فصل: تفسير الآية رقم (65)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك‏؟‏ فقيل قالوا‏:‏ ‏{‏حَدِيثُ موسى‏}‏ وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعاراً بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان ‏{‏إِمَّا أَن تُلْقِىَ‏}‏ أي ما تلقيه أولاً على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولاً على أن الفعل منزل منزلة اللازم ‏{‏وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه السلام وقدموه على أنفسهم إظهاراً للثقة بأمرهم، وقيل‏:‏ مراعاة للأدب معه عليه السلام‏.‏ وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار القاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما القاؤك أو كوننا أول من القى‏.‏ واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي القاؤك أول بقرينة ‏{‏أَوْ نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ وبه تتم المقابلة لكنها معنوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر كأنه قيل‏:‏ فماذا قال عليه السلام‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَلْقُواْ‏}‏ أنتم أولاً إظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافاً لما أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا‏:‏ وإما أن نلقى وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه‏.‏

قيل وفي ذلك أيضاً مقابلة أدب بأدب، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظناً منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعاً لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي‏:‏ إفعل ما أردت، وقال أبو حيان‏:‏ هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين‏.‏ وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير يريدون ملاحظة غيره‏.‏

وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف‏.‏ والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه‏.‏

‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفلق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ أي فالقوا فإذا حبالهم الخ‏.‏ وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة‏.‏ وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضاً وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار أبي حيان والعامل فيها هنا ‏{‏أَلْقَوْاْ‏}‏ عند أبي البقاء‏.‏ ورد بأن الفاء تمنع من العمل، وفي «البحر» إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو ‏{‏حبالهم وَعِصِيَّهُمْ‏}‏ إن لم يجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة ‏{‏يُخَيَّلُ‏}‏ وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح‏.‏ وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً‏.‏ ولصحة وقوعها خبراً يكتفي بها وبالمرفوع بعدها كلاماً فيقال‏:‏ خرجت فإذا الأسد‏.‏ ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال‏:‏ خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً، وفي «الكشاف» التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى، وعنى بقوله‏:‏ هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعاً لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ، وما قيل‏:‏ إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها‏.‏

وضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين، وقيل‏:‏ لفرعون وليس بشيء، وأن وما في حيزها نائب فاعل ‏{‏يُخَيَّلُ‏}‏ أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالباً أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة الوجود بواسطة أسماء وغيرها‏.‏

وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صوراً في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى‏.‏ وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كلياً وهو عندي بعض من علم السحر‏.‏ وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال‏:‏ والسحر منه حقيقي‏.‏ ومنه غير حقيقي؛ ويقال له‏:‏ الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا بمجموع الأمرين انتهى، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقاً فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة‏.‏

ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلاً في ميل؛ وقيل‏:‏ حفروا الأرض وجعلوا فيها ناراً ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت‏.‏ وفي القلب من صحة كلا القولين شيء‏.‏

والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم، وروي ذلك عن وهب‏.‏

وقيل‏:‏ لم يحصل‏.‏ والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلاً وهو خلاف الظاهر جداً، وقرأ الحسن وعيسى ‏{‏عصيهم‏}‏ بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهور وقرأ الزهري‏.‏ والحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وقتادة‏.‏ والجحدري‏.‏ وروح‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ وغيرهم ‏{‏تخيل‏}‏ بالتاء الفوقانية مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي‏.‏ و‏{‏سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطاً لكونه ليس ساقطاً من كل الوجوه‏.‏

وقرأ أبو السمال ‏{‏تخيل‏}‏ بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضاً ضمير ما ذكر و‏{‏سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ بدل منه أيضاً، وقال ابن عطية‏:‏ هو مفعول من أجله، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل‏:‏ عن أبي السمال أنه قرىء ‏{‏تخيل‏}‏ بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و‏{‏سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ نصب على المفعول به‏.‏ ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن‏.‏ وعيسى الثقفي ومن بني ‏{‏تخيل‏}‏ للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء‏.‏

وروي الحسن بن يمن عن أبي حيوة ‏{‏مّن نَّخِيلٍ‏}‏ بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى و‏{‏أَنَّهَا تسعى‏}‏ مفعول به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى‏}‏ الإيجاس الإخفاء‏.‏ والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى‏.‏ والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن، وقال مقاتل‏:‏ خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم‏.‏ وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم، وقيل‏:‏ التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفاً عظيماً، وقال بعضهم‏:‏ إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ ‏[‏الرغد‏:‏ 13‏]‏ ولا يأباه الإيجاس، وقيل‏:‏ يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل، وقيل‏:‏ إنه أنسب أيضاً بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام سمع لما قالوا ‏{‏إما أن تلقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 65‏]‏ الخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه‏.‏ وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْنَا لاَ تَخَفْ‏}‏ أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته، وقيل‏:‏ حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الاعلى‏}‏ تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبىء عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد‏.‏ والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضاً مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ‏}‏ أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف‏.‏

وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاهده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏، وقال بعض المحققين‏:‏ إنما أوثر الإبهام تهويلاً لأمرها وتفخيماً لشأنها وإيذاناً بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة‏.‏ وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى‏.‏ وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 78‏]‏ ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه السلام‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي، وقيل‏:‏ الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها‏.‏ وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان، وما يحتمل أن أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين، وقيل‏:‏ الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ‏}‏ بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذق باليد أو بالفم، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير‏.‏ وقرأ الأكثرون ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من ‏{‏تتلقف‏}‏‏.‏

وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً أو حال مقدرة من فاعل ألق بناءً على تسببه أو من مفعوله أي متلقفاً أو متلقفة؛ وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فإن ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية‏.‏ وزعم بعضهم إن هذا صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ‏}‏ الخ تعليل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ‏}‏ وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه أو إن صنعهم ‏{‏كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏ بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مراداً‏.‏

واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذٍ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن‏.‏ وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخَيَّلُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 66‏]‏ الخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق، وقيل‏:‏ نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف‏.‏ وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود‏.‏ وأيضاً ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره‏.‏ وقيل‏:‏ إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ وحميد‏.‏ وزيد بن علي عليهم الرحمة ‏{‏كَيْدَ‏}‏ بالنصب على أنه مفعول ‏{‏صَنَعُواْ‏}‏ وما كافة‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو بحرية‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وخلف في اختياره‏.‏ وابن عيسى الأصبهاني‏.‏ وابن جبير الأنطاكي‏.‏ وابن جرير ‏{‏ساحر‏}‏ بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحراً مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر‏.‏ وقيل‏:‏ على أن الإضافة لبيان أن الكيد من جنس السحر‏.‏ وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص‏.‏ وهي على معنى اللام عند شارح الهادي وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية‏.‏ ويحمل فيما وجدت فيه المضاف إليه على المضاف‏.‏ ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك‏.‏

وقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحر‏}‏ أي هذا الجنس ‏{‏حَيْثُ أتى‏}‏ حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل‏.‏ ولم يتعرض لشأن العصا وكونه معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى‏}‏ قال‏:‏ لا يؤمن حيث وجد» وقرأت فرقة ‏{‏أَيْنَ أتى‏}‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً‏}‏ فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجداً لله تعالى تائبين مؤمنين به عز وجل وبرسالة موسى عليه السلام‏.‏

روي أن رئيسهم قال‏:‏ كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته‏.‏ وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباءً منبثاً وانعدامها بالكلية ممكن عندنا، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود، قيل‏:‏ إنهم لم يرفعوا رؤوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة‏.‏ واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف‏.‏ وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدماً على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏ الخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف كما مر غير مرة ‏{‏ءامَنَّا بِرَبّ هارون وموسى‏}‏ تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولاً وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه السلام لرعاية الفواصل، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه السلام لأنه أكبر سناً، وقول السيد في «شرح المفتاح»‏:‏ إن موسى أكبر من هارون عليهما السلام سهو‏.‏ وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربى موسى عليه السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون وتقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة‏.‏

وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع‏.‏ واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي فرعون للسحرة ‏{‏ءامَنتُمْ لَهُ‏}‏ أي لموسى كما هو الظاهر‏.‏ والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة‏.‏ وإنما عدى هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدي بها يقال‏.‏ انقاد له لا الاتباع كما قيل‏:‏ لأنه متعد بنفسه يقال‏:‏ اتبعه ولا يقال‏:‏ اتبع له، وفي «البحر» إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو ‏{‏يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ‏{‏فما آمن لموسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ الخ‏.‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتم منه، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون ضمير ‏{‏لَهُ‏}‏ للرب عز وجل، وفي الآية حينئذٍ تفكيك ظاهر‏.‏

وقرأ الأكثر ‏{‏أَءمِنتُمْ‏}‏ على الاستفهام التوبيخي‏.‏ والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضاً لا فائدة الخبر أو لازمها ‏{‏قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ يعني موسى عليه السلام ‏{‏لَكَبِيرُكُمُ‏}‏ لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم ‏{‏الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ كأن اللعين وبخهم أولاً على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه‏.‏ ثم استشعر أن يقولوا‏:‏ أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ الخ أي ذلك غير معتد به أيضاً لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف، وقيل‏:‏ هي تعليل للمذكور قبل‏.‏ وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال‏:‏ ‏{‏فَلاقَطّعَنَّ‏}‏ أي إذا كان الأمر كذلك فاقسم لأقطعن ‏{‏أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية‏.‏

وقال الطبرسي‏:‏ بمعنى عن أو على وليس بشيء‏.‏ والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة‏.‏ والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق باقطعن، وقيل‏:‏ متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيعه مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة‏.‏

ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكاً وتفويتاً للمنفعة، وزعم بعضهم أنها أفظع ‏{‏وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل‏}‏ أي عليها‏.‏ وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه‏.‏ وعلى ذلك قوله‏:‏

وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة *** فلا عطست شيبان إلا باجدعا

وفيه استعارة تبعية‏.‏ والكلام في ذلك شهير‏.‏ وقيل‏:‏ لا استعارة أصلاً لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعاً وعطشاً ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب‏.‏ ولا ينافيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ لأن المراد الغلبة بالحجة‏.‏ وقال الإمام‏:‏ لم يثبت ذلك في الأخبار‏.‏ وأنت تعلم أن الظاهر السلامة‏.‏ وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير‏.‏ وقرىء بالتخفيف فيهما‏.‏

‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى‏}‏ يريد من ن نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءامَنتُمْ لَهُ‏}‏ بناءً على الظاهر فيه‏.‏ واختار ذلك الطبري‏.‏ وجماعة‏.‏ وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضاً، واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عز وجل الذي آمنوا به بقولهم‏:‏ ‏{‏امَنَّا بِرَبّ هارون موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ‏}‏ هنا معلق و‏{‏فِرْعَوْنَ أَشَدَّ‏}‏ جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة‏.‏ ويجوز على هذا الوجه أن يكون ‏{‏أَيُّنَا‏}‏ مفعولاً وهو مبني على رأي سيبويه و‏{‏أَشَدَّ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد‏.‏ والجملة صلة أي والعائد الصدر، و‏{‏عَذَاباً‏}‏ تمييز‏.‏ وقد استغنى بذكره مع ‏{‏أَشَدَّ‏}‏ عن ذكره مع ‏{‏أبقى‏}‏ وهو مراد أيضاً‏.‏ واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام‏.‏ وقيل‏:‏ لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ ‏{‏أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم‏.‏ ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى أنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ غير مكترثين بوعيده ‏{‏لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏ لن نختارك بالإيمان والانقياد ‏{‏على مَا جَاءنَا‏}‏ من الله تعالى على يد موسى عليه السلام ‏{‏مِنَ البينات‏}‏ من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليها العصا‏.‏ وإنما جعلوا المجىء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد‏.‏ وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء‏.‏ وقيل العائد محذوف وضمير ‏{‏جَاءنَا‏}‏ لموسى عليه السلام أي على الذي جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد‏.‏ وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاماً‏.‏

‏{‏والذى فَطَرَنَا‏}‏ أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات‏.‏ وهو عطف على ‏{‏مَا جَاءنَا‏}‏ وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة‏.‏ وإبراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم‏.‏ وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل‏.‏ وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية‏.‏ وقيل‏:‏ الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك الخ‏.‏ ولا مساغ لكون المذكور جواباً عند من يجوز تقديم الجواب أيضاً لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان‏:‏ بلن إلا في شاذ من الشعر‏.‏ وقولهم‏:‏ هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله‏:‏ ‏{‏آمنتم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ الخ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ جواب عن تهديده بقوله‏:‏ ‏{‏لأقطعن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ الخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء إما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ وأما بمعناه المعروف‏.‏ وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف‏.‏

وجوز أبو البقاء كونها مصدري وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى ‏{‏إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا‏}‏ مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة و‏{‏هذه الحياة‏}‏ منصوب محلاً على الظرفية لتقضي والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مدر اسم أن وخبرها ‏{‏هذه الحياة‏}‏ أي أن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف‏.‏

وقرأ ابن حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏إِنَّمَا تَقْضِى‏}‏ بالبناء للمفعول ‏{‏هذه الحياة‏}‏ بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولاً به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

إنَّا ءَامَنَّا برَبِّنَا ليَغْفرَ لَنَا خَطَايَانَا‏}‏ التي اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بهذا في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر‏}‏ عطف على ‏{‏خطايانا‏}‏ أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهاراً لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستفغار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل‏:‏ إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يتعلمو السحر وقال‏:‏ علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهو الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 37‏]‏، وقال الحسن‏:‏ كان يأخذ ولدار الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل‏:‏ إنه أكرههم على المهعارضة حيث روى أنهم قالوا له‏:‏ أرنا موسى نائم ففعل بوجوده تحرسه عصاه فقالوا‏:‏ ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضو ولا ينافي ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ لاًكما أن قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 113‏]‏ قبله كما قيل‏:‏ وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصاً إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جباراً طاغياً ‏{‏والله خَيْرُ‏}‏ في حَد ذاته تعالى ‏{‏وأبقى‏}‏ أي وأدوم جزاء ثواباً كان أو عقاباً أو خير ثواباً وأبقى عذاباً، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏أَنَّهُ‏}‏ إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشيطان الخطير هذا أي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً‏}‏ بأن مات على الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا‏}‏ فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى ‏{‏وَلاَ يحيى‏}‏ حياة ينفتع بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً‏}‏ به عز وجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدنا ‏{‏قَدْ عَمِلَ الصالحات‏}‏ من الأعمال ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيها من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات ‏{‏لَهُمْ‏}‏ بسبب إيمانهم وعملهم ذلك ‏{‏الدرجات العلى‏}‏ أي المنازل الرفيعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من ‏{‏الدرجات العلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ أو بيان وقد تقدم في عدن ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ حال من الجنات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏، والعالم فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في ‏{‏أولئك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون ‏{‏جنات‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال ما ذكره أبو البقاء ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير إليه من قرب من التفخيم ‏{‏جَزَاء مَن تزكى‏}‏ أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر فيمن الايمان والأعمال الصالحة‏.‏

وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه رداً على ما ادعاه فرعون بقوله‏:‏ ‏{‏أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏، وقال بعضهم‏:‏ إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافاً لما حسبه النيسابوري‏.‏

هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا‏:‏ مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة إن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد‏.‏

وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيراً ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 40 - 46‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 29‏]‏ إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقاً، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمناً الخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم ‏{‏مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضاً إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا‏:‏ مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفى المنزلة بين الايمان والكفر بما هو مذكور في محله‏.‏

وعلى تقدير تسليم أن ‏{‏مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ الخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لهم الدرجات العلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالايمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الايمان‏.‏

ولقد أخرج أبو داود‏.‏ وابن مردويه عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر‏.‏ وعمر منهم‏.‏ وأنعما» واستدل على شمول ‏{‏مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 75‏]‏ صاحب الكبيرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذلك جَزَاء مَن تزكى‏}‏ بناء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم‏.‏

ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل‏:‏ إنه يموت احتجاجاً بما أخرج مسلم‏.‏ وأحمد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه ‏{‏مَن يَأْتِ‏}‏ الخ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أما أهلها يعني جهنم الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل» وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيداً لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي في التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيداً بالعصا قتلاً والمراد ضربته ضرباً شديداً ولا يصح أن يقال‏:‏ المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعاً من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قلي‏:‏

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

واستدل المجسمة بقوله سبحانه ‏{‏إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ على‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 74‏]‏، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فِيهَا وذلك جَزَاء مَن تزكى وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى‏}‏ حكاية إجمالية لما انتهى إليه فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعن كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ‏{‏أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى‏}‏ وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها‏.‏

وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول، وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذي أرسلتك لانقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلاً ‏{‏فاضرب لَهُمْ‏}‏ بعصاك ‏{‏طَرِيقاً فِى البحر‏}‏ مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقاً ‏{‏يَبَساً‏}‏ أي يابساً وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفاً لطريقاً مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏يَبَساً‏}‏ بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدراً أيضاً أو صفة مشبهة كعصب أو جمع يابس كصحب وصاحب‏.‏ ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي‏:‏

كأن قتود رحلى حين ضمت *** حوالب غرزاً ومعي جياعا

أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقاً يابساً كما قيل في ‏{‏نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعدداً حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعاً، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين، وإن كانت إحداهما شاذة، وفي «القاموس» اليبس بالإسكان ما كان أصله رطباً فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطباً يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في «البحر» فإنه لم يعهد طريقاً لا رطباً ولا يابساً إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقاً على ذلك اه‏.‏

وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروى أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وإنفاق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست‏.‏

وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم‏:‏ ضرب له في ماله سهماً وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما ‏{‏طَرِيقاً‏}‏ وثانيهما ‏{‏لَهُمْ‏}‏‏.‏

واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏، وزعم أبو البقاء أن ‏{‏طَرِيقاً‏}‏ على هذا الوجه مفعول فيه، وقال‏:‏ التقدير ‏{‏فاضرب لَهُمْ‏}‏ موضع طريق ‏{‏لاَّ تَخَافُ دَرَكاً‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏فاضرب‏}‏ أو الصفة الأخرى لطريقاً والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ وابن أبي ليلى ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ بالجزم على جواب الأمر أعني ‏{‏أَسَرَّ‏}‏، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏دَرَكاً‏}‏ بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب‏:‏ الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم ‏{‏وَلاَ تخشى‏}‏ أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على ‏{‏لاَّ تَخَافُ‏}‏، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع؛ وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل‏:‏ عطف على المجزم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَضَلُّونَا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ ‏{‏وتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنونَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله‏:‏

إذا العجوز غضبت فطلق *** ولا ترضاها ولا تملق

وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخرجي التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما‏.‏ والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولاً ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61‏]‏ ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏}‏ أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع بمعنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن‏.‏ وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء، وقرىء أيضاً ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ‏}‏، وقيل‏:‏ أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتبعناهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه، وقيل‏:‏ نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضاً، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف، وأياً ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذاناً بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراءبعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعهم فرعون بجنوده‏.‏

وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن أتبعهم فرعون وترائى الجمعان‏.‏ والظاهر الأول، روى أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفاً ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وفي رواية أنهن خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام‏:‏ احتكمي فقالت‏:‏ أكون معك في الجحنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكي سبعمائة ألف فارس، وقيل‏:‏ ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى ترائى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفق اثني عشر فرقاً كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقاً فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم‏:‏ إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم اللاسم وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكاً أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولاً خرج موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه‏.‏

وقيل‏:‏ غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده، وقيل‏:‏ لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقى بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 92‏]‏ وفيه أن الإنجاء بعدما غشيه ما غشى جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي، وقيل‏:‏ الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏ وقرأت فرقة منهم الأعمش ‏{‏فغشاهم من اليم ما غشاهم‏}‏ أي غطاهم ماغطاهم فالفعل ‏{‏أُمَّةً واحدة ولكن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا‏}‏ أيضاً وترك المفعول زيادة في الإبهام، وقيل‏:‏ المفعول ‏{‏مّنَ اليم‏}‏ أي بعض اليم، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول؛ وقيل‏:‏ هو ضمير فرعون والإسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة، ويبعده الإظهار في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ‏}‏ أي سلك بهم مسلكاً أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معاً حيث أغرقوا فأدخلوا ناراً ‏{‏وَمَا هدى‏}‏ أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد، واعترض بأن التهكم أن يؤتي بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين، وكونه لم يهد أخبار عما هو كذلك في الواقع‏.‏

وأجيب بأن الآمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمراً ثبوت كون زيد عالماً بطريق الهداية مهتدياً في نفسه ولكنه لم يهد عمراً وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الاخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الاخبار على أتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم، وقال العلامة الطيبي‏:‏ توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هدى‏}‏ من باب التلميح وهو إشارة إلى إدعاء اللعين إرشاد القوم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ فهو كم ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكماً واستهزاء انتهى، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير، وقيل‏:‏ المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى، وقيل‏:‏ هدى بمعنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي‏.‏ وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم‏.‏

واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقاً للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحداً بشيء يذم إذا فعله‏.‏ وأجيب بمنع إطراد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعدما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض‏.‏

وقيل‏:‏ إنشاء خطاب اللذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه تعالى قدمن عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعاً، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83‏]‏ الخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفاً على ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏ أي وقلنا يا بني إسرائيل ‏{‏قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ‏}‏ فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‏.‏

وقرأ حميد ‏{‏نجيناكم‏}‏ بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة ‏{‏أنجيتكم‏}‏ بتاء الضمير ‏{‏عَدُوّكُمْ وواعدناكم جَانِبَ الطور الايمن‏}‏ بالنصب على أنه صفة المضاف‏.‏ وقرىء بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو هذا جحرضب خرب‏.‏ وتعقبه أبوحيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه وقال‏:‏ الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه‏.‏

والحق أن القلة لم تصل إلى جد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، قوله‏:‏ وإما لكونه الخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال‏:‏ وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحاً، ونصب ‏{‏جَانِبٍ‏}‏ على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب‏.‏ وابن مالك في «شرح التسهيل» من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه على الظرفية‏.‏ ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوباً على أنه مفعول واعدنا على الاتساع أو بتقدير مضاف أي إتيان جانب الخ‏.‏ وإلى هذا ذهب أبو البقاء‏.‏ وإذا كان ظرفاً فالمفعول مقدراً أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظراً إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في التسبة‏.‏ وفي ذلك إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه‏.‏

وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفاً ‏{‏وواعدتكم‏}‏ بتاء الضمير أيضاً‏.‏ وقرىء ‏{‏ووعدناكم‏}‏ من الوعد‏.‏

‏{‏الايمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السماني فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81 - 82‏]‏

‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع‏.‏

وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكرهم وإتماماً للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفاً ‏{‏رزقتكم‏}‏ وقدم سبحانه نعمة الانجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلاً إلينا، وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتباً لمن يبيع الدين بالدنيا ‏{‏رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ‏}‏ أي فميا رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدى حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أي لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل‏:‏ أي لا تدخروا‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ بضم الغين ‏{‏فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى‏}‏ جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب إداؤه وأصله من الحلو وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى‏}‏ أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل‏:‏ أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج‏.‏

وفي بعض الآثار أن في جهنم قصراً يرمي الكافر من أعلاه فيهوى في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ هوى‏}‏ فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه‏.‏

وقرأ الكسائي ‏{‏فَيَحِلَّ‏}‏ بضم الحاء ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ‏}‏ بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة‏.‏ وأبي حيوة والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ ووافق ابن عبتبة في ‏{‏يَحْلِلْ‏}‏ فضم، وفي الاقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة ‏{‏لا يَتْلُو عَلَيْكُمْ‏}‏ بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي «كتاب اللوامح» قرأ قتادة‏.‏ وعبد الله بن مسلم بن يسار‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏فَيَحِلَّ‏}‏ بضم الياء وكسر الحاء من الاحلال ففاعله ضمير الطغيان و‏{‏غَضَبِى‏}‏ مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في «الكشاف»‏.‏

وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث ‏{‏اتقوا الغضب فَإِنَّهُ‏}‏ وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعاً وأريد معنى لاثق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات ومجاز على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلو لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على التأويل المعروف أوعبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيراً عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى‏:‏ انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها ‏{‏رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى وَإِنّى لَغَفَّارٌ‏}‏ كثير المغفرة ‏{‏لّمَن تَابَ‏}‏ من الشرك على ما روى عن ابن عباس، وقيل‏:‏ منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق ‏{‏وَامَنَ‏}‏ بما يجب الايمان به‏.‏ واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الايمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصادر على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أي عملاً مستقيماً عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والنسة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بإداء الفرائض ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏ أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر‏.‏

والهدي يحتمل أن يراد به الايمان، وقد صرح بحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح وأياً ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل‏:‏

لكل إلى شاو العلى وثبات *** ولكن قليل في الرجال ثبات

وقيل‏:‏ المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثواباً يجزي عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل‏:‏ المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة‏.‏ كالعجب والحسد‏.‏ والكبر وغيرها، وقال ابن عطية‏:‏ الذي يقوى في معنى ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏ أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فوالله لو أن رجلاً عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولا يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه‏.‏

وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذا ذاك ولم يثبت ذلك في «صحيح الأخبار»‏.‏

نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلى أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت‏:‏ علام بعثوا‏؟‏ قال‏:‏ على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم باسمائهم ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أسماءهم واحداً بعد واحد إلى المهدي وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه‏.‏ ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل‏.‏ والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة‏.‏ وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحقيقها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق اعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلاً للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتك الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولاً ثم الإتيان بالإيمان ثانياً لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضاً من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضى للمغايرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى موسى‏}‏‏.‏

حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقاً أي وقلنا له أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم‏.‏ والمراد بهم هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون‏.‏ والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الإتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافاً لبعضهم والاستفهام للإنكار ويتضمن كما في الكشف إنكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو إيهام اغفال القوم وعدم الاعتداد بهم مع كونه عليه السلام مأموراً باستصحابهم واحضارهم معه وإنكار أصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم اللائق بهم مزيد الحزم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى‏}‏ متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد كأنه عليه السلام قال‏:‏ إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطا يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما ذكر ولم يخطر أن هناك مانعاً لينكر على‏.‏ ونحو هذا الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع طلباً لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فإنهم قالوا‏:‏ إن ذلك غير مشروع، وقدم عليه السلام الاعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم، وقال بعضهم‏:‏ إن الاستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها لأنها في نفسها نقيصة انضم إليها الاغفال وإيهام التعظيم فأجاب عليه السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الإنكار بما محصله انهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتاداً بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر‏.‏ واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وأنت خبير بأن حقيقة الاستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه، وأجيب بأن السؤال من علام الغيوم محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالاً، وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لأحد المذكورات والمتبادر أن يكون للإنكار، وفي الانتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه أعلم أن يعلمه أدب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمناً عليهم وهذا المعنى لا يصحل مع التقدم ألا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطاً فقال سبحانه ‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ فأمره عز وجل أن يكون آخرهم وموسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب أجنحة الطير ولا أسر من مواعد الله تعالى له عليه الصلاة والسلام انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن السؤال عن السبب ما لم يكن المراد منه انكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم، وقال بعضهم‏:‏ الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شيء أعجلك منفرداً عن قومك، والإنكار بالذات للإنفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله، وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة فاعتذر موسى عليه السلام عنه بأني أخطأت في الاجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفراداً ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى‏}‏ كالتتميم له اه وهو عندي لا يخلو عن حسن‏.‏

وقيل‏:‏ إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله‏:‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ‏}‏ الخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر، وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه السلام عن أمرين ليجيء سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه السلام حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عز وجل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر‏:‏ إن في هذا الجواب إساءة الأدب مع الأنبياء عليهم السلام، وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله عليه وسلم عليهم، والمراد من ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلاً للمجسمة على إثبات مكان له عز وجل‏.‏ ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر و‏{‏أُوْلاء‏}‏ اسم إشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية لهم و‏{‏على أَثَرِى‏}‏ خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان؛ وجوز الطبرسي كون ‏{‏أُوْلاء‏}‏ بدل من ‏{‏هُمْ‏}‏ و‏{‏على أَثَرِى‏}‏ هو الخبر، وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏أُوْلاء‏}‏ اسم موصول و‏{‏على أَثَرِى‏}‏ صلته وهو مذهب كوفي‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن معاذ عن أبيه «أولاي» بياء مكسورة‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وعيسى في رواية ‏{‏أُوْلِى‏}‏ بالقصر، وقرأت فرقة «أولاي» بياء مفتوحة‏.‏ وقرأ عيسى‏.‏ ويعقوب‏.‏ وعبد الوارث عن أبي عمرو‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «على إثرى» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي «أثرى» بضم الهمزة وسكون الثاء وتورى عن عيسى، وفي الكشاف إن «الأثر» بفتحتين أفصح من «الأثر» بكسر فسكون، وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصوال يقال؛ أثر السيف وأثره وهو بمعنى الأثر غريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين‏:‏ فماذا قال له ربه تعالى حينذئذ‏؟‏ فقيل‏:‏ قال سبحانه ‏{‏فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ‏}‏ أي اختبرناهم بما فعل السامري أو أوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف ‏{‏مِن بَعْدِكَ‏}‏ من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏ حيث أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ودعاهم إلى عبادته‏.‏ وقيل‏:‏ قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشرين ليلة‏:‏ إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة‏.‏ وليس من موسى عين ولا أثر وليس اخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان‏.‏ والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هارون عليه السلام، وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم، ولذا لم يؤت بضميرهم، وقيل‏:‏ المراد بالقوم في الموضعين المتخلفتين لتعين إرادتهم هنا، والمعرفة المعادة عين الأولى‏.‏ ومعنى ‏{‏هم أولاء على أثرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏ هم بالقرب مني ينتظرونني‏.‏

وتعقبه في الكشف بأنه غبر ملائم للفظ الأثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بأنهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام‏.‏ على أن لنا أن تقول‏:‏ هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه أولا النقباء وثانياً المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى‏.‏ وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً من الأخبار ما يدل بظاهره على القرب إلا أنا لم نقف على تحصيحه أو تضعيفه‏.‏

وما ذكر من تفسير ‏{‏هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏ على إرادة المتخلفين في الأول أيضاً نقله الطبرسي عن الحسن، ونقل عنه أيضاً تفسيره بأنهم على ديني ومنهاجي والأمر عليه أهون‏.‏ والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فانهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذي أغفلتهم وأهملت أمرهم‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الابتلاء على أخبار موسى عليه السلام بعجلته لكن لا لأن الأخبار بها سبب موجب للأخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك‏.‏

وأما قول الخفاجي‏:‏ إنها للتعقيب من غير تعليل أي أقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامري إياهم قد تحققا ووقعا قبل الاخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك، والظاهر أيضاً على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والأعتذار‏.‏ وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكرنا كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه السلام لجناب الطور، وقيل‏:‏ بعد ست وثلاثين يوماً وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام وتصدى لترتيب مباديها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع‏.‏ والسامري عند الأكثر كما قال الزجاج‏:‏ كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين، وقيل‏:‏ هو ابن خالة موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ ابن عمه، وقيل‏:‏ كان علجاً من كرمان، وقيل‏:‏ كان من أهل باجرما قرية قريبة من مصر أو قرية من قرى موصل، وقيل‏:‏ كان من القبط وخرج مع موسى عليه السلام مظهراً الإيمان وكان جاره‏.‏

وقيل‏:‏ كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر‏.‏ واسمه قيل موسى بن ظفر، وقيل‏:‏ منجا، والأول أشهر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغدوه باصابعه في واحدة لبنا وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمناً ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قوله من قال‏:‏

إذا المرء لم يخلق سعيداً تحيرت *** عقول مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر *** وموسى الذي رباه فرعون مرسل

وبالجملة كان عند الجمهور منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقرأ معاذ ‏{‏أضلهم‏}‏ على أنه أفعل تفضيل أي أشدهم ضلالاً لأنه ضال ومضل‏.‏