فصل: تفسير الآية رقم (53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً‏}‏ الخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز وجل وكلام موسى عليه السلام قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 52‏]‏ فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ماقيل‏:‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السلام إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 52‏]‏ سئل ما أراد موسى بقوله‏:‏ ‏{‏رَبّى‏}‏ فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ‏}‏ الخ، واختار هذا الإمام بل قال‏:‏ يجب الجزم به؛ ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال ‏{‏لَكُمْ‏}‏ دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح، واختار هذا الزمخشري، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز وجل، وقال‏:‏ فاخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير المتكلم لأن الحاكي هو المكي عنه فمرجع الضميرين واحد، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره‏:‏ وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات‏.‏

وأنكر بعضم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية، وقوله‏:‏ ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجاً من نبات شتى على ما قيل، وليس في ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ على هذا وما قبله التفات‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السلام إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاء‏}‏ وما بعده كلام الله عز وجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه السلام حين الحكاية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفي‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي‏.‏ ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى صير أو حال إن كان بمعنى خلق، والمراد جعلها لكم كالمهد، ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته غير منقول لما ذكر، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة، وجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر منلفظه أي مهدها مهداً بمعنى بسطها ووطأها، والجملة حال من الفاعل أو المفعول، وقرأ كثير ‏{‏مهادا‏}‏ وهو على ما قال المفضل‏.‏

كالمهد في المصدرية والنقل‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ المهاد اسم والمهد مصدر، وقال بعضهم‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ هو جمع مهد ككعب وكعاب، والمشهور في جمعه مهود، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم ‏{‏وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ أي حصل لكم طرقاً ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر ‏{‏لَكُمْ‏}‏ وذكره أولاً لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء‏}‏ من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار ‏{‏مَاء‏}‏ هو المطر ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء وواسطته حيث أن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بأذن الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ أي عنده وإليه ذهب الإشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه فيه قوة الري مثلاً والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس‏.‏ وزعموا أن من قال‏:‏ إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الايمان وهو لعمري من المجازفة بمكان‏.‏

والظاهر أن يقال‏:‏ فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلف للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم‏.‏ ويقوي هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللاً باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه‏.‏

واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيباً عرفياً ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّنُحْيِىَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 49‏]‏ ولعل هذا أقرب انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ‏.‏

وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السموات والارض *وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ ‏{‏أزواجا‏}‏ أي أصنافاً أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض‏.‏

‏{‏مّن نبات‏}‏ بيان وصفة لأزواجا‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شتى‏}‏ أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرض وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم‏.‏

وقالوا‏:‏ من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الانعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُواْ وارعوا أنعامكم‏}‏ معمول قول محذوف وقع حالاً من ضمير ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ أي أخرجنا أصناف النبات قائلين ‏{‏كُلُواْ‏}‏ الخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالاً من المفعول أي أخرجنا أزواجاً مختلفة مقولاً فيها ذلك‏.‏ والأول أنسب وأولى‏.‏ ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال‏:‏ رعت الدابة رعياً ورعاها صاحبها رعاية إذا إسامها وسرحها وأراحها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من شؤنه تعالى‏.‏ وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل‏:‏ لعدم ذكر المشار إليه بلفظه‏.‏ والتنكير في قوله سبحانه ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ للتفخيم كما وكيفما أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته ‏{‏لاِوْلِى النهى‏}‏ جمع نهية بضم النون سمى بها العقل نهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمى بالعقل‏.‏ والحجر لعقله وحجره عن ذلك‏.‏ ويجيء النهي مفرداً بمعنى العقل كما في «القاموس» وهو ظاهر ما روى عن ابن عباس هنا فإنه قال‏:‏ أي لذوي العقل، وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ لذوي التقى‏.‏ ولعله تفسير باللازم‏.‏

وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدي والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شؤنه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائداً إليهم في الحقيقة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُواْ وارعوا‏}‏ دون كلوا أنتم والأنعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْهَا‏}‏ أي من الأرض‏.‏

‏{‏خلقناكم‏}‏ أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجمالياً مستتبعاً لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقاً للكل منها، وقيل‏:‏ المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال‏:‏ إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ بالإماتة وتفريق الأجزاء، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلي جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها ‏{‏وَمِنْهَا يُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏ بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة واحد من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، وما ألطف ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ الخ بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات هذا‏.‏

من باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 1‏]‏ يا ظاهراً بنا هادياً إلينا أو يا طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية وهادي الأنفس الزكية إلى المقامات العلية، وقيل‏:‏ إن ط لكونه بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الاعداد أعني الواحد والإثنين والثلاثة وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة وأربعين إشارة إلى آدم لأن أعداد حروفه كذلك، وه لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الأعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز، والإشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلى الله عليه وسلم أبو الخليقة وأمها فكأنه قيل‏:‏ يا من تكونت منه الخليقة، وقد أشار إلى ذلك العارف بن الفارض قدس سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية‏:‏

وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي منه معنى شاهد بابوتي

وقال في ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة‏:‏

طه النبي تكونت من نوره كل البرية ثم لو ترك القطا *** وقيل‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ في الحساب أربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكأنه قيل‏:‏ يا بدر سماء عالم الإمكان

‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يخشى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 2، 3‏]‏ أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سبباً لعودها ولله تعالى در من قال‏:‏

سقى الله أياماً لنا ولياليا *** مضت فجرت من ذكرهن دموع

فيا هل لها يوماً من الدهر أوبة *** وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

وقيل‏:‏ من يخشى هم العلماء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز وجل ليكون ذلك سوراً له مانعاً من تطرق شيء مما ذكر «الرحمن على العرش استوى» العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه، وقيل‏:‏ خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية‏.‏

وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه، وفي إحياء العلوم لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى‏:‏ «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع» أي الساكن المطمئن، وفي الرشدة لصدر الدين القونوي قدس سره بلفظ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى التقى الوادع» وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلاً عن أن تسعة سبحانه وتكون مطموح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وأن سميت قلبا فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز، وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكوفية الرومانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنشىء من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية، والقلب الصنوبري منزل تدلي الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهراً جامعاً للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه، هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون، فقال العراقي‏:‏ لم أر له أصلاً‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال‏:‏ إن الله تعالى فتح السموات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل‏:‏ سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى‏:‏ إن السموات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين‏.‏

نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في شفاء العليل ما نصه، وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القلوب آنية الله تعالى في أرضه فاحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها» انتهى‏.‏

وروى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني رفعه «إن لله تعالى آنية من الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينا وأرقها» وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا أنه صرح فيه بالتحديث؛ ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيباً من واسع رحمته جل وعلا ‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 7‏]‏ قيل‏:‏ السر أمر كامن في القلب كمون النار في السجر الرطب حتى تثيره الإرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل وإلا خفي ما في باطن ذلك‏.‏

وعند بعض الصوفية السر لطيفة بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك في محله‏.‏ وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه، واختلفوا في أنه هل هو أفضل من الذكر الخفي أو الذكر الخفي أفضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الإخفاء فيه أنه يختلف الأفضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر أفضل من الإخفاء تارة والإخفاء أفضل أخرى ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى إِذْ رَأَى نَاراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 9، 10‏]‏ قال الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تنبيه العقول‏:‏ إن تلك النار كانت مجلى الله عز وجل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث أنها كانت مطلوب موسى عليه السلام، واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضي الله عنه وسنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 8‏]‏ الآية «فاخلع نعليك» أترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة وسر مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا تلتفت إلى ما سواه سبحانه‏:‏ ‏{‏إنك بالوادي المقدس طوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ وهو وادي قدس جلال الله تعالى وتنزع عزته عز وجل، وقيل‏:‏ النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لأنهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الانسان فيتوصل بالمشي بهما إلى مقصوده كأنه قيل‏:‏ لا تلتفت إلى المقدمتين ودع الاستدلال فإنك في وادي معرفة الله تعالى المفعم بآثار ألوهيته سبحانه ‏{‏فاعبدنى‏}‏ قدم هذا الأمر للإشارة إلى عظم شرف العبودية، وثنى بقوله سبحانه ‏{‏وأقم الصلاةَ لِذِكْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ لأن الصلاة من أعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية‏.‏

‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ ايناس منه تعالى له عليه السلام فإنه عليه السلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالألوهية فسأله عن شيء بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته، قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذي الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأه عن الإيمان الذي كان بيده في الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فإذا ذكره زال عنه ما اعتراه، وقيل‏:‏ إن الله تعالى لما عرفه كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو أعظم نفعاً مما ذكره تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات الشيء الحاضر فلولا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها ‏{‏فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 20‏]‏ فيه إشارة إلى ظهور أثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه السلام فقال سبحانه‏:‏ «خذها ولا تخف» فهذا الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يأمن مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الايناس، وفي بعض الآثار «يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط»‏.‏

وقيل‏:‏ كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 21‏]‏ وهذا جهل بمقام موسى عليه السلام‏.‏ وكذا ما قيل‏:‏ إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏ ولو بلغه لم يفر‏.‏ وما قيل‏:‏ أيضاً لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده‏.‏

‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 22‏]‏ أراد سبحانه أن يريه أية نفسية بعد أن أراه عليه السلام آية آفاقية كما قال سبحانه‏:‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ وهذا من نهاية عنايته جل جلاله‏:‏ وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات‏.‏ منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيواناً والآخر وهو الكثيف نورانياً لطيفاً‏.‏ ثم أنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياً مستنيراً، ومنها أن العصا قد استعدت بيمين يمين موسى عليه السلام للحياة وصارت حية فيكق لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حيا‏.‏ ومنها إن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الامارة بالسوء، ومنها أن قوله تعالى أولاً‏:‏ ‏{‏اخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الاغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله‏.‏ وأشار سبحانه إلى علم المبتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى أَنَا الله‏}‏ وإلى علم الوسط بقوله عز وجل ‏{‏فاعْبُدْنِى وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه ‏{‏إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلاً‏:‏ ‏{‏وَأَنَا اخترتك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 13‏]‏ وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَصدّنكَ عَنْهَا‏}‏ - إلى - ‏{‏فتردى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 16‏]‏ وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف، ومنها أن موسى عليه السلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن لو الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله‏.‏ واستشكلت هذه الآية من حيث أنها تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام فيلزم مزيه الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسلام‏.‏ والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدى الرسالة‏.‏

وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى‏:‏ عن نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏ وقوله عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏قال هي عصاي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ الخ ترى الفرق واضحاً بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضاً عليهما الصلاة والسلام من وجه آخر وذلك أن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلاً مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولذا ورد في حقه ‏{‏حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ على معنى وحسب من اتبعك‏.‏ وأيضاً إنه عليه السلام بدأ بمصالح نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ هِىَ‏}‏ ثم مصالح رعيته بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشتغل إلا باصلاح أمر أمته اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلا جرم يقول موسى عليه السلام يوم القيامة‏.‏ نفسي نفسي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أمتي أمتي» انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جداً‏.‏ ولعمري أنه لا ينبغي أن يقتدي به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام‏.‏ وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعود بالله تعالى من الخذلان ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 25‏]‏ لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور‏.‏ الأول ذاته جل شأنه ‏{‏الله نُورُ السموات والارض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏، الثالث الكتاب ‏{‏واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، الرابع الإيمان‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏ الخامس عدل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الارض بِنُورِ رَبّهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏ السادس القمر ‏{‏وَجَعَلَ القمر نُوراً‏}‏ ‏[‏النوح‏:‏ 16‏]‏ السابع النهار ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏‏.‏

الثامن البينات ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ التاسع الأنبياء عليهم السلام ‏{‏نور على نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏؛ العاشر المعرفة ‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ فكان موسى عليه السلام قال أولاً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 25‏]‏ بمعرفة أنوار جلال كبريائك، وثانياً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ بالتخلق بأخرق رسلك وأنبيائك، وثالثاً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ باتباع وحبيك وامتثال أمرك ونهيك، ورابعاً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ بنور الإيمان والايقان بالهيتك، وخامساً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك‏.‏

وسادسا ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام، وسابعا ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك، وثامنا «رب اشرح لي صدري» بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك، وتاسعا ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابهاً لهم في الانقياد لحكم رب العالمين، وعاشراً ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ بأن يجعل سراح الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى‏.‏

ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض، وقال أيضاً‏:‏ إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج، ولا يخفى أن مستوقد السراج مجتاح إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، فالزند زند المجاهدة ‏{‏والذين جاهدوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ والحجر حجر التضرع ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ والمسرجة الصبر ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ والفتيلة الشكر و‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ‏}‏ ‏(‏إبراهيم 7‏)‏‏}‏ والدهن الرضا ‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ أي ارض بقضائه، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلاً‏:‏ ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ فهنالك تسمع ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 36‏]‏ ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه، الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبح ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ الثاني الشمس تغيب ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏سبحان الذي أسري بعبده ليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

الليل للعاشقين ستر *** يا ليت أوقاته تدوم

الثالث الشمس تفنى ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏ والمعرفة لا تفنى‏.‏ ‏{‏أصلها ثابت وفرعها في السماء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ يس‏:‏ 58‏)‏‏}‏، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، وشمس المعرفة وهي ‏{‏أُشْهِدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله‏}‏ إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح، الخامس الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيض الوجوه ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد‏.‏

السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الاحراف ‏{‏جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي‏}‏ الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفتعتها في الدارين ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏ التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي، الحادس عشر الشمس ترعف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلاً ‏{‏رب اشرح لي صدري ‏{‏وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيماً والسور محكماً عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه‏.‏

وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام ‏{‏أفمن شرح الله صدره للإسلام‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏ والقلب مقر الإيمان ‏{‏حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ والفؤاد مقر المشاهدة ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 11‏]‏ واللب مقام التوحيد ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالباب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 91‏]‏ أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي؛ وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة‏.‏ وأيضاً أنه عليه السلام راعي الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل‏:‏ ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 6‏]‏ ولما اجترأ في طلب الرؤية، قيل له‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز وجل ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 25‏]‏ وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر‏.‏

ويزيد الفرق ظهوراً أن موسى عليه السلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه وسلم حين قيل له هناك السلام عليك أيها النبي قال‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع إليه إن أردته ‏{‏واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 27، 28‏]‏ كأنه عليه السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار‏.‏ ولذا ترى كثيراً من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية في «شرح الأسرار الألهية» وقيل‏:‏ إنه عليه السلام سأل حل عقدة الحياء فإأنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا‏.‏ ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به ارشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به ارشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان‏}‏

‏[‏الرحمن‏:‏ 1 4‏]‏ من غير توسيط عاطف‏.‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة، وقال رضي الله عنه‏:‏ المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه، وقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ المرء باصغريه قلبه ولسانه، وقال زهير‏:‏

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم‏.‏

يموت الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجل

وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك، والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «رحم الله تعالى امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم»‏.‏ وذكر في وجه عدم طلبه عليه السلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له ‏{‏واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى اشدد بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 29-32‏]‏ فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك، وفيه إشارة أيضاً إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة‏:‏

ومن منع المستوجبين فقد ظلم *** وفي تقديم موسى عليه السلام مع أنه أصغر سناً على هارون عليه السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء ‏{‏إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 35‏]‏ في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل‏.‏ ومن آثار ذلك استجابة الدعاء ‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 37‏]‏ تذكير له عليه السلام بما يزيد إيقائه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يريد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل‏:‏ إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع إلا من الطريق ‏{‏واصطنعتك لنفسي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقاً بأخلاقهم متحلياً بآدابهم صالحاً للحضرة‏.‏ ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏ وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار

‏{‏اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 43‏]‏ جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك أثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا‏:‏ وصاحبه معذور وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون‏.‏ وأهل الغيره بالله تعالى يقولون‏:‏ لا فرق ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهر جوري‏:‏ إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه ‏{‏مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الارض بِنُورِ رَبّهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 96‏]‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلاً‏.‏ والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أريناه‏}‏ حكاية أخرى إجمالية لما جري بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة‏.‏ وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها‏.‏ والاراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضاً متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الأعلام وهو غير جائز‏.‏

وإسناد الاراءة إلى ضمير العظمة نظراً إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السلام نظراً إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان‏.‏ وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ الخ من كلامه عز وجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه ‏{‏ءاياتنا‏}‏ حين قال لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 106-108‏]‏‏.‏ وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء‏.‏ فإنه روي أنه عليه السلام لما ألقاها انقلبت ثعباناً أشعر فاغرافاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا‏.‏ وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول‏:‏ يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون‏:‏ أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضاً نورانياً خارجاً عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجباً من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحاً أكدت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّهَا‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصدا إلى بيان أنه لم يبق في ذلك عذر ما‏.‏ والإضافة على ما قرر للعهد‏.‏ وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 42‏]‏ وقيل‏:‏ المراد بها آيات موسى عليه السلام التسح كما روي عن ابن عباس فيما تقدم والإضافة للعهد أيضاً‏.‏ وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة‏.‏

ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد، وعد بعضهم منها ما جعل لآهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني اسرائيل من نتق الجبل والحجر الذي انفجرت منه العيون‏.‏ وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدي الأنبياء عليه السلام وحملوا الإضافة على استغراق الأفراد‏.‏ وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه السلام قد حكى جميع ما ذكر لفرعون وتلك الحكاية في حكم الإظهار والإراءة لاستحالة الكذب عليه عليه السلام‏.‏ ولا يخفى أن حكايته عليه السلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر ههنا مع أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه السلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جداً‏.‏ وأبعد من ذلك كله ادراج ما فصله عليه السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها في الآيات، وقيل‏:‏ الإضافة لاستغراق الأنواع و‏{‏كُلٌّ‏}‏ تأكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها، والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهي كما قال السخاوي‏:‏ ترجع إلى إيجاد معدوم أو اعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أرى اللعين جميع ذلك في العصا واليد وفي الانحصار نظر ومع الاغماض عنه لا يخلو ذلك عن بعد، وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات علي كرم الله تعالى وجهه أظهره الله تعالى لفرعون راكباً على فرس وذكروا من صفتها ما ذكروا‏.‏ والجمع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آيات بينات مَّقَامُ إبراهيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ وظهور بطلانه يغني عن التعرض لرده‏.‏

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبَ‏}‏ للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه السلام من غير تردد وتأخير ‏{‏وأبى‏}‏ أي قبول الآيات أو الحق أو الإيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الامتناع وكان تكذيبه وإيائه عند الأكثرين جحوداً واستكباراً وهو اوفق بالذم‏.‏ ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافاً أي صحة آياتنا وقال‏:‏ إن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى موسى‏}‏ استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه‏.‏ والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، وزعم أنه أمر محال والمجيء إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجيتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر وهذا مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قال ذلك ليحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه السلام بإبراز أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة إذ الإخراج من الوطن أخو القتل كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏ وسمى ما أظهره الله تعالى من المعجزة الباهرة سحراً لتجسيرهم على المقابلة‏.‏ ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ‏}‏ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة في جواب قسم محذوف كأنه قيل‏:‏ إذا كان كذلك فوالله لناتينك بسحر مثل سحرك ‏{‏فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً‏}‏ أي وعدا على أنه مصدر ميمي وليس باسم زمان ولا مكان لأن الظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ صفة له والضمير المنصوب عائد إليه‏.‏ ومتى كان زماناً أو مكاناً لزم تعلق الاخلاف بالزمان أو المكان وهو إنما يتعلق بالوعد يقال‏:‏ أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد ‏{‏نَحْنُ وَلا أَنتَ‏}‏ وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف وإن عدم إخلافه لا يوجب عدم إخلافه عليه السلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة ‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ بالجزم على أنه جواب للأمر أي إن جعلت ذلك لا نخلفه ‏{‏مَكَاناً سُوًى‏}‏ أي منصفاً بيننا وبينك كما روي عن مجاهد‏.‏ وقتادة أي محلاً واقعاً على نصف المسافة بيننا سواء بسواء، وهذا معنى قول أبي علي قربه‏.‏ منكم كقربه منا، وعلى ذلك قول الشاعر‏:‏

وإن أبانا كان حل بأهله *** سوى بين قيس قيس غيلان والفزر

أو محل نصف أي عدل كما روي عن السدي لأن المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على آخر كان معدلاً بين الجانبين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال‏:‏ أي مكاناً مستوياً من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكاناً يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحداً منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة‏.‏ وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه، وهذا المعنى عندي حسن جداً وإليه ذهب جماعة، وقيل‏:‏ المعنى مكاناً تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رياسة ولا تؤدي سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن، وربما يرجع إلى معنى منصفاً أي محل نصف وعدل‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏سُوًى‏}‏ بمعنى غير والمراد مكاناً غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة، وانتصاب ‏{‏مَكَاناً‏}‏ على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه ‏{‏مَّوْعِدًا‏}‏ أي عد مكاناً لا لموعداً لأنه كما قال ابن الحاجب‏:‏ مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ‏.‏

وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقاً وهو ضعيف، وقال ابن عطية‏:‏ يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفاً لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون ‏{‏مَكَاناً‏}‏ منصوباً على الظرفية بموعداً‏.‏ ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه، فقد قال الرضي‏:‏ يشترط في نصب ‏{‏مَكَاناً‏}‏ على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسلم إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك‏:‏ تكلم مكانك، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ على أنه مضمن معنى المجىء أو الإتيان، وجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف وقع حالاً من فاعل ‏{‏نُخْلِفُهُ‏}‏ ويقدر كوناً خاصاً لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكاناً‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ ونافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏سُوًى‏}‏ بكسر السين والتنوين وصلاً، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك، ووقف أبو بكر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي بالإمالة‏.‏ وورش‏.‏ وأبو عمرو بين بين‏.‏

وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفاً ووصلاً، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفاً ووصلاً أيضاً، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة‏.‏ وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدي‏.‏

وذكر بعض أهل اللغة أن فعلاً بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو، وزاد الزمخشري سوى‏.‏ وغيره روي بمعنى مرو، وقال الأخفش‏:‏ سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي موسى عليه السلام، قال في «البحر»‏:‏ وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمري أنه لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏ هو يوم عيد كان لهم في كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روي عن مجاهد‏.‏ وقتادة، وقيل‏:‏ يوم النيروز وكان رأس سنتهم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذٍ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة ‏"‏ وقيل‏:‏ يوم كسر الخليج، وفي «البحر» أنه باق إلى اليوم، وقيل‏:‏ يوم سوق لهم، وقيل‏:‏ يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود، وظاهر صنيع أبي حيان اختيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت‏.‏

والظاهر أن الموعد ههنا اسم زمان للإخبار عنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم، وإنما لم يصرح عليه السلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه السلام للإشارة إلى أنه عليه السلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبهة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه السلام قبل طلبه إياه فلا ينبغي له طلبه، وفيه إيذان بكمال وثوقه من أمره، ولذا خص عليه السلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذي هو يوم مشهود وللاجتماع معدود، ولم يذكر عليه السلام المكان الذي ذكره اللعين لأنه بناءً على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاماً للتفضل عليه عليه السلام يريد بذلك إظهار الجلادة فاعرض عليه السلام عن ذكره مكتفياً بذكر الزمان المخصوص للإشارة إلى استغنائه عن ذلك وأن كل الأمكنة بعد حصول الاجتماع بالنسبة إليه سواء‏.‏ وأما على المعنى الثاني فيحتمل أنه عليه السلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فإن من عادة الناس في الأعياد في كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والاجتماع في الأرض السهلة التي لا يمنع فيها شيء عن رؤية بعضهم بعضاً، وبالجملة قد أخرج عليه الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم، ولله تعالى در الكليم ودره النظيم، وقيل‏:‏ الموعد ههنا مصدر أيضاً ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة، ويكتفي عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه، وقيل‏:‏ الموعد في السؤال اسم مكان وجعله مخلفاً على التوسع كما في قوله‏:‏ ويوماً شهدنا أو الضمير في

‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏ للوعد الذي تضمنه اسم المكان على حد ‏{‏اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الاستخدام، والجملة في الاحتمالين معترضة‏.‏

ولا يجوز أن تكون صفة إذ لا بد في جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه، والقول بحذفه ليس بشيء ‏{‏ومكاناً‏}‏ على ما قال أبو علي مفعول ثان لـِ ‏{‏أجعل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏، وقيل‏:‏ بدل أو عطف بيان، والموعد في الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذٍ فيه أو هو اسم مكان أيضاً ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الإخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة، وقيل‏:‏ الموعد في الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف أعني مكان وأقيم هو مقامه ويجعل ‏{‏مَكَاناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏ تابعاً للمقدر أو مفعولاً ثانياً؛ وفي الثاني إما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد إليه قوله‏:‏

قالوا الفراق فقلت موعده غد *** والمطابقة معنوية وإما اسم مكان، ويقدر مضاف في الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت، وإما مصدر أيضاً ويقدر مضافان أحدهما في جانب المبتدأ والآخر في جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى، وقيل‏:‏ يقدر في الأول مضافان أي مكان إنجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الإضافة لأدنى ملابسة، والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف في الثاني أي موعودكم مكان يوم الزينة وهو مبني على توهم باطل أشرنا إليه، وقيل‏:‏ هو في الأول والثاني اسم زمان و‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏ من باب الحذف والإيصال والأصل لا نخلف فيه و‏{‏مَكَاناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏ ظرف لـِ ‏{‏اجعل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 58‏]‏ وإلى هذا أشار في «الكشف» فقال‏:‏ لعل الأقرب مأخذاً أن يجعل المكان مخلفاً على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك في مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلف فيه فالمطابقة حاصلة لفظاً ومعنى و‏{‏مَكَاناً‏}‏ ظرف لغو انتهى‏.‏

واعترض بما لا يخفى رده على من أحاط خبراً بأطراف كلامنا‏.‏ وأنت تعلم أن الاحتمالات في هذه الآية كثيرة جداً والأولى منها ما هو أوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتأمل‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وعاصم في رواية‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وقتادة‏.‏ والجحدري، وهبيرة‏.‏ والزعفراني ‏{‏يَوْمُ الزينة‏}‏ بنصب ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وهو ظاهر في أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان في زمان بخلاف الحدث، أما الأول فلأنه لا فائدة فيه لحصوله في جميع الأزمنة؛ وأما الثاني فلأن الزمان لا يكون ظرفاً للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشيء في نفسه، وأما مثل ضحى اليوم في اليوم فهو من ظرفية الكل لأجزائه وهي ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر‏.‏

وقيل‏:‏ إنه يستدل بظاهر ذلك على كون الموعد أولاً مصدراً أيضاً لأن الثاني عين الأول لإعادة النكرة معرفة، وفي «الكشف» لعل الأقرب مأخذاً على هذه القراءة أن يجعل الأول زماناً، والثاني مصدراً أي وعدكم كائن يوم الزينة‏.‏

والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعاً وبين الوعد يوم كذا نصباً في الحاصل بل هو من الأسلوب الحكيم لاشتماله على زيادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏ عطف على الزينة، وقيل‏:‏ على يوم، والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل، وانتصب ‏{‏ضُحًى‏}‏ على الظرف وهو ارتفاع النهار ويؤنث ويذكر، والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى‏.‏

وجوز على القراءة بنصب ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ أن يكون ‏{‏مَوْعِدُكُمْ‏}‏ مبتدأ بتقدير وقت مضاف إليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم، والظرف متعلق به و‏{‏ضُحًى‏}‏ خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ولو لم يعرف لم يكن مطابقاً لمطلبهم حيث سألوه عليه السلام موعداً معيناً لا يخلف وعده، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الموعد زماناً و‏{‏ضُحًى‏}‏ خبره و‏{‏يَوْمُ الزينة‏}‏ حالاً مقدماً وحينئذٍ يستغني عن تعريف ضحى وليس بشيء ثم إن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لا على معنى جعل ‏{‏ضُحًى‏}‏ أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ قال ابن جني‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏أَن يُحْشَرُواْ‏}‏ عطفاً على الموعد كأنه قيل‏:‏ إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة‏.‏ وكأنه جعل الموعد عبارة عما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه وهو كما ترى‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبو عمران الجوني‏.‏ وأبو نهيك‏.‏ وعمرو بن قائد ‏{‏بِرَبّ الناس‏}‏ بتاء الخطاب ونصب ‏{‏الناس‏}‏ والمخاطب بذلك فرعون‏.‏ وروي عنهم أنهم قرأوا بياء الغيبة ونصب ‏{‏الناس‏}‏ والضمير في ‏{‏يُحْشَرُ‏}‏ على هذه القراءة إما لفرعون وجىء به غائباً على سنن الكلام مع الملوك، وإما لليوم والإسناد مجازي كما في صام نهاره، وقال صاحب اللوامح‏:‏ الفاعل محذوف للعلم به أي وأن يحشر الحاشر الناس‏.‏

وأنت تعلم أن حذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، نعم قيل في مثله‏:‏ إن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فتولى فِرْعَوْنُ‏}‏ أي انصرف عن المجلس، وقيل‏:‏ تولى الأمر بنفسه وليس بذاك‏.‏ وقيل‏:‏ أعرض عن قبول الحق وليس بشيء ‏{‏فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم أو ذوي كيده ‏{‏ثُمَّ أتى‏}‏ أي الموعد ومعه ما جمعه‏.‏ وفي كلمة التراخي إيماءً إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد بطء وتلعثم، ولم يذكر سبحانه إتيان موسى عليه السلام بل قال جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى‏}‏ للإيذان بأنه أمر محقق غني عن التصريح به، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل‏:‏ فماذا صنع موسى عليه السلام عند إتيان فرعون بمن جمعه من السحرة‏.‏ فقيل‏:‏ قال لهم بطريق النصيحة ‏{‏وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بأن تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحراً كما فعل فرعون ‏{‏فَيُسْحِتَكُم‏}‏ أي يستأصلكم بسبب ذلك‏.‏

‏{‏بِعَذَابِ‏}‏ هائل لا يقادر قدره‏.‏ وقرأ جماعة من السبعة‏.‏ وابن عباس ‏{‏فَيُسْحِتَكُم‏}‏ بفتح الياء والحاء من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة نجد وتميم، وأصل ذلك استقصاء الحلق للشعر ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقاً ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى‏}‏ أي على الله تعالى كائناً من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولاً أولياً أو قد خاب فرعون المفترى فلا تكونوا مثله في الخيبة وعدم نجح الطلبة، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏فتنازعوا‏}‏ أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه السلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام وتشاوروا وتناظروا ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏ بالغوا في إخفاء كلامهم عن موسى وأخيه عليهما السلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه، وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائي‏.‏ وأبو مسلم ما نطق به قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي بطريق التناجي والإسرار ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ الخ فإنه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور‏.‏

وقيل‏:‏ كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السلام ما هذا بقول ساحر، وروي ذلك عن محمد بن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك أن قالوا‏:‏ إن غلبنا موسى اتبعناه، ونقل ذلك عن الفراء‏.‏ والزجاج‏.‏

وقيل‏:‏ كان ذلك أن قالوا‏:‏ إن كان هذا ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر، وروي ذلك عن قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون المراد من ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 62‏]‏ أمر موسى عليه السلام وإضافته إليهم لأدنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون إسرارهم من فرعون وملئه، ويحمل قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ الخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت آراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستأنف استئنافاً بيانياً كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقبل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنْ هاذان‏}‏ الخ‏.‏

وجعل الضمير في ‏{‏قَالُواْ‏}‏‏:‏ لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة رداً لهم عن الاختلاف وأمرا بالإجماع والإزماع وإظهار الجلادة مخمل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم، نعم لو جعل ضمير ‏{‏تنازعوا‏}‏ والضمائر الذي بعده لهم كما ذهب إليه أكثر المفسرين أيضاً لم يكن فيه ذلك الإخلال وإن مخففة من إن وقد أهملت عن العمل واللام فارقة‏.‏

وقرأ ابن كثير بتشديد نون ‏{‏هذان‏}‏ وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إن نافية واللام واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساخران‏.‏ ويؤيده أنه قرىء كذلك‏.‏ وفي رواية عن أبي أنه قرأ ‏{‏إِنْ هاذان إِلا‏}‏‏.‏ وقرىء ‏{‏ءانٍ‏}‏ بدون هاء التنبيه ‏{‏إِلا‏}‏‏.‏ وعزاها ابن خالويه إلى عبد الله‏.‏ وبعضهم إلى أبي وهي تؤيد ذلك أيضاً‏.‏ وقرىء ‏{‏ءانٍ هاذان لساحران‏}‏ بإسقاط هاء التنبيه فقط‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ والحسن‏.‏ وشيبة‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وحميد‏.‏ وأيوب‏.‏ وخلف في اختياره‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ وأبو حاتم‏.‏ وابن عيسى الأصبهاني‏.‏ وابن جرير‏:‏ وابن جبير الأنطاكي‏.‏ والأخوان‏.‏ والصاحبان من السبعة ‏{‏ءانٍ‏}‏ بتشديد النون ‏{‏هذان‏}‏ بألف ونون خفيفة، واستشكلت هذه القراءة حتى قيل‏:‏ إنها لحن وخطأ بناءً على ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏‏.‏ وعن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكواة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏ وعن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هَادُواْ والصابئون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 69‏]‏ فقالت‏:‏ يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطي‏.‏

وهذا مشكل جداً إذ كيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن وهم الفصحاء اللد، ثم كيف يظن بهم ثانياً الغلط في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل ولم يألوا جهداً في حفظه وضبطه وإتقانه، ثم كيف يظهر بهم ثالثاً اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته، ثم كيف يظن بهم رابعاً عدم تنبههم ورجوعهم عنه، ثم كيف يظن خامساً الاستمرار على الخطأ وهو مروى بالتواتر خلفاً عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن‏.‏

وقد خرجت هذه القراءة على وجوه، الأول أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ بمعنى نعم وإلى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله‏:‏

بكر العواذل في الصبو *** ح يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه

والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له‏:‏ لعن الله ناقة حملتني إليك إن وراكبها إذ قد قيل‏:‏ في البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هي الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنه كذلك ولا يصح أن يقال‏:‏ إنها في الخبر كذلك وحذف الجزءان لأن حذف الجزأين جميعاً لا يجوز‏.‏ وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت، أو هو نادر‏.‏ وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضي جواباً حتى تقع نعم في جوابه‏.‏ والقول بأنه يفهم من صدر الكلام أن منهم من قال‏:‏ هما ساحران فصدق وقيل‏:‏ نعم بعيد‏.‏ ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 57‏]‏ وأيضاً إن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ‏.‏

وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليست للابتداء كما في قوله‏:‏

أم الحليس لعجوز شهربه *** ترضى من اللحم بعظم الرقبة

أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران، كما اختاره الزجاج وقال‏:‏ عرضته على عالمنا وشيخنا وأستاذنا محمد بن زيد يعني المبرد‏.‏ والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا أو بأنها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظاً كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية في قوله‏:‏

ورج الفتى للخير ما إن رأيته *** على السن خيراً لا يزال يزيد

ورد الأول‏:‏ بأن زيادتها في الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابوري‏.‏ وزيف الثاني أبو علي في الإغفال بما خلاصته أن التأكيد فيما خيف لبسه فإذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التأكيد، ولو كان ما ذكر وجهاً لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولا تقاس على أن حيث حذف معها الخبر في‏:‏

إن محلا وإن مرتحلا *** وإن اجتمعا في التأكيد لأنها مشبهة بلا وحمل النقيض على النقيض شائع، وابن جني بأن الحذف من باب الإيجاز والتأكيد من باب الأطناب والجمع بينهما محال للتنافي‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل في البيت ممكن أيضاً واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للآخر واجتماع ألا يجازوا الأطناب مع اختلاف الوجه غير محال‏.‏ وأصدق شاهد على دخول اللام في مثل هذا الكلام ما رواه الترمذي‏.‏ وأحمد‏.‏ وابن ماجه ‏{‏أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ‏}‏ نعم لا نزاع في شذوذ هذا الحذف استعمالاً وقياساً‏.‏

الثاني‏:‏ أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة‏.‏ وضعف بأن ضمير الشان موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما في قوله‏:‏

إن من لام في بني بنت حسا *** ن ألمه وأعصه في الخطوب

وقوله‏:‏

إن من يدخل الكنيسة يوما *** يلق فيها جآذرا وظباء

ضرورة أو شاذ إلا في باب إن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعاً لحذف النون ولأنه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، ثم يرد بحث دخول اللام في الخبر، وإن التزم تقدير مبتدأ داخلة هي عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل، الثالث‏:‏ أنها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجلمة ‏{‏هاذان لساحران‏}‏ خبرها، وضعف بأنه يقتضي وصل ها بإن من إثبات الألف وفصل ها من ‏{‏ذان‏}‏ في الرسم وما في المصحف ليس كذلك، ومع ذلك يرد بحث دخول اللام‏.‏

الرابع‏:‏ أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 111‏]‏ أو حطاً لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى‏.‏ وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحالة‏.‏ الخامس‏:‏ وهو أجود الوجوه وأوجهها‏.‏ واختاره أبو حيان‏.‏ وابن مالك‏.‏ والأخفش‏.‏ وأبو علي الفارسي‏.‏ وجماعة أنها الناصبة‏.‏ واسم الإشارة اسمها‏:‏ واللام لام الابتداء و‏{‏ساحران‏}‏ خبرها؛ ومجىء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً قال شاعرهم‏:‏

واها لريا ثم واها واها *** يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها *** بثمن نرضى به أباها

وقال الآخر‏:‏

وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى *** مساغاً لنا باه الشجاع لصمما

وقالوا‏:‏ ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة الكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحرث بن كعب‏.‏ وخثعم‏.‏ وزبيد‏.‏ وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي‏.‏ ولبني العنبر‏.‏ وبني الهيجم‏.‏ ومراد وعذرة‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً، وابن الحاجب يقول‏:‏ إن ‏{‏يَشَاء هذان‏}‏ مبني لدلالته على معنى الإشارة‏.‏ وإن قول الأكثرين هذين جراً ونصباً ليس إعراباً أيضاً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف ‏{‏ساحران‏}‏ اه‏.‏ وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها‏:‏ اخطؤا على معنى أخطؤا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضاً‏.‏

وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها‏.‏ ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال‏:‏ إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة‏.‏ ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك‏.‏ ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحناً اللهم إلا أن يقال‏:‏ أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قول ابن جبير المروي عنه بطرق في ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏ هو لحن من الكاتب أو يقال‏:‏ أراد به اللحن بحسب بادىء الرأي‏:‏ وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس‏.‏ وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة‏.‏ ولعل الخبر السابق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي‏:‏ إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد‏.‏ وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال‏:‏ لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال‏:‏ لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال‏:‏ ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع‏.‏

والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلاً ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه‏.‏

والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يألوا جهداً في إتقانه وحفظه‏.‏

وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروى كان يكون مناقضاً لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ أبو عمرو ‏{‏ءانٍ‏}‏ بتشديد نون ‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ وبالياء في ‏{‏هذين‏}‏‏.‏ وروي ذلك عن عائشة‏.‏ والحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ والنخعي‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن عبيد‏.‏ وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في «الدر المصون» قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه‏.‏ ولذا قال الزجاج‏:‏ أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضاً‏.‏

‏{‏لساحران يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ أي أرض مصر بالاستيلاء عليها ‏{‏بِسِحْرِهِمَا‏}‏ الذي أظهراه من قبل، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما السلام سالكاً طريقته‏.‏ وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر‏.‏

‏{‏وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى‏}‏ أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه ديناً‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف‏.‏ والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏ وكانوا أرباب علم فيما بينهم‏.‏

وأخرج ذلك ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏.‏ وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكناً وتصرفاً فكيف يتصور حينئذٍ نقل بني إسرائيل إلى الشام‏.‏ وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، على أن هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم أيضاً عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم‏.‏ وحكى فلان طريقة قومه أي سيدهم، وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق‏.‏

وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية، وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان، فما قيل‏:‏ إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء، وقيل‏:‏ إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضاً لأنهم كانوا أكثر منهم نشباً وأشرف نسباً وفيه ما مر آنفاً، واعترض أيضاً بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب‏.‏

وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ‏}‏ تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات‏.‏ والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة‏.‏

وقرأ الزهري‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ ويعقوب في رواية‏.‏ وأبو حاتم ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع‏.‏ ويعضده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 60‏]‏ وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات‏.‏ وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال‏:‏ أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس‏.‏

وفي المحكم أنه يقال‏:‏ جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعاً وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء‏:‏ إذا أردت جمع المتفرق قلت‏:‏ جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول‏:‏ أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي‏:‏ يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعاً، وقال أبو الهيثم‏:‏ أجمع أمره أي جعله جميعاً وعزم عليه بعد ما كان متفرقاً وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئاً إلى شيء، وقال الفراء‏:‏ في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به ‏{‏ثُمَّ ائتوا صَفّاً‏}‏ أي مصطفين أمروا بذلك لأن أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين‏.‏ قيل‏:‏ كانوا سبعين ألفاً مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة، وقيل‏:‏ كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل، وقيل‏:‏ تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل‏:‏ خمسة عشر ألفاً، وقيل بضعة وثلاثين ألفاً، ولا يخفى حال الإخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم، ولعل الموعد كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة، وعلى هذا التفسير يكون ‏{‏صَفَّا‏}‏ مفعولاً به‏.‏

وقرأ شبل بن عباد‏.‏ وابن كثير في رواية شبل عنه ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم، وقال صاحب اللوامح‏:‏ إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك ‏{‏صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى‏}‏ اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب‏.‏

فاستفعل بمعنى فعل كما في «الصحاح» أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في «البحر»‏.‏ فاستفعل على بابه، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلاً عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 114‏]‏ وبمن استعلى أنفسهم جميعاً على طريقة قولهم ‏{‏بعزة فرعون إنا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ أو من استعلى منهم حثاً على بذل المجهود في المغالبة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذوم وقد يكون لغيره وهو ههنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكياً عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى‏.‏ وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه‏.‏

وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول‏.‏