فصل: تفسير الآية رقم (86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏السامرى فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ‏}‏ عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحديث أَسَفاً‏}‏ لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الجروع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت‏:‏ شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحداً لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم أثر الدعاء وإن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفسه الرجوع كذا في ارشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان‏.‏ والأسف الحزين كما روي عن ابن عباس وكأن حزنه عليه السلاممن حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يد له بدفعها‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ هو شديد الغضب، وقال الجبائي متلهفاً على ما فاته متحيراً في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للأسف غير مشهور ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا فعل بهم لما رجع إليهم‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ‏}‏ الهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكده أي وعدكم ‏{‏وَعْداً حَسَناً‏}‏ لا سبيل لكم إلى إنكاره‏.‏ والمراد بذلك إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، وقيل‏:‏ هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته‏.‏

وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه، وقيل‏:‏ هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز شأنه ولعل الأول أولى، ونصب ‏{‏وَعْداً‏}‏ يحتمل أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ لَكُم مّنَ الارض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشيطان يَعِدُكُمُ‏}‏ لأنه بمعنى قد وعدكم، واختار جمع الأول وأل في العهد له، والمراد زمان الإنجاز، وقيل‏:‏ زمان المفارقة أي أوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الإنجاز أو زمان المفارقة للإتيان به ‏{‏أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ‏}‏ أي يجب ‏{‏عَلَيْكُمْ غَضَبٌ‏}‏ شديد لا يقادر قدره كائن ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي من مالك أمركم على الإطلاق‏.‏ والمراد من إرادة ذلك فعل ما يكون مقتضياً له‏.‏

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى‏}‏ لترتيب ما بعدها على كل من الشقين، والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن اخلافهم الموعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم، والمعنى أفطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فاخلفتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات نسياناً أو تعمدتم فعل ما يكون سبباً لحلول غضب ربكم عليكم فاخلفتم وعدكم إياي بذلك عمداً، وحاصله أنسيتم فاخلفتم أو تعمدتم فاخلفتهم، ومنه يعلم التقابل بين الشقين‏.‏

وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدراً مضافاً إلى الفاعل واخلافه بمعنى وجدان الخلف فيه يقال‏:‏ أخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه، ونظيره أحمدت زيداً أي فوجدتم الخلف في موعدي إياكم بعد الأربعين، وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق أصلاً، وقيل‏.‏ المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه السلام باللحاق به والمجيء للطور على أثره وفيه ما فيه، واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عز وجل ليس خالقاً للكفر وإلا لما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 85‏]‏ ولما كان لغضب موسى عليه السلام واسفه وجه ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ‏}‏ أي وعدنا إياك الثبات على دينك، وإيثار على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفاً‏.‏

‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ بأن ملكنا أمرنا يعنون إنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه‏.‏ وقرأ بعض السبعة ‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ الميم‏.‏ وقرأ الاخوان‏.‏ والحسن‏.‏ والأعمش وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وقعنب بضمها‏.‏ وقرأ عمر رضي الله عنه ‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ بفتح الميم واللام قال في البحر‏:‏ أي بسلطاننا، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى‏.‏ وفرق أبو علي فقال‏:‏ معنى المضمون أنه لم يكن لما ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والكلام على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسألونَ النَّاسَ إلْحَافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وقول ذي الرمة‏:‏

لا تشتكي سقطة منها وقد رقصت *** بها المفاوز حتى ظهرها حدب

ومفتوح الميم مصدر ملك، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا انفسنا ومكسور الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب ‏{‏ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم‏}‏ استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام‏.‏ وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلى برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا‏.‏ وقيل‏:‏ استعاروه باسم العرس‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مراداً بها الآثام من حيث أن الحلى سبب لها غالباً لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء، وقيل‏:‏ من حيث أنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه، وقيل من حيث أن ذلك الحلى صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالاً لهم بل ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والرواية السابقة في كيفية الاضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل‏:‏ إن فاعل التحميل في قولهم ‏{‏حُمّلْنَا‏}‏ هو موسى عليه السلام حيث الزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالاً فكيف يقرهم، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل، واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلاً لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضاً فاستعاروها وخرجوا بها‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن أموال القبط مطلقاً بعد هلاكهم كانت حلالاً عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأورثناها بَنِى إسراءيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 57 59‏]‏ وقد أضاف سبحانه الحلى إليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ وذلك يقتضي بظاهره أن الحلى ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذراً لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزاراً إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لالقاء السامري الشبهة عليهم، وقيل‏:‏ إن موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظراً ما يأمر الله تعالى به بعد‏.‏ وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريباً إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك‏.‏ والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقاً بحملنا وأن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لأوزاراً، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم‏:‏ إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ليس على إطلاقه‏.‏

وقرأ الأخوان‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن محيصن ‏{‏حُمّلْنَا‏}‏ بفتح الحاء والميم‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏حُمّلْنَا‏}‏ بضم الحاء وكسر الميم من غير تشديد ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار، وقيل‏:‏ أي ألقيناها على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلاً ‏{‏فَكَذَلِكَ‏}‏ أي فمثل ذلك ‏{‏أَلْقَى السامرى‏}‏ أي ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضاً يلقى ما كان معه من الحلى فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ألقى ما معه من الحلى والقي مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلى، وقيل‏:‏ أرادوا القي التربة، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر، وقد يقال‏:‏ المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذرك أنه قال لهم‏:‏ إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فالرأى أن نحفر حفيرة ونسجر فيها ناراً ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل، وقد أخرج ابن اسحق‏.‏

وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه السلام‏:‏ إنكم قد حملتم أوزاراً من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحلياً فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم ناراً فقال لهم‏:‏ اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعهم تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه السلام‏:‏ يا نبي الله أألقي ما في يدي‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ولا يظن هارون عليه السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلى والأمتعة فقذفه فيها فقال‏:‏ كن عجلاً جسداً له خوار فكان للبلاء والفتنة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عنه أيضاً أن بني إسرائيل استعاروا حلياً من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام‏:‏ اجمعوا هذا الحلى حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فاخرج‏}‏ أي السامري ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للقائلين المذكورين ‏{‏عِجْلاً‏}‏ من تلك الأوزار التي قذفوها، وتأخيره مع كونه مفعولاً صريحاً عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه يتجاوب النظم الكريم فإن قوله‏:‏ ‏{‏جَسَداً‏}‏ أي جثة ذا لحم ودم أو جسداً من ذهب لا روح فيه بدل منه، وقيل‏:‏ هو نعت له على أن معناه أحمر كالمجسد، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ نعت له، والخوار صوت العجل، وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتاً فقال‏:‏ إلهي إني أسمع خلفي صوتاً قال‏:‏ لعل قومك ضلوا قال‏:‏ إلهي من أضلهم‏؟‏ قال‏:‏ أضلهم السامري قال‏:‏ فيم أضلهم‏؟‏ قال‏:‏ صاغ لهم عجلاً جسداً له خوار قال‏:‏ إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن فيه الروح حتي صار له خوار‏؟‏ قال‏:‏ أنا يا موسى قال‏:‏ فوعزتك ما أضل قومي أحد غيرك قال‏:‏ صدقت يا حكيم الحكماء لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك»‏.‏ وجاء في رواية أخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له‏:‏ يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال‏:‏ يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وأنعمت عليهم وفعلت بهم قال‏:‏ يا موى إنهم اتخذوا من بعدك عجلاً له خوار قال‏:‏ يا رب فمن جعل فيه الروح‏؟‏ قال‏:‏ أنا قال‏:‏ فأنت يا رب أضللتهم قال‏:‏ يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، وإما لأنه تدخل فيه الريح فيصوت بناء على ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ كان بني إسرائيل تأثموا من حلى آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعهو ألقى السامري القبض وقال‏:‏ كن عجلاً جسداً له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه فيسمع له صوت ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه، وقيل‏:‏ الضمير للسامري، وجيء به ضمير جمع تعظيماً لجرمه، وفيه بعد‏.‏

‏{‏هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ‏}‏ أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور، فضمير نسى لموسى عليه السلام كما روي عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسي موسى عليه السلام، وعن ابن عباس أيضاً‏.‏

ومكحول أن الضمير للسامري والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضاً أي فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من أسرار الكفر، والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلاً في حيز القول بخلافه على الوجه الأول‏.‏ وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول، ولا يخفى ما في الاتيان باسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم وتكريراً له، وتخصيص موسى عليه السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال؛ والاخبار بالاخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامري فعلا وقولاً من جهته سبحانه قصداً إلى زيادة تقريرها ثم الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فاخرج لنا، والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الاخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد أعظم جناية وأكثر سناعة، وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الاخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلاناً مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا‏:‏ ما وجدنا الاخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامري ما فعل فاخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الإسلام‏:‏ إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده، وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏ إلى آخره أخبار من جهته سبحانه أن السامري فعل كام فعلوا فأخرج لهم الخ وهو خلاف الظاهر‏.‏

هذا وقرأ الأعمش ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ بسكون الياء، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعاً وتسفيه لهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل الها، ولعمري لو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون ‏{‏أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً‏}‏ أي إنه لا يرجع اليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه اله‏.‏

وقرأ الإمام الشافعي‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وأبان‏.‏ وابن صبيح‏.‏ والزعفراني ‏{‏يُرْجَعُ‏}‏ بالنصب على أن أن هي الناصبة لا المخففة من الثقيلة، والرؤية حينئذ بمعنى الأبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضي‏.‏ وجماعة من أن الناصبة لا تقع بعد إفعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لأنها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعدما يدل على يقين ونحوه، والعطف أيضاً كما سبق أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولاً من الأقوال، وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه أمراً عدمياً للتنبيه على كمال ظهوره المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم، وقيل‏:‏ إن الناصبة لا تقع بعد رأي البصرية أيضاً لأنها تفيد العلم بواسطة إحساس البصر كما في إيضاح المفصل‏.‏ وأجاز الفراء‏.‏ وابن الأنباري وقوعها بعد إفعال العلم فضلاً عن أفعال البصر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ عطف على ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً ويجلب لهم نفعاً أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ‏}‏ مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات، وإلى اعتبار المضاف إليه قبل ما ذكر ذهب الواحدي، وقيل‏:‏ من قبل قول السامري ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ كأنه عليه السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهم الافتتان فسارع إلى تحذيرهم، واختاره صاحب الكشف تبعاً لشيخه وقال‏:‏ هو أبلغ وأدل على توبيخهم بالإعراض عن دليل العقل والسمع في ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 89‏]‏ واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك‏.‏

وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 89‏]‏ وقال‏:‏ إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الإنكار عليهم، وكونها في موضع الحال من فاعل ‏{‏يَرَوْنَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 89‏]‏ مقررة لجهة الإنكار أي أفلا يرون والحال أن هارون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر، وقال لهم‏:‏ ‏{‏قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ‏}‏ أي أوقعتم في الفتنة بالعجل أو أضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ في أغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن‏}‏ بكسر همة ‏{‏ءانٍ‏}‏ عطفاً على ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ الخ إرشاد لهم إلى الحق أثر زجرهم عن الباطل‏.‏ والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق‏.‏ وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل‏.‏ وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا قبلهم‏.‏ وتعريف الطرفين لإفادة الحصر أي وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ‏}‏ بفتح الهمزة، وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن، والجملة معطوفة على ما مر، وقال أبو حاتم‏:‏ التقدير ولأن ربكم الخ وجعل الجار والمجرور متعلقاً باتبعوني‏.‏ وقرأ فرقة ‏{‏إِنَّمَا وَإِنَّ رَبَّكُمُ‏}‏ بفتح الهمزتين، وخرج على لغة سليم حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقاً‏.‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعونى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمري في الثبات على الدين‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه، وفيه أنه عليه السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مأموراً به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم أنفسهم إليه، وقيل‏:‏ ولا يخلو عن حسن أي فاتبعوني في الثبات على الحق وأطيعوا أمري هذا وأعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم أمره أو كفوا أنفسكم عن اعتقاد الوهيته وعبادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ في جواب هارون عليه السلام ‏{‏لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ‏}‏ أي لا نزال على عبادة العجل ‏{‏عاكفين‏}‏ مقيمين ‏{‏حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى‏}‏ الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام وماذا يقول فيه، وقيل‏:‏ إنهم علق في أذهانهم قول السامري‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ فغيوا برجوعه بطريق التعلل والتسويف وأضمروا أنه إذا رجع عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 90‏]‏ على معنى من قبل رجوع موسى، وذكر أن هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم‏:‏ ‏{‏لَن نَّبْرَحَ‏}‏ الخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏أنا أحى وأميت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فتأمل، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن لن لا تفيد التأبيد لأن التغي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزال الاحتمال به‏.‏

وأنت تعلم أن القائل بإفادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفاً وهم الذي لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه‏:‏ هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏ الخ كأنه قيل‏:‏ فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد‏؟‏ فقيل‏:‏ قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه ‏{‏قَالَ ياهارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ‏}‏ بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَّ تَتَّبِعَنِ‏}‏ أي تتبعني على أن ‏{‏لا‏}‏ سيف خطيب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ وهو مفعول ثاني لمنع وإذ متعلق بمنع، وقيل‏:‏ بتتبعني، ورد بأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدماً حكماً وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل، وقيل‏:‏ في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليه السلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية ازجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليه السلام رئيساً عليهم محبوباً لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جداً على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف‏.‏

فالقول بأن نصائح هارون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزرجهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا؛ ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يحلقه ويخبره عليهما السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجرون عن ذلك ليقال‏:‏ إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام، وقال علي بن عيسى‏:‏ إن ‏{‏لا‏}‏ ليست مزيدة، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏ بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏اخلفنى فِى قَوْمِى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ بدون ضم قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ متضمن للأمر بذلك حتماً فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يابشره المستخلف لو كان حاضراً وموسى عليه السلام لو كان حاضراً لساسهم على أبلغ وجه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني فعصيت أمري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ‏}‏ خص الأم بالإضافة استعطافاً وترقيقاً لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏الارض أَمْ‏}‏ بكسر الميم ‏{‏لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى‏}‏ أي بشعر رأسي فإن الأخذ أنسب به، وزعم بعضهم أن قوله‏:‏ ‏{‏بِلِحْيَتِى‏}‏ على معنى بشعر لحيتي أيضاً لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة، وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص، وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه السلام أخذ بذلك‏.‏ روي أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وكان عليه السلام حديداً متصلباً غضوباً لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هارون عليه السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم السلام التأديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه أصلاً ولا مخالفة للشرع فلا يرد ما توهمه الإمام فقال‏:‏ لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله أولاً والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمة وأجاب بما لا طائل تحته‏.‏

وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي ‏{‏بِلِحْيَتِى‏}‏ بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز ‏{‏إِنّى خَشِيتُ‏}‏ الخ استئناف لتعليل موجب النهي بتحقيق أنه غير عاص أمره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن ‏{‏أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبىء عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه، واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر، وكذا اللحوق بموسى عليه السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد عليه السلام بالتفريق على التفسير الأول ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى الاجتماع‏.‏

‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ‏}‏ أي ولم تراع ‏{‏قَوْلِي‏}‏ والجملة عطف على ‏{‏فَرَّقْتَ‏}‏ أي خشيت أن تقول مجموع الجملتين وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏فَرَّقْتَ‏}‏ أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولي أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام، وأراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ الخ، وحاصل اعتذاره عليه السلام إني رأيت الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سبباً للومك إياي إلى أن ترجع إليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استضعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما أفصح عليه السلام بهذا في آية أخرى‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ما يدل على أن المراد من القول المضاف قول هارون عليه السلام، وجملة ‏{‏لَمْ تَرْقُبْ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَقُولَ‏}‏ أي خشيت أن تقول ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل‏.‏

وقرى أبو جعفر ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ‏}‏ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف وقع جواباً عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل‏:‏ فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكى من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري‏؟‏ فقيل قال موبخاً له إذا كان الأمر هذا ‏{‏فَمَا خَطْبُكَ ياسامري‏}‏ أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك؛ وما سؤال عن السبب الباعث لذلك، وتفسير الخطب بذلك هو المشهور، وفي «الصحاح» الخطب سبب الأمر‏.‏

وقال بعض الثقات‏:‏ هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئاً‏:‏ ما خطبك‏؟‏ فمعناه ما طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه، واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه أبلغ حيث لم يسأله عليه السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه، وجعل الراغب الأصل لهذا الشائع الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعة في الكلام، وأطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب، وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازاً فقال‏:‏ ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه، وفرق ابن عطية بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهاراً ويستعمل في المكاره دون الشأن ثم قال فكأنه قيل ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى‏.‏

وليس ذلك بمطرد فقد قال إبراهيم عليه السلام للملائكة عليهم السلام‏:‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 57‏]‏ ولا يتأتى فيه ما ذكر‏.‏

وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطاب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت‏.‏

وفعلت معهم ما فعلت وليس بشيء، وخطابه عليه السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالاً للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي السامري مجيباً له عليه السلام ‏{‏بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏ بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له، قال الزجاج يقال‏:‏ بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر، وقيل‏:‏ بصره وأبصره بمعنى واحد؛ وقال الراغب‏:‏ البصر يقال‏:‏ للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال‏:‏ لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول أبصرت‏.‏ ومن الثاني أبصرته وبصرت به‏.‏ وقلما يقال‏:‏ بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه‏.‏

وقرأ الأعمش‏.‏ وأبو السمال ‏{‏بَصُرْتُ‏}‏ بكسر الصاد ‏{‏بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ‏}‏ بفتح الصاد‏.‏ وقرأ عمرو بن عبيد ‏{‏بَصُرْتُ‏}‏ بضم الباء وكسر الصاد ‏{‏بِمَا لَمْ‏}‏ بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول‏.‏

وقرأ الكسائي‏.‏ وحمزة وأبو بحرية‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وابن مناذر‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وقعنب ‏{‏بِمَا لَمْ‏}‏ بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد‏.‏ والخطاب لموسى عليه السلام وقومه‏.‏ وقيل‏:‏ له عليه السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية، فما ذكره الرضي من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وإن تبعه كثير‏.‏ وادعى بعضهم أن الأنسب بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى‏}‏ تفسير بصر برأي لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فإنه مما يقع بحسب ما يتفق‏.‏ وقد كان فيما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيراً حين خافت عليه أمه فألقته في غار فأخذ قبضة من تحت حافر الفرس وألقى في روعه أنه لا يلقيها على شيء فيقول‏:‏ كن كذا إلا كان‏.‏

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رآه عليه السلام راكباً على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه السلام فأخذ من موطىء فرسه قبضة من التراب‏.‏ وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنة، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول‏}‏ أي من أثر فرس الرسول‏.‏ وكذا قرأ عبد الله، فالكلام على حذف مضاف كما عليه أكثر المفسرين‏.‏

وأثر الفرس التراب الذي تحت حافره‏.‏ وقيل‏:‏ لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن أثر فرسه أثره عليه السلام‏.‏

ولعل ذكر جبريل عليه السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيداً لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت أخذ ما أخذ‏.‏

والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة، وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون‏:‏ هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون‏:‏ نسيجة اليمن‏.‏ والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وأبي‏.‏ وابن الزبير‏.‏ والحسن‏.‏ وحميد ‏{‏قبصت‏}‏ قبصة بالصاد فيهما؛ وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للأكل بجميع الفم والقضم بالقاف للأكل بأطراف الأسنان‏.‏ وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فإن الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل‏.‏

وقرأ الحسن بخلاف عنه‏.‏ وقتادة‏.‏ ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ ‏{‏الرسول فَنَبَذْتُهَا‏}‏ أي ألقيتها في الحلي المذاب‏.‏ وقيل‏:‏ في جوف العجل فكان ما كان‏.‏

‏{‏وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى‏}‏ أي زينته وحسنته إلى والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد‏.‏ وذلك على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الإلهام الإلهي‏.‏ هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وتبعهم جل أجلة المفسرين، وقال أبو مسلم الأصبهاني‏:‏ ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه‏.‏ وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل‏:‏ فلأن يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال‏:‏ بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئاً من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها‏.‏ وتعبيره عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير ما قول الأمير في كذا‏.‏ ويكون إطلاق الرسول منه عليه عليه السلام نوعاً من التهكم حيث كان كافراً مكذباً به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة‏:‏

‏{‏يا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ انتهى، وانتصر له بعضهم بأنه أقرب إلى التحقيق‏.‏ ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه السلام ليس معهوداً باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وأن ما قالوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وأن اختصاص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جداً‏.‏ وأيضاً كيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحماً ودماً على أنه لو كان كذلك لكان الأثر نفسه أولى بالحياة‏.‏ وأيضاً متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى عليه السلام اطلع شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم السلام من الخوارق، وأيضاً يبعد الكفر والإقدام على الإضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام بمجىء هذا الرسول الكريم إليه انتهى‏.‏

وأجيب بأنه قد عهد في القرآن العظيم إطلاق الرسول على جبريل عليه السلام فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحاقه‏:‏ 40‏]‏ وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهوداً، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه عليه السلام شائعاً في بني إسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روي أنه عليه السلام كان يغذي من يلقى من أطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم، وبأن تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة، وبأن رؤيته جبريل عليه السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضي الله أمراً كان مفعولا‏.‏ وبأن معرفته تأثير ذلك الأثر ما ذكر كانت لما ألقى في روعه أنه لا يلقيه على شيء فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار‏.‏ ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه السلام، وبأن ما ذكر من أولوية الأثر نفسه بالحياة غير مسلم ألا ترى أن الإكسير يجعل ما يلقى هو عليه ذهباً ولا يكون هو بنفسه ذهباً‏.‏ وبأن المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا‏:‏ متى ادعى أحد الرسالة وأظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل إليهم قيض الله تعالى ولا بد من يبين حقيقة ذلك بإظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعي بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التأثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عز وجل الحجة البالغة، وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب أو عن سبب خفي على يد مدعي الألوهية لأن كذبه ظاهر عقلاً ونقلاً‏.‏

ولا تتوقف إقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم‏.‏ وبان ما ذكر من بعد الكفر والإضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ وليس كفر السامري بأبعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى‏.‏ ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للمأثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأي فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب بعيد‏.‏ وإرادة وقد كنت قبضت قبضة الخ من النظم الكريم أبعد‏.‏ وأن نبذ ما عرف أنه ليس بحق لا يعد من تسويل النفس في شيء فلا يناسب ختم جوابه بذلك‏.‏ فزعم أن ما ذكره أقرب إلى التحقيق باطل عند أرباب التدقيق‏.‏

وزعمت اليهود أن ما ألقاه السامري كان قطعة من الحلي منقوشاً عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه السلام قد علقها في عنق يوسف عليه السلام إذ كان صغيراً كما يعلق الناس اليوم في أعناق أطفالهم التمائم وربما تكون من الذهب والفضة منقوشاً عليها شيء من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني إسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد أراد بالرسول رسول بني إسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه السلام‏.‏ ولم يجىء عندنا خبر صحيح ولا ضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا‏.‏ نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه السلام‏.‏

وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 93‏]‏ الخ‏.‏ وما أغفل أولئك البهت عن زعم أن الأثر هو ذلك القميص فإنه قد عهد منه ما تقدم في أحسن القصص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان أروج قبولاً عند أمثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روي عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأي وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه السلام إذا كان الأمر كما ذكرت ‏{‏فاذهب‏}‏ أي من بين الناس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة‏}‏ إلى آخره تعليل لموجب الأمر‏.‏ و‏{‏فِى‏}‏ متعلقة بالاستقرار العامل في ‏{‏لَكَ‏}‏ أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالاً من الكاف، والعامل معنى الاستقرار المذكور أيضاً لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ‏}‏ ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان أن؛ وقد تقدم آنفاً عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها‏.‏ ولا يظهر ما يشفي الخاطر في وجه تعليق العلامة أبي السعود إذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 92، 93‏]‏ فيما بعد أن وعدم تجويز تعليق ‏{‏يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا‏}‏ فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجىء إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحداً أو يمسه أحد كائناً من كان الاحم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجىء إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء، وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية، وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول الخ، وخص عرو الحمى بما إذا كان الماس أجنبياً، وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم، وقيل‏:‏ ابتلى بالوسواس حين قال له موسى عليه السلام ذلك، وعليه حمل قول الشاعر‏:‏

فأصبح ذلك كالسامري *** إذ قال موسى له لا مساسا

وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عرو الحمى عند المس وقال‏:‏ إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسين ولا أمسك‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وقعنب ‏{‏لاَ مِسَاسَ‏}‏ بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب‏.‏ وهي كما قال الزمخشري‏.‏ وابن عطية أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

تميم كرهط السامري وقوله *** ألا لا يريد السامري مساس

و ‏{‏لا‏}‏ على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى عليه فإن المعنى لا يكون أو لا يكن منك مس لنا‏.‏ وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس‏.‏

وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال‏.‏ والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل‏:‏ إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سبباً لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة‏.‏

وقيل‏:‏ لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سبباً لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سبباً للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء، وقيل‏:‏ عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر‏:‏ باجتهاد من موسى عليه السلام، وحكى فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخياً، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم‏.‏ ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القتال اللاجىء إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً كأجبنته إذا وجدته جباناً‏.‏ وعلى ذلك قول الأعشى‏:‏

أثوى وقصر ليله ليزودا *** فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود‏.‏ والمعنى لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفاً لوعده بل سيفعله، ونقل ابن خالويه عن ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ ‏{‏لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام، وفي اللوامح أنه قرىء ‏{‏لَنْ يُخْلِفُهُ‏}‏ بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده، قيل‏:‏ المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعداً لا بد أن تصادفه، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعداً لا يدفع قول لا مساس فافهم‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏لَنْ نُخْلِفُهُ‏}‏ بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز وجل، وقال ابن جني‏:‏ أي لن نصادفه خلفاً فيكون من كلام موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ أي معبودك ‏{‏الذى ظَلْتَ‏}‏ أي ظللت كما قرأ بذلك أبي‏.‏

والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفاً، ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل، وقال بعضهم‏:‏ إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ وقتادة‏.‏ والأعمش بخلاف عنه‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وابن يعمر بخلاف عنه أيضاً ‏{‏ظَلْتَ‏}‏ بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها، وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ أي على عبادته ‏{‏عَاكِفاً‏}‏ أي مقيماً، وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين‏:‏ ‏{‏لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 91‏]‏ لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ويؤيده قراءة الحسن‏.‏ وقتادة وأبي جعفر في رواية‏.‏ وأبي رجاء‏.‏ والكلبي ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ مخففاً من أحرق رباعياً فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم‏.‏

وكذا ما في مصحف أبي‏.‏ وعبد الله ‏{‏عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏‏.‏

وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقاً بفتح الراء إذا برده بالمبرد‏.‏ ويؤيده قراءة على كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وحميد‏.‏ وعمرو بن فايد‏.‏ وأبي جعفر في رواية‏.‏ وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقياً على الجمادية‏.‏

وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حياً في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق، وقال بعض القائلين بأنه صار حيواناً ذا لحم ودم‏:‏ إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى، وقال النسفي‏:‏ تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق‏.‏ وجوز على هذا أن يقال‏:‏ إن موسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار‏.‏ وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رماداً فلعل ذلك كان بالحيل إلا كسيرية أو نحو ذلك ‏{‏ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ‏}‏ أي لنذرينه‏.‏

وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين‏.‏ وقرأ ابن مقسم ‏{‏لَنَنسِفَنَّهُ‏}‏ بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين ‏{‏فِي اليم‏}‏ أي في البحر كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏.‏

وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَسْفاً‏}‏ مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ، ولقد فعل عليه السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهاً على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين، وقال في البحر بياناً لسر هذا الفعل‏:‏ يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلى الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا إلهكم الله‏}‏ استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عز وجل ‏{‏الذى لا إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية‏.‏ وقرأ طلحة ‏{‏الله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش‏}‏ ‏{‏وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً‏}‏ أي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم فالشيء هنا شامل للموجود المعدوم وانتصب ‏{‏عِلْمًا‏}‏ على التمييز المحول عن الفاعل، والجملة بدل من الصلة كأنه قيل‏:‏ إنما إلهكم الذي وسع كل شيء علماً لا غيره كائناً ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولاً أولياً‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ وقتادة ‏{‏واسع‏}‏ بفتح السين مشددة فيكون انتصاب ‏{‏عِلْمًا‏}‏ على أنه مفعول ثان، ولما كان في القراءة الأولى فاعلاً معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمراً‏:‏ خوفت زيداً عمراً أي جعلت زيداً يخاف عمراً فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شيء، لكن أنت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلاً وبهذا تم حديث موسى عليه السلام، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة لذلك المصدر أي نقص عليك ‏{‏مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ‏}‏ من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصاً كائناً كذلك القص المار أو قصاً مثل ذلك، والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصاً عنه، و‏{‏مِنْ أَنْبَاء‏}‏ إما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضاً كائناً من أنباء‏.‏

وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول ‏{‏نَقُصُّ‏}‏ باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء، وتأخيره عن ‏{‏عَلَيْكَ‏}‏ لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ويجوز أن يكون ‏{‏كذلك نَقُصُّ‏}‏ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ على أن الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد، وقد مر تحقيق ذلك‏.‏

وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة والسلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من أمته صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَقَدْ ءاتيناك *مِن لَّدُنَّا ذِكْراً‏}‏ كتاباً منطوياً على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقاً بالتذكر والتفكر فيه والاعتبار، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلق بآتيناك، وتنكير ذكراً للتفخيم، وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكراً عظيماً وقرآناً كريماً جمعاً لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة‏.‏

وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من ‏{‏ذِكْراً‏}‏ وليس بذاك، وتفسير الذكر بالقرآن هو الذي ذهب إليه الجمهور؛ وروى عن ابن زيد، وقال مقاتل‏:‏ أي بياناً ومآله ومآله ما ذكر، وقال أبو سهل‏:‏ أي شرفاً وذكرا في الناس، ولا يلائمه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ‏}‏ إذ الظاهر أن ضمير ‏{‏عَنْهُ‏}‏ للذكر، والجملة في موضع الصفة له، ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك، وقيل‏:‏ الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جداً، و‏{‏مِنْ‏}‏ إما شرطية أو موصولة أي من أعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن به ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ أي المعرض عنه ‏{‏يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً‏}‏ أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه‏.‏

والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والإثم، وإطلاقه على العقوبة نظراً إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت العقوبة بالحمل الثقيل‏.‏ ثم استعير لها بقرينة ذكر يوم القيامة، ونظراً إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث أن العقوبة جزاء الاثم فهي لازمة له أو مسببة، والأول هو الأنسب بقوله تعالى‏:‏ فيما بعد ‏{‏وَسَاء‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 101‏]‏ الخ لأنه ترشيح له، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏ وتفسير الوزر بالإثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك‏.‏ وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً ويكون ‏{‏وِزْراً‏}‏ على هذا مفعولاً ثانياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهِ‏}‏ أي في الوزر المراد منه العقوبة‏.‏

وجوز أن يكون الضمير لمصدر ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 100‏]‏ ونصب ‏{‏خالدين‏}‏ على الحال من المستكن في ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 100‏]‏ والجمع بالنظر إلى معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها ‏{‏وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً‏}‏ إنشاء للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين، وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على ‏{‏حِمْلاً‏}‏ الواقع تمييز الأعلى وزراً لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميراً مبهماً يفسره التمييز العائد هو إليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملاً وزرهم، ولام ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للبيان كما في سقياً له و‏{‏هيت لكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل‏:‏ لمن يقال هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ هو يقال لهم وفي شأنهم، وإعادة ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ لزيادة التقرير وتهويل الأمر، وجوز أن يكون ‏{‏سَاء‏}‏ بمعنى أحزن وهو المعنى الآخر من المعنيين؛ والتقدير على ما قيل وأحزنهم الوزر حال كونه حملاً لهم‏.‏

وتعقبه في «الكشف» بأنه أي فائدة فيه والوزر أدل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد بذلك بعدما تقدم ثم قال‏:‏ وكذلك ما قاله العلامة الطيبي من أن المعنى وأحزنهم حمل الوزر على أن ‏{‏حِمْلاً‏}‏ تمييز واللام في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للبيان لما ذكر من فوان فخامة المعنى، وأن البيان إن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية، وإن كان لمحل الأحزان فلا كذلك طريق بيانية، وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وأن المناسب حينئذ وزراً ساء لهم حملاً على الوصف لا هكذا معترضاً مؤكداً انتهى‏.‏ ولا مجال لتوجيه الاتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسباً لها لأنها ظاهرة في الاختصاص النافع والفعل في الحدث الضار، والقول بازديادها كما في ‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع إليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى، والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى، وجوز أن يكون ‏{‏سَاء‏}‏ بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وإن كان في كونه معنى حقيقياً نظر، و‏{‏حِمْلاً‏}‏ تمييزاً و‏{‏لَهُمْ‏}‏ حالاً و‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ متعلقاً بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملاً لهم في يوم القيامة وفيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ منصوب بإضمار اذكر، وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلاً من ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 101‏]‏ أو بياناً له أو ظرفاً لـِ ‏{‏يتخافتون‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 103‏]‏، وقرأ أبو عمرو‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وحميد ‏{‏ننفخ‏}‏ بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به وهو الله سبحانه تعظيماً للنفخ لأن ما يصدر من العظم عظيم أو للنافخ يجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة، وقيل‏:‏ إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه‏.‏ وقرىء ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ‏}‏ بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته؛ وقرأ الحسن‏.‏ وابن عياض في جماعة ‏{‏فِى الصور‏}‏ بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف، والمراد به الجسم المصور‏.‏ وأورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ والنفخ في الصورة إحياء والإحياء غي متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق‏.‏

وأجيب بأنه لا نسلم أن كل نفخ إحياء، وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك أيضاً، والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه ‏{‏وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ‏}‏ أي يوم إذ ينفخ في الصور، وذكر ذلك صريحاً مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل، وقرأ الحسن ‏{‏يُحْشَرُ‏}‏ بالياء والبناء للمفعول و‏{‏المجرمون‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء أيضاً ‏{‏يُحْشَرُ‏}‏ بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عز وجل أي ويحشر الله تعالى المجرمين ‏{‏زُرْقاً‏}‏ حال كونهم زرق الأبدان وذلك غاية في التشويه ولا تزرق الأبدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشيء بصفة جزئه كما يقال غلام أكحل وأحول والكحل والحول من صفات العين، ولعله مجاز مشهور، وجوز أن يكون حقيقة كرجل أعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أشد أعدائهم عداوة زرق، ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين، وقال الشاعر‏:‏

وما كنت أخشى أن تكون وفاته *** بكفي سبنتي أزرق العين مطرق

وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله‏:‏

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر *** الأكل ضبي من اللؤم أزرق

وسئل ابن عباس عن الجمع بين ‏{‏زُرْقاً‏}‏ على ما روى عنه و‏{‏عميا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ في آية أخرى فقال‏:‏ ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها عمياً وحالة يكونون فيها زرقاً‏.‏ وعن افراء المراد من ‏{‏زُرْقاً‏}‏ عمياً لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها، ووجه الجمع عليه ظاهر، وعن الإهري المراد عطاشاً لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق، وقيل‏:‏ يجعله أبيض، وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان أزرق، وقوله‏:‏

فلما وردنا الماء زرقاً جمامه *** ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت ‏{‏نَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 86‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏يتخافتون بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع، والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من ‏{‏المجرمين‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 102‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ بتقدير قول وقع حالاً من ضمير ‏{‏يتخافتون‏}‏ أي قائلين ما لبثتم في القبور ‏{‏إِلاَّ عَشْراً‏}‏ أي عشر ليال أو عشرة أيام، ولعله أوفق بقول الأمثل‏.‏

والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يؤتى بالتاء حكى الكسائي صمناً من الشهر خمساً، ومنه ما جاء في الحديث ‏{‏ثُمَّ أَتَّبِعْهُ‏}‏ فإن المراد ستة أيام، وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة، ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ما كانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا‏:‏ قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون أنكم لن تقوموا منه أبداً، وعن قتادة أنهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصاراً لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الأيام في قضاء الأوطار واتباع الشهوات، وتعقب بأنهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم، وبأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 56‏]‏ صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث‏.‏

وفي «مجمع البيان» عن ابن عباس‏.‏ وقتادة أنهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون أربعين سنة مرفوعاً عنهم العذاب ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً‏}‏ أي أعدلهم رأياً وأرجحهم عقلاً و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف يقولون ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً‏}‏ واحداً وإليه ينتهي العدد في القلة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمناً قليلاً، وظاهر المقابلة بالعشر يبعهد، ونسبة هذا القول إلى ‏{‏أمثالهم‏}‏ استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب‏.‏