فصل: تفسير الآية رقم (67)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏قال‏}‏ أي الخضر لموسى عليهما السلام ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ نفي لأن يصبر معه

على أبلغ وجه حيث جيء بإن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها، وعدل عن لن تصبر

إلى ‏{‏لن تستطيع‏}‏ المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم

من نفيه نفيه‏.‏ ونكر ‏{‏صبراً‏}‏ في سياق النفي وذلك يفيد العموم أي لا تصبر معي أصلاً شيئاً من

الصبر، وعلل ذلك بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً‏}‏ إيذاناً بأنه عليه السلام يتولى أموراً خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السلامومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره، ونصب ‏{‏خُبْراً‏}‏ على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك، وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف، وجوز أن يكون مصدراً وناصبه ‏{‏تُحِطْ‏}‏ لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق اطلاقاً شائعاً على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وابن هرمز ‏{‏خُبْراً‏}‏ بضم الباء‏.‏ واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا‏:‏ لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذباً وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل‏.‏ وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك‏.‏ وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد، والانصاف أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس الأنفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة، ثم أن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصاً بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ إبراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضاً وتحقيق ذلك في محله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا‏}‏ معك غير معترض عليك ‏{‏وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً‏}‏ عطف على ‏{‏صَابِراً‏}‏ والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صافات وَيَقْبِضْنَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 19‏]‏ بتأويل أحدهما بالآخر، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابراً وغير عاص، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على ‏{‏سَتَجِدُنِى‏}‏ والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف‏.‏ واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضاً لتقدم القول‏.‏ وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل، وقيل‏:‏ مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول، وقيل‏:‏ إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له، والظاهر الجواب الأول، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه‏.‏ وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا اشكال في عدم تحقق ما وعد به‏.‏

ولا يقال‏:‏ إنه عليه السلام أخلف وعده وإن كان للتيمن، فإن قلنا‏:‏ إن الوعد الكوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو إنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كان أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال، وإن قلنا‏:‏ إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الاشكال ظاهراً فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق بمقام النبوة لمنافاته العصمة‏.‏ وأجيب بأن ما صدر منه عليه السلام في المرتين الأخيرتين كانا نسياناً كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر‏.‏ وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمدا، وفي رواية والثانية عمداً والثالثة فراقاً، وقال بعضهم‏:‏ لك أن تقول‏:‏ لم يقع منه عليه السلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل، وقال القشيري‏:‏ إن موسى عليه السلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السلام من الفعل وبان لا يعصيه فاطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال‏:‏ فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى، وهو مبني على أن العطف على ‏{‏سَتَجِدُنِى‏}‏ وقد علمت أنه خلاف الأولى، وأيضاً المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبىء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السلام، وأيضاً يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق‏.‏

والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر، وقال بعض المحققين‏:‏ إن الاستدلال جار أيضاً على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضاً فافهم، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفي أن يعصيه في كل ما يطلبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الخضر عليه السلام ‏{‏فَإِنِ اتبعتنى‏}‏ إذن له عليه السلام في الاتباع بعد اللتيا والتي، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السلام بالصبر والطاعة‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء‏}‏ تشاهده من أفعالي فضلاً عن المناقشة والاعتراض ‏{‏حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ أي حتى ابتدئك ببيانه، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وقيل‏:‏ حتى للتعليل وليس بشيء‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر ‏{‏قلا تسئلني‏}‏ بالنون المثقلة مع الهمز، وعن أبي جعفر ‏{‏فَلا‏}‏ بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حذف الياء خلاف غريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏عُذْراً فانطلقا‏}‏ أي موسى والخضر عليهما السلام ولم يضم يوشع عليه السلام لأنه في حكم التبع، وقيل رده موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس مرفوعاً أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفاً فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم‏:‏ إني أرى رجالاً على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم ‏{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة‏}‏ أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق، وكانت أيضاً على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة، وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى الأمثل ما نقص هذا العصفور من الحبر، وهو جار مجرى التمثيل؛ واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة ‏{‏فِى‏}‏ مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اركبوا فِيهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة ‏{‏خَرَقَهَا‏}‏ صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السلام‏:‏ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها، وصح أيضاً أنه عليه السلام خرقها ووتد فيها وتدا‏.‏ وقيل قلع لوحين مما يلي الماء‏.‏ وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً أنهما لما ركبا وأطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقاباً له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها نم جلس عليها يرقعها‏.‏ وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها، ويمكن الجع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا‏}‏ سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار، وبعضهم لم يجوز هذا توهماً منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي حديث أخرجه عبد بن حميد‏.‏ ومسلم‏.‏ وابن مردويه قال‏:‏ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى‏:‏ تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى‏.‏

وهذا ظاهر في أنه عزم على الخرق فاعترض عليه موسى عليه السلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية‏.‏ فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السلام بالمضارع استحضاراً للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السلام أو لا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانياً خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانياً فنقل في الحديث أول ما وقع من كل هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضاً على ما قيل من حيث أن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ‏.‏ وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه إنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليه وحصولهم فيها‏.‏ وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع؛ وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب، وقال بعضهم في ذلك‏:‏ إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازماً على الخرق ومعه موسى عليه السلام فاحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السلام حتى تم وقد شارفت على الأرض، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط‏.‏ وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول‏:‏ إن خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيراً ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الاعطاء؛ وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال‏:‏ إذا جئتني اليوم أكرمك غدا، وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ ومن التزم ذلك كالرضى جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتداً وقدر في الآية المذكورة ‏{‏أئذا ما مت وصرت رميما، وعليه أيضاً لا يلزم التعقيب، نعم قال بعضهم‏:‏ إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواحها يدل على تعقيب الخرق للركوب، وأيضاً جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخياً عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به‏.‏ وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أياماً ونحوه، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمراً ممتداً ويكون انتهاء المغيابا باتبدائه كقولك‏:‏ ملك فلأن حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل‏.‏

ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئاً والله تعالى أعلم بصحتها، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك على القاري‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب ءنه قال‏:‏ كان الخضر عبداً لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام، وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته، نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً عن الربيع أيضاً أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل، والظاهر أيضاً أن موسى عليه السلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله‏:‏ ‏{‏لتغرق أهلها‏}‏ وإن كان صالحاً لأن يدرج فيه بناءً على أن المراد من أهلها الراكبين فيها‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏لِتُغْرِقَ‏}‏ بالتشديد لتكثير المفعول‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وخلف‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن عيسى الأصبهاني ‏{‏أَعِزَّةَ أَهْلِهَا‏}‏ على إسناد الفعل إلى الأهل، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جداً ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ‏}‏ أتيت وفعلت ‏{‏شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ أي داهياً منكراً من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فاصله كثير، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمراً إمراً مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل‏:‏

يقرب حب الموت آجالنا لنا *** وتكرهه آجالهم فتطول

رداً لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

وشيك الفصول بعيد القفول *** حيث أمكن له أن يقول بظىء القفول ولم يقل، وربما يقال هنا‏:‏ إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضباً وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضباً استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن، وأن يوشع بن نون قال له‏:‏ ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك، وأن الخضر عليه السلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السلام فأدركه عند ذلك الحلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ‏}‏ اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالاً وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به؛ فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكراً، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور، وقيل‏:‏ الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل، والنسيان وإن لم يكن سبباً قريباً للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في ‏{‏بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سبباً للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية‏.‏ وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة، ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهراً إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية‏.‏

وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاهما لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ ثم كون ما ذكر اعتذاراً بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسياناً‏.‏

وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهماً أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ هذه أختي‏.‏ و‏{‏إني سقيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وجوز أن يكون النسيان مجازاً عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة ‏{‏وَلاَ تُرْهِقْنِى‏}‏ لا تغشني ولا تحملني ‏{‏مِنْ أَمْرِى‏}‏ وهو اتباعه إياه ‏{‏عُسْراً‏}‏ أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني، والمراد لا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏عُسْراً‏}‏ بضمتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فانطلقا‏}‏ الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في «الصحيح»، وفي رواية أنهما مرا بقرية ‏{‏حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا‏}‏ يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروى بالحاء، وقيل اسمه جنبتون وقيل غير ذلك، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه ‏{‏فَقَتَلَهُ‏}‏ أخرج البخاري في رواية أنه عليه السلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده، وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل رضه بحجر، وقيل ضربه برجله فقتله، وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولاً ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغاً لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل كان بالغاً شاباً، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة، والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج‏:‏

شفاها من الداء الذي قد أصابها *** غلام إذا هز القناة سقاها

وقوله‏:‏

تلق ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ أي موسى عليه السلام ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب‏.‏

وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعاً تفسير زكية بصغيرة وهو تفسير باللازم، ومن قال كان بالغاً قال‏:‏ وصفه عليه السلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن، واستدل على كونه بالغاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ أي بغير حق قصاص لك عليها فإن الصبي لا قصاص عليه‏.‏ وأجاب النووي‏.‏ والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة‏.‏

وقال السبكي‏:‏ قبل أحد ثم نسخ، والجار والمحرور قال أبو البقاء متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفساً بلا حق، وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلاً بغير نفس، وأن يكون في موضع الحال أي قتلتها ظالماً لها أو مظلومة‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وحميد‏.‏ والزهري‏.‏ ونافع‏.‏ واليزيد‏.‏ وابن مسلم‏.‏ وزيد‏.‏ وابن بكير عن يعقوب‏.‏ ورويس عنه أيضاً‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ وابن جبير الأنطاكي وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏زاكية‏}‏ بتخفيف الياء وألف بعد الزاي، و‏{‏نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي‏.‏ والحسن‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن عامر‏.‏ والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل كما قال أبو حيان يدل على المبالغة، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت‏.‏

وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكى اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلاً قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه أمام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناءً على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواتراً عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا على ما قيل لا ينافي كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم، وأياً ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه السلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السلام ذعرة منكرة وقال‏:‏ أقتلت نفساً زكية بغير نفس ‏{‏لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ منكراً جداً، قال الإمام‏:‏ المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر، وقيل بالعكس، وقال الراغب‏:‏ المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، ولهذه الأبلغية قال بعضهم‏.‏ المراد شيئاً أنكر من الأول، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال‏:‏ إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة، وقال في «الكشف»‏:‏ الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله‏:‏

لقد لقى الأقران مني نكرا *** داهية دهياء إدا إمرا

النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سبباً مفضياً، وقول من قال‏:‏ إنه تنزل استدلالاً بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكى على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقى وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى، وروي القول بالأبلغية عن قتادة، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام حين قال للخضر عليه السلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبداً، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل‏:‏ إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه ادخل وأحق فكان الاعتراض جديراً بأن يجعل عمدة الكلام، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه‏.‏

وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظراً للأمور العادية إطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضاً كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفاً وجعل الخرق جزاء‏.‏

وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظاً أو تقديراً لا يصل للجزائية‏.‏

واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق‏.‏

وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جواباً، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَرَقَهَا‏}‏ وكذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فقلته‏}‏ لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاءً بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء‏.‏

وقال مير بادشاه في الرد على ذلك‏:‏ إن الذوق السليم يأبي عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياه كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السلام ثانياً بعدما سلف منه من الكلام وكونه عليه السلام مرسلاً منه تعالى للتعلم، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد، ولعل الحق أن يقال‏:‏ إن التقدير وإن جاز خلاف الظاهر جداً، وزعم أيضاً أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاءً وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سبباً لخرقها فلذا جعل جزاء، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول‏:‏ كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السلام ظاهراً، ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجراً، وإذا سلم له أن يقول‏:‏ إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى‏.‏

وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير‏:‏ إن صدور الخوارق عن الخضر عليه السلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السلام ولله تعالى در شأن التنزيل‏.‏ وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديراً بأن يجعل عمدة الكلام فليس من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادىء قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصوداً وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلاً عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى، وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصوداً إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه‏.‏

وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادىء قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصوداً بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضاً وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنياً على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك، وقد رجح بذلك على ما تقدم، واستأنس له أيضاً بأن مسلق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصوداً بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سيق الكلام من أوله لشرح حاله، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظراً إلى السوق أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة ‏{‏الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم والله تعالى أعلم‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وطلحة‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبو حاتم ‏{‏نُّكْراً‏}‏ بضمتين حيث كان منصوباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ زيادة ‏{‏لَكَ‏}‏ لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي موسى عليه السلام ‏{‏إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء‏}‏ تفعله من الأعاجيب ‏{‏بَعْدَهَا‏}‏ أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة ‏{‏فَلاَ تُصَاحِبْنِى‏}‏ وقرأ عيسى‏.‏ ويعقوب ‏{‏فَلا‏}‏ بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضاً ‏{‏فَلا‏}‏ بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك؛ وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك‏.‏

وقرأ الأعرح ‏{‏فَلا‏}‏ بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي ‏{‏قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً‏}‏ أي وجدت عذراً من قبلي، وقال النووي‏:‏ معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فرافي حيث خالفتك مرة بعد مرة‏.‏

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك، وقرأ نافع‏.‏ وعاصم ‏{‏مِن لَّدُنّى‏}‏ بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل‏:‏ إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو لد بلا نون لغة في لدن فلا حذف أصلاً؛ وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبنى على السكون لتقيه الكسر ولد بلا نون مضموم‏.‏ ورد بأنه لا مانع من أن يقال‏:‏ إنها وقته من زوال الضم؛ وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد‏:‏ سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى ‏{‏عُذْراً‏}‏ بضم الذال ورويت عن أبي عمرو‏.‏ وعن أبي ‏{‏عذري‏}‏ بالإضافة إلى ياء المتكلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ‏}‏ الجمهور على أنها إنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في «القاموس» اسم لمواضع، وفي «المواهب» أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضاً اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولا مشددة، وقيل‏:‏ قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس، قال ابن حجر‏:‏ والخلاف هنا كالخلاف في «مجمع البحرين» ولا يوثق بشيء منه، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاماً ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا ‏{‏قَالَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء‏.‏ وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى‏.‏ وههنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال‏:‏

أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا *** بدا وجهه استحيى له القمران

ومن كفه يوم المندى ويراعه *** على طرسه بحران يلتقيان

ومن إن دجت في المشكلات مسائل *** جلاها بفكر دائم اللمعان

رأيت كتاب الله أعظم معجز *** لأفضل من يهدي به الثقلان

ومن جملة الإعجاز كون اختصاره *** بإيجاز ألفاظ وبسط معاني

ولكنني في الكهف أبصرت آية *** بها الفكر في طول الزمان عناني

وما هي إلا استطعما أهلها فقد *** نرى استطعماهم مثله ببيان

فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر *** مكان ضمير إن ذاك لشان

فارشد على عادات فضلك حيرتي *** فما لي إلى هذا الكلام يدان

فأجاب السبكي بأن جملة ‏{‏استطعما‏}‏ محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وأن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيراً إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ ولا يجوز استطعماهم أصلاً لخلو الجملة عن ضمير الموصوف‏.‏

وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الإباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السلام بفعل أهلها اللئام، ويضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكون هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولاً على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعاراً بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحداً من أهلها حتى استطعماه وأبي ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال‏:‏ إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكي ليردفان القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جواباً فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفاً وتنبيهاً على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت‏:‏

لأسرار آيات الكتاب معاني *** تدق فلا تبدو لكل معاني

وفيها لمرتاض لبيب عجائب *** سناً برقها يعنو له القمران

إذا بارق منها لقلبي قد بدا *** هممت قرير العين بالطيران

سروراً وإبهاجاً وصولاً على العلا *** كأني علا فوق السماك مكاني

فما الملك والاكران ما البيض ما القنا *** وعندي وجوه أسفرت بتهاني

وهاتيك منها قد أبحتك سرها *** فشكراً لمن أولاك حسن بياني

أرى استطعما وصفاً على قرية جرى *** وليس لها والنحو كالميزان

صناعته تقضي بأن استتار ما *** يعود عليه ليس في الإمكان

وليس جواباً لا ولاصف أهلها *** فلا وجه للإضمار والكتمان

وهذي ثلاث ما سواها بممكن *** تعين منها واحد فسباني

ورضت بها فكري إلى أن تمحضت *** به زبدة الأحقاب منذ زمان

وإن حياتي في تموج أبحر *** من العلم في قلبي يمد لساني

إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه‏.‏ وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتي بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال‏:‏ فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولاً على هذا التقدير، وأجيب بأنه جىء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السلام غريباً جداً، لا يقال‏:‏ ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديراً أو تجوزاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ لأنا نقول‏:‏ إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتاً للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة، واختار الشيخ عز الدين على الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثيراً؛ وقال نظماً‏:‏

سألت لماذا استطعما أهلها أتى *** عن استطعماهم إن ذاك لشان

وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف *** على سبب الرجحان منذ زمان

فهاك جواباً رافعاً لنقابه *** يصير به المعنى كرأي عيان

إذا ما استوى الحالان في الحكم *** رجح الضمير وأما حين يختلفان

بأن كان في التصريح إظهار حكمة *** كرفعة شأن أو حقارة جاني

كمثل أمير المؤمنين يقول ذا *** وما نحن فيه صرحوا بأمان

وهذا على الإيجاز والبسط جاء في *** جوابي منثوراً بحسن بيان

وذكر في النثر وجهاً آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده، وقد ذكره أيضاً النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين‏:‏ إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏ الآية ومثله كثير في القصيح، وقال بعضهم‏:‏ إن الأهلين متغايران فلذا جىء بهما معاً، وقولهم‏:‏ إذا أعيد المذكور أولاً معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جىء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض، وعكس بعضهم الأمر فقال‏:‏ المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم؛ وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جداً والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال‏:‏ أطعتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جىء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة‏.‏

وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى‏.‏

واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول‏:‏ إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ بالتشديد وقرأ ابن الزبير‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وأبو رزين‏.‏ وأبو محيصن‏.‏ وعاصم في رواية المفضل‏.‏ وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفاً، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت، ونظيره زاره من الازورار، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع، ولهذا لم يقل‏:‏ فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما في «النظم الجليل» في الدلالة على ذمهم، ولعل ذلك الاستطعام كان طلباً للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا‏:‏ إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ إياه، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل‏.‏ وذكر بعضهم أن في ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريباً استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه‏.‏

وقال زين الدين الموصلي إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسؤول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى، وهو كما ترى‏.‏ ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من ذهب فقالوا‏:‏ يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من ‏{‏أبوا‏}‏ تاء فأبى عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل ‏{‏قَصَصًا فَوَجَدَا‏}‏ عطف كما قال السبكي على ‏{‏أَتَيَا‏}‏ ‏{‏فِيهَا جِدَاراً‏}‏ روى أنهما التجآ إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق ‏{‏يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏ أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير، قال صاحب اللوامح‏:‏ هو من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى‏.‏

وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه افعل من النقض كأحمر، وقال السهيلي في «الروض» هو غلط وتحقيق ذلك في محله‏.‏ والنون على هذا أصلية، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله‏:‏

يريد الرمح صدر أبي براء *** ويعدل عن دماء بني عقيل

وقول حسان رضي الله تعالى عنه‏:‏

إن دهراً يلف شملي بجمل *** لزمان يهم بالإحسان

وقول الآخر‏:‏

أبت الروادف والثدي لقمصها *** مس البطون وإن تمس ظهورا

وقول أبي نواس‏:‏

فاستنطق العود قد طال السكوت به *** لا ينطق اللهو حتى ينطق العود

إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل‏:‏ إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب‏.‏

ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدي في النظم والنثر، وقرأ أبي ‏{‏يَنقَضَّ‏}‏ بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش ‏{‏يُرِيدُ‏}‏ كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وعكرمة‏.‏ وخليد بن سعد‏.‏ ويحيى بن يعمر ‏{‏ينقاص‏}‏ بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر، وقال ابن خالويه‏:‏ تقول العرب‏:‏ انقاصت السن إذا انشقت طولاً، قال ذو الرمة يصف ثور وحش‏:‏

يغشى الكناس بروقيه ويهدمه *** من هائل الرمل منقاص ومنكثب

وفي «الصحاح» قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب‏:‏

فراق كقيص السن فالصبر أنه *** لكل أناس عثرة وحبور

وقال الأموي‏:‏ انقاصت البر انهارت، وقال الأصمعي‏:‏ المناقص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولاً، وقال أبو عمرو‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏ينقاض‏}‏ بألف وضاد معجمة، والمشهور تفسيره بينهدم‏.‏

وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة ‏{‏يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ‏}‏ مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير، وقال القرطبي‏.‏ إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام؛ واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل، وقيل‏:‏ أقامه بعمود عمده به، وقال مقاتل‏:‏ سواه بالشيد، وقيل هدمه وقعد يبنيه‏.‏

وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏{‏فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏ وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعاً وكان الناس يمرون تحته على خوف منه ‏{‏مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ تحريضاً للخضر عليه السلام وحثاً على أخذ الجعل والأجرة على فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله، وقيل‏:‏ لم يقل ذلك حثاً وإنما قاله تعريضاً بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه، وكان الكليم عليه السلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام، وأيضاً إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين، وقال غيرهم‏:‏ إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم، ويقول‏:‏ المدة العارضة تبدل تاء أيضاً، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثياً جرياً عليه وهذا كما قالوا‏:‏ تقى من اتقى‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو بحرية‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وحميد‏.‏ واليزيدي‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبو حاتم‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏لتخذت‏}‏ بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت، وأظهر ابن كثير‏.‏ ويعقوب‏.‏ وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ الخضر عليه السلام ‏{‏هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعاً، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏فِرَاقُ بَيْنِى‏}‏ بالتنوين ونصب بين على الظرفية، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلا لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، قال أبو حيان‏:‏ والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل‏:‏ ‏{‏لا تُصَاحِبْنِى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 76‏]‏ والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر‏.‏

وقال العلامة الأول‏:‏ إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذوراً بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسىء بل يحمد‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السلام في السفينة والغلام كان لله تعالى، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم‏.‏ ورد ذلك في «الكشف» بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح، ونقل في «البحر» عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم‏؟‏ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه‏؟‏ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السلام بدون أجرة‏؟‏ ورأيت أنا في بعض الكتب أن الخضر عليه السلام قال‏:‏ يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضى عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي، والظاهر أن شيئاً من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان‏.‏ وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له‏:‏ أوصني قال‏:‏ كن نفاعاً ولا تكن ضراراً كن بشاشياً ولا تكن غضباناً ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير امرأ بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال بلغني‏:‏ أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه‏:‏ يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به، وبلغني أن موسى قال للخضر‏:‏ ادع لي فقال الخضر‏:‏ يسر الله تعالى عليك طاعته والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضاً‏.‏

‏{‏سَأُنَبّئُكَ‏}‏ وقرأ ابن أبي وثاب ‏{‏سانبيك‏}‏ بإخلاص الياء من غير همز، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة ‏{‏سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال‏:‏ لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال‏:‏ ‏{‏سَأُنَبّئُكَ‏}‏ والتأويل رد الشيء إلى مآله، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السلام وعتاب، ويجوز أن يقال‏:‏ إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه، و‏{‏صَبْراً‏}‏ مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّا السفينة‏}‏ التي خرقها ‏{‏فَكَانَتْ لمساكين‏}‏ لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمني وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول‏:‏ إن المسكين من يملك شيئاً ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه‏.‏

وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور، وادعى من يقول‏:‏ إن المسكين من لا شيء له أصلاً وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكاً لهم بل كانوا أجراء فيها، وقيل‏:‏ كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل، وقيل‏:‏ إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلاً وأطلق عليهم المساكين ترحماً‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏لمساكين‏}‏ بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل‏:‏ المعنى لملاحين، وقيل‏:‏ المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك، وقيل‏:‏ المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر ‏{‏يَعْمَلُونَ فِى البحر‏}‏ أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمني على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين ‏{‏فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ أي اجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما مسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها‏.‏ وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ‏}‏ أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ وهو قول قتادة‏.‏ وأبي عبيد‏.‏ وابن السكيت‏.‏ والزجاج، وعلى ذلك جاء قول لبيد‏:‏

أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصا تحني عليها الأصابع

وقول سوار بن المضرب السعدي‏:‏

أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائياً

وقول الآخر‏:‏

أليس ورائي أن أدب على العصا *** فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي

وفي القرآن كثير أيضاً، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا‏:‏ هي من الأضداد، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحداً يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلاً عن الزمخشري‏:‏ إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، وقال البيضاوي ما حاصله‏:‏ إنه في الأصل مصدر ورا يرئى كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفاً وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداماً‏.‏

ورد عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ارجعوا وَرَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف‏.‏

وقال الفراء‏:‏ لا يجوز أن يقال للرجل بين يديه هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام؛ وقال أبو علي‏:‏ إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وقيل‏:‏ أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء‏.‏

واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه‏.‏ وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومار بهم أو بان رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافراً، وقيل‏.‏ جلندي بن كركر ملك غسان، وقيل‏.‏ مفواد بن الجلند بن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس ‏{‏يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ‏}‏ أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب، ولو أبقى العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة ‏{‏غَصْباً‏}‏ من أصحابها، وانصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم، وقيل‏.‏ كان يسخرها ثم يردها، والفاء في ‏{‏فَأَرَدتُّ‏}‏ للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن، وما آل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت أعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث أن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولان في تأخيره فصلاً بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم، وظاهر الآية أن موسى عليه السلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل‏.‏ ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال‏:‏ إنما أردت الذي هوخير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السلام أوقفهم على حقيقة الأمر، والظاهر أن موسى عليه السلام كان حاضراً يسمع ذلك، وقد يقال‏:‏ إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السلام مما لا يلتفت إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الغلام‏}‏ الذي قتله ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ‏}‏ أي أبوه وأمه ففيه تغليب‏.‏ واسم الأب على ما في الاتقان كازير والأم سهواً، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس ‏{‏وَأَمَّا الغلام فَكَانَ الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏ والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره‏.‏ واستدل بتلك القراءة من قال‏:‏ إن الغلام كان بالغاً لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين‏.‏ وأجاب النووي عن ذلك بوجهين، الأول‏:‏ أن القراءة شاذة لا حجة فيها، الثاني‏:‏ أنه سماع بما يؤل إليه لو عاش‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ أن الغلام طبع يوم طبع كافراً وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السلام بتأويل القتل قبل الفراق، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقاً في الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر، وقرأ أبو سعيد الخدري‏.‏ والجحدري ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ‏}‏ وخرجه الزمخشري‏.‏ وابن عطية‏.‏ وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع الخبر لهما، وأجاز أبو الفضل أن يكون ‏{‏مؤمنان‏}‏ على لغة بني الحرث بن كعب فيكون منصوباً، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير ‏{‏وَأَمَّا الغلام‏}‏ والجملة في موضع الخبر‏.‏

‏{‏فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا‏}‏ فخفنا خوفاً شديداً أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حياً ‏{‏طُغْيَانًا‏}‏ مجاوزة للحدود الإلهية ‏{‏وَكُفْراً‏}‏ بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روى عن ابن جبير، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى فخشينا أن يدنس إيمانهم أولاً ويزيله آخراً، ويلتزم هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس؛ وفسر بعد شراح البخاري الخشية بالعلم فقال‏:‏ أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه، وقيل‏:‏ المعنى خشينا أن يغشيهما طغياناً عليهما وكفراً لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سبباً لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء، وقيل‏:‏ المعنى خشينا أن يغشيهما ويقربن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه‏.‏ واستدل بذلك من قال‏:‏ إنه كان بالغاً، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السلام أجاب به موسى عليه السلام من جهته، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخية مجازاً مرسلاً عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل، قال في «الكشف»‏:‏ وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السلام منه تعالى والخضر عليه السلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى، وقيل‏:‏ هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله‏:‏ خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضاً بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتاً، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ‏}‏ بأن يرزقهمابدله ولداً خيراً منه ‏{‏زكواة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي ديناً وهو تفسير باللازم؛ والكثير قالوا‏:‏ أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ أي رحمة، قال رؤبة بن العجاج‏:‏

يا منزل الرحم على إدريسا *** ومنزل اللعن على إبليسا

وهما مصدران كالكثر والكثرة، والمراد أقرب رحمة عليهما وبراً بهما واستظهر ذلك أبو حيان، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنياً للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله، وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معاً، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبياً، وقال الثعلبي‏:‏ إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبياً هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏.‏ وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبياً، واستبعد هذا ابن عطية وقال‏:‏ لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل‏:‏ أبدلهما غلاما مؤمناً مثلهما، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل، ولا يخفي ما في الإبهام أولاً ثم البيان ثانياً من اللطف ولذا لم يقل‏:‏ فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق‏.‏

وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة‏.‏ وتعقب بأنه كان زكياً طاهراً من الذنوب بالفعل إن كان صغيراً وبحسب الظاهر إن كان بالغاً فلذا قال موسى عليه السلام ‏{‏نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 74‏]‏ وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله‏:‏ ولا رحمة قول بلا دليل انتهى‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السلام كان عالماً بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله‏:‏ إنه لا دليل عليه لا وجه له، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتماداً على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وحميد‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن جرير ‏{‏يُبْدِلَهُمَا‏}‏ بالتشديد‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو جعفر في رواية‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبو حاتم ‏{‏رُحْماً‏}‏ بضم الحاء، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏رُحْماً‏}‏ بفتح الراء وكسر الحاء‏.‏