فصل: تفسير الآية رقم (36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه‏}‏ عطف على ما قال الواحدي على قوله ‏{‏إِنّى عَبْدُ الله‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ فهو من تمام قول عيسى عليه السلام تقريراً لمعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقرأ أبي بغير واو‏.‏

والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطاباً لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد إن الله الخ‏.‏ وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بالواو وفتح الهمزة‏.‏ وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏ وهو قول الخليل وسيبويه‏.‏

وأجاز الفراء أن يكون أن وما بعدها في تأويل مصدر عطفاً على ‏{‏الزكواة‏}‏ ‏(‏مريم 31‏)‏‏}‏ أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم الخ‏.‏ وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم‏.‏

وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على ‏{‏أمْراً‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 35‏]‏ أي إذ قضى أمراً وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان، وقيل‏:‏ إنه عطف على ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ وأكثر الأقوال كما ترى‏.‏ وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضاً ‏{‏وبأن‏}‏ بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه السلام وإما لمعاصري نبينا صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَبْلَ هذا‏}‏ أي ما ذكر من التوحيد ‏{‏صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ لا يضل سالكه

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيهاً على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصاً قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروى عن الكلبي، ومعنى ‏{‏مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين، و‏{‏بَيْنَ‏}‏ ظرف استعمل اسماً بدخول من عليه‏.‏

ونقل في «البحر» القول بزيادة من‏.‏ وحكى أيضاً القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده، وقيل‏:‏ المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السلام فيه فقال‏:‏ نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه، وقال يعقوب‏:‏ هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكاً‏:‏ هو عبد الله تعالى ونبيه، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا‏:‏ إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السلام وتدرعت بناسوته‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن المسيح عليه السلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلهاً قديماً أزلياً والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معاً، وقد قدمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى‏.‏

وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السلام اختلفوا فيه من بين الناس، قيل‏:‏ إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السلام يقتضي ذلك، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ فالمراد بهم الأحزاب المختلفون، وعبر عنهم بذلك إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحكم، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل‏:‏ إنهم قالوا بأنه عليه السلام عبد الله ونبيه‏.‏ في الأحزاب، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم ‏{‏مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها‏.‏

وقيل‏:‏ هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى‏.‏ والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذٍ‏.‏ ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم ‏{‏يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً‏.‏

وروي ذلك عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم‏.‏ وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه‏.‏ والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور‏.‏ وعلى الأخير في محل نصب لأن ‏{‏أَسْمِعْ‏}‏ أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوباً‏.‏ وقيل‏:‏ في التعجب أيضاً إنه كذلك‏.‏ والفاعل ضمير المصدر ‏{‏لكن الظالمون اليوم‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية‏.‏ ووضع ‏{‏الظالمين‏}‏ موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم‏.‏

والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرْهُمْ‏}‏ أي الظالمين على ما هو الظاهر‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ الضمير لجميع الناس أي خوفهم ‏{‏يَوْمَ الحسرة‏}‏ يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الناس قاطبة، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم ‏{‏إِذْ قُضِىَ الامر‏}‏ أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود‏.‏

وعن السدي‏.‏ وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت، وكان ذلك لما روى الشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏

عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون نعم‏:‏ هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم» الآية‏.‏

وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين، وقيل‏:‏ حين يقال لهم وهم في النار ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وقيل‏:‏ حين يقال ‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر، وقيل‏:‏ المراد بذلك يوم القيامة مطلقاً، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة، ومن هنا قيل‏:‏ المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتداً، وقيل‏:‏ المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت‏.‏

وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود‏.‏ ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذٍ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال‏.‏ ومن غريب ما قيل‏:‏ إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء، و‏{‏إِذْ‏}‏ على سائر الأقوال بدل من ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ متعلق بقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ عن الحسن، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى‏:‏

‏{‏الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏ أي هم في ضلال وهم في غفلة؛ وعلى الوجهين تكون جملة ‏{‏أَنذَرَهُمْ‏}‏ معترضة والواو اعتراضية، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال، وجوز أن يكون ذلك متعلقاً بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين‏.‏ وتعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ وقال في «الكشف»‏:‏ أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السلام عن آخرهم، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏ كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غافلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏ وأما إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالاً ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ‏.‏

نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقاً للمقام، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارض وَمَنْ عَلَيْهَا‏}‏ لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالاً ظاهراً وباطناً دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه ‏{‏وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً‏.‏ وقرأ الأعرج ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بالتاء الفوقية‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وعيسى بالياء التحتية مبنياً للفاعل، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1‏]‏ هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به‏:‏ إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السلام وشيخوخته وعجزه، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد، والإشارة في القصتين إجمالاً إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال‏.‏ وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا‏.‏ وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليها السلام‏:‏ اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك أظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السلام ببراءتها، وذكر أنه عليه السلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى عَبْدُ الله‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ وذلك لما قلوا من أنه لا يدعى أحد بعبد الله إلا إذا صار مظهراً لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل، وجعل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏آتانى الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ الخ كالتعليل لهذه الدعوى‏.‏ وذكروا أن العبد مضافاً إلى ضميره تعالى أبلغ مدحاً مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن مرادهم أن العبد مضافاً إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم ك ‏{‏عبده زكريا‏}‏ وإلا فدعوى الاختصاص لا تتم فليتدبر‏.‏

وذكر ابن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 32‏]‏ إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر‏}‏ عطف على ‏{‏أَنذَرَهُمْ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 39‏]‏ عند أبي السعود، وقيل‏:‏ على اذكر السابق، ولعله الظاهر ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ أي هذه السورة أو في القرآن ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏ وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في «الكشاف»‏:‏، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل‏.‏

ويقال على القول الأول في العطف‏:‏ إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السلام فإنهم ينتمون إليه صلى الله عليه وسلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً‏}‏ أي ملازم الصدق لم يذكب قط ‏{‏نَّبِىٍّ‏}‏ استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعاً بين الوصفين‏.‏

ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق، وقيل‏:‏ الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، وفي «الكشاف» الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 37‏]‏ أو كان بليغاً في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى‏.‏

وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة، وقد ألم بذلك الراغب، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في «الكشف» من الأغلاط فتأمل، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق، وأيد بأنه قرىء ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادقا‏}‏ وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس‏.‏

والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي «البحر» أن بدلية إذ من ‏{‏إبراهيم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏ تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل‏:‏ إذ ظرف لكان وهو مبني على إن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل‏:‏ ظرف لـِ ‏{‏نبياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏ أي منبىء في وقت قوله‏:‏ ‏{‏لاِبِيهِ‏}‏ وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل‏:‏ ظرف لـِ ‏{‏صديقاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏، وفي «البحر» لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأى الكوفيين، وفيه أن ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء‏.‏

وقيل ظرف لصديقاً نبياً وظاهره أنه معمول لهما معاً، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مراراً فتذكر‏.‏

‏{‏يَا أَبَت‏}‏ أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذاً كقوله‏:‏ يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل‏:‏ الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏يا أبت‏}‏ بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله ‏{‏واأبت‏}‏ بوا بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السلام بذلك استعطافاً له‏.‏

وأخرج أبو نعيم‏.‏ والديلمي عن أنس مرفوعاً حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بماسمى إبراهيم عليه السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز ‏{‏ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ‏}‏ ثناءك عليك عند عبادتك له وجؤارك إليه ‏{‏وَلاَ يَبْصِرُ‏}‏ خضوعك وخشوعك بين يديه أولاً يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أولياً، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ‏{‏وَلاَ يُغْنِى‏}‏ أي لا يقدر على أن يغني ‏{‏عَنكَ شَيْئاً‏}‏ من الأشياء أو شيئاً من الاغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية‏.‏ ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناف ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والانعام العام الخالق الرازق المحيء المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حياً مميزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضر لكن كان ممكناً لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر‏.‏ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظاً من العلم الإلهي مستقلاً بالنظر السوي مصدراً لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال‏:‏ ‏{‏فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منحياً عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جَاءنِى‏}‏ ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله‏.‏ وقيل‏:‏ العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها‏.‏ وقيل‏:‏ العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان‏}‏ فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً‏}‏ تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته‏.‏ ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن‏.‏ وفيه أيضاً إشارة إلى كمال شناعة عصيانه‏.‏ وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير‏.‏

وقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏عَصِيّاً ياأبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن‏}‏ تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف‏.‏ ومن هنا قيل‏:‏ إن في اختياره مجاملة‏.‏ وحمله الفراء‏.‏ والطبري على العلم وليس بذاك‏.‏ وتنوين ‏{‏عَذَابِ‏}‏ على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 14‏]‏ ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه‏.‏

واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال‏:‏ كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ انتهى، وفي «الكشف» أن الحمل على التفخيم ‏{‏فِى عَذَابِ‏}‏ كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال ‏{‏مّنَ الرحمن‏}‏ لقوله أولاً ‏{‏كَانَ للرحمن عَصِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 44‏]‏ وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أضياً رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة‏.‏ الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً‏}‏ أي قريناً تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم‏.‏ وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحياناً من الشفقة أيضاً كما قيل‏:‏

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحياناً على من يرحم

وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى، ويكفى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق‏.‏ والمس وإن كان مشعراً بالقلة عند الجلة لكن قالوا‏:‏ إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوب مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين‏.‏ وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه ههنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون ‏{‏فَتَكُونُ‏}‏ الخ مترتباً على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة‏.‏ والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم‏.‏ ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئاً آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والأصل إني أخاف أن تكون ولياً للشطان أي تابعاً له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل‏؟‏ قال مصراً على عناده مقابلاً الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة‏:‏ ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ اختار الزمخشري كون ‏{‏راغب‏}‏ خبراً مقدماً ‏{‏الحق وَأَنتَ‏}‏ مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب‏.‏ وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن ‏{‏أَنتَ‏}‏ فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين ‏{‏أَرَاغِبٌ‏}‏ ومعموله وهو ‏{‏عَنْ الِهَتِى‏}‏ بأجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن ‏{‏عَنْ‏}‏ متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب‏.‏

وقال «صاحب الكشف»‏:‏ المبتدأ ليس أجنبياً من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحاً‏.‏ ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القيا، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبهاً له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل‏:‏ أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدا بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد‏.‏ وأجاب الشمني بأن زيداً في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ‏}‏ تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن، وقيل‏:‏ باللسان والمراد لأشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس‏.‏ وعن السدي‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرحمنك وليس بذاك ‏{‏واهجرنى‏}‏ عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني وارتكني وإليك ذهب الزمخشري‏.‏

ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المجذور‏.‏

ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الاخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس ‏{‏مَلِيّاً‏}‏ أي دهراً طويلاً عن الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وجماعة، وقال السدي‏:‏ أبداً وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل‏:‏

فتصدعت صم الجبال لموته *** وبكت عليه المرملات ملياً

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطولاً ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجراً ملياً، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالماً سوياً والمراد قادراً على الهجر مطيقاً له وهو حينئذ حال من فاعل ‏{‏اهجرني‏}‏ أي اهجرني ملياً بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، وكأنه على هذا من تملي بكذا تمتع به ملاوة من الدهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ استئناف كما سلف ‏{‏سلام عَلَيْكَ‏}‏ توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك، وهو نظير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين‏}‏ في قوله، وقيل‏:‏ هو تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏ الآية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ الآية، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ‏"‏ وقرىء ‏{‏سَلاَماً‏}‏ بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي‏}‏ أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الايمان كما يلوح به تعليل قوله‏:‏ ‏{‏واغفر لاِبِى‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏ كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله‏:‏ ربي اهده إلى الايمان وأخرجه من الضلال‏.‏

والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه كما أنه لا رب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا تبين له عليه السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارق استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولي قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبي‏:‏ إنه تعالى بين للمؤمنين إن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏ ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه ‏{‏لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم وَلاَ أولادكم يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 3‏]‏ ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء *مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ‏}‏ إلى قوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولاتبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى‏.‏

واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبين كان كاستغفار إبراهيم عليه السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للايمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الآية نزل في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلاً وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض استغفاره عليه الصلاة والسلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضاً أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الايمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلى الله عليه وسلم بل وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر‏.‏

وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله‏:‏ ‏{‏واغفر لاِبِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏ لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ ثم قال‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ الذي منع من الاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السلام ‏{‏لاَسْتَغْفِرَنَّ‏}‏ لك في آية ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ الخ عما وجبت فيه الاسوة ولو كان بشرط الايمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره ‏{‏وَعَدَهَا أَبَاهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ بالباء الموحدة، قال في «الكشف»‏:‏ واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السلام كان منكراً بل إنما هو منكر علينا لورود السمع‏.‏

واعترض «صاحب التقريب» بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت في الأسوة بدل عما وجبت الخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب‏.‏

والجواب أن جعله مستنكراً ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسى به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخراً‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 6‏]‏ كما تقرر في «الأصول»‏.‏

والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السلام يدل على أنه ليس منكراً في نفسه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الخ يدل على أنه الآن منكر سمعاً وأنه كان مستنكراً في زمن إبراهيم عليه السلام أيضاً بعدما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل أنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل‏:‏ إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير‏.‏

واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السلام بعدما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام فعله لعمه أبي طالب‏.‏ وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للايمان مما لا محذور فيه عقلاً ونقلاً وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلاً مما لا مساغ له عقلاً ونقلاً، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين، وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالايمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثاً مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل‏.‏

واستدل على جواز ذلك عقلاً بقوله صلى الله عليه وسلم لعمه‏:‏ ‏"‏ لا أزال أستغفر لك ما لم أنه ‏"‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الآية، وحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ على معنى من بعدما ظهر لهم أنهم ماتوا كفاراً والتزم القول بنزول قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه بعد العلم بموته كافراً وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام ولوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً‏}‏ بليغاً في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه‏.‏ والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ‏}‏ الظاهر أنه عطف على ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏ والمراد أتباعد عنك وعن قومك ‏{‏وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي‏.‏

يروى أنه عليه السلام هاجر إلى الشام، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا‏.‏ وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور ‏{‏وادعوا رَبّى‏}‏ أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولاً لأن ذلك أوفق بقول أبيه ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏ مع قوله فيما سبق‏:‏ ‏{‏ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 42‏]‏ الخ، وعبر ثانياً بالدعاء لأنه أظهر في الاقبال المقابل للاعتزال‏.‏

وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقاً أو ما حكاه سبحانه في سورة الشعراء وهو قوله‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 83‏]‏ وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏ حسبما يساعده السياق والسباق ‏{‏عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا‏}‏ خائباً ضائع السعي‏.‏ وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم‏.‏ وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ بالمهاجرة إلى ما تقدم ‏{‏وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة‏.‏ والمشهور أن أول ما وهب له عليه السلام من الأولاد إسماعيل عليه السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏ وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحق عليه السلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السلام‏.‏

ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أو لو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه السلام بفضله على الانفراد‏.‏ وروى أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حران وتزوج سارة وولدت له إسحق وولد لاسحق يعقوب‏.‏ والأول هو الأقرب الأظهر ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ أي كل واحد من إسحق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه السلام وهو مفعول أول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم ‏{‏جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ لا بعضهم دون بعض، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في ‏{‏كَلاَّ‏}‏ كون إبراهيم عليه السلام نبياً قبل الاعتزال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا‏}‏ قال الحسن‏:‏ النبوة‏.‏

ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الحرمة التي يختص بها من يشاء‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هي المالي والولد‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكتاب والأظهر أنه عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً‏}‏ تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏ وزيادة على ذلك‏.‏ والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم‏.‏ ويطلق على الرسالة الرائعة كما في قول أعشى باهلة‏:‏

إني أتتني لسان لا أسر بها *** ومنه قول الآخر‏:‏

ندمت على لسان كان مني *** وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وإن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الاعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب موسى‏}‏ قيل قدم ذكره على إسمعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ تعجيل لاستجلال أهل الكتاب بعدما فيه استجلاب العرب‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً‏}‏ موحداً أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه‏.‏

وقرأ الكوفيون‏.‏ وأبو رزين‏.‏ ويحيى‏.‏ وقتادة ‏{‏مُخْلِصاً‏}‏ بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً‏}‏ مرسلاً من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما يشاء من الأحكام ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ رفع القدر على كثير الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة‏.‏ ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبىء أي المنبىء عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى» لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه‏.‏ والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك الاحتمال‏.‏ ووجه الاتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأتبأهم عنه سبحانه‏.‏

واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معناهما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبياً لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وناديناه مِن جَانِبِ الطور الايمن‏}‏ الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏جَانِبِ الطور الايمن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 80‏]‏ بالنصب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار‏.‏ والمراد به يمين موسى عليه السلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة‏.‏ ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضاً أي من جانبه الميمون المبارك‏.‏

وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأولى أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض‏:‏ إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل‏:‏ إن المراد ناديناه مقبلاً من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الاخبار ما ينادي على خلافه ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً‏}‏ تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، ‏{‏ونجيا‏}‏ فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجياً، وقال غير واحد، مرتفعاً على أنه من النجو وهو الارتفاع‏.‏

فقد أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقاً مختصاً بنبينا صلى الله عليه وسلم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً‏}‏ بصدقه وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا‏}‏ أي من أجل رحمتنا له ‏{‏أَخَاهُ‏}‏ أي معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته بقوله ‏{‏واجعل لي وزيراً من أهلي هرون أخي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 29، 30‏]‏ لا نفسه عليه السلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول ‏{‏وَهَبْنَا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هارون‏}‏ عطف بيان له، وقوله سبحانه ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون ‏{‏أَخَاهُ‏}‏ بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسماً مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفاً فإبدال الاسم من الحرم مما لم يوجد في كلامهم، وقيل‏:‏ التقدير وهبنا له شيئاً من رحمتنا فأخاه بدل من شيئاً المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولاً

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب إسماعيل‏}‏ الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلاً، وقيل‏:‏ إنه إسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد‏}‏ تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك‏.‏

وقد جاء في بعض الاخبار أنه وعد رجلاً أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولاً فلما جاءه قال له‏:‏ ما برحت من مكانك فقال‏:‏ لا والله ما كنت لأخلف موعدي، وقيل‏:‏ غاب عنه اثني عشر يوماً، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يوماً وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضاً عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه؛ وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ فوفى‏.‏

وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه‏:‏ لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور‏.‏

‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا‏:‏ إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضاً والحق أنه ليس بلازم، وقيل‏:‏ إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السلام إليهم ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة‏}‏ اشتغالاً بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏‏.‏ ‏{‏وأمُرْ أهْلَكَ بالصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ ‏{‏قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ المراد بأهله أمته لكون النبي بمنزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل‏:‏ المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكى أنه عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة ليلاً والصدقة نهاراً، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها ‏{‏وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً‏}‏ لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏مرضوا‏}‏ من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا‏:‏ أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏مَرْضِيّاً واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ‏}‏ هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في زالمستدرك» عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث ابن آدم عليه السلام، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السلام، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والجساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في «البحر» وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكان خياطاً وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل، وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤا فأبوا وأهلكوا والمعول عليه الأول وإن روى القول بأنه الياس بن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقاً من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربياً مشتقاً من ذلك يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلقب به لكثرة دراسته ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً‏}‏ هو كما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي‏.‏ وأبو مسلم، وعن أنس‏.‏ وأبي سعيد الخدري‏.‏ وكعب‏.‏ ومجاهد السماء الرابعة، وعن ابن عباس‏.‏ والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره‏:‏

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا *** وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا

قال عليه الصلاة والسلام له‏:‏ إلى أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏ قال إلى الجنة يا رسول الله قال‏:‏ أجل إن شاء الله تعالى‏.‏

وعن قتادة أنه عليه السلام يعبد الله تعالى مع الملائكة عليهم السلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حيث حيث رفع، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ‏.‏ وسبب رفعه على ما روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال‏:‏ يا رب إني مشيت يوماً في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال‏:‏ يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال‏:‏ إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال‏:‏ يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن الله تعالى له بذلك فرفعه، وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن إدريس كان نبياً تقياً زكياً وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهداً وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في الله تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له‏:‏ يا نبي الله إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه‏:‏ إنك لن تقوى على صحبتي قال‏:‏ بلى أني أرجو أن يقويني الله تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت‏:‏ يا نبي الله إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فافطرنا عليها فقال له‏:‏ لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا الله تعالى برزق فلما أمسى أتاه الله تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال‏:‏ لا والذي أكرمك بالنبوة ما اشتهى فأكل وحده وقاما جميعاً إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولاً فلما أمسيا أتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولاً فقال له إدريس‏:‏ لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال‏:‏ أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال‏:‏ أمرت في بأمر فقال‏:‏ لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له‏:‏ إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال‏:‏ بلى إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له‏:‏ يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسألكها فقال‏:‏ سلني يا نبي الله فقال‏:‏ أحب أن تذيقني الموت ثم ترد على روحي فقال‏:‏ ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى إليه فقال له ملك الموت‏:‏ يا نبي الله كيف وجدت الموت‏؟‏ قال‏:‏ أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا‏:‏ أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي الله تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت‏:‏ اغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول‏:‏ يا نبي الله تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت‏؟‏ قال‏:‏ أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال‏:‏ يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت‏:‏ أخرج يا نبي الله تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك الله عز وجل مع الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال‏:‏ ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له‏:‏ ما الذي تخاصمني به يا نبي الله تعالى فقال إدريس‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 581‏]‏ وقد ذقته وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏ وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة ‏{‏وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 84‏]‏ أفأخرج من شيء ساقه الله عز وجل إلي فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية»

الحديث والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء‏:‏

فالنار يعلوها الدخان وربما *** يعلو الغبار عمائم الفرسان

وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسي لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية؛ وتعقب بأن فيه نظراً لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله‏:‏

وكن في مكان إذا ما سقطت *** تقوم ورجلك في عافية

فتأمل

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ أي بفنون النعم الدينية الدنيوية حسبما أشير إليه مجملاً خبره على ما استظهره في البحر، والحصر عند القائل به إضافي بالنسبة إلى غير الأنبياء الباقين عليهم الصلاة والسلام لأنهم معروفون بكونهم منعماً عليهم فينزل الانعام على غيرهم منزلة العدم، وقيل‏:‏ يقدر مضاف أي بعض الذين أنعم الله عليهم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ النبيين‏}‏ بيان للموصول، وقيل‏:‏ من تبعيضية بناءً على أن المراد أولئك المذكورون الذين أنعم الله تعالى عليهم بالنعم المعهودة المذكورة هنا فيكون الموضوع والمحمول مخصوصاً بمن سمعت وهم بعض النبيين وعموم المفهوم المراد من المحمول في نفسه ومن حيث هو في الذهن لا ينافي أن يقصد به أمر خاص في الخارج كما لا يخفى؛ واختير حمل التعريف في الخبر عن الجنس للمبالغة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، والمحذور مندفع بما ذكرنا و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ‏}‏ قيل بيانية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق والمجرور بدل من المجرور بإعادة الجار وهو بدل بعض من كل بناء على أن المراد ذريته الأنبياء وهي غير شاملة لآدم عليه السلام ولا يخفى بعده، وقيل‏:‏ هي تبعيضية لأن المنعم عليه أخص من الذرية من وجه لشمولها بناءً على الظاهر المتبادر منها غير من أنعم عليه دونه ولا يضر في ذلك كونها أعم منها من وجه لشموله آدم والملك‏.‏ ومؤمني الجن دونها ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ أي ومن ذرية من حملناهم معه عليه السلام خصوصاً وهم من عدا إدريس عليه السلام لما سمعت من أنه قبل نوح‏.‏ وإبراهيم عليه السلام كان بالإجماع من ذرية سام بن نوح عليهما السلام ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم‏}‏ وهم الباقون‏.‏

‏{‏وإسراءيل‏}‏ عطف على ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام وكان منهم موسى وهارون وزكريا‏.‏ ويحيى‏.‏ وعيسى‏.‏ عليهم السلام، وفي الآية دليل على أن أولاد البنات من الذرية لدخول عيسى عليه السلام ولا أب له، وجعل إطلاق الذرية عليه بطريق التغليب خلاف الظاهر ‏{‏وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ‏}‏ ومن للتبعيض أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واخترناهم للنبوة والكرامة‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنَ النبيين‏}‏‏.‏ ومن للبيان وأورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال‏:‏ المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِنَّ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً‏}‏ استئناف مساق لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه‏.‏

وقيل‏:‏ خبر بعد خبر لاسم ازشارة، وقيل‏:‏ إن الكلام انقطع عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإسراءيل‏}‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ هَدَيْنَا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وهذه الجملة صفة لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم إذا تتلى عليهم الخ، ونقل ذلك عن أبي مسلم، وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ نحن عنينا بهؤلاء القوم، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جداً وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التمييز، وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون الموصول صفة لاسم الإشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الإشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك امدح لهم، ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار، وسجداً جمع ساجد وكذا بكيا جمع باك كشاهد وشهود وأصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في «البحر» وهو مخالف لما في «القاموس» وغيره، وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوساً مصدر جلس وهو خلاف الظاهر، نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا في البكاء‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال‏:‏ هذا السجود فأين البكى، وزعم ابن عطية أن ذلك متعين في قراءة عبد الله‏.‏ ويحيى‏.‏ والأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏بكيا‏}‏ بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع، وظاهر أنه لا يعين المصدرية‏.‏ ونصب الاسمين على الحالية من ضمير ‏{‏الرحمن خَرُّواْ‏}‏ أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج، والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماوية سواء كان مشتملاً على ذكر السجود أم لا وسواء كان متضمناً لذكر العذاب المنزل بالكفار أم لا، ومن هنا استدل بالآية على استحباب السجود والبكاء عند تلاوة القرآن‏.‏

وقد أخرج ابن ماجه‏.‏ وإسحاق بن راهويه‏.‏ والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ‏"‏ أتلوا القرآن وأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ‏"‏ وقيل‏:‏ المراد من السجود سجود التلاوة حسبما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصوصة متضمنة لذكر السجود، وقيل‏:‏ المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جداً، وقيل‏:‏ المراد منه الخشوع والخضوع، والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه، ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا‏:‏ بعيد، وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فههنا يقول‏:‏ اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وشبل بن عباد‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة‏.‏ وقتيبة في رواية‏.‏ وورش في رواية النحاس‏.‏ وابن ذكوان في رواية التغلبي ‏{‏يتلى‏}‏ بالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ولوجود القاصل‏.‏