فصل: تفسير الآية رقم (59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ أي جاء بعدهم عقب سوء فإن المشهور في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده، وقال أبو حاتم‏:‏ الخلف بالسكون الأولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولداً كان أو غيره، وقال النضر بن شميل‏:‏ الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير، وقال ابن جرير‏:‏ أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يعكس، وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

‏{‏أضَاعُوا الصَّلاةَ‏}‏ وقرأ عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو رزين العقيلي‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن مقسم ‏{‏الصلوات‏}‏ بالجمع وهو ظاهر، ولعل الأفراد للاتفاق في النوع، وإضاعتها على ما روي عن ابن مسعود‏.‏ والنخعي‏.‏ والقاسم بن مخيمرة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وعمر بن عبد العزيز تأخيرها عن وقتها، وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، واختار الزجاج أن إضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره، وقيل‏:‏ إقامتها في غير جماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أن إضاعتها تركها، وقيل‏:‏ عدم اعتقاد وجوبها، وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لا قطع، واستظهر أنها عليه في قوم مسلمين بناءً على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال‏:‏ المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر، وعلى ما قبلهما في قوم مسلمين قولاً واحداً‏.‏

والمشهور عن ابن عباس‏.‏ ومقاتل أنها في اليهود، وعن السدي أنها فيهم وفي النصارى، واختير كونها في الكفرة مطلقاً لما سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً وعليه بني حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السلام الآتي، وكونها في قوم مسلمين من هذه الأمة مروى عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وعطاء‏.‏ وغيرهم قالوا‏:‏ إنهم يأتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة كالأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع، وفي «البحر» ‏{‏الشهوات‏}‏ عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، وعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق‏.‏ والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحوهما، وعن علي كرم الله تعالى وجهه من بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ أخرج ابن جرير‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعاً أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً ثم تنتهي إلى غي وأثام، ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون‏.‏

وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الغي نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وحكى الكرماني أنه آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغي السوء، ومن ذلك قول مرقش الأصغر‏:‏

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

وعن ابن زيد أنه الضلال وهو المعنى المشهور، وعليه قيل المراد جزاء غي‏.‏ وروي ذلك عن الضحاك واختاره الزجاج، وقيل‏:‏ المراد غياً عن طريق الجنة‏.‏ وقرىء فيما حكى الأخفش ‏{‏يُلْقُون‏}‏ بضم الياء وفتح اللام وشد القاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ استثناء منقطع عند الزجاج‏.‏ وقال في «البحر»‏:‏ ظاهره الاتصال، وأيد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لا يقال إلا لمن كان كافراً إلا بحسب التغليظ، وحمل الإيمان على الكامل خلاف الظاهر، وكذا كون المراد إلا من جمع التوبة والإيمان، وقيل‏:‏ المراد من الإيمان الصلاة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ويكون ذكره في مقابلة إضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلة اتباع الشهوات ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ‏{‏يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ بموجب الوعد المحتوم، ولا يخفى ما في ترك التسويف مع ذكر أولئك من اللطف‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو بكر‏.‏ ويعقوب ‏{‏يَدْخُلُونَ‏}‏ بالبناء للمفعول من أدخل‏.‏ وقرأ ابن غزوان عن طلحة «سيدخلون» بسين الاستقبال مبنياً للفاعل ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً‏}‏ أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً أو لا ينقصون شيئاً من النقص، وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم‏.‏ واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة‏.‏ وأجيب بأن المراد ‏{‏يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطاً لهذا الدخول لا للدخول مطلقاً، وأيضاً يجوز أن يكون شرطاً لدخول جنة عدن لا مطلق الجنة، وقيل هو شرط لعدم نقص شيء من ثواب الأعمال وهو كما ترى، وقيل غير ذلك‏.‏ واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لا يكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنة‏.‏ وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من ‏{‏الجنة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 60‏]‏ بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناءً على ما قيل‏:‏ إن ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ علم لإحدى الجنات الثمان كعلمية بنات أوبر‏.‏ وقيل‏:‏ إن العلم هو جنة عدن إلا أنه أقيم الجزء الثاني بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان فكان الأصل جنات جنة عدن‏.‏ والذي حسن هذه الإقامة أن المعتبر علميته في المنقول الإضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحده كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصلة‏.‏ وفي «الكشف» إذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف إليه جعلوا المضاف إليه في نحوه مقدر العلمية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الإضافة إلى الأعلام والكنى فإذا أضافوا إلى غيرها أجروه مجراها كأبي تراب ألا ترى أنهم لا يجوزون إدخال اللام في ابن داية وأبي ترابي ويوجبونه في نحو امرىء القيس وماء السماء كل ذلك نظراً إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى آخر ما فيه‏.‏

ويدل على ذلك أيضاً منعه من الصرف في بنات أوبر‏.‏ وأبي قترة‏.‏ وابن داية إلى غير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية، وأما على الثاني فللإضافة المذكورة وإن لم يكن عدن في الأصل علماً ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به‏.‏ واعتبار كون عدن قبل التركيب علماً لإحدى الجنات يستدعي أن تكون الإضافة في ‏{‏جَنَّةُ عَدْنٍ‏}‏ من إضافة الأعم مطلقاً إلى الأخص بناءً على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقاً بل منها حسن كشجر الأراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كإنسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط‏.‏

وجوز أن يكون «عدن» علماً للعدن بمعنى الإقامة كسحر علم للسحر وأمس للأمس وتعريف «جنات» عليه ظاهر أيضاً، وإنما قالوا ما قالوا تصحيحاً للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفة وهو على رأي القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ‏}‏ وجوز أبو حيان اعتبار ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال‏:‏ إن دعوى إن عدنا علم لمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء‏.‏ وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه‏.‏ وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع‏.‏ ومذهب البصريين جواز الإبدال وإن لم تكن النكرة موصوفة «1» وقال أبو علي‏:‏ يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح، وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الإبدال اه بأدنى زيادة‏.‏

وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق‏.‏ وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف‏.‏ ولعل أبا حيان لا يسلم ذلك‏.‏ ثم إنه جوز كون ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل كل‏.‏ وكذا جوز كونه عطف بيان‏.‏ وجملة ‏{‏لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 60‏]‏ على وجهي البدلية‏.‏ والعطف اعتراض أو حال‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وعيسى بن عمر‏.‏ والأعمش‏.‏ وأحمد بن موسى عن أبي عمرو ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بالرفع، وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات، وغيره على أنها مبتدأ والخبر الموصول‏.‏ وقرأ الحسن بن حي‏.‏ وعلي بن صالح ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بالنصب والإفراد ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله‏.‏

وقرأ اليماني‏.‏ والحسن في رواية‏.‏ وإسحاق الأزرق عن حمزة ‏{‏جَنَّةُ عَدْنٍ‏}‏ بالرفع والإفراد والعائد إلى الموصول محذوف أي وعدها الرحمن، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكما سعة رحمته سبحانه وتعالى، والباء في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو ‏{‏مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها إياهم بسبب تصديق الغيب الإيمان به، وقيل‏:‏ هي صلة ‏{‏عِبَادِهِ‏}‏ على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الرحمن، وجوز كون الضمير للشأن ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ‏}‏ أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روي عن ابن جريج أو موعوده كائناً ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً كما قيل، وجوز إبقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة‏.‏

والتعبير بكان للإيذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك ‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ أي يأتيه من وعد له لا محالة، وقيل‏:‏ ‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ مفعول بمعنى فاعل أي آتيا، وقيل‏:‏ هو مفعول من أتى إليه إحساناً أي فعل به ما يعد إحساناً وجميلاً والوعد على ظاهره‏.‏ ومعنى كونه مفعولاً كونه منجزاً لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ فضول كلام لا طائل تحته بل هو جار مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير‏.‏ والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن، وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب، والمراد لا يتسابون والتعميم أولى ‏{‏إِلاَّ سلاما‏}‏ استثناء منقطع، والسلام إما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاماً سالماً من العيب والنقص، وجوز أن يكون متصلاً وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى‏.‏ والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة، وقيل‏:‏ اتصال الاستثناء على أن معنى السلام الدعاء بالسلامة من الآفات وحيث أن أهل الجنة أغنياء عن ذلك إذ لا آفة فيها كان السلام لغواً بحسب الظاهر وإن لم يكن كذلك نظراً للمقصود منه وهو الإكرام وأظهار التحابب، ولذا كان لائقاً بأهل الجنة‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار، أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال‏:‏ كانت العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم فأنزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده، وروي نحو ذلك عن الحسن، وقيل‏:‏ المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» من طريق أبان عن الحسن‏.‏ وأبي قلابة قالا‏:‏ ‏"‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هل في الجنة من ليل‏؟‏ قال‏:‏ وما هيجك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ فقلت‏:‏ الليلة من البكرة والعشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السلام ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً‏}‏ استئناف جىء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الإشارة مبتدأ ‏{‏والجنة‏}‏ خبر له والموصول صفة لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها، وبذلك قرأ الأعمش‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ وقتادة‏.‏ ورويس‏.‏ وحميد‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو ‏{‏التى نُورِثُ‏}‏ بفتح الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقياً من ثمرة تقواه ونمتعه بها كما نبقى على الوارث مال مورثه ونمتعه به فالايراث مستعار للإبقاء، وإيثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه أتم أنواع التمليك من حيث أنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال، وقيل‏:‏ يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال‏:‏ ليس من أحد الأوله في الجنة منزل وأزواج فإذا كان يوم القيامة ورث الله تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ‏}‏ الآية، ولا يخفى أن هذا إن صح فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه‏:‏ إنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على أنها كلها كذلك ولأن الايراث ينبىء عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفي في الإيراث كون الموروث كان موجوداً لكن بشرط التقوى بناء على ما ذهب إليه بعضهم في قولع تعالى‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 61‏]‏ حيث قال‏:‏ المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن اتقي مشروط بالإيمان والتوقى، نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم، والمراد من التقي من آمن وعمل صالحاً على ما قيل، ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقاً، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود بن أبي هند أنه الموحد فتذكر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏ حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه، فقد روي أنه احتبس عنه صلى الله عليه وسلم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون‏:‏ إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال‏:‏ إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي‏.‏ وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السلام تثبيتاً له صلى الله عليه وسلم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الإخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وإن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفاً له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ وفيه انك لا ينبغي أن تكثرت بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيداً، وعطف عليه مقالة الكفار بياناً لتباين ما بين المقالتين ومعا عليه الملك المعصوم وازنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام‏:‏ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا‏؟‏ فنزلت ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏» لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضاً واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون النزول متكرراً نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن التقدير هذا، وقال جبريل‏:‏ وما نتنزل الخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا محصل له‏.‏ وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السلام أولاً ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ وهو قول نازل عن درجة القبول جداً، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله‏:‏

فلست لإنسى ولكن لملأك *** تنزل من جو السماء يصوب

إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر، والمعنى ما نتنزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه، وقرأ الأعرج دوما يتنزل‏}‏ بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل‏:‏ إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلاً‏:‏ ‏{‏‏}‏ بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل‏:‏ إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلاً‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا‏}‏ ما قدامنا من الزمان المستقبل ‏{‏وَمَا خَلْفَنَا‏}‏ من الزمان الماضي ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل، وقال ابن جريج‏:‏ ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مذة الحياة، وقال أبو العالية‏:‏ ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير‏.‏ وقتادة ومقاتل‏.‏ وسفيان، وقال الأخفش‏:‏ ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فلما آت على هذه الأقوال من الزمان‏.‏

وقال صاحب الفنيان‏:‏ ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل‏:‏ ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل‏:‏ ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالما آت من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل‏.‏

وقال البغوي‏:‏ المراد له علم ما بين أيدينا الخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى‏:‏

واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكاً وعلماً ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ أي تاركاً أنبياءه عليهم السلام ويدخل صلى الله عليه وسلم في ذلك دخولاً أولياً أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل‏:‏ النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لاحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإِنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جلشأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع أن الأول هو الأوفق لسبب النزول‏.‏

ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيراً ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه صلى الله عليه وسلم والاشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم‏.‏ وابن بحر‏:‏ أول الآية إلى ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذلك‏}‏ من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ تقرير من جهته تعالى لقولم أي وما كان سبحانه تاركاً لثواب العاملين أو ما كان ناسياً لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر خلاف الظاهر‏.‏ وأيضاً مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيداً لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا «وما كان ربك نسيا» إذ لم يقل ربهم‏.‏ وأيضاً لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه‏.‏ وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته، و«رب» خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات الخ أو بدل من ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 64‏]‏ والفاء في قوله سبحانه ‏{‏فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ‏}‏ لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وقيل‏:‏ من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسلام أو غير ناس لأعمال العاملين، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الالة فاعبده الخ فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بابطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة‏.‏

وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏رَبّ السموات‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏فاعبده‏}‏ والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما رتى‏.‏

وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 64‏]‏ من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون ‏{‏رَبّ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الابدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاعبده‏}‏ الخ عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا بلا شك، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم كما في الكشف فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصطبر عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز‏:‏ اصطبر لقرنك أي أثبت له فيما يورد عليك من شداته، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر‏.‏

‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وقتادة وأصله الشريك في الاسم، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة، وقال ابن عطية‏:‏ السمى على هذا بمعنى المسامى والمضاهي، وأبقاه بعضهم على الأصل، واستظهر أن يراد ههنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السموات والأرض، وقيل‏:‏ المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا، وقيل‏:‏ المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً؛ وقيل‏:‏ هو الشريك في اسم الاله، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك قال‏:‏ السمى الولد وأنشد له قول الشاعر‏:‏

أما السمى فأنت منه مكثر *** والمال مال يغتدي ويروح

وروي ذلك أيضاً عن الضحاك، وأياً ما كان فالمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده، والجملة تقرير لوجوب عبادته عز وجل وإن اختلف الاعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر‏.‏

وقرأ الاخوان‏.‏ وهشام‏.‏ وعلي بن نصر‏.‏ وهارون كلاهما عن أبي عمرو‏.‏ والحسن‏.‏ والأعمش والأعمش وعيسى‏.‏ وابن محيصن ‏{‏هتعلم‏}‏ بادغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي‏:‏

فذرذا ولكن هتعين متيما *** على ضوء برق آخر الليل ناصب

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الإنسان إِذَا مَا *مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ أخرج ابن النذر عن ابن جريج أنها نزلت في العاصي بن وائل، عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ في أبي جهل، وعن الكلبي في أبي بن خلف أخذ عظاماً باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول‏:‏ زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا إن هذا شيء لا يكون أبداً فأل في ‏{‏الإنسان‏}‏ على ما قيل للعهد والمراد به أحد هؤلاء الأشحاص، وقيل‏:‏ المراد بالإنسان جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ يجوز أن تكون أل للجنس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنى الإنسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض أجزائه أو يكون هناك مجاز في الإسناد بأن يسند إلى الكل ما صدر عن البعض كما يقال‏:‏ بنو فلان قتلوا قتيلاً والقاتل واحد منهم، ومن ذلك قوله‏:‏

فسيف بني عبس وقد ضربوا *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

واعترض هذا بأنه يشترط لصحة ذلك الإسناد رضا الباقين بالفعل أو مساعدتهم عليه حتى يعد كأنه صدر منهم، ولا شك أن بقية أفراد الإنسان من المؤمنين لم يرضوا بهذا القول‏.‏ وأجاب بعض مشترطي ذلك للصحة بأن الإنكار مركوز في طبائع الكل قبل النظر في الدليل فالرضا حاصل بالنظر إلى الطبع والجبلة‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكتة يقتضيها مقام الكلام حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا وقد تكون المظاهرة وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا أوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك، وكأن النكتة هنا انه لما وقع بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذا قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منه أوقتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على إنكاره قولاً أو فعلاً انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ لعل الحق أن الإسناد إلى الكل هنا للإشارة إلى قلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي أخبر به الصادق ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ فتأمل، وعبر بالمضارع إما استحضار للصورة الماضية لنوع غرابة، وإما لإفادة الاستمرار التجددي فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور، والهمزة للإنكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ ولم يجوزوا تعلقه بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله، وعد ابن عطية توسط سوف مانعاً من العمل أيضاً، ورد عليه بقوله‏:‏

فلما رأته آمنا هان وجدها *** وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

وغير ذلك مما سمع، ونقل عن الرضى أنه جعل إذاً هنا شرطية وجعل عاملها الجزاء وقال‏:‏ إن كلمة الشرط تدل على لزوم الجزاء للشرط، ولتحصيل هذا الغرض عمل في إذا جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله كالفاء في

‏{‏فَسَبّحْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 98‏]‏ وإن في قولك‏:‏ إذا جئتني فإني مكرم ولام الابتداء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏، ومختار الأكثرين أن إذا هنا طرفية، وما ذكره الرضى ليس بمتفق عليه، وتحقيق ذلك في كتب العربية، وفي الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه أي ائذا ما مت وصرت رميماً لسوف الخ‏.‏

واللام هنا لمجرد التوكيد، ولذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، وهذا على القول بأنه إذا دخلت المضارع خلصته للحال، وأما على القول بأنها لا تخلصه فلا حاجة إلى دعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في ‏{‏إِذَا مَا‏}‏ للتوكيد أيضاً‏.‏ والمراد من الإخراج الإخراج من الأرض أو من حال الفناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الانتقال من حال إلى أخرى، وإيلاء الظرف همزة الإنكار دون الإخراج لأن ذلك الإخراج ليس بمنكر مطلقاً وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الإنكار، والأصل في المنكر أن يلي الهمزة، ويجوز أن يكون المراد إنكار وقت ذلك بعينه أي إنكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعني أن هذا الوقت لا يكون موجوداً وهو أبلغ من إنكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد إنكاره بطريق برهاني، وبعضهم لم يقدر معطوفاً واعتبر زمان الموت ممتدا لا أول زهوق الروح كما هو المتبادر، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى جميع ذلك لأنهم إذا أحالوه في حالة الموت علم احالته إذا كانوا رفاتاً بالطريق الأولى، وأيا ما كان فلا اشكال في الآية‏.‏

وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه ‏{‏إِذَا‏}‏ بدون همزة الاستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك، وقيل‏:‏ لا تقدير والمراد الأخبار على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏سأخرج‏}‏ بسين الاستقبال وبغير لام، وعلى ذلك تكون إذاً متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح، وفي رواية أخرى عنه ‏{‏لسأخرج‏}‏ بالسين واللام‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏كَمَا أَخْرَجَ‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان‏}‏ من الذكر الذي يراد به التفكر، والأظهار في موضع الاضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان على ما قيل‏.‏ والهمزة للإنكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف معطوف عليه ما بعد والتقدير ههنا أيقول ذلك ولا يذكر ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه، وقيل‏:‏ أي من قبل بعثه ‏{‏وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ أي والحال أنه لم يكن حينئذ موجوداً فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه بإعادة ما عدم منه وقد كان متصفاً بالوجود في وقت على ما اختاره بعض أهل السنة أو بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الاعراض على ما اختاره بعض آخر منهم أيضاً أولى وأظهر فما له لا يذكره فيقه فيما يقع فيه من النكير، وقيل‏:‏ إن العطف على ‏{‏يقول‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ المذكور سابقاً‏.‏ والهمزة لإنكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له، ولا يخل ذلك بصدارتها لأنها بالنسبة إلى جملتها فكأنه قيل، أيجمع بين القول المذكور وعدم الذكر‏:‏ ومحصله أيقول ذلك ولا يذكر أنا خلقناه الخ‏.‏

وقرأ غير واحد من السبعة ‏{‏يُذْكَرِ‏}‏ بفتح الذال والكاف وتشديدهما، وأصله يتذكر فادغم التاء في الذال وبذلك قرى أبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبّكَ‏}‏ اقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتحقيق الأمر بالإشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة والسلام ورفع منزلته ‏{‏لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ أي لنجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم أحياء، وفي القسم على ذلك دون البعث إثبات له على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به بعد بيان إمكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظراً إلى السياق وإليه ذهب ابن عطية‏.‏ وجماعة‏.‏ ولا ينافي ذلك إرادة الواحد من الإنسان كما لا يخفى‏.‏

واستظهر أبو حيان أنه للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم ‏{‏والشياطين‏}‏ معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه‏.‏ روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ووجه ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً على طرز ما قيل في نسبة القول إلى الجنس، وقيل‏:‏ يحسر كل واحد من الناس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك‏.‏ وقد يستأنس له بما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا‏:‏ وإياك يا رسول الله قال‏:‏ وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فاسلم فلا يأمرني إلا بخير» ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً‏}‏ باركين على الركب، وأصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأول ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت احداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فادغمت الياء في الياء وكسرت الجيم اتباعاً لما بعدها‏.‏

وقرأ غير واحد من السبعة بضمها وهو جمع جاث في القراءتين، وجوز الراغب كونه مصدراً نظير ما قيل في بكى وقد مر، ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال إهانة لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن المحاسبة تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضاً ثم يتبرأ بعضهم من بعض، وقال السدى‏:‏ يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إنها عليه مقدرة أيضاً لأن المراد الجثى حول جهنم، ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال‏:‏ إنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسروراً وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم ويجثون كلهم ئم لما يدهمهم من هول المطلق أو لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقاول قبل الوصول إلى الثواب والعقاب، وقيل‏:‏ إنهم يجثون على ركبهم إظهاراً للذل في ذلك الموطن العظيم، ويدل على جثى جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى‏:‏

‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏ لكن سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما هو ظاهر في عدم جثى الجميع من الأخبار والله تعالى أعلم، والحال قيل‏:‏ مقدرة، وقيل‏:‏ غيره مقدرة إلا أنه أسند ما للبعض إلى الكل، وجعلها مقدرة بالنسبة إلى السعداء وغير مقدرة بالنسبة إلى الأشقياء لا يصح، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر ‏{‏جِثِيّاً‏}‏ بجماعات على أنه جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ‏}‏ أي جماعة تشايعت وتعاونت على الباطل أو شاعت وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت ديناً مطلقاً على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم ‏{‏أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً‏}‏ أي نبوا عن الطاعة وعصياناً، وعن ابن عباس جراءة، وعن مجاهد كفرا، وقيل‏:‏ افتراء بلغة تميم، والجمهور على التفسير الأول، وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في ‏{‏جثيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا، والنزع الاخراج كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 108‏]‏ والمراد استمرار ذلك أي إنا نخرج ونفرز من كل جماعة من جماعات الكفر أعصاهم فأعصاهم إلى أن يحاط بهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم وذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب، وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكأنه قيل‏:‏ ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالين ودركاتهم أسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة المظهر مقام المضمر، وفسر بعضهم النزع بالرمي من نزعت السهم عن القوس أي رميته فالمعنى لنرمين فيها الأعصى فالأعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لنحن أعلم بتصليتهم؛ وحمل الآية على البدء بالأشد فالأشد مروى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏.‏

وجوز أن يراد باشدهم عتيا رؤساء الثيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالاً مضلين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الاستمرار والإحاطة‏.‏ وأورد على القول بالعموم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشَدَّ عِتِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ يقتضي اشتراك الكل في العتى بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين، وأجيب عنه بأن ذلك من نسبة ما للبعض إلى الكل والتفضيل على طائفة لا يقتضي مشاركة كل فرد فرد فإذا قلت‏:‏ هو أشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم، وعلى هذا يكون في الآية إيماء إلى التجاوز عن كثير حيث خص العذاب بالأشد معصية، و‏{‏أَيُّهُم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ مفعول ‏{‏ننزعن‏}‏ وهو اسم موصول بمعنى الذي مبني على الضم محله النصب و‏{‏أَشَدَّ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة والعائد المبتدأ و‏{‏على الرحمن‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ متعلق بأشد ‏{‏وعتيا‏}‏ تمييز محول عن المبتدأ، ومن زعم أنه جمع جعله حالا، وجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيالك، ويجوز بعتيا، أما إن كان وصفاً فبالاتفاق، وأما إذا كان مصدراً فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لا سيما إذا كان ظرفاً، وكذا الكلام في ‏{‏ووصى بِهَا‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً‏}‏ فإنه جوز أن يكون الجار للبيان وأن يكون متعلقاً بأولى وأن يكون متعلقاً بصليا، وقد قرىء بالضم والكسر، وجوز فيه المصدرية والوصفية، وهو على الوصفية حال وعلى المصدرية تمييز على طرز ما قيل في ‏{‏عِتِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ إلا أنه جوز فيه أن يكون تمييزاً عن النسبة بين ‏{‏أُوْلِى‏}‏ والمجرور وقد أشير إلى ذلك فيما مر‏.‏

والصلى من صلى النار كرضى وبها قاسى حرها، وقال الراغب‏:‏ يقال صلى بالنار وبكذا أي بلى به، وعن الكلبي أنه فسر الصلى بالدخول، وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود، وليس كل من المعنيين بحقيقي له كما لا يخفى، ثم ما ذكر من بناء أي هنا هو مذهب سيبويه، وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلة لكنها لما لزمت الإضافة إلى المفرد لفظاً أو تقديراً وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلى الأصل في الأسماء وهو الأعراب ولأنها إذا أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى كل وإذا أضيفت إلى معرفة كانت بمعنى بعض فحملت في الإعراب على ما هي بمعناه وعادت هنا عنده إلى ما هو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها إزداد نقصها المعنوي وهو الإبهام والافتقار للصلة بنقص الصلة التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف، ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه‏.‏

قال أبو عمرو الجرمي‏:‏ خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول‏:‏ لأضربن أيهم قائم بالضم، وقال أبو جعفر‏:‏ النحاس ما علمت أحداً من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسألة‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يقول باعراب أي إذا أفردت عن الإضافة فكيف يبنيها إذا أضيفت‏.‏ وقد تكلف شيخنا علاء الدين أعلا الله تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفي بمؤنة نقله، وقد ذكرنا بعضاً منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف‏.‏

نعم يؤيد ما ذهب إليه سيبويه من المفعولية قراءة طلحة بن مصرف‏.‏ ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء‏.‏ وزائدة عن الأعمش ‏{‏أَيُّهُم‏}‏ بالنصب لكنها ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وينبغي إذا كان واقفاً على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ، وقال الخليل‏:‏ مفعول ‏{‏ننزعن‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ موصول محذوف وأي هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم‏:‏ أيهم أشد، وتعقب بأنه لا معنى لجعل ‏{‏النزع‏}‏ لمن يسأل عنه بهذا الاستفهام، وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب أحوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال، وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو مع تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس، نعم مثله في الحذف على ماقيل قول الشاعر‏:‏

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل *** فأبيت لا حرج ولا محروم

وذهب الكسائي‏.‏ والفراء إلى ما قاله الخليل إلا أنهما جعلا الجملة في حل نصب بننزعن، والمراد لننزعن من يقع في جواب هذا السؤال، والفعل معلق بالاستفهام، وساغ تعليقه عندهما لأن المعنى لننادين وهما يريان تعليق النداء وإن لم يكن من أفعال القلوب وإلى ذلك ذهب المهدوي، وقيل‏:‏ لما كان النزع متضمناً معنى الإفراز والتمييز وهو مما يلزمه العلم عومل معاملة العلم فساغ تعليقه‏.‏

ويونس لا يرى التعليق مختصاً بصنف من الأفعال بل سائر أصناف سواء في صحة التعليق عنده، وقيل‏:‏ الجملة الاستفهامية استئنافية والفعل واقع على ‏{‏كُلّ شِيعَةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ على زيادة من في الاثبات كما يراه الأخفش أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة بجعل ‏{‏مِنْ‏}‏ مفعولاً لتأويلها باسم، ثم إذا كان الاستئناف بيانياً واقعاً في جواب من المنزوعون‏؟‏ احتيج إلى التأويل كأن يقال‏:‏ المراد الذين يقعون في جواب ‏{‏أيهم أشد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ أو نحو ذلك، وإذا كانت أي على تقدير الاستئناف ووقوع الفعل على ما ذكر موصولة لم يحتج إلى التأويل إلى أن في القول بالاستئناف عدولاً عن الظاهر من كون الكلام جملة واحدة إلى خلاف الظاهر من كونه جملتين‏.‏

ونقل بعضهم عن المبرد أن ‏{‏أَيُّهُم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ فاعل ‏{‏شِيعَةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ لأن معناه يشيع، والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد، وأي على هذا على ما قال أبو البقاء‏.‏ ونقل عن الرضي بمعنى الذي، وفي «البحر» قال المبرد‏:‏ أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع، والمعنى من الذي تشايعوا أيهم أشد كأنهم يتبادرون إلى هذا‏.‏ ويلزمه أن يقدر مفعولاً لننزعن محذوفاً، وقدر أيضاً في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد، قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن انتهى، وهو خلاف ما نقل أولاً، ولعمري أن ما نسب إلى المبرد أولاً وأخيراً أبرد من يخ، وقيل‏:‏ إن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربي الأحوال، ومن مزيدة والنزع الرمي، وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في أيهم معنى الشرط تقول‏:‏ ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان‏:‏ فعلى هذا يكون التقدير هنا إن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهو كما ترى، والوجه الذي ينساق إليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب إليه سيبويه ومدار ما ذهب إليه في أي من الأعراب والبناء هو السماع في الحقيقة، وتعليلات النحويين على ما فيها إنما هي بعد الوقوع، وعدم سماع غيره لا يقدح في سماعه فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّنكُمْ‏}‏ التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعدما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلاً‏.‏ ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ وجماعة ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ‏}‏ أي وما منكم أحد ‏{‏إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقوله تعالى في فرعون‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏‏.‏

واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخور وهو جحار على تقدير عموم الخطاب أيضاً فيدخلها المؤمن إلا أنها لا تضره على ما قيل، فقد أخرج أحمد‏.‏ والحكيم الترمذي‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة عن أبي سمية قال‏:‏ اختلفنا في الورود فقال بعضنا‏:‏ لا يدخلها مؤمن‏.‏ وقال آخر‏:‏ يدخلونها جميعاً ثم ينجى الله تعالى الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فذكرت له فقال‏:‏ وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ لا يبق بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجى الله تعالى الذين اتقوا ‏"‏ وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في «تفسيره» فليراجع‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن الأنباري‏.‏ والبيهقي عن الحسن الورود المرور عليها من عير دخول، وروى ذلك أيضاً عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والحكيم‏.‏ وغيرهم عن خالد بن معدان قال‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا‏:‏ ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال‏:‏ بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما أخرجه الترمذي‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهما عن يعلى ابن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ تقول النار للمؤمن‏:‏ يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ‏"‏ لجواز أن لا يكون متذكراًهذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية‏:‏ ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن لا يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ الحمى من فيح جهنم ‏"‏ ولا يخى خفاء الاستدلال به على المطلوب‏.‏

واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعكا وأنه معه فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفيه خفاء أيضاً ‏"‏ والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏ واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل‏:‏ المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريباً منها ‏{‏كَانَ‏}‏ أي ورودهم إياها ‏{‏على رَبِّكَ حَتْماً‏}‏ أمراً واجباً كما روى عن ابن عباس، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم الوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة ‏{‏مَّقْضِيّاً‏}‏ قضى بوقوعه البتة‏.‏

وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتماً مقضياً كان قسماً واجباً، وروى ذلك أيضاً عن ابن مسعود‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة، قيل‏:‏ والمراد منه إنشاء القسم، وقيل‏:‏ قد يقال‏:‏ إن ‏{‏على رَبِّكَ‏}‏ المقصود منه اليمين كما تقول‏:‏ لله تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله، وعلى ورد في كلامهم كثيراً للقسم كقوله‏:‏

على إذا ما جئت ليلى أزورها *** زيارة بيت الله رجلان حافياً

فإن صيعة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به، ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم‏:‏ عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى، ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما أخرجه البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وغيرهم عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ‏"‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏.‏ وابن عطية وتبعهما غير واحد‏:‏ إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله‏:‏

والله ما ليلى ينام صاحبه *** وقال أيضاً‏:‏ نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك، ومنه قوله كعب‏:‏

تخذي على يسرات وهي لاحقة *** ذوابل مسهن الأرض تحليل

فإن المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الإنسان على شيء ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال‏:‏ إن فيما قاله جماعة من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ الخ نظراً لأن الجملة لا قسم فيها إلا إن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ إلى رخرها وفيه بعد انتهى‏.‏ والخفاجي جوزا الحالية والعطف، وقال‏:‏ حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى، ولعل الأسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازاً عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر، ولايعكر على هذا ما أخرجه أحمد‏.‏ والبخاري في تاريخه‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعاً لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏»‏.‏ فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضاً فكأنه قيل‏:‏ لم ير النار إلا قليلاً لأن الله تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا‏}‏ بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير ‏{‏وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ على ركبهم كما روى عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي‏.‏ ‏{‏وَنُذُرِ‏}‏ تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي احضروا فيه جاثين، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك، وخولف بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الظالمين‏}‏ ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردى فكأنه قيل‏:‏ ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع ‏{‏نَّذْرٍ‏}‏ مقابلاً لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضاً، قال الراغب‏:‏ يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به‏.‏ ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والدمار زماناً ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال‏:‏ إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولاً فأولاً على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون‏.‏

ومن ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه أيضاً قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغناء في حميل السيل» ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء‏:‏ اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحداً من أملا محمد صلى الله عليه وسلم هذا، وقال بعضهم‏:‏ إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النا، ر وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة، وأنت تعلم أن الذين يذبه بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلاً ليسوا إلا الخواص‏.‏

والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي رضي الله تعالى عنهم‏.‏ والجحدري‏.‏ ومعاوية بن قرة‏.‏ ويعقوب ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بفتح الثاء أي هناك‏.‏ وابن أبي ليلى ‏{‏ثمه‏}‏ بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده‏.‏ وقرأ يحيى‏.‏ والأعمش‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن محصين‏.‏ ويعقوب ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى‏}‏ بتخفيف الجيم‏.‏ وقرىء ‏{‏ينجي‏}‏ وينجي بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول، وقرأت فرقة ‏{‏نجى‏}‏ بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏ننحى‏}‏ بحاء مهملة، وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين ‏{‏ءاياتنا‏}‏ التي من جملتها الآيات السابقة ‏{‏بينات‏}‏ أي ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو مر تلات الألفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً، والوجه كما في «الكشاف» أن يكون ‏{‏بينات‏}‏ حالاً مؤكدة لمضمون الجملة وإن لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ والأعرج‏.‏ وابن محيصن ‏{‏وَإِذَا يتلى‏}‏ بالياء التحية لأن المفروع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي قالوا‏.‏ ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر وأصروا على العتو والعناد وهم النضر بن الحرث وأتباعه الفجرة فإن الآية نزلت فيهم‏.‏ واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به، وقيل لام الأجل أي قالوا لأجلهم وفي حقهم، ورجح الأول بأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَىُّ الفريقين‏}‏ أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا‏:‏ أينا ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ نحن أو أنتم ‏{‏مَقَاماً‏}‏ أي مكاناً ومنزلاً، وأصله موضع القيام ثم استعمل لمطلق المكان‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وحميد‏.‏ والجعفي‏.‏ وأبو حاتم عن أبي عمرو ‏{‏مَقَاماً‏}‏ بضم الميم وأصله موضع الإقامة، والمراد به أيضاً المنزلة والمكان فتتوافق القراءتان‏.‏

وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضمون للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم، والثاني مصدر أقام يقيم، ورأيت في بعض المجموعات كلاماً ينسب لأبي السعود عليه الرحمة في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله‏:‏

يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام *** نبتغي فرق المقام والمقام

وهو أن الأول يعني المفتوح الميم موضع قيام الشيء أعم من أن يكون قيامه فيه بنفسه أو بإقامة غيره ومن أن يكون ذلك بطريق المكث فيه أو بدونه، والثاني موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياماً ممتداً، فإن كان الفعل الناصب ثلاثياً فمقتضى المقام هو الأول، وكذا إن كان رباعياً ولم يقصد بيان كون المقام موضع قيام المضاف إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت‏:‏ أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيهاً على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرم القسم‏.‏

ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاماً أصلياً لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارىء جارياً مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار، هذا إذا كان المقام ظرفاً أو إذا كان مصدراً ميمياً والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه‏.‏

وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوباً على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل‏:‏ أي الفريقين مقامه خير ‏{‏وَأَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ أي مجلساً ومجتمعاً، وفي «البحر» هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة‏.‏ وقيل‏:‏ مجلس أهل الندى أي الكرم‏.‏ وكذا النادي يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات، قال الإمام‏:‏ ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا‏:‏ لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في ألدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوق أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعءاه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشيء من رأسي سقيم نقضه الله تعالى وأبطله بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءياً‏}‏‏.‏

وحاصلة أن كثراً ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد وثمود‏.‏ واضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرماً عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحداً من المتنعمين في الدنيا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضاً مثل ذلك، و‏{‏كَمْ‏}‏ خبرية للتكثير مفعول ‏{‏أَهْلَكْنَا‏}‏، وقدمت لصدارتها، وقيل‏:‏ استفهامية والأول هو الظاهر و‏{‏مّن قَرْنٍ‏}‏ بيان لإبهامها‏.‏ والقرن أهل كل عصر، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لنقدمه، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها‏.‏ و‏{‏هُمْ أَحْسَنُ‏}‏ في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كان خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها، وجعله صفة ‏{‏قَرْنٍ‏}‏ وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربياً أيضاً‏.‏ ولا يرد عليه كما قال الخفاجي‏:‏ كمن من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضى أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده، و‏{‏أَثَاثاً‏}‏ تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة، وقيل‏:‏ لا واحد لها وقيل‏:‏ الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى، وأنشد الحسن بن علي الطوسي‏:‏

تقادم العهد من أم الوليد بنا *** دهراً وصار أثاث البيت خرثياً

والرئى المنظر كما قال ابن عباس‏.‏ وغيره، وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤية كالطحن والسقي‏.‏ وقرأ الزهري‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وطلحة في رواية الهمداني‏.‏ وأيوب‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ وقالون ‏{‏ريا‏}‏ بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وإدغامها‏.‏ واحتمل أن يكون من الري ضد العطش والمراد به النضارة والحسن‏.‏ وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش ‏{‏ريئا‏}‏ بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وقرىء ‏{‏رياء‏}‏ بيداء بعدها ألف بعدها همزة حكاها اليزيدي‏.‏ ومعناها كما في «الدر المصون» مراءاة بعضهم بعضاً‏.‏

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏ريا‏}‏ بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال‏:‏ هي لحز، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل ‏{‏ريا‏}‏ بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما‏.‏ والثاني أن يكون الأصل ‏{‏ريئا‏}‏ بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة‏.‏

وقرأ ابن عباس أيضاً‏.‏ وابن جبير‏.‏ ويزيد البربري‏.‏ والأعصم المكي ‏{‏زيا‏}‏ بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال‏:‏ زواه زيا بالفتح أي جمعه، ويراد منه الأثاث أيضاً كما ذكره المبرد في قول الثقفي‏:‏

أشاقتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الزي الجميل من الأثاث

والظاهر في الآية المعنى الأولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَرِءياً قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة‏}‏ الخ أمر منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عممها، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم‏.‏ ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والاشعار بعلة الحكم أي من كان مستقراً في الضلالة مغموراً بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏ أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكن من التصرفات فالطلب في معنى الخبر، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ فيكون حاصل المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مداً، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏ وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعاده الله تعالى أن يمد له ويستدرجه ليزداد إثماً، وقيل‏:‏ المراد الدعاء بالمد إظهاراً لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب ‏{‏رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ إن حمل على الدعاء، قال في «الكشف»‏:‏ الوجه الأول أوفق بهذا المقام، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدمن أحكامها ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ إلى آخرها غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة‏}‏ بدل من ‏{‏مَا‏}‏ وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو، والمراد بالعذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم، والمراد بالساعة قيل‏:‏ يوم القيامة وهو الظاهر‏.‏

وقيل‏:‏ ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل‏:‏ ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ‏}‏ جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا‏:‏ إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا‏:‏ إنه هو الكلام والشرط قيد له، و‏{‏حتى‏}‏ عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ ‏{‏مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكاناً لا خير مقاماً، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المقبر به هناك مبالغة في إظهار سوء حالهم ‏{‏وَأَضْعَفُ جُنداً‏}‏ أي فئة وأنصاراً لا أحسن ندياً، ووجه التقابل أن حسن الندى باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن المراد من الندى هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جنداً ضعيفاً كلا ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 43‏]‏ وإنما ذكر ذلك رداً لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعواناً من شركائهم، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نب مفعول ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة، وجملة ‏{‏هُوَ شَرٌّ‏}‏ صلة الموصول‏.‏ وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ‏.‏

وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة ‏{‏أي الفريقين خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ الخ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 74‏]‏ الخ ‏{‏وَقُلْ مَن كَانَ‏}‏ الخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عن أما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة وما ينالهم فيهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه، وأنت تعلم أيضاً بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى‏}‏ كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود، واختار الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع ‏{‏فَلْيَمْدُدْ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏ الخ ولم يجوزه أبو حيان سواء كان ‏{‏فَلْيَمْدُدْ‏}‏ دعاء أو خبراً في صورة الطلب لأنه في موضع الخبر إن كانت من موصولة، وفي موضع الجزاء أن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفة خالية من ضمير يربط الخبر بالمبتدأ والجواب بالشرط، وقيل عليه أيضاً‏:‏ إن العطف غير مناسب من جهة المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الإعراب إذ لا يتجه أن يقال‏:‏ من كان في الضلالة يزيد الله الذي اهتدوا هدى‏.‏ وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية أعدائه لأنه مما يغيظه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة‏.‏ واشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في «الدر المصون» مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف، واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏ الخ ليتم التقابل فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يجيبهم عن قولهم للمؤمنين ‏{‏أي الفريقين‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ الخ فليأت بذكر القسمين أصالة‏.‏ قال الطيبي‏:‏ فكأنه قيل‏:‏ من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهداية منهما يزيد الله تعالى هدايته فيجمع سبحانه له خير الدارين‏.‏ وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان‏:‏

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخير كما فداء

في الدعاء والاحتراز عن المواجهة، وفي «الكشف» أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ قد تقدمت الأقوال المأثورة في تفسيرها، واختير أنها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعموم وكلها ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا‏}‏ بمعناه المتعارف، وقيل‏:‏ عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفنية التي يفتخرون بها ‏{‏وَخَيْرٌ‏}‏ من ذلك أيضاً ‏{‏مَّرَدّاً‏}‏ أي مرجعاً وعاقبة لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الأليم‏.‏ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف والتشريف ما لا يخفى‏.‏ وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها‏.‏ وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهجم بالكفرة حيث أشارت إلى تسمية جزائهم ثواباً‏.‏ والمفاضلة على ما قال على طريقة الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وليست على التهمكم لأنك لو قلت‏:‏ النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكماً كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمش فيما نحن فيه‏.‏

وحاصل ما أراده أن المراد ثواب هؤلاء أبلغ من ثواب أولئك أي عقابهم‏.‏ وقول «صاحب التقريب» فيه‏:‏ إنه غير معلوم جوابه كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والافضال ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى، وقوله‏:‏ إنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وأنه على المشاكلة في قولهم‏:‏ ‏{‏أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وأحسن نديا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 37‏]‏ ً فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولئك بل مقصود لذاته قاله في «الكشف»‏.‏

وقال صاحب الفرائد‏:‏ ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والاستعمال وليس في كلامهم ما يشهد له، ويمكن أن يقال‏:‏ المراد ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة خير من ثوابهم في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه، ورد إنكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 15‏]‏ وأن له نظائر‏.‏ والبعد عن الطبع في حيز المنع‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ إن أفعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في يوسف عليه السلام أحسن إخوته وهي إحدى حالاته الأربع التي ذكرها بعض علماء العربية، فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتأمل‏.‏ والجملة على ما ذهب إليه أبو السعود على تقديري الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفة واردة من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏، وقال العلامة الطيبي‏:‏ الذي يقتضيه النظم الكريم أن هذه الجملة تتميم لمعنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى‏}‏ ومشتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيء كما أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ إلى *جُنداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏ تتميم لوعيدهم، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏، وجعل التعبير بخير وارداً على طريق المشاكلة‏.‏ وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلى الذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له، ولعلنا قد أسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر‏.‏