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي ‏{‏لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ‏}‏ أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي ‏{‏فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوباً من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروى عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏.‏

‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ رددناهم إلى الصحو بعد السكر ‏{‏لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل‏:‏ إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال‏:‏ مقام الحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضي من الحبيب وطروان فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل‏:‏

أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا

ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ والإشارة فيه أولاً‏:‏ إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال‏.‏ وثانياً‏:‏ إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم‏:‏ ‏{‏بِوَرِقِكُمْ هذه‏}‏ فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق‏.‏ وثالثاً‏:‏ إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأحل، ولذلك قال ذو النون‏:‏ العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلاً من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعاً بحرمتها فقيل له في ذلك فقال‏:‏ نعم هي جمرات ولكن تطفىء حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعاً‏:‏ إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم‏:‏ ‏{‏وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه‏.‏

وقال بعض أهل التأويل‏:‏ إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل‏:‏ أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول‏:‏ إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئاً من الطعام فليكن لطيفاً وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كلما تجد‏.‏

لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم‏:‏ طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المؤكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعماً ويأكل لطيفاً‏.‏ وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمراً اتفاقياً، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم ‏{‏وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار ‏{‏إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ بأحجار الإنكار ‏{‏أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ‏}‏ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان ‏{‏وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 20‏]‏ لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي ‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال‏:‏ أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه‏:‏ يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضاً ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يخبر صلى الله عليه وسلم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه‏.‏ ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها‏.‏

‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قيل أي إذا نسيت الكون بإسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره‏:‏ حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23، 24‏]‏ إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سحبانه لك قبل أن تذكره جل وعلا ‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏

‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهراً وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرش لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي‏:‏ ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى‏.‏

وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيراً من عباده بلا واسطة في سويعات ‏{‏لَهُ‏}‏ تعالى شأنه ‏{‏غَيْبَ السموات‏}‏ عالم العلو ‏{‏والارض‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 81‏]‏ عالم السفل، ولا يخفى أن عنوان الغيبية إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله؛ ومن هنا قال بعضهم‏:‏ إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم، لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهراً من مصادمة الآيات‏.‏

وإلى الله تعالى نشكو أقواماً ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته ‏{‏مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ‏}‏ إذ لا فعل لأحد سواه تعالى ‏{‏وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر نَفْسَكَ‏}‏ أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيداً أي حبسته، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع، ومنه الصبر بمعناه المعروف، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه ‏{‏مَعَ الذين‏}‏ أي مصاحبة مع الذين ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏ أي يعبدونه دائماً، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم‏:‏ ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروى ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم، وقيل‏:‏ قراءة القرآن، وروى ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام‏.‏

وعن ابن عمر‏.‏ ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جداً، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وسلمان‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وبلال‏.‏ وإضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف‏.‏ وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية، وأخرج ابن مردويه‏.‏ وأبو نعيم في الحلية‏.‏ والبيهقي في شعب الايمان عن سلمان قال‏:‏ جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر‏.‏ والأقرع بن حابس فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان‏.‏ وأبا ذر‏.‏ وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى ‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ‏}‏ إلى قوله سبحانه ‏{‏أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27-29‏]‏ يتهددهم بالنار، وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات‏.‏

والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية، قال أبو حيان‏:‏ وهو أصح لأن السورة مكية، وأقول‏:‏ أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضاً، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏بالغدوة‏}‏ وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه‏.‏ والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول‏:‏ جاء زيد غدوة بالتنوين، على أن الرضى قال‏:‏ إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقاً، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعاً من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان، ومتى أريد ادخالها عليها قصد تنكيرها فادخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله‏:‏

وقد كان منهم صاحب وابن عمه *** أبو جندل والزيد زيد المعارك

والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال‏:‏ إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في «حواشيه على التلويح» في تنكير رجب علم الشهر انتهى، وللبحث فيه محال‏.‏

وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏ ‏{‏يُرِيدُونَ‏}‏ بذلك الدعاء ‏{‏وَجْهَهُ‏}‏ أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازاً لأن من رضى على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وقيل‏:‏ المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف‏.‏

وقيل‏:‏ هو بمعنى التوجه، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه، والأول أولى، والجملة في موضع الحال من فاعل ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ أي يدعون مريدين ذلك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن، قال في «القاموس» يقال‏:‏ عداه عن الأمر عدواً وعدواناً صرفه، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفهول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك، قال في «القاموس» يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك، وقيل‏:‏ إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضاً وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك‏:‏ نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال‏:‏ لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك‏:‏ ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى، واعترض أيضاً ما قيل‏:‏ بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال‏:‏ إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن، ويكفي كلام القاموس مستنداً لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ‏}‏ بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين، وعنه وعن عيسى‏.‏ والأعمشى أنهم قرؤا ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ‏}‏ بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضاً، وجعل الزمخشري، و«صاحب اللوامح» الهمزة والتضعيف للتعدية‏.‏

وتعقب ذلك في «البحر» بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعدى في القراءتين المذكورتين إليهما‏.‏

‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف ‏{‏عَيْنَاكَ‏}‏ وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء‏.‏

وقال في «الكشف»‏:‏ العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ ولك أن تقول‏:‏ ههنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالاً من الفاعل، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم‏:‏ يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازاً عن النظر للهو لا للعبر اه‏.‏

ولا يخفى أن فيه عدولاً عن الظاهر من غير داع، وقول بعضهم‏:‏ إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعياً لظهور ضعفه، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالاً من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر ‏{‏تَعْدُ‏}‏ بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف‏.‏

وخص بعضهم كونها حالاً من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالاً من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلى الله عليه وسلم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحاً وإن كانت مصب النهي، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره، مع أن في جعل الجملة حالاً من الفاعل على هذا القتدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجاً إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد، وليس لك أن تجعله استخداماً بأن تريد من العينين أولاً النظر مجازاً وتريد عند عود ضمير ‏{‏تُرِيدُ‏}‏ منهما الحقيقة لأن التثنية تأبى ذلك، وإن اعتبر ذلك أولاً وآخراً ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريداً ذلك ‏{‏وَلاَ تُطِعِ‏}‏ في تنحية الفقراء عن مجلسك ‏{‏مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ‏}‏ أي جعلنا قلبه غافلاً ‏{‏عَن ذِكْرِنَا‏}‏ لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهماكه في الحسيات حتى خفى عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد‏.‏

ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن‏.‏

والآية ظاهرة في مذهب أهل النسة، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك، وقيل‏:‏ المراد صادفناه غافلاً كما في قولهم‏:‏ سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم‏.‏ وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم، وقيل‏:‏ المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت‏:‏

وطائفة قد أكفروني بحبكم *** وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وهو كما ترى، وقال الكرماني‏:‏ المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم‏:‏ أغفل فلان إبله إذا تركها غفلاً من غير سمة وعلامة بكي ونحوه، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الايمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الايمان في القلب بمنزلة الكتابة، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة، واحتج بعضهم على أنه ليس الراد ظاهر الآية بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتبع‏}‏ في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه‏.‏

وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته، وخلق لله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الأخبار به استقلالاً لأنه أدخل في الذم وتفويضاً إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه‏.‏

وقرأ عمر بن فائد‏.‏ وموسى الأسواري‏.‏ وعمرو بن عبيد ‏{‏مَنْ أَغْفَلْنَا‏}‏ بفتح الفاء واللام ‏{‏قَلْبَهُ‏}‏ بالرفع على أنه فاعل أغفلنا، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلاً، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل‏.‏

ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى‏.‏ وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيماناً حقيقياً بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيماناً ظاهرياً ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة‏.‏

وقد يقال‏:‏ يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلى الله عليه وسلم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ‏}‏ في اتباع الهوى وترك الإيمان ‏{‏فُرُطًا‏}‏ أي ضياعاً وهلا كان قاله مجاهد أو متقدماً على الحق والصواب نابذاً له وراء ظهره من قولهم‏:‏ فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفاً للحق، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطاً، ويحتمل أن يكون بمعنى الافراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطاً وإسرافاً، وبالإسراف فسره مقاتل، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ‏}‏ لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم ‏{‏الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحى إلى الحق و‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأولى أولى، والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجوداً وعدماً ما لا يخفى‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏الحق‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ واختار الزمخشري هنا الأول، قال في الكشف‏:‏ ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاماً لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تباك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لازاحة الأعذاء والعلل بقوله سبحانه ‏{‏وَقُلْ‏}‏ الخ أي هذا الذي أوحى هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين إنهما كا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكاتب شمولاً أولياً لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقاً لازم الاتباع لا غير اه‏.‏

وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه اكلاتب مطلقاً لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد به أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبراً وهو المروى عن مقاتل، وقال الضحاك‏:‏ هو التوحيد، وقال الكرماني‏:‏ الإسلام والقرآن‏.‏

وقال مكي‏:‏ المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشار فيخذله فيكفر ليس إلى من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

وجوز أن يكون قوله سبحانه ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن‏}‏ الخ تهديداً من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك فمن شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر‏.‏

وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة؛ ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول كثير‏:‏ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة‏.‏

واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله‏.‏ وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مئثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا‏:‏ لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة‏.‏ وفي الإحياء لحجة الإسلام فإن قلت‏:‏ إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت‏:‏ هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى‏.‏ وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وستذكر ان شاء الله تعالى طرفاً لائقاً منه في الموضع اللائق به، وقال السدى‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل ‏{‏شَاء‏}‏ في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الآية‏:‏ من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر‏.‏

والحق أن الفاعل ضمير ‏{‏مِنْ‏}‏ والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان ان من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وقرأ أبو السمال قعنب ‏{‏وَقَالَ الحق‏}‏ بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم‏:‏ وذلك رديء في العربية‏.‏ وعنه أيضاً ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، وقرأ أيضاً ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير القول الحق و‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ قيل حال أي كائناً من ربكم، وقيل‏:‏ صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى الثقفي ‏{‏فَلْيُؤْمِن‏}‏ بكسر لام الأمر فيهما ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا للظالمين‏}‏ للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديديد، وجعلها من جعل ‏{‏فَمَن شَاء‏}‏ الخ تهديداً من قبله تعالى تأكيداً للتهديد وتعليلاً لما يفيده من الزجر عن الكفر‏.‏ وجوز كونها تعليلاً لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، و‏{‏أَعْتَدْنَا‏}‏ من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل‏:‏ أصله أعددنا فابدل من احدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم ‏{‏نَارًا‏}‏ عظيمة عجيبة ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح، وقيل‏:‏ السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضاً مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروى عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة ناراً ويحيط بهم، واحتج له بما أخرجه أحمد‏.‏ والبخاري في التاريخ‏.‏ وابن أبي حاتم وصححه‏.‏ والبيهقي في البعث‏.‏ وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أحاط بهم سرادقها» والسرادق قال الراغب فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله‏:‏ وليس من كلامهم الخ فيكذبه ورود علابط وقرأ مص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فينظر ما مراده، ثم إنه معرب سراً يرده أي ستر الديوان، وقيل‏:‏ سرا طاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظاً إلا أن الطاق معرب أيضاً وأصله تا أو تاك، وقال أبو حيان‏.‏

وغيره‏:‏ معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق‏:‏

تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم *** تركت لهم قبل الضراب السرادقا

ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكراً فيقال سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر‏.‏

‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُواْ‏}‏ من العطش بقرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل‏}‏ وقيل‏:‏ مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن حبان‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي‏.‏ وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالمهل‏}‏ قال‏:‏ كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه، وقال غير واحد‏.‏ هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل‏:‏ ما أذيب من النحاس، وأخرج الطبراني‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذات قال‏:‏ هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود، وقيل‏:‏ هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُغَاثُواْ‏}‏ الخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم‏:‏

غضبت تميم أن تقتل عامرا *** يوم النسار فاعتبوا بالصيلم

‏{‏يَشْوِى الوجوه‏}‏ ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل‏:‏ عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجمل صفة ثانبة لماء والأولى ‏{‏كالمهل‏}‏ أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء‏.‏

وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستر فيه؛ وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليس صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي‏.‏

وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر‏:‏

رأتني كأفحص القطاه ذؤابتي *** مرفوعاً بالكاف لكونها بمنزلة مثل وقال‏:‏ إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات‏.‏

وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح ‏{‏بِئْسَ الشراب‏}‏ ذلك الماء الذي يغاثون به ‏{‏وَسَاءتْ‏}‏ النار ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد‏.‏ قال في الصحاح يقال‏:‏ بات فلان مرتفقاً أي متكئاً على مرفق يده، وقيل‏:‏ نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز، قال الزمخشري‏:‏ وهذا لمشاكلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏ وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله‏:‏

إني أرقت فبت الليل مرتفقا *** كأن عيني فيها الصاب مذبوح

أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن‏.‏

وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلاً إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة‏.‏ وجوز أن يكون ذلك تهكماً أو كناية عن عدم استراحتهم‏.‏

وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنلز‏.‏ وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة، وفي معناه قول ابن عطاء‏:‏ المقر؛ وقول العتبي‏:‏ الملجس، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعاً للترافق والتصاحب، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فانكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى ساءت مطلباً للرفق لأن من طلب رفقاً من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدراً ميمياً بمعنى الارتفاق والاتكاء‏.‏