فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَرّا بوالديه‏}‏ كثير البر بهما والإحسان إليهما؛ والظاهر أنه عطف على خبر ‏{‏كان‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 13‏]‏ وقيل هو من باب‏.‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** والمراد وجعلناه براً وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن‏.‏ وأبو جعفر في رواية‏.‏ وابن نهيك‏.‏ وأبو مجلز ‏{‏وَبَرّاً‏}‏ في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر ‏{‏وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً‏}‏ متكبراً متعالياً عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولاً على الخلق؛ وقيل‏:‏ الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب‏.‏

وقال الراغب‏:‏ هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها‏.‏

‏{‏عَصِيّاً‏}‏ مخالفاً أمر مولاه عز وجل، وقيل‏:‏ عاقاً لأبويه وهو فعول وقيل‏:‏ فعيل، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وسلام عَلَيْهِ‏}‏ قال الطبري‏:‏ أمان من الله تعالى عليه ‏{‏يَوْمَ وُلِدَ‏}‏ من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم ‏{‏وَيَوْمَ يَمُوتُ‏}‏ من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل ‏{‏وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً‏}‏ من هول القيامة وعذاب النار‏.‏ وجيء بالحال للتأكيد، وقيل للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه على أنه عليه السلام من الشهداء‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في الماطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى‏.‏ ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى‏:‏ ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى‏:‏ بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي‏.‏

وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف من حيث المعنى على ‏{‏ءاتيناه الحكم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏ كأنه قيل وآتيناه الحكم صبياً وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق‏.‏ ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب‏}‏ الخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة‏.‏ والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها ‏{‏مَرْيَمَ‏}‏ أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالاعيان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذِ انتبذت‏}‏ ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ماعطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفاً لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى‏.‏ وقيل‏:‏ هو ظرف لمحذوف وقع حالاً من ذلك المضاف، وقيل‏:‏ بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة‏.‏

وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها‏.‏ ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقذ غير بين ولا مبين‏.‏ وقيل‏:‏ بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏إِذَا‏}‏ بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي‏.‏ وهذا قول ضعيف للنحاة‏.‏ والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال‏.‏ والانتباذ الاعتزال والانفراد‏.‏

وقال الراغب يقال‏:‏ انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس‏.‏ والنبذ‏:‏ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَكَاناً شَرْقِياً‏}‏ قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الاتيان المترتب وجوداً واعتباراً على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه‏.‏ واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكاناً شرقياً من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أبو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً‏}‏ وكونه شرقياً كان أمراً اتفاقياً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك ‏{‏انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 16‏]‏ فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وإنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها مطلع الأنوار‏.‏ وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروى أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز‏.‏ والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى‏.‏

وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريباً فهو مجاز أيضاً إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحاً‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وسهل ‏{‏رُوحَنَا‏}‏ بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السلام أيضاً لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى ‏{‏فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 88، 89‏]‏ أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربا أو ذا روحنا‏.‏

وذكر النقاش أنه قرىء ‏{‏رُوحَنَا‏}‏ بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا‏}‏ مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها ‏{‏بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئاً، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مافيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ‏}‏ فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلاً عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولاً بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك لكيون مظنة لماذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جداً عن كلامه‏.‏

وقال بعض المتأخرين‏:‏ إن استعاذتها بالله تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلاً طبيعياً على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ فقد قيل‏:‏ المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم أنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعياً اضطرارياً غير داخل تحت التكلف كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمَّ بِهَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏ ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السلام بماحكى الله تعالى عنه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد آثار القدرة الخارقة للعادة أيضاً‏.‏

والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السلام‏.‏ على أنه قد يدعى أن خلق شيء لا من شيء أصلاً محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه، ولا يخلو عن بحث، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر، ونصب ‏{‏بَشَرًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏ على الحالية المقدرة أو التميزي، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل أن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال‏.‏ وأيضاً لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئى أمس لاحتمال التمثل، وأيضاً لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان، ومن ذلك البعوض ونحوه، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل، وأيضاً لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به‏.‏

وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكناً من التمثل بشراً هذا عند القائلين بأنه جسم، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغري‏.‏ وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضاً إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلاً ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم‏.‏ وكذا من لم يعترف، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات للفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضاً، ولعله لما كان مثل ذلك نادراً لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في أن زيداً الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس‏.‏

وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع‏.‏ وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغليوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب‏.‏ وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيراً لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلاباً لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها‏.‏ وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ‏{‏إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري‏.‏

وفي «الكشف» أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيأ أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعني مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقى، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطاً للاستعاذة لا تتم دونها وقال‏:‏ إن كان يرجى إظهاراً لمعنى أن وإنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلاً عن العلم بها‏.‏

والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاشتعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثاً له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى‏.‏

وقدر الزجاج إن كنت تقياً فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جواباً لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعاً بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقياً متورعاً فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولى، وقال الشهاب‏:‏ الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقياً متورعاً بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأياً كان فالتقى وصف من التقوى، وقول من قال‏:‏ إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ‏}‏ المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر‏.‏ روى عن ابن عباس أنها لما قالت‏:‏ ‏{‏إني أعوذ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18‏]‏ الخ تبسم جبريل عليه السلام وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ‏}‏ ‏{‏لاِهَبَ لَكِ غلاما‏}‏ أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة‏.‏ وأبي الحسن‏.‏ وأبي بحرية‏.‏ والزهري‏.‏ وابن مناذر‏.‏ ويعقوب‏.‏ واليزيدي‏.‏ وأبي عمرو‏.‏ ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى‏.‏ وما قيل‏:‏ من أصل ‏{‏ليهب‏}‏ لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له‏.‏

وفي بعض المصاحب‏:‏ أمرني أن أهل لك غلاماً ‏{‏غلاما زَكِيّاً‏}‏ طاهراً من الذنوب، وقيل‏:‏ نبياً‏.‏ وقيل‏:‏ نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية‏.‏ واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ‏}‏ أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادىء الولادة ‏{‏وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏ أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ ‏{‏أَوْ لامستم النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبنى عليها‏.‏

وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه أما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صرحية فيه ومنها ما في الظن الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها ‏{‏وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ‏}‏ مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول‏:‏ أنه ثم كناية عن النكاح فقد كما هنا واستوعبت الأقسام ههنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ على أنه قيل‏:‏ إن ما في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم، وقيل‏:‏ المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة ‏{‏وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏ تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذاناً بأن انتفاء الفجور لازم لها‏.‏

وكأنها عليها السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السلام ‏{‏لأهب لك غلاماً زكياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم‏.‏

وبغى فعول عند المبرد وأصله بغوى فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعاً ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولاً يستوي فيه المذكور والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولاً قيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقال على الشاذ وقد نصوا على شذوذ نهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول، ووجه عدم اللحوق بأن للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء، وقال بعضهم‏:‏ هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغى يبغيها الرجال للفجور بها، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال، وأياً ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معاً أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ اطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السلام‏.‏ وفي «الكشف» أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن ‏{‏قَالَ‏}‏ أولاً فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو على هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السلاكم وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها‏.‏ وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقاً لها أو كما وعدت تحقيقاً له ثم استأنف قال ربك هو على هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق ولاي بعد أن يجعل ‏{‏قَالَ رَبُّكِ‏}‏ على هذا تفسيراً وكذلك مبهماً انتهى‏.‏ ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجهاً هنا ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ‏}‏ تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام ‏{‏ءايَةً‏}‏ وبرهاناً ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ جميعهم أو المؤمنين على ما روى عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ عظيمة كائنة ‏{‏مِنَّا‏}‏ عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك‏.‏

وجوز أن يكون معطوفاً على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية الخ‏.‏ قال في «الكشف»‏:‏ إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضاً فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة‏.‏ وهذه الجملة أعني العلة مع معللها معطوفة على قوله ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آهر ينافيه مراداً بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى‏.‏

ولا يرد أنه إذا قدر علة نحو لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقاً بما يدل عليه ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه‏.‏ وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن ‏{‏لنجعله‏}‏ على قراءة ‏{‏ليهب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ عطف عليه على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏ وجوز أيضاً العطف على ‏{‏لأهَبَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ على قراءة أكثر السبعة‏.‏ ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين ‏{‏وَكَانَ‏}‏ ذلك ‏{‏أَمْراً مَّقْضِيّاً‏}‏ محكماً قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمراً حقيقاً بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكماً بالغة‏.‏ وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فَحَمَلَتْهُ‏}‏ الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته‏.‏ وروى هذا عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ لم يدن عليه السلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت‏.‏ وقيل‏:‏ إن النفخة كانت في كمها وروى ذلك عن ابن جريج‏.‏ وقيل كانت في ذيلها‏.‏ وقيل كانت في فمها‏.‏

واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة، وقيل‏:‏ أربع عشرة سنة، وقيل‏:‏ اثنتا عشرة سنة، وقيل؛ عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية إنها لم تكن حاضت بعد، وقيل‏:‏ إنها عليها السلام لم تكن تحيض أصلاً بل كانت مطهرة من الحيض‏.‏ وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروى عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته‏.‏ واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل‏.‏ وعن عطاء‏.‏ وأبي العالية‏.‏ والضحاك أنها كانت سبعة أشهر، وقيل‏.‏ كانت ستة أشهر، وقيل‏:‏ حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر، قيل‏:‏ ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السلام‏.‏

ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولى عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مر بي الحمل في أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري‏:‏ وفيها أيضاً أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ‏.‏ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس‏.‏ وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة‏.‏ وفي السادس قوة النطق من عطارد‏.‏ وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري‏.‏

ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك‏.‏

وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الاسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوماً انتهى‏.‏

وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب‏.‏

وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السلام إن صح‏.‏ ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني ممال سمعت لا يخلو عن نظر‏.‏

‏{‏فانتبذت بِهِ‏}‏ أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ وقول المتنبي يصف الخيول‏:‏

فمرت غير نافرة عليهم *** تدوس بنا الجماجم والرؤسا

والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالاً من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به ‏{‏مَكَاناً قَصِيّاً‏}‏ بعيداً من أهلها وراء الجبل، وأخرج عبد الله بن أمد في «زوائد الزهد» عن نوف أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت مايجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد كان من أخبر الله تعالى به‏.‏

وروى الثعلبي في «العرائس» عن وهب قال‏:‏ إن مريم لما حملت كان معها ابن عمر لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معاً يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحداً من أهل زمانهما أشد اجتهاداً وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها‏:‏ قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولاً جميلاً فقال‏:‏ يا مريم اخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر‏:‏ فقالت‏؟‏ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول‏:‏ إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء‏:‏ قال‏؟‏ لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت‏:‏ ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى‏؟‏ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه، وقيل‏:‏ انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَجَاءهَا المخاض‏}‏ أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة، وفي «الصحاح» أجأته إلى كذا بمعنى الجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

وجار سار معتمداً عليكم *** أجاءته المخافة والرجاء

قال الفراء‏:‏ أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يفخى رده و‏{‏المخاض‏}‏ بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج، وقرأ الأعمش‏.‏ وطلحة ‏{‏فَأَجَاءهَا‏}‏ بامالة فتحة الجيم، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم ‏{‏فاجأها‏}‏ من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضاً، وقال صاحب اللوامح‏:‏ إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة‏.‏

‏{‏المخاض إلى جِذْعِ النخلة‏}‏ لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي أو لذلك ولتستر به كما قيل، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة، وقد يقال للغصن أيضاً‏:‏ جذع، والنخلة معروفة‏.‏ والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتي به الطباح أي طباخه فإنه المعهود، وقد يقال‏:‏ إنها معينة له صلى الله عليه وسلم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله تعالى خلقها له يومئذ وليس بذاك؛ وكان الوقت شتاء، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كاثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وانه عليه السلام سيحيي الأموات كما أحي الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها، والجار والمجرور متعلق بإجاءها، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالاً أي مستندة إلى جذع النخلة ‏{‏قَالَتْ ياأيها لَيْتَنِى مّتَّ‏}‏ بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر‏.‏ ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول‏.‏

‏{‏قَبْلَ هذا‏}‏ الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر‏.‏ وإنما قالته عليها السلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفاً من لائمتهم أو حذراً من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها‏.‏ وروي أنها سمعت نداء أخرج با من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت، وتمنى الموت لنحو ذلك مملا لا كراهة فيه‏.‏ نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا‏.‏ ففي صحيح مسلم‏.‏ وغيره قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» ومن ظن أن تمنيها عليها السلام ذلك كان لشدة الوجه فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى‏.‏

‏{‏وَكُنتُ نَسْياً‏}‏ أي شيئاً تافهاً شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلاً كخرقة الطمث‏.‏

قرأ الأكثرون ‏{‏نَسِيّاً‏}‏ بالكسر‏.‏ قال الفراء‏:‏ هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي‏.‏

وقال الفارسي‏:‏ الكسر أعلى اللغتين، وقال ابن الأنباري‏:‏ هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم، وقرأ محمد بن كعب القرظي ‏{‏نسئاً‏}‏ بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي‏.‏ ومحمد بن كعب أيضاً في رواية ‏{‏نسأ‏}‏ بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذيلا يرى ولا يتميز من الماء، ونقل ابن عطية عن بلكر بن حبيب أنه قرأ ‏{‏نسا‏}‏ بفتح النون والسين من غير همز كعصى ‏{‏نَسْياً مَّنسِيّاً‏}‏ لا يخطر ببال أحد من الناس‏.‏ ووصف النسى بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس، وقرأ الأعمش‏.‏ وأبو حعفر في رواية بكسر الميم اتباعاً لحركة السين كما قالوا‏:‏ منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَنَادَاهَا‏}‏ أي جبريل عليه السلام كما روي عن ابن عباس‏.‏ ونوف‏.‏

وقرأ علقمة فخاطبها‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وينبغى أن تكون تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف، وقرأ الحبر ‏{‏فَنَادَاهَا مُلْكُ‏}‏ ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السلام ليوافق ما روي عنه أولاً‏.‏ ومعنى دمن تحتها‏}‏ من مكان أسفل منها وكان واقفاً تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفاً، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال‏:‏ ناداها جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك‏.‏ ولعله إنما كان موقفه عليه السلام هناك إجلالاً لها وتحاشياً من حضوره بين يديها في تلك الحال‏.‏ والقول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏مِنْ تَحْتِهَا‏}‏ من مكان أسفل منها وكان واقفاً تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفاً، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال‏:‏ ناداها جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك‏.‏ ولعله إنما كان موقفه عليه السلام هناك إجلالاً لها وتحاشياً من حضوره بين يديها في تلك الحال‏.‏ والقول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏تَحْتِهَا‏}‏ للنخلة، واستظهر أبو حيان كون المنادي عيسى عليه السلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاماً فانطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها‏.‏

وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ ووجهب‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن زيد‏.‏ والجبائي‏.‏ ونقله الطبرسي عن الحسن أيضاً، وقرأ الابنان والأبوان‏.‏ وعاصم‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن عباس والحسن في رواية عنهما ‏{‏مِنْ‏}‏ بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى و‏{‏تَحْتِهَا‏}‏ ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة والسلام ‏{‏أَلاَّ تَحْزَنِى‏}‏ أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ‏}‏ بمكان أسغل منك، وقيل‏:‏ تحت أمرك إن أمرت بالجري جري وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر ‏{‏سَرِيّاً‏}‏ أي جدولاً كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال‏:‏ إنه صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقاً موقوفاً عليه وأسنده عبد الرزاق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفاً عليه أيضاً ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي‏.‏

وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا‏:‏

فتوسطا عرض السرى فصدعا *** مسجورة متجاوزا قلامها

وأنشد ابن عباس قول الشاعر‏:‏

سهل الخليقة ماجد ذو نائل *** مثل السرى تمده الأنهار

وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولاً من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش‏.‏ وروي أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولاً، وقيل‏:‏ فعل ذلك عيسى عليه السلام وهو المروى عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ كان ذلك موجوداً من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه‏.‏ وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم‏.‏ وسمى الجدول سرياً لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء، وعن الحسن‏.‏ وابن زيد‏.‏ والجبائي أن المراد بالسرى عيسى عليه السلام وهو من السرو بمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاماً رفيع الشأن سامي القدر، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدراً ولامه على هذا المعنى واو‏.‏ والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه‏.‏ والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُزِّى إِلَيْك‏}‏ أي إلى جهتك‏.‏ والهز تحريك يميناً وشمالاً سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدى بالي أوأنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل‏.‏

ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحوان الفعل لا يعدي إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال‏:‏ ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه‏.‏ والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال‏:‏ نظرت إليه وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه‏.‏ ومن هنا جعلوا على في قوله‏:‏

هون عليك فإن الأمور *** بكف الإله مقاديرها

اسماً كما في قوله‏:‏

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها *** وجعل الجار والمجهرور هنا متعلقاً بمحذوف أي أعني إليك كما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين‏.‏ وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك‏.‏ وكذا صاحب القاموس‏:‏ إنها المبينة لغاعلية مجرورها بعدما يفيد حباً أو يغضاً من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك‏.‏ وقال في الاتقان‏:‏ حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى تستعمل اسماً فيقال‏:‏ انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن ‏{‏أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى‏.‏

وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالإسمية، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد‏:‏

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره *** أشهى إلى من الرحيق السلسل

لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل، ثم أن حكاية استعمالها اسماً إذا صحت تقدح في قول أبي حيان‏:‏ لا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسماً لا جماع النحاة على حرفيتها‏.‏ ولعله أراد اجماع من يعتد به منهم في نظره‏.‏ والذي أميل إليه في دفع الاشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئاً لكثرة مجيء ذلك في كلامهم‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ والبيت المار آنفاً‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

دع عنك نهبا صيح في حجراته *** ولكن حديثاً ما حديث الرواعل

وقولهم‏:‏ اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع‏.‏

وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة‏:‏

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها *** إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى

فلذا عدى بالباء أي افعلي الهز ‏{‏بِجِذْعِ النخلة‏}‏ فالباء للآلة كام في كتبت بالقلم‏.‏ وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لايخلو من ركاكة، وعن المبرد أن مفعوله ‏{‏رُطَباً‏}‏ الآتي والكلام من باب التنازع‏.‏ وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعاً فجعله أصلاً وجعل الأصل تبعاً حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام‏.‏

وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وان وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلاً لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر‏.‏ وجعل بعضهم ‏{‏بِجِذْعِ النخلة‏}‏ في موضع الحال على تقدير جعل المفعول ‏{‏رُطَباً‏}‏ أو الثمرة أي كائنة أو كائناً بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغنى، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

هن الحرائر لا ربات أخمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور

والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول، وقول الفراء‏:‏ إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه ‏{‏تساقط‏}‏ من ساقطت بمعنى أسقطت، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع الضمير للمضاف إليه شائع، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏.‏

وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 10‏]‏ في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر‏:‏

كما شرقت صدر القناة من الدم *** وتعب بأنه خلاف الظاهر وإن صح‏.‏ وقرأ مسروق‏.‏ وأبو حيوة في رواية ‏{‏تُسْقِطَ‏}‏ بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف‏.‏ وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْكِ رُطَباً‏}‏ في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذاً على أرطاب كربه وأرباع، وعن أبي حيوة أيضاً أنه قرأ ‏{‏تُسْقِطَ‏}‏ بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضاً كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب ‏{‏رُطَباً‏}‏ على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية‏.‏

وقرأ أبو السمال ‏{‏تتساقط‏}‏ بتاءين‏.‏ وقرأ البراء بن عازب ‏{‏يساقط‏}‏ بالياء من تحت مضارع أساقط‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏النخلة تساقط‏}‏ بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضاً‏.‏

وجوز في بعض القراآت أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراآت فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله على ما سمعت ‏{‏جَنِيّاً‏}‏ أي مجنياً ففعيل بمعنى مفعول أي صالحاً للاجتناء‏.‏ وفي القاموس ثم جنى جنى من ساعته‏.‏ وعليه قيل المعنى رطباً يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجنى أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطباً طرياً، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه‏.‏

وقرأ طلحة بن سليمان ‏{‏جَنِيّاً‏}‏ بكسر الجيم للاتباع‏.‏ ووجه التذكير ظاهر‏.‏ وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب‏.‏ كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر‏.‏ روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم أخضر فصار بلحاً ثم أحمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا، وقيل عجوة وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه‏.‏

والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبي روق‏.‏ وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا‏:‏ ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل‏:‏ المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل‏:‏

ألم تر أن الله أوحى لمريم *** وهزى إليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه *** إليها ولكن كل شيء له سبب

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُلِى‏}‏ من ذلك الرطب ‏{‏واشربى‏}‏ من ذلك السرى‏.‏ وقيل‏:‏ من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السرى بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولاً والطعام ثانياً ثم الأكل ثالثاً والشرب ربابعاً فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل‏:‏ قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جارياً وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة‏.‏ وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب‏.‏

والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب‏.‏ وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة ‏{‏وَقَرّى عَيْناً‏}‏ وطيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك‏.‏ وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَدورُ أَعْيُنُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة‏.‏ ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه‏.‏ وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير‏.‏ ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا‏.‏

وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال‏:‏ قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت‏:‏ كيف لا أحزن وأنت معى ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام‏:‏ أنا أكفيك الكلام ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً‏}‏ أي آدمياً كائناً من كان‏.‏ وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي ‏{‏ترئن‏}‏ بالإبدال من الياء همزة‏.‏ وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الابدال‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ‏}‏ بسكون الياء وفتح النون خفيفة‏.‏ قال ابن جنى‏:‏ هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي‏:‏

أما ترى رأسي أزري به *** مأس زمان ذي انتكاس مؤوس

‏{‏فَقُولِى‏}‏ له إن استنطقك ‏{‏إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنه ‏{‏صِيَاماً‏}‏ والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله‏.‏ وقرأ به أنس بن مالك‏.‏ فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة‏.‏ وقيل اطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره‏.‏ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام‏.‏ وروي عن أبكي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال‏:‏ إن الإسلام هدم هذا فتكلمي‏.‏

وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام‏.‏ وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا‏.‏ فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الإطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة‏.‏ فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال‏:‏ كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم‏.‏ ما لصاحبك لم يسلم‏؟‏ قال‏:‏ إنه نذر صوماً لا يكلم اليوم انسيا فقال له ابن مسعود‏:‏ بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذراً لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون وله من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك‏.‏ والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً‏}‏ أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تلكم انسيا بغير هذا الأخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمندور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ امرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل‏:‏ وهو الأظهر‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأن طريق وصل ما لم يأكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام‏.‏ ويفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنسِيّاً‏}‏ دون أحداً أن المراد فلن أكلم اليوم انسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي‏.‏ وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ‏}‏ أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضاً‏.‏ والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها‏.‏ وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها قيل‏:‏ إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا، وقيل‏:‏ هموا يرجمها حتى تلكم عيسى عليه السلام‏.‏ وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال‏:‏ لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم بجدوها فاتهموه فاخذوه ووبخوه فقال رجل‏:‏ إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان‏.‏ فظاهر الآية والاخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل‏:‏ أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتَ‏}‏ فعلت ‏{‏شَيْئاً فَرِيّاً‏}‏ قال قتادة‏:‏ عظيماً، وقيل‏:‏ عجيبا‏.‏ وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل‏:‏ من أفراه كذلك‏.‏ واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياساً من الثلاثي‏.‏ وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس‏.‏

وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد‏.‏ وعن الراغب مثل ذلك‏.‏ وقيل الإفراء عام‏.‏ وإياً ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره‏.‏ وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شراً أو خيراً قولاً أو فعلاً، ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقرياً يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفرى‏.‏ ونصب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ على أنه مفعول به‏.‏ وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئاً عجيباً، وعبر عنه بالشيء تحقيقاً للاستغراب‏.‏

وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية ‏{‏فَرِيّاً‏}‏ بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه ‏{‏فرأ‏}‏ بالهمزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أخْتَ هارون‏}‏ استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ‏.‏ وليس المراد بهرون أخا موسى بن عمران عليهما السلام لما أخرج أحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن حبان‏.‏ وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا‏:‏ أرأيت ما تقرأون ‏{‏فَأَرْسِلْ إلى هارون‏}‏ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال‏:‏ فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم «بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ هو رجل صالح في بني إسرائيل‏.‏ وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفاً من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون‏.‏ والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهو هابه تهكماً أو لما رأوا قبل من صلاحها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتماً لها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد له هارون أخو موسى عليهما السلام، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضاً عن السدى‏.‏ وعلي بن أبي طلحة‏.‏ وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها‏.‏ وجوز أن يكون هارون مطلقاً على نسله كهاشم‏.‏ وتميم، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروى عن السدى‏.‏

‏{‏مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً‏}‏ تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش‏.‏ وفيه دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك‏.‏ وقرأ عمر بن بجاء التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريراً ‏{‏مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة‏.‏ وحسن ذلك قليلاً وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى عيسى عليه السلام أن كلموه‏.‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به ‏{‏قَالُواْ‏}‏ منكرين لجوابها، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا‏:‏ استخفافها بنا أشد من زناها حاشاها ثم قالوا‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً‏}‏ قال قتادة‏:‏ المهد حجر أمه، وقال عكرمة‏:‏ المرباة أي المرجحة، وقيل‏:‏ سريره‏.‏ وقيل‏:‏ المكان الذي يستقر عليه‏.‏ واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبياً قبل زمان تكليمه فلا يكون محلاً للتعجب والإنكار‏.‏

وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكايم من كان بالأمس وقريباً منه من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل‏:‏ من هو في المهد لم يكن في تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السلام‏.‏ الثاني أن يكون ‏{‏نُكَلّمُ‏}‏ حكاية حال ماضية ومن موصوفة، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الأن حتى نكلم هذا، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار‏.‏ وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان و‏{‏صَبِيّاً‏}‏ حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار، فقول ابن الأنباري‏.‏ إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبياً، وعلى قول من قال‏:‏ إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظم من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك، ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال عيسى عليه السلام ‏{‏إِنّى عَبْدُ الله‏}‏ روى أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولاً لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين‏.‏ وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة‏.‏

واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني ‏{‏أُمُّ الكتاب‏}‏ الظاهر أنه الإنجيل‏.‏ وقيل التوراة‏.‏ وقيل مجموعهما ‏{‏وَجَعَلَنِى نَبِيّاً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلَنِى‏}‏ مع ذلك ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ قال مجاهد نفاعاً ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص‏.‏ وقال سفيان‏:‏ معلم الخير آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر‏.‏ وعن الضحاك قاضياً للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع‏.‏ وقيل أكمله الله تعالى عقلاً واستنبأه طفلاً وروي ذلك عن الحسن‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله‏:‏ ‏{‏آتانى الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏أَيْنَ مَا كُنتُ‏}‏ أي حيثما كنت‏.‏ وفي «البحر» أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركاً وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن أين لا تكون إلا استفهاماً أو شرطاً والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه‏.‏

‏{‏وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ‏}‏ أي أمرني بهما أمراً مؤكداً‏.‏ والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص‏.‏ وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر‏.‏ وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظوراً فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر‏.‏ وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بإيجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل يحمل للزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد ‏{‏أوصاني‏}‏ بأداء زكاة المال أن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والزكواة مَا دُمْتُ حَيّاً‏}‏ مدة كونه عليه السلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام هناك كذا قيل‏.‏

وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسلام حياً في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبا عمرو قرأوا ‏{‏دُمْتُ‏}‏ بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَرّاً بِوَالِدَتِى‏}‏ عطف على ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 31‏]‏ على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعداً للفصل بالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني باراً بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السلام‏.‏ وقرىء ‏{‏براً‏}‏ بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السلام براً من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى ‏{‏أوصاني‏}‏ أي وألزمني أو وكلفني براً فهو من باب‏:‏

علفتها تبناً وماءً بارداً *** وأقرب منه على ما في «الكشف» لأنه مثل زيداً مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه‏.‏

وجوز أن يكون معطوفاً على محل ‏{‏أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ كما قيل في قراءة ‏{‏أَرْجُلِكُمْ‏}‏ بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في «البخاري» أوصيناك ديناً واحداً، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي‏.‏ وأبو البقاء أنه قرىء ‏{‏وبر‏}‏ بكسر الباء والراء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولاً واحداً، والتنكير للتفخيم ‏{‏بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً‏}‏ أي لم يقض على سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكناً، وكان عليه السلام يقول‏:‏ سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً‏}‏ تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر فتذكر فما في العهد من قدم‏.‏ والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جىء به تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏ يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض‏.‏ والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسلام وعينه لا يكون سلاماً لعيسى عليه الصلاة والسلام لجواز أن يكون من قبيل ‏{‏هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجوداً وسرداً فيكون معهوداً غير سابق لفظاً ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه كذا في «الكشف» والاكتفاء في العهد به لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه السلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام لكونه من قول عيسى عليه السلام، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السلام به عليه السلام فتأمل‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏يَوْمَ وُلِدْتُّ‏}‏ بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة‏.‏ وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد‏.‏ وهو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِيسَى‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ابن مَرْيَمَ‏}‏ صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة‏.‏ والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفاً بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السلام إلهاً وابناً لله عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام، وقيل‏:‏ هو مستفاد من تعريف الطرفين بناءً على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقاً يفيد الحصر، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه ك ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏ على ما في بعض شروح الكشاف‏.‏ وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضاً بناءً على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول‏.‏

‏{‏قَوْلَ الحق‏}‏ نصب على المدح‏.‏ والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى، وأطلقت عليه عليه السلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب‏.‏ وقيل‏:‏ نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت‏.‏

وقيل‏:‏ نصب على المصدر أي أقول قول الحق‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفاً وجوباً‏.‏ وقال شيخ الإسلام‏:‏ هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله الخ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد‏.‏ و‏{‏الحق‏}‏ في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق‏.‏ والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قَوْلَ‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة‏.‏ وقيل‏:‏ صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد خبر لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان‏.‏ والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏قَالَ الحق‏}‏‏.‏ وقال الله برفع ‏{‏قَالَ‏}‏ فيهما‏.‏

وعن الحسن ‏{‏قَوْلَ الحق‏}‏ بضم القاف واللام‏.‏ والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب‏.‏ ونص أبو حيان على أنها مصادر‏.‏ وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر‏.‏ وقرأ طلحة‏.‏ والأعمش في رواية ‏{‏قَالَ الحق‏}‏ برفع لام ‏{‏قَالَ‏}‏ على أنه فعل ماض ورفع ‏{‏الحق‏}‏ على الفاعلية، وجعل ‏{‏ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ على هذا مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم ‏{‏الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ‏}‏ أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود‏:‏ هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى‏:‏ ابن الله سبحان الله عما يقولون‏.‏

والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي الخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي‏.‏ وداود بن أبي هند‏.‏ ونافع في رواية‏.‏ والكسائي كذلك ‏{‏تَمْتَرُونَ‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه‏}‏ أي ما صح وما تستقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمراً من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بالنصب على الجواب‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏