فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال‏}‏ منصوب باذكر مضمراً أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، وقيل‏:‏ نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثاً والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازاً عن الأذهان والأفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفاً فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5، 6‏]‏، واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثاً وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذاً من الآيات أنه أولاً تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيباً مهيلاً ثم هباء منبثاً، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ظرفاً للفعل المضمر عند قوله تعالى ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏ الخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفاً على ماقبله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ فهو معمول ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من ‏{‏عند ربك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والحسن‏.‏ وشبل‏.‏ وقتادة‏.‏ وعيسى‏.‏ والزهري‏.‏ وحميد‏.‏ وطلحة‏.‏ واليزيدي‏.‏ والزبيري عن رجاله عن يعقوب ‏{‏مِنْهُ الجبال‏}‏ برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جرياً على سنن الكبرياء وإيذاناً بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو ‏{‏مِنْهُ الجبال‏}‏ بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال ‏{‏وَتَرَى الارض‏}‏ خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض ‏{‏بَارِزَةً‏}‏ بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ماعداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل‏:‏ إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر‏.‏

وقرأ عيسى ‏{‏وَتَرَى الارض‏}‏ ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض ‏{‏وحشرناهم‏}‏ أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قبل يكون ذلك مذكوراً، وإيثار الماضي يعد ‏{‏نُسَيّرُ وَتَرَى‏}‏ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفياً وموجباً، وقال الزمخشري هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه‏.‏

واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في «الكشف» وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل ‏{‏نُسَيّرُ‏}‏‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الأولى‏:‏ جعلها حالاً على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التويل الأول، ثم قال‏:‏ وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيوداً لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيداً للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الانصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً‏}‏ أي لم نترك، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض‏.‏ وقرىء ‏{‏يُغَادِرُ‏}‏ بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات‏.‏

وقرأ قتادة ‏{‏تغادر‏}‏ بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ ‏[‏الإنشقاق‏:‏ 4‏]‏ وجوز أبو حيان كونه للقدرة‏.‏ وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول ورفع ‏{‏أَحَدٌ‏}‏ على النيابة عن الفاعل‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏نغدر‏}‏ بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أَحَداً وَعُرِضُواْ على رَبّكَ‏}‏ أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم ‏{‏صَفَّا‏}‏ مصطفين أو مصفوفين‏.‏

فقد أخرج ابن منده في التوحيد عن معاذ بن جمبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي أن الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فانكم مسؤولين محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنأمل أقدامهم للحساب» وفي الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله، وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا‏.‏

وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون، وقيل لا عرض بالمعنى المعروف ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء، ومعنى ‏{‏صَفَّا‏}‏ سواء كان داخلاً في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحاً غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده‏.‏

ولا حاجة إلى أن يقال‏:‏ إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدراً أي صفوفاً أو يقال‏:‏ أن الأصل صفاصفا، على أن هذا مع بعده عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كباباً باباً وصفاصفا لا يجوز حذفه، هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الأخبار فيه، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غيار عليه، وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تربية المهابة والجرى على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على رَبِّكَ‏}‏ إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول، ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالاً من فاعل ‏{‏حشرنا‏}‏ أو قائلاً أو يقول إن كان من ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ أو مقولاً لهم أو يقال لهم إن كان من ضمير ‏{‏عرضوا‏}‏‏.‏

وقد يقدر فعلاً كقلنا أو نقول لا محل لجملته، وجوز تعلق ‏{‏يوم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية‏.‏

قال الخفاجي‏:‏ لأنه يصير كغلام زيد ضارباً على أن ضارباً حال من زيد ناصباً لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم، ثم قال‏:‏ وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود إصالة فتخيل أغني عن الرد أنه لا محذور فيه اه، والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالاً أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر، والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى‏:‏

‏{‏الرحيم مالك يَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏كَمَا خلقناكم‏}‏ نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عندخلقنا لكم ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أو حال من الضمير المرفوع في ‏{‏جِئْتُمُونَا‏}‏ أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى، والكلام عليه إعراباً كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا‏}‏ وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع، والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ، والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني و‏{‏مَّوْعِدًا‏}‏ مفعوله الأول، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في موضع الحال من مفعوله وهو ‏{‏مَّوْعِدًا‏}‏ أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتاً ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ عطف على ‏{‏عرضوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏ داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر، وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر‏.‏ والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للاستغراق، ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان، وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتاباً واحداً بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة لكن لم أجد في ذلك أثراً، نعم قال اللقاني في شرح قوله في «جوهرة التوحيد»‏:‏

وواجب أخذ العباد الصحفا *** كما من القرآن نصا عرفا

جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى، والظاهر أن جزم الغزالي وأضرا به بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر، وقيل‏:‏ وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذ أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه، ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما ‏{‏مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ ببناء ‏{‏وُضِعَ‏}‏ للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الالتفات ونصب ‏{‏الكتاب‏}‏ على المفعولية أي ووضع الله الكتاب ‏{‏فَتَرَى المجرمين‏}‏ قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولاً أولياً، والخطاب نظير ما مر ‏{‏مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين ‏{‏مِمَّا فِيهِ‏}‏ أي الكاتب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيراً وقطميراً ‏{‏يَا وَيْلَتَنَا‏}‏ نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أو انك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل‏:‏ يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة‏.‏

‏{‏مَّالِ هذا الكتاب‏}‏ أي أي شيء له‏؟‏ والاستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب، ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة، وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك، وقال البقاعي‏:‏ إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة، وفي لظائف الإشارات وقف على ‏{‏مَا‏}‏ أبو عمرو‏.‏

والكسائي‏.‏ ويعقوب والباقون على اللام والأصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة، وأكثرهم لم يذكر فيها شيئا اه‏.‏ وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على أو اللام توقف عندي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُغَادِرُ‏}‏ أي لا يترك ‏{‏صَغِيرَةً‏}‏ أي هنة صغيرة ‏{‏وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ‏}‏ أي إلا عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالة محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً‏}‏ الخ‏.‏

وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية‏:‏ الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وعلى هذا يحمل إطلاق ابن مردويه في الرواية عنه رضي الله تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب‏.‏

وعن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال‏:‏ علام يضحكم أحدكم مما يفعل‏؟‏ بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحاك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر، وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر، وتمام الكلام في ذلك في محله، وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون‏:‏ هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني فليلاً ولا كثيراً جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر، وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماماً بها، وروي عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال‏:‏ ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحدا ظلماً فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه‏.‏

‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ‏}‏ في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك ‏{‏حَاضِرًا‏}‏ مسطوراً في كتاب كل منهم أو عتيداً بين أيديهم نقداً غير مؤجل، واختير المعنى الأخير وإن كان فبه ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم، والمراد أنه عز وجل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلاً، وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة في ثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الالهية فلا يعذب أحداً بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه ولم يرتضه، وهذا مما أجمع عليه المسلمون وان اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفى هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة، وهل تمسية تلك المجاوزة ظلماً حقيقة أم لا‏؟‏ قال الخفاجي‏:‏ الظاهر أنها حقيقة، وعليه لا حاجة إلى أن يقال‏:‏ المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل باحد ما يكون ظلماً لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلماً ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأنه جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلاً بوجه من الوجوه عند أهل السنة، وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا ولله تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا‏}‏ أي اذكر وقت قولنا ‏{‏للملائكة‏}‏ كلهم كما هو الظاهر، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقاً وزعم أن المقول له ملائكة الأرض‏.‏

‏{‏اسجدوا لاِدَمَ‏}‏ سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم لله تعالى، وقد مر تمام الكلام في ذلك ‏{‏فَسَجَدُواْ‏}‏ كلهم أجمهون امتثالاً للأمر ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين، وقيل‏:‏ حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبى البقاء، والأول الصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد‏؟‏ فقيل كان أصله جنياً، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة‏.‏ نعم كان معهم ومعدوداً في عدادهم، فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال‏:‏ كانت الملائكة تقاتل الجن فسبى إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم‏.‏ وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب، وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏:‏ قاتل الله تعالى أقواماً زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ وأخرج عنه ابن جرير‏.‏ وابن الأنبياري في كتاب الأضداد‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة أنه قال‏:‏ ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام انس، وفي القلب من صحته ما فيه‏.‏ وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور، وقيل‏:‏ كان من الملائكة والجن قبيلة منهم، وقد أخرج هذا ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وأبو الشيخ وأبو الشيخ في العظمة‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازناً على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفاً على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى فلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول‏:‏ لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود‏.‏

وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفاً وبغيره مما لا يخفى، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقد روي عنه جماعة أنه قال‏:‏ الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلى أهل الجنة حتى تقوم الساعة، وفي رواية أخرى عنه أن معنى ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ هو من الملائكة ومعنى ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ صار منهم بالمسخ، وقيل‏:‏ معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث أنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني‏.‏ وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك، ويبقى عليه أيضاً أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وسموا الفأرة فاسقه لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة‏:‏

يهوين في نجد وغوراً غائرا *** فواسقا عن قصدها جوائراً

والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل، وقال أبو عبيدة‏:‏ لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن، ووافقه المبرد على ذلك فقال‏:‏ الأمر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلاً بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به، وإما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسجدوا‏}‏ وخروجه عنه مخالفته له، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر، وقيل‏:‏ ‏{‏عَنْ‏}‏ للسببية كما في قولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقاً كافراً بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما تحقق إباء‏.‏

وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال‏:‏ أي ففسق عن رده أمر ربه، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب؛ وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع‏.‏ والأظهر ما ذكر أولاً‏.‏ والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي حبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل‏:‏ فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن آبائه وتركه السجود‏.‏ وقيل‏:‏ إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وآبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى‏.‏ قال الرضى‏:‏ والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضاً من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى‏.‏ وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في ‏{‏فوكزه موسى فقضى عليه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك‏.‏ والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله‏.‏ والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بانسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى، ومنه يعلم وجه الربط، وجوز أن يكون وجه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهده سبحانه أولاً بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثواباً وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيداً عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه‏.‏ وأياً ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكراراً لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل‏.‏ ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه‏.‏

ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهراً مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان‏.‏

‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى‏}‏ الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب، والمراد إما إنكار أن يعقوب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه أعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أنه له أولاداً وبذلك قال جماعة، وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لابليس‏:‏ أتى لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به، وعن قتادة أنه قال‏:‏ إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم‏.‏ وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضاً الضحاك‏.‏ والأعمش‏.‏ والشعبي‏.‏

ونقل عن الشعبي انه قال‏:‏ لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلاً بالزوجة، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة‏؟‏ فقال‏:‏ إن ذلك لعرس ما سمعت به، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال‏:‏ ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله‏.‏

وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون لها أصلاً وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال‏:‏ وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، وقال بعضهم‏:‏ لا ولد له، والمراد من الذرية الاتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازاً تشبيهاً لهم بالأولاد، وقيل ولعله الحق إن له أولاداً واتباعاً، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعهما معاً على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز‏.‏

وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه‏.‏

واستدل نافي ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك‏.‏ ولمدعيها أن يقول‏:‏ بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد‏.‏

إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولاداً قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِى‏}‏ في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي والحال أن إبليس وذريته ‏{‏لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ أي أعداء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ العدو‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو القبول والولوع، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعاً‏:‏

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدوا له ما من صداقته بد

‏{‏بِئْسَ للظالمين‏}‏ الواضعين للشيء في غير موضعه ‏{‏بَدَلاً‏}‏ أي من الله سبحانه، وهو نصب على التمييز وفاعل ‏{‏بِئْسَ‏}‏ ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ‏}‏ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكر في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خبائة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته‏.‏

‏{‏خُلِقَ السموات والارض‏}‏ حيث خلقتهما قبل خلقهم ‏{‏وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏ وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم، وفسر بالجمع والإفراد لرؤوس الآي، وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد أي وما كنت متخذهم أعواناً في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلاً عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربيوبية، وارجاع ضمير ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إِرجاع ضمير ‏{‏أَشْهَدتُّهُمْ‏}‏ إليهم، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذراً من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال‏:‏ ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفى إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولى حضور الولي خلق المتولي ويحث لا حصول لا مصحح للتولي قطعاً، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن اشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححاً لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضاً في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور‏.‏

وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البلة والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثار نفي الاشهاد على نفس شهودهم ونفي اتخاذهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للاشعار بأنهم قهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير احضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه‏.‏

وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيراً ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته‏.‏

وجوز أن يراد به المشاورة مجازاً وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفى اتخاذهم أعواناً مطلقاً في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهراً عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأياً وإيجاد ‏{‏اَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ من وجه، وقيل قد يراد من نفي الاشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفى أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفى أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال خلق كما شاء بمعنى كاملاً قال الشاعر‏:‏

خلقت مبرأ من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء

وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملاف، ولا يخفى ما فيه، وقد يكتفي بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المؤنة فافهم‏.‏ وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملاً يقدم عليه أو يصغي إليه، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين‏:‏ الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال‏:‏ إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد‏؟‏، ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية أولئك الكفار لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ انتهى‏.‏

وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعاً في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين، ويعضده قراءة أبي جعفر‏.‏

والجحدري‏.‏ والحسن‏.‏ وشيبة ‏{‏وَمَا كُنْتَ‏}‏ بفتح التاء خطاباً له صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلى الله عليه وسلم وهو إضلال ظاهر، وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال، وقيل الضميران للملائكة، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون، ويرده ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏ إلا أن يقال‏:‏ هو نفي لاتخاذ الشياطين أعواناً فيستفاد من الجملتين نفى صحة عبادة الفريقين، وقال ابن عطية‏:‏ الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى‏.‏ ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفاً‏.‏

واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها، ولعل افرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضاً‏.‏

وقد حكى الشيعة أن علياً كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة‏:‏ يمنعني من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏ فلا اتخذ معاوية عضداً أبداً، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ والسختياني‏.‏ وعون العقيلي‏.‏ وابن مقسم ‏{‏مَا‏}‏ بنون العظمة‏:‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏مُتَّخِذَ المضلين‏}‏ على أعمال اسم الفاعل‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعكرمة ‏{‏عَضُداً‏}‏ بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏عَضُداً‏}‏ بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم، وعنه أيضاً أنه قرأ بفتحتين‏.‏

وقرأ شيبة‏.‏ وأبو عمرو في رواية هارون‏.‏ وخارجة‏.‏ والخفاف‏.‏ وأبي زيد ‏{‏عَضُداً‏}‏ بضمتين، وروي ذلك عن الحسن أيضاف، وكذا روي عنه أيضاً أنه قرأ بفتحتين، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في «البحر» ولم يذكره في «القاموس» وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذٍ لا استعارة‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏عَضُداً‏}‏ بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته، نعم في «القاموس» عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ‏}‏ أي الله تعالى للكفار توبيخاً وتعجيزاً بواسطة أو بدونها‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ وطلحة ويحيى‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وحمزة‏.‏ وابن مقسم ‏{‏نَّقُولُ‏}‏ بنون العظمة، والكلام على معنى اذكر أيضاً أي واذكر يوم يقول‏:‏ ‏{‏نَادُواْ‏}‏ للشفاعة لكم ‏{‏شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ أي زعمتموهم شفعاء، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضاً فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏شركاى‏}‏ مقصوراً مضافاً إلى الياء ‏{‏زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ‏}‏ أي نادوهم للإغاثة، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة ‏{‏فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ‏}‏ فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك؛ قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم‏}‏ أي بين الداعين والمدعوين ‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوباً أو وبق وبقا كفرح فرحاً إذا هلك أي مهلكاً يشتركون فيه وهو النار، وجاء عن ابن عمر‏.‏ وأنس‏.‏ ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل ناراً على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، وتفسير الموبق بالمهلك مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً‏.‏

وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ معنى قسمنا وحينئذٍ لا يمكن إدخال عيسى‏.‏ وعزير‏.‏ والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين، وجعل ذلك بينهم حسماً لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة‏.‏ وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة‏.‏

وقال الثعالبي في فقه اللغة‏:‏ الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضاً أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يهلك فيه الأشواط لفرط بعده، وعليه أيضاً يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة‏.‏

و ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ على جميع ما ذكر طرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير و‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ مفعوله الأول، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقاً به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالاً‏.‏

وقال الفراء‏.‏ والسيرافي‏:‏ البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا و‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ بمعنى هلاكاً مفعوله الثاني، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَأَى المجرمون النار‏}‏ وضع المظهر في مقام المضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك، والرؤية بصرية، وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد‏.‏ وابن جرير‏.‏ والحاكم وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة ‏"‏ ‏{‏فَظَنُّواْ‏}‏ أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة، وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم‏.‏

وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا ‏{‏أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏ أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالاً‏.‏ وفي مصحف عبد الله ‏{‏ملاقوها‏}‏ وكذلك قرأ الأعمش‏.‏ وابن غزوان عن طلحة، واختير جعلها تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف، وعن علقمة أنه قرأ ‏{‏ملافوها‏}‏ بالفاء مشددة من لف الشيء ‏{‏مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ أي مكاناً ينصرفون إليه‏.‏

قال أبو كبير الهذلي

أزهير هل عن شيبة بن مصرف *** أم لا خلود لباذل متكلف

فهو اسم مكان، وجوز أن يكون اسم زمان، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدراً أي انصرافاً، وفي «الدر المصون» أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدراً من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكانه مكسورها، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏مَصْرِفًا‏}‏ بفتح الراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا‏}‏ كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم ‏{‏فِى هذا القرءان‏}‏ الجليل الشأن ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ لمصلحتهم ومنفعتهم ‏{‏مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ أي كل مثل على أن من سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول ‏{‏صَرَفْنَا‏}‏ أو مثلاً من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف، وقيل المفعول مضمون ‏{‏مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ أي بعض كل جنس مثل، وأياً ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلاً لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفاً أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا‏.‏

‏{‏وَكَانَ الإنسان‏}‏ بحسب جبلته ‏{‏أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً‏}‏ أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال‏.‏ وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلاً من المتجادلين يلتوي على صاحبه، وانتصابه على التمييز، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربة فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم‏.‏

والظاهر أنه ليس المراد إنساناً معيناً، وقيل المراد به النضر بن الحرث، وقيل ابن الزبعري، وقال ابن السائب‏:‏ أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم فقال‏:‏ أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده‏؟‏ والأول أولى، ويؤيده ما أخرجه الشيخان‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه«أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً فقال‏:‏ ألا تصليان فقلت‏:‏ يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئاً ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالاً يعرف بالتأمل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال‏:‏ المختار في معناه أنه صلى الله عليه وسلم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل قال صلى الله عليه وسلم ذلك تسليماً لعذرهما وأنه لا عتب اه فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس‏}‏ قال ابن عطية‏.‏ وغيره‏:‏ المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم، وما نافية‏.‏

وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم ‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ‏}‏ أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك ‏{‏إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏ أي القررن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل‏.‏

واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيماناً حقيقياً ‏{‏إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاولين‏}‏ وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل ‏{‏مَنَعَ‏}‏ والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال‏:‏ إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثنى، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً‏}‏ منتظر قطعاً، وقيل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما‏.‏

واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور‏.‏ ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ الخ‏.‏ وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئاً عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئاً عن العناد‏.‏

واعترض أيضاً بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعاً‏.‏

وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلباً حقيقياً قلبياً ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعد على تركه، ولا يخلو عن دغدغة‏.‏

وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي‏.‏ وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدماً عليه ومتى كان الاستحقاق مانعاً منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل‏.‏ وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سبباً للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل‏:‏ هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل ءن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، وربما يقال بناءً على هذا أن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعاً فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله

ولا عيب فيهم *** البيت‏.‏ والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون حجة لهم أصلاً كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجىء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي وحيث أن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلاً انتهى‏.‏

ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز بن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى ‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏ بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم‏.‏ وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال‏:‏ قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائماً كان المانع قائماً، وأيضاً حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال‏:‏ المراد فقدان الموانع لمحسوسة انتهى فليتأمل فيه‏.‏

والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعاً وألواناً أو هو بمعنى قبلاً بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عياناً فإن أبا عبيدة حكاهما معاً بهذا المعنى؛ وأصله بمعنى المقابلة فإذاً دل على المعاينة، ونصبه على الحال فإن كان حالاً من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معايناً لهم أو للناس‏.‏ وقرأت طائفة ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في «البحر» تخفيف قبل على لغة تميم‏.‏ وذكر ابن قتيبة‏.‏ والزمخشري أنه قرىء ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بفتحتين أي مستقبلاً‏.‏ وقرأ أبي بن كعب‏.‏ وابن غزوان عن طلحة ‏{‏قَبِيلاً‏}‏ بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عياناً ومقابلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين‏}‏ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال ‏{‏إِلا‏}‏ حال كونهم ‏{‏مُبَشّرِينَ‏}‏ للمؤمنين بالثواب ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم ‏{‏ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل‏}‏ باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتاً وقولهم لهم «مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا» ‏[‏يس‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحاً مما يصدق عليه ذلك ‏{‏لِيُدْحِضُواْ‏}‏ أي ليزيلوا ويبطلوا ‏{‏بِهِ‏}‏ أي بالجدال ‏{‏الحق‏}‏ الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر‏:‏

وردت ونجى اليشكري حذاره *** وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقال آخر‏:‏

أبا منذر رمت الوفاء وهبته *** وحدت كما حاد البعير المدحض

واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي‏:‏

أتانا بوحل لأفكاره *** ليزلق أقدام هدى الحجج

‏{‏واتخذوا ءاياتي‏}‏ التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولاً أو فعلاً ‏{‏وَمَا أُنْذِرُواْ‏}‏ أي والذي أنذروه من القواع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم ‏{‏هُزُواً‏}‏ أي استهزاء وسخرية‏.‏

وقرأ حمزة ‏{‏هزأ‏}‏ بالسكون مهموزاً‏.‏ وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزاً؛ وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ‏}‏ الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ فالإضافة للعهد‏.‏

وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولاً أولياً، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى ‏{‏فَأَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للأشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزواً خارج عن الحد ‏{‏وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد ‏{‏مِمَّنْ‏}‏ عند الأكثرين مشركو مكة‏.‏

وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائناً من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولاً أولياً، والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان‏؟‏ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم ‏{‏أَكِنَّةً‏}‏ أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن‏.‏

وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقهاً نافعاً ‏{‏وَفِى ءاذَانِهِمْ‏}‏ أي وجعلنا فيها ‏{‏وِقْراً‏}‏ ثقلاً أن يسمعوه سماعاً كذلك ‏{‏وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً‏}‏ أي مدة التكليف كلها، و‏{‏أَذِنَ‏}‏ جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلى الله عليه وسلم مالي لا أدعوهم حرصاً على اهتدائهم وإن ذكر له صلى الله عليه وسلم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم الخ قاله الزمخشري‏.‏ وفي «الكشف» في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل ‏{‏أَذِنَ‏}‏ يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما إنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعاً على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا‏؟‏ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل‏:‏ إن تقدير مالي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29‏]‏ وقيل أخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ وقيل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ءانٍ تَدْعُهُمْ‏}‏ هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله تعالى أعلم‏.‏ والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقاً ولا تقليداً إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فإن يهتدوا جميعاً وإنما يهتدي بعضهم كما ترى‏.‏ واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام‏:‏ وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغفور‏}‏ مبتدأ وخبر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُو الرحمة‏}‏ أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام‏:‏ وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال‏.‏

وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُو الرحمة‏}‏ لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ بالمبالغة في الجانبين كثيراً؛ وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الانعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام‏.‏ وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضاً ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري أن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علواً كبيراً ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين ههنا على ما قاله الخفاجي أن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأساً، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحاً في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابلة لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر‏.‏

وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة يخلو عن المبالغة‏:‏ إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتفيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلاً إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضاً المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال‏:‏ إن أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الإسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت‏:‏ هما مثله في عدم التقييد قيل‏:‏ إن دلالته على المبالغة أقوى من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الإسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معاً أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان عليم بل ومن قولك فلان العليم من حيث أن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه ههنا مزيد إيناسه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بمزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك؛ وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏

وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ يُؤَاخِذُهُم‏}‏ أي لو يريد مؤاخذتهم ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ أي فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات ‏{‏لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب‏}‏ لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبى عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى ‏{‏بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ‏}‏ وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد ‏{‏لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي منجا يقال وألت نفس فلان نجت وعليه قول الأعشى‏:‏

وقد أخالس رب الدار غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

وقال ابن قتيبة‏:‏ هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووؤولاً إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس، وفسره مجاهد بالمحرز، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله أبو البقاء‏:‏ يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل‏:‏ على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلاً فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة‏.‏

وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضاً؛ وقيل‏:‏ يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ الزهري ‏{‏مولاً‏}‏ بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه ‏{‏مولاً‏}‏ بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏مَوْئِلاً وَتِلْكَ القرى‏}‏ أي قرى عاد‏.‏ وثمود‏.‏ وقوم لوط‏.‏ وأشباههم، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكناهم‏}‏ والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس، وقدر المضاف في البحر قبل ‏{‏تِلْكَ‏}‏ وكلا الأمرين جائز، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازاً، وأياً ما كان فاسم الإشارة مبتدأ و‏{‏القرى‏}‏ صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة ‏{‏أهلكناهم‏}‏ واختار أبو حيان كون ‏{‏القرى‏}‏ هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏ وجوز أن تكون ‏{‏تِلْكَ‏}‏ منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ أي حين ظلمهم كمافعل مشركو مكة ما حكى عنهم من القبائح، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم، و‏{‏لَّمّاً‏}‏ عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره‏.‏

وقال أبو الحسن بن عصفور‏:‏ هي حرف، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيق قال‏:‏ إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفاً استعمل للتعليل‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم‏}‏ لهلاكهم ‏{‏مَّوْعِدًا‏}‏ وقتاً معيناً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معيناً وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك‏.‏ وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسوراً فيما عين مضارعه مكسورة شاذ‏.‏ وتعقب بأنه قد صرح في «القاموس» بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت، وقيل‏:‏ إن هلك يكون لازماً ومتعدياً فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك‏:‏

ومهمه هالك من تعرجا *** أي مهلكه، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى إن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجاً بجعل من فاعلاً لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة‏:‏

أسيلات أبدان دقاق خصورها *** وثيرات ما التفت عليها الملاحف

وقرأ حفص‏.‏ وهرون‏.‏ وحماد‏.‏ ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضاً، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعداً ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلى الله عليه وسلم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلى الله عليه وسلم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فيهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي‏:‏ صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسيهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا‏.‏ ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيى الدين قدس سره‏:‏

ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا *** هم السلاطين والسادات والأمرا

فأصحبهم وتأدب في مجالسهم *** وخل حظك مهما قدموك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائماً معهم *** واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل *** لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

إلى أن قال‏:‏

وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم *** وجه اعتذارك عما فيك منك جرا

وقل عبيدكم أولى بصفحكم *** فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم *** فلا تخف دركاً منهم ولا ضرر

وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفاً تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي «الجامع» الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم إن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نع إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل‏:‏ إن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين‏}‏ الخ دون ودم مع الذين الخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم فإن نفسه الشريعة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة‏.‏

وقال بعض أهل الأسرار‏:‏ إنما قيل‏:‏ واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم كان مع الحق فأمر صلى الله عليه وسلم بصحبة الفقراء جهراً بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سراً بسر ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم، وقد جاء في الحديث «مِنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر» ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضرراً تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء‏:‏

لنا صاحب ما زال يتبع بره *** بمن وبذل المن بالبر لا يسوي

تركناه لا بغضاً ولا عن ملالة *** ولكن لأجل المن يستعمل السلوى

‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ نهى عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالاً وإن لم يفصح به مقالاً ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ قالوا‏:‏ فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعدم من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال‏:‏ إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيان ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل‏:‏

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى *** فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولايخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو‏:‏

إني لأكتم من علمي جواهره *** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن *** إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمى *** يرون أقبح ما يأتونه حسناً

نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل‏:‏

وارحمتا للعاشقين تكلفوا *** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم *** وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم *** عند الوشاة المدمع السحاح

وما ذكر أولاً يكون مستمسكاً في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سبباً لضلال كثير من الناس وداعياً للإنكار عليهم، وقد استدل بعض الآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر‏.‏ وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قاسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم‏.‏ واعترض بأن لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر‏.‏ وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفهي نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وإضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيراً من الناس ينكروه عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمساً في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله‏:‏

ينكر المرء منه أمراً فينها *** ه نهاه فينكر الإنكارا

تنثني عنه ثم تثنى عليه *** ألسن تشبه الصحاة سكارى

‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية ‏{‏وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا‏}‏ إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور ‏{‏مِن سُندُسٍ‏}‏ الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف

‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الارائك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏ قيل أي أرائك الأسماء الإلهية ‏{‏واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ‏}‏ الخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري‏:‏ الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن ‏{‏جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا‏}‏ وهو النفس ‏{‏جَنَّتَيْنِ‏}‏ هما الهوى والدنيا ‏{‏مّنْ أعناب‏}‏ الشهوات ‏{‏وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ‏}‏ حب الرياسة ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏ من التمتعات البهيمية ‏{‏وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏ من القوى البشرية والحواس ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ من أنواع الشهوات ‏{‏وَهُوَ يحاوره‏}‏ أي يجاذب النفس ‏{‏أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً‏}‏ أي ميلاً «وَأَعَزُّ نَفَراً» ‏[‏الكهف‏:‏ 34‏]‏ من الأوصاف المذمومة ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 35‏]‏ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى ‏{‏لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 36‏]‏ قال ذلك غروراً بالله تعالى وكرمه ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ من العمر وحسن الاستعداد انتهى‏.‏

وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين ‏{‏هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا‏}‏ قال ابن عطاء‏:‏ للطالبين له سبحانه لا للجنة ‏{‏وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 44‏]‏ للمريدين ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا إعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الارض بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ قال ابن عطاء‏:‏ دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه ‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا‏}‏ إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ‏}‏ الخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفاً، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرن صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏ على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه ‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم‏:‏

وأودعت الفؤاد كتاب شوق *** سيشر طيه يوم الحساب

‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ قال أبو حفص‏:‏ أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض وَلاَ *خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 51‏]‏ قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏ لأنه مظهراً الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه‏.‏