فصل: تفسير الآية رقم (164)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والارض‏}‏ أخرج البيهقي عن أبي الضحى معضلاً أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا‏:‏ إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت‏.‏ ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع السموات وأفرد الأرض للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها وهي ما نشاهده منها وقال أبو حيان‏:‏ لم تجمع الأرض لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده كالألباب وفي «المثل السائر» نحوه، وقال بعض المحققين‏:‏ جمع السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 2‏]‏ سواء كانت متماسة كما هو رأي الحكيم أو لا كما جاء في الآثار أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 2 1‏]‏ يدل عليه، ولم يجمع الأرض لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها، سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين أو لا تكون متفاصلة كما هو رأي الحكيم غير مختلفة في الحقيقة اتفاقاً‏.‏

‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفاً للآخر، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً، أو ظلمة ونوراً، وقدم الليل لسبقه في الخلق أو لشرفه‏.‏

‏{‏والفلك التى تَجْرِى فِى البحر‏}‏ عطف على ‏{‏خُلِقَ السموات‏}‏ لا على ‏{‏السموات‏}‏ أو عطف على ‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ‏}‏ والفلك من الألفاظ التي استعملت مفرداً وجمعاً، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة قفل فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة أسد فجمع، ومن الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1 4‏]‏ ومن الثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقيل‏:‏ إنه جمع فلك بفتح الفاء وسكون اللام وقيل‏:‏ إنه اسم جمع، زعم بعضهم أنه قرىء ‏{‏فَلَكٍ‏}‏ بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير‏.‏ وقال الكواشي‏:‏ الفلك والفلك بضمتين لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده‏.‏

‏{‏بِمَا يَنفَعُ الناس‏}‏ ‏(‏ما‏)‏ إما مصدرية أي بنفعهم أو موصولة أي بالذي ينفعهم وعلى الأول‏:‏ ضمير الفاعل إما للفلك لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى كما قيل أو للجري أو للبحر واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال ‏{‏وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء‏}‏ عطف على ‏{‏الفلك‏}‏ وقيل‏:‏ وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعاً لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل‏:‏ المقصود من الأول الاستدلال بالبحر وأحواله لا بالفلك الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية إجرائه، أو بتسخير الريح والبحر لذلك، أو توسله إلى ما ينفع الناس وشيء منها ليس من حاله في نفسه، ولأن الاستدلال بالفلك الجاري في البحر استدلال بحال من أحوال البحر بخلاف ما لو استدل بالبحر وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذٍ أن يقال‏:‏ والعجائب التي في البحر لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه فكان ذكره ذكراً لجميع أحواله، وطريقاً إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر المطر والسحاب اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية‏.‏

وعندي أن هذا خلاف الظاهر جداً وإن جل قائله إذ يؤول المعنى إلى والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعوّل عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالاً لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب على ما أرى أنه سبحانه ذكر أولاً‏:‏ خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي ثانياً‏:‏ إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازدياداً وانتقاصاً أو ظلمة ونوراً إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهاباً وإياباً بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك، ويختلف جريانها شرقاً وغرباً على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذٍ على حد قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قدرناه مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7 3 1 4‏]‏ إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحاً بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام‏.‏ ومن الأولى‏:‏ ابتدائية والثانية‏:‏ بيانية، وجوّز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلاً من الأولى، والمراد من السماء جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك‏.‏

‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الارض‏}‏ بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ عطف إما على ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، و‏(‏ أحيا‏)‏ من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعاً للعطف، إما على ‏(‏أحياء‏)‏ فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال الماء للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب والبث فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل‏:‏ يحتاج إلى تقدير به أي بالماء ليشعر بارتباطه بأنزل استقلالاً كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، ومن بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد ‏{‏مِن كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ كل نوع من الدواب، ومعنى بثها تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل‏:‏ تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضاً في سورة ‏{‏حم عسق‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 1، 2‏]‏، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدراً ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءاً من مدخولها لا فرداً منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخش‏.‏

‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ أي تقليب الله تعالى لها جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً، حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيماً ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي ‏(‏الريح‏)‏ على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الرياح للرحمة والريح للعذاب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت ريح قال‏:‏ «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 6 4‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 1 4‏]‏  وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار‏.‏

‏{‏والسحاب‏}‏ عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له ‏{‏المسخر بَيْنَ السماء والارض‏}‏ صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك ‏{‏سَحَابًا ثِقَالاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 7 5‏]‏، و‏(‏ بين‏)‏ ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفاً وهبوطه إن كان كثيفاً، وقيل‏:‏ الظرف مستقر وقع حالاً من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، وتعقيب تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذى يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8 4‏]‏ ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء‏:‏ لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لايات‏}‏ اسم ‏(‏إن‏)‏ دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كماً وكيفاً أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه‏.‏

‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال‏:‏ «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلاً منها مشتملاً على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعاً لآثار معينة، وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلاً عن وجوده على النمط الكذائي فإذاً لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا‏}‏ بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى، و‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يَتَّخِذِ‏}‏ والأنداد الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، وقيل‏:‏ الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن السدي ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه وقيل‏:‏ المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى‏:‏ ومن الناس من يتخذ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالاً فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبّ تعيينه بالصفات‏.‏

‏{‏يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله‏}‏ إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة لِمنْ إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، والمحبة ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا‏:‏ إن الكمال أيضاً محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها، وقيل‏:‏ إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8 3‏]‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 5 6‏]‏، وقيل هو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة يحبونهم بياناً لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغنى عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلاً لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرءون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه كما يحكى‏:‏ أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال‏:‏ إن محبتهم‏؟‏ أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار أشد حباً على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر، ولهذا نزل

‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2 11‏]‏ وكان أحب الأعمال إليه صلى الله عليه وسلم أدومها، وقال العلامة‏:‏ عدل عن أحب إلى أشد لأنه شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازاً عن اللبس، وقيل‏:‏ إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد‏.‏

‏{‏وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي لو يعلم هؤلاء الذين ظلموا بالاتخاذ المذكور؛ ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك الاتخاذ ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للإشعار بسبب رؤيتهم العذاب المفهومة من قوله سبحانه ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ العذاب‏}‏ أي عاينوا العذاب المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد ‏{‏لَوْ‏}‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضياً تأويلاً مستقبلاً تحقيقاً فروعي الجهتان‏.‏

‏{‏أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ساد مسد مفعولي يرى، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل‏:‏ هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان والتقدير ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع لعلموا أن القوة لله جميعاً لا ينفع ولا يضر غيره‏.‏ وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب ‏{‏تَرَى‏}‏ على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذٍ لرأيت أمراً لا يوصف من الهول والفظاعة وابن عامر ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ بالبناء للمفعول، ويعقوب ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالكسر، وكذا ‏{‏وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب‏}‏ على الاستئناف أو إضمار القول أي قائلين ذلك وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ مطلقاً وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقه لطول البدل، وجوّز أن يكون ظرفاً لـ ‏{‏شَدِيدُ العذاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ أو مفعولاً لاذكروا وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول ‏(‏ترى‏)‏ على قراءة الخطاب، كما أن ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ بدل منه أيضاً ‏{‏وَأَنْ القوة‏}‏ في موضع بدل الاشتمال من ‏{‏العذاب‏}‏ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من «كتب النحو»، وأيضاً يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضياً للبدل دالاً عليه إجمالاً، وأن يكون البدل مشتملاً على ضمير المبدل منه وكلاهما مفقودان والمعنى‏:‏ إذ تبرأ الرؤساء المتبعون مَن الذين اتبعوا أي المرءوسين بقولهم‏:‏ ‏{‏تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3 6‏]‏ وقرأ مجاهد الأول‏:‏ على البناء للفاعل والثاني‏:‏ على البناء للمفعول، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم‏.‏

‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ حال من الأتباع والمتبوعين كما في لقيته راكبين أي رائين له فالواو للحال، و‏(‏ قد‏)‏ مضمرة، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏تَبَرَّأَ‏}‏ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال ‏(‏إذ رأوا العذاب‏)‏ من ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ العذاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين وإن كانا متغايرين إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه وهو رؤية العذاب ولأن الحقيق بالاستفظاع هو تبرؤهم حال رؤية العذاب لا هو نفسه، وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد وهو الرؤية فقط وفيه أن هذا أيضاً لا يخرج ذلك عن الركاكة إذ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى رؤية العذاب لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالاً، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب‏.‏

‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب‏}‏ إما عطف على ‏{‏تَبَرَّأَ‏}‏ أو ‏{‏رَأَوْاْ‏}‏ أو حال، ورجح الأول لأن الأصل في الواو العطف، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير ‏(‏قد‏)‏ والباء من ‏{‏بِهِمُ‏}‏ للسببية، أي تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون منها النجاة، وقيل‏:‏ للملابسة أي تقطعت الأسباب موصولة بهم كقولك‏:‏ خرج زيد بثيابه، وقيل‏:‏ بمعنى عن، وقيل‏:‏ للتعدية، أي قطعتهم الأسباب كما تقول‏:‏ تفرقت بهم الطريق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ وأصل السبب الحبل مطلقاً، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف، أو الحبل الذي يرتقي به النخل‏.‏ والمراد بالأسباب هنا الوصل التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا من الأنساب والمحاب، والاتفاق على الدين، والاتباع والاستتباع، وقرىء ‏{‏تقطعت‏}‏ بالبناء للمفعول وتقطع جاء لازماً ومتعدياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏الاسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ‏}‏ أي من المتبوعين ‏{‏كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا‏}‏ تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرءوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً مثل تبرىء المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضاً بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرءوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرءوا من الأتباع أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرءوا منهم تبرؤاً يغيظهم‏.‏ وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَا تَبَرَّءواْ‏}‏ فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين وهو منصوص في آية أخرى ولا يقتضي أن يكون مذكوراً فيما سبق، وقيل‏:‏ إن الأتباع بعد أن تبرءوا من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرءوا منهم فيها ويخذلوهم فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في ‏{‏لَنَا‏}‏ أي لنا ولهم، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء المفهوم من ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري، وتقطع الأسباب وتمني الرجعة‏.‏

‏{‏يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ‏}‏ وجوّز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضاً، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافاً كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم‏؟‏ فأجيب بما ترى، و‏(‏ حسرات‏)‏ أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من ‏(‏أعمالهم‏)‏ إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أعمالهم السيئة يوم القيامة حسرات رؤيتها مسطورة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى، و‏(‏ عليهم‏)‏ صفة ‏(‏حسرات‏)‏ وجوّز تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم، لأن حسر يتعدى بعلى واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع‏.‏

‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9 2‏]‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1 9‏]‏ ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ في النار، وإذا أريد من ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ الكفار مطلقاً دون المشركين فقط كان الحصر حقيقياً، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهوّن العقوبات، وقيل‏:‏ إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد لا حصر النفي إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحاً بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود، والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة الباء وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7 3‏]‏ فليس القول بعدم الحصر نصاً في الاعتزال كما وهم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا‏}‏ أي الروح الصافية عن درن المخالفات ‏{‏والمروة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أو زار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذٍ أن يطوف بهما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب ومن تبرع خيراً بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسرشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ‏}‏ ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال ‏{‏مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي‏}‏ كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة ‏{‏أولئك‏}‏ يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه ‏{‏وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏ من الملأ الأعلى فلا يمدونهم، ومن المستعدين فلا يصحبونهم ‏{‏إِلاَّ الذين‏}‏ رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاءً منه عز وجل، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ أقبل توبتهم ‏{‏وَأَنَا التواب الرحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 16‏]‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ واحتجبوا عن الحق، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم ‏{‏أولئك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 161‏]‏ استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت، ‏{‏خالدين‏}‏ في ذلك ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 162‏]‏ للزوم تلك الهيآت المظلمة إياهم

‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏ بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه، وهو العدم البحت‏.‏ إن في إيجاد سموات الأرواح وأرض النفوس، واختلاف النور والظلمة بينهما، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم، وتكميل نشأتهم، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم، ‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ الإيمان الكامل ‏{‏أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه ‏{‏وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا ليّ في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب، وإن القدرة لله جميعاً، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه، وعند ذلك يتبرؤ الاتباع من المتبوعين وقد رأوا عذاب الحرمان ‏{‏وتقطعت بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏ الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب‏.‏ وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها، وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا‏}‏ نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل‏:‏ في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراماً في دين اليهود، وقيل‏:‏ في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم، و‏{‏حلالا‏}‏ إما مفعول ‏{‏كُلُواْ‏}‏ أو حال من الموصول أي كلوه حال كونه حلالاً أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلاً حلالاً، و‏(‏ من‏)‏ على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولاً به لكلوا وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة بكلوا أو حالاً من ‏{‏حلالا‏}‏ وقدم عليه لتنكيره، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في «الكشف» على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الاباحة، وأن تكون تبعيضية بناءاً على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور بمن ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موقع المفعول به حينئذٍ، والفعل لا ينصب مفعولين، وهو مبني على ما في «التسهيل» وغيره أن التبعيض معنى حقيقي لمن وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك ومناسبة الآية لما قبلها‏:‏ أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام؛

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَيّباً‏}‏ صفة ‏{‏حلالا‏}‏ ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذاً لا يعافه ولا يكرهه، أو تراه عينه طاهراً عن دنس الشبهة، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8 3‏]‏ ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله وبهذا ما لم يرد فيه نص ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كاسكار وضرر، والأولى نظراً للمقام أن يقال إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبراً في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذٍ التنصيص على إباحة ما حرموه، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطيب لا يستطيب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولاً بالشهوة المستقيمة، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاماً مثلاً فهو لاغ ولا يحرم عليه، وفيه خفاء لا يخفى‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ أي آثاره كما حكي عن الخليل أو أعماله كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو خطاياه كما نقل عن مجاهد وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام، وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطرق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى، وقرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة، وفي توجيهها وجهان، الأول‏:‏ ما قيل‏:‏ إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة، والثاني‏:‏ إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو أجوه وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج‏:‏ وهذا جائز في العربية، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ تعليل للنهي، و‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ من أَبانَ بمعنى بان وظهر أي ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي ولياً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف، وقيل‏:‏ أبان بمعنى أظهر أي مظهر العداوة والأول أليق بمقام التعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء‏}‏ استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة بضم، وكل من هذا شأنه فهو عدو مبين أو علة للأصل بضم، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللاً بعلتين العداوة والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏ ينافي ذلك لكونه مبنياً على أن المعتبر في الأمر العلو كما هو مذهب المعتزلة وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان، وعلى أن يكون عبادي لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى أن الخطاب في ‏{‏يَأْمُرُكُمْ‏}‏ لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا منافاة أيضاً بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال‏:‏ يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال‏:‏ يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله والسوء في الأصل مصدر ساءه يسوؤه سوءاً أو مساءة إذا أحزنه، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولاً أو فعلاً أو عقداً لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها، وو ‏{‏الفحشاء‏}‏ ما فيه حد، وقيل‏:‏ هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع، والعطف حينئذٍ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل، وفحشاء باستقباحه إياه، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏مَن كَسَبَ سَيّئَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 81‏]‏ و‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ ويمكن أن يقال‏:‏ سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عطف على سابقه أي ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد، والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه، ومفعول العلم محذوف أي ما لا تعلمون الإذن فيه منه تعالى، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاماً ظاهراً، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأساً لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفاً، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد‏؟‏ا وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للديل القاطع وهو الإجماع، وكل حكم يجب العمل به قطعاً علم قطعاً بأنه حكم الله تعالى‏:‏ وإلا لم يجب العمل به قطعاً، وكل ما علم قطعاً أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعاً، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعاً وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع لى وجوب العمل صار المظنون معلوماً وانقلب الظن علماً، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله‏}‏ الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلم وحمقهم ليسوا أهلاً للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك، وقيل‏:‏ الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناءاً على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وقيل‏:‏ إنه راجع إلى ‏{‏من يتخذ‏}‏ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون، والجملة مستأنفة بناءاً على ما روي أنها نزلت في المشركين، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل؛ والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى، وإما خاص بما يقتضيه المقام ‏{‏قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ أي وجدناهم عليه، والظرف إما حال من آبائنا، وألفينا متعد إلى واحد، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول‏.‏

‏{‏أَوْ لَّوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ جواب الشرط محذوف أي ول كان آبائهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتعبوهم والواو للحال أو للعطف، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أو معطوفة عليه، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب وجوز أن تكون الجملة حالاً عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين، ولو كانوا غير عاقلين، وإلى الأول‏:‏ ذهب الزمخشري، وإلى الثاني‏:‏ الجرمي، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء، ولعل ما ذكر أولاً أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء ‏{‏لَوْ‏}‏ على معناها المشهور، والهمزة الاستفهامية على أصلها وهو إيلاء المسؤول عنه وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم، واختار الرضى أن الواو الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية، وعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام، أو يجيء آخره متعلقاً به معنى مستأنفاً لفظاف، قيل‏:‏ وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق ووضع المظهر وهو الموصول موضع المضمر وهو البهائم ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه، وحاصل المعنى على التقديرين أن الكفرة لأنهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويّ الصوت، وقيل‏:‏ المراد تمثيلهم في ابتاع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع ‏{‏لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ كناية عن عدم الفهم والاستجابة، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر، ويقال‏:‏ نعق الغراب نعاقاً ونعيقاً إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل‏:‏ نعب بالباء، والدعاء والنداء بمعنى، وقيل‏:‏ إن الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع، وقيل‏:‏ إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد‏.‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به ‏{‏فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي لا يدركون شيئاً لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل‏:‏ من فقد حسا فقد فقد علما، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته كما قيل به لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ أي مستلذاته أو من حلاله، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر، و‏{‏كُلُواْ‏}‏ لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة ‏{‏واشكروا للَّهِ‏}‏ على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل‏:‏ واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجلّ العبادات ولذا جعل نصف الإيمان وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعاً يقول الله تعالى‏:‏ «إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏173‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق بالأعيان إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق بالميتة ما أبين من حي للحديث الذي أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ‏"‏ وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وللعرف أيضاً فإنه إذا قال القائل‏:‏ أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه من المالكية، وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏(‏الميّتة‏)‏ مشددة ‏{‏والدم‏}‏ قيد في سورة الأنعام ‏(‏145‏)‏ بالمسفوح وسيأتي، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت، وما لا نفس له تسيل ‏{‏وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضاً حرام خلافاً للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، وقيل‏:‏ خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وفيه ما لا يخفى، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البحر، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ لا بأس به، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص‏:‏ ما تقول في خنزير البحر‏؟‏ فقال‏:‏ حرام ثم جاء آخر فقال له‏:‏ ما تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير‏؟‏ فقال حلال فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته، والسؤال مختلف في الصورتين‏.‏

‏{‏وَمَا أُهِلَّ لَهُ لِغَيْرِ الله‏}‏ أي ما وقع متلبساً به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤى سمي بذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره، والمراد بغير الله تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظراً للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه‏.‏

‏{‏فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار، وقد اندفع به، وقال ‏{‏عَبْدُ الله‏}‏‏:‏ يأكل منها قدر ما يسد جوعته، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال‏:‏ يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها، ونقل عن الشافعي أن المراد غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات وهو المروي عن الإمام أحمد أيضاً وهو خلاف مذهبنا، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائداً على قدر الضرورة من خارج، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافاً لمن منع ذلك، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي ‏{‏بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر‏}‏ بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر‏.‏

‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص، وقيل‏:‏ الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو الظاهر من تقييد الإثم بعليه، واستدل للأول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9 11‏]‏ حيث استثنى من الحرمة، ثم اعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقاً كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالاً بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل‏:‏ إنما حرم عليكم ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن ‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏ زجر عن تحريم الحلالات؛ أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل‏:‏ إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى من البحيرة والوصيلة والحام وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية، فكأنهم قالوا‏:‏ تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل‏:‏ ما حرمت إلا هذه فهو إذاً إضافي وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض المحققين فليتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏174‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب‏}‏ المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم ‏{‏وَيَشْتَرُونَ بِهِ‏}‏ أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير للكتاب أو لما أنزل أو للكتمان ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ أي عوضاً خقيراً‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار‏}‏ إما في الحال كما هو أصل المضارع لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار وهو الرشا لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار من حيث إنه يترتب على أكل كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل‏:‏ إنها مجاز عن الرشا إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي‏:‏ ما يأكلون شيئاً حاصلاً في بطونهم إلا النار إذ الحصول في البطن ليس مقارناً للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق بيأكلون والمراد في طريق بطونهم كما اختاره أبو البقاء، والتقييد بالبطون لإفادة الملء لا للتأكيد كما قيل به والطرفية بلفظة ‏(‏في‏)‏ وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية البطن في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله‏:‏

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة‏}‏ أي كلام رحمة كما قال الحسن فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل‏:‏ لا يكلمهم أصلاً لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ‏}‏ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثنى عليهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك الثمن القليل وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولاً في الخبر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار‏}‏ ثم قابل كتمانهم الحق وعدم التكلم به بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏ تعالى، وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وبدأ أولاً‏:‏ بما يقابل فرداً فرداً، وثانياً‏:‏ بما يقابل المجموع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏175‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين اشتروا‏}‏ بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض الدنيوية ‏{‏الضلالة بالهدى‏}‏ في الدنيا ‏{‏والعذاب بالمغفرة‏}‏ في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم فقيل‏:‏ إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم‏.‏

‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم، و‏(‏ ما‏)‏ في مثل هذا التركيب قيل‏:‏ نكرة تامة وعليه الجمهور وقيل‏:‏ استفهامية ضمنت معنى التعجب وإليه ذهب الفراء وقيل‏:‏ موصولة وإليه ذهب الأخفش وحكي عنه أيضاً أنها نكرة وموصوفة وهي على هذه الأقوال في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام في «كتب النحو2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي مجموع ما ذكر من أكل النار وعدم التكليم والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان‏.‏ ‏{‏بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق‏}‏ أي بسبب أن الله تعالى نزل القرآن، أو التوراة متلبساً بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب‏}‏ أي في جنسه بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض أو في التوراة، ومعنى ‏(‏اختلفوا‏)‏ تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفاً عما فيها أو في القرآن واختلافهم فيه قول بعضهم‏:‏ إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين‏.‏ ‏{‏لَفِى شِقَاقٍ‏}‏ أي خلاف ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه‏.‏ ومن الناس من جعل الواو للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب‏}‏‏.‏ البر اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى والخطاب لأهل الكتابين والمراد من ‏{‏قِبَلَ المشرق والمغرب‏}‏ السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس من أفق مكة، والنصارى قبل المشرق والآية نزلت رداً عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر البر على قبلته رداً على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعاً بنفي جنس البر عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي لا للقصر إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي‏.‏ ويحتمل أن يكون الخطاب عاماً لهم وللمسلمين فيكون عوداً على بدء فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل‏.‏ والمراد من ذكر المشرق والمغرب التعميم لا تعيين السمتين وتعريف البر حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص البر بشأن القبلة مطلقاً على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما لعهد أي ليس البر العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص البر بالنصب والباقون بالرفع ووجه الأول‏:‏ أن يكون خبراً مقدما كما في قوله‏:‏

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم *** فليس ‏(‏سواءاً‏)‏ عالم وجهول

وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولاً فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية‏:‏ أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقاً لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسماً كما يفصح عنه جعله مخبراً عنه في الاستدراك‏.‏ وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ بالنصب بأن تولوا بالباء

‏{‏ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله‏}‏ تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، وال في البر إما للجنس فيكون القصر ادعائياً لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي برّ من آمن إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال باطلاق البر على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول‏.‏

والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين عزيز ابن الله والمسيح ابن الله وقرأ نافع وابن عامر ‏(‏ولكن‏)‏ بالتخفيف، وقرأ بعضهم البار بصيغة اسم الفاعل‏.‏

‏{‏واليوم الاخر‏}‏ أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم ‏{‏والملئكة‏}‏ أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب ‏{‏والكتاب‏}‏ أي جنسه فيشمل جميع الكتب الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ولما ورد في الحديث‏:‏ «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقاً لما بين يديه، وقيل‏:‏ التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات ‏{‏والنبين‏}‏ أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسباً ونسباً وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة‏.‏

‏{‏والنبيين وَءاتَى المال على حُبّهِ‏}‏ حال من ضمير ‏(‏ءاتى‏)‏، والضمير المجرور للمال أي أعطى المال كائناً على حب المال والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا لفلان كذا الا وقد كان لفلان» وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى إن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أفضل الأعمال أحمزها» وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل، والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقاً براً، والأول‏:‏ هو المأثور عن السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏ذَوِى القربى‏}‏ مفعول أول لـ ‏{‏أتى‏}‏ قدم عليه مفعوله الثاني للاهتمام أو لأن فيه مع ‏(‏ما‏)‏ عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضاً، وقيل‏:‏ هو المفعول الثاني، والمراد بـ ‏{‏ذَوِى القربى‏}‏ ذوو قرابة المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقاً لدلالة سوق الكلام، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة وإيتاء الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن إيتاءهم أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة»

‏{‏واليتامى‏}‏ عطم على ‏{‏ذَوِى القربى‏}‏ وقيل‏:‏ على ‏{‏القربى‏}‏ إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم، وفيه ما لا يخفى ‏{‏والمساكين‏}‏ جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعاً من حاجته خارج عن مفهومه ‏{‏وابن السبيل‏}‏ أي المسافر كما قاله مجاهد وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبداً يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالباً يهون أمر الاعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعاً ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين ‏{‏والسائلين‏}‏ أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «للسائل حق وإن جاء على فرس» فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنياً، وقيل‏:‏ أرد المساكين الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم، والمساكين السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن فرض وجوده من الغني كالقرابة واليتم‏.‏

‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ متعلق بـ ‏{‏أتى‏}‏ أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين، أوفك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها، والرقبة مجاز عن الشخص وإيراد كلمة في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر ‏{‏وَأَقَامَ الصلاة‏}‏ عطف على صلة ‏(‏من‏)‏ والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في ‏{‏وَءاتَى الزكواة‏}‏ بناءاً على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية ‏"‏ وأخرج البخاري في «تاريخه» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك، واختلف هل بقي هذا الحق أم لا‏؟‏ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم؛ وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة وقال جماعة بالأول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 9 1‏]‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاً وجاره طاو إلى جنبه ‏"‏ وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك وهو ليس بالقوي عندهم وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضاً ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود ههنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم بيان المصرف اهتماماً بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والاقربين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 21‏]‏ وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء

‏{‏والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا‏}‏ عطف على ‏{‏مَنْ ءامَنَ‏}‏ ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل‏:‏ رمزاً إلى أنه أمر مقصود بالذات، وقيل‏:‏ إيذاناً بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً من العهود الجارية فيما بين الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق، وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل‏:‏ للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل‏:‏ به ‏{‏والصابرين فِى البأساء والضراء‏}‏ نصب على المدح بتقدير أخص أو أمدح وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول، ومجي القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضاً واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع وقد جاء في النكرة أيضاً كقول الهذلي‏:‏

ويأوي إلى نسوة عطل *** وشعثا مراضيع مثل السعالى

و البأساء البؤس والفقر، والضراء السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء ‏(‏والصابرون‏)‏ كما قرىء ‏(‏والموفين‏)‏‏.‏

‏{‏وَحِينَ البأس‏}‏ أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدى الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتاً مّا وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى بحين في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا‏}‏ في إيمانهم أو طلب البر‏.‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره، وأتى بخبر أولئك الأولى‏:‏ موصولاً بفعل ماض أيذاناً بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في خبر الثانية‏:‏ ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم، وأيضاً لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله‏:‏ ‏{‏والنبيين‏}‏ وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فليتئم مع ما نفاه أولاً غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ وآخرها ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ وآخرها ‏{‏وَحِينَ البأس‏}‏ ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان‏.‏

ومن باب التأويل‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ‏}‏ مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب ‏{‏ولكن البر‏}‏ بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن ‏{‏وَءاتَى‏}‏ العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوباً ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن وأبناء السبيل السالكين إلى منزل الحق، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائماً، وضراء كسر النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم ‏{‏أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا‏}‏ الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏178‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام،  وكلمة على صريحة في ذلك ‏{‏القصاص فِي القتلى‏}‏ أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها» وقيل‏:‏ عدى القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، ومنه سمي المقص مقصاً لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي، والقصاص قصاصاً لأنه يذكر مثل أخبار الناس، والقتلى جمع قتيل كجريح وجرحى، وقرىء كتب على البناء للفاعل، والقصاص بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر‏.‏

‏{‏الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى‏}‏ جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر، وقيل‏:‏ مأخوذ به، روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتباوؤا، فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس، أما الأول‏:‏ فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أن رجلاً قتل عبده فجلده الرسول صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به» وأخرج أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد ‏"‏ وأما الثاني‏:‏ فقد روى أن أبا بكر‏.‏ وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم‏.‏ وأما الثالث‏:‏ فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه‏.‏

وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5 4‏]‏ وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا، ومن الناس من قال‏:‏ إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الحر بالحر بيان وتفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى‏}‏ فدل على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة، وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى ومقتضى هذا أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ولا تقتل الأنثى إلا بالأنثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه، وخالف الظاهر للقياس والإجماع، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النفس بالنفس‏}‏ لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخاً له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ، ولا تكون حجة فضلاً عن أن تكون ناسخاً، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما

‏{‏فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء‏}‏ أي ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به، و‏{‏مِنْ أَخِيهِ‏}‏ يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالاً من شيء، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ، والمراد بالأخ وليّ الدم سماه أخاً استعطافاً بتذكير إخوة البشرية والدين، وقيل‏:‏ المراد به المقتول، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل، و‏{‏عُفِىَ‏}‏ تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال‏:‏ عفوت عن زيد وعن ذنبه وإذا عديت إلى الذنب مراداً سواء كان مذكوراً أولاً كما في الآية عدي إلى الجاني باللام لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني، وقدر بعضهم عن هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل، وهو من باب الحذف والايصال المقصور على السماع، ومن الناس من فسر ‏(‏عفي‏)‏ بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله، واعترض بأنه لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه، وإنما الثابت أعفاه، ورد بأنه ورد، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل، والقول بأن ‏{‏شَىْء‏}‏ مرفوع بترك محذوفاً يدل عليه ‏{‏عُفِىَ‏}‏ ليس بشي لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان‏}‏ أي فليكن اتباع أو فالأمر اتباع والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسراً ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل‏:‏ المراد فعلى المعفو له الاتباع والاداء، والجملة خبر ‏(‏من‏)‏ على تقدير موصوليتها، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأدار الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في ‏(‏شيء‏)‏ للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتياً على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل، وأيضاً الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطي له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال‏:‏ إنها نزلت في العفو كما هو ظاهر اللفظ، وبه قال أكثر المفسرين‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية ‏{‏تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل، وفي شرعية الدية نفع لأولياء المقتول، وعن مقاتل أنه كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى العفو مطلقاً، وخيَّر هذه الأمة بين الثلاث تيسيراً عليهم وتنزيلاً للحكم على حسب المنازل، وعلى هذا يكون ‏{‏فَمَن تَصَدَّقَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5 4‏]‏ بياناً لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة، ليس داخلاً تحت الحكاية ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم؛ أو قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي نوع من العذاب مؤلم، والمتبادر أنه في الآخرة، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه ديه لما أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعاً «لا أعافي أحداً قتل بعد أخذ الدية»‏.‏