فصل: تفسير الآية رقم (127)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجنابة ‏{‏نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ‏}‏ بالانهماك في الشهوات ‏{‏وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ‏}‏ بل كذبها وأعرض عنها، والمراد تشبيه الجازء العام بالجزاء الخاص ‏{‏وَلَعَذَابُ الاخرة‏}‏ على الاطلاق أو عذاب النار ‏{‏أَشَدُّ مِنَ عَذَابِ الاولى وأبقى‏}‏ أي أكثر بقاء منه أو أشد وأبقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏ الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام‏.‏ واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول الثاني محذوف‏.‏ وأياً ما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى أغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز وجل لهم العبر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون‏}‏ إما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمعفول المحذوف، وقيل‏:‏ فاعل ‏{‏يَهْدِ‏}‏ ضميره صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ ضمير الاهلاك المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ والجملة مفسره له، وقيل‏:‏ الفاعل محذوف أي النظر والاعتبار ونسب ذلك إلى المبرد، وففيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وقال الزمخشري‏:‏ الفاعل جملة ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ الخ ووقوع الجلمة فاعلاً مذهب كوفي، والجمهور على خلافه لكن رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه‏.‏ ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه بأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس‏.‏ والسلمي ‏{‏أَفَلَمْ‏}‏ بالنون‏.‏ واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلاً منزلة اللازم وجملة ‏{‏لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ بياناً لتلك الهداية، وبعض آخر كونه متعدياً والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام، وقيل‏:‏ الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها، وتعقب بأن ‏{‏كَمْ‏}‏ هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الاستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن أنت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الاستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغنى قول ابن عصفور‏:‏ ‏{‏ءانٍ كَمْ‏}‏ في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال‏:‏ وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى‏.‏ وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر‏.‏ نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بأنها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا و‏{‏مّنَ القرون‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمميزها أي كن قرن كائن من القرون ‏{‏يَمْشُونَ فِى مساكنهم‏}‏ حال من ‏{‏القرون‏}‏ أو من مفعول ‏{‏أَهْلَكْنَا‏}‏ أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم‏.‏

واختار في البحر كونه حالاً من الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ مؤكداً للإنكار والعامل في «يهد» أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر‏.‏ وثمود‏.‏ وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره، وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك، وقرأ ابن السميقع «يمشون» بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ تعليل للإنكار وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم‏.‏ ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ اشارة إلى مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ الخ، وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه‏.‏

‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ كثيرة عظيمة ظاهرات الدالالة على الحق، وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما فيل في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏{‏لاِوْلِى النهى‏}‏ أي لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر عليهم من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 128‏]‏ الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامة إما إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة أخرى الله تعالى أعلم بها أي لولا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب ‏{‏لَكَانَ‏}‏ أي عقاب جناياتهم ‏{‏لِزَاماً‏}‏ أي لازماً لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل باضرابهم من القرون السالفة، واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضاً كلزاز خصم بمعنى ملح على خصمه‏.‏

وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ عطف على ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة‏.‏ والسدى أي لولا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلاً، وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا، والاشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريم، وقيل‏:‏ أي ولولا أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة‏.‏

وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح إدراج استقلال كل منهما بالنفي في عداد نكت الفصل‏.‏ وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدينا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الاستقلال‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي الكلمة التي سبقت، وقيل‏:‏ الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر‏.‏ وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة‏.‏ وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم كدأب عاد‏.‏ وثمود‏.‏ وأضرابهم، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، وأنت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان ‏{‏لزماً‏}‏ اسم ءالة للزوم التثنية حينئذ

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏مُّسَمًّى فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وأنه لازم لهم البتة ‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ من كلمات الكفر فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم معذبون لا محالة مما يليه ويحمله على الصبر، والمراد به عدم الاضطراب لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة ‏{‏وَسَبّحْ‏}‏ ملتبساً ‏{‏بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ أي صل وأنت حامد لربك عز وجل الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه سبحانه ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ أي صلاة الفجر ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ أي صلاة المغرب، والظاهر أن الظرف متعلق بسبح‏.‏

وقد أخرج «تفسير التسبيح» في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني‏.‏ وابن عساكر‏.‏ وابن مردويه عن جرير مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له‏:‏ ‏"‏ حافظ على العصرين قلت‏:‏ وما العصران‏؟‏ قال‏:‏ صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ‏"‏، وقيل‏:‏ المراد بالتسبيح قبل غروبا صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعهما لمناسبة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏، وأنت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقاً على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال الشائع فيه وقت العصر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءانَاء اليل‏}‏ أي من ساعاته جمع إني وأنو بالياء والواو وكسر الهمزة وإنا بالكسر والقصر و‏{‏ءانَاء‏}‏ بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول، وذكره من يوثق به من المفسرين، وقال الراغب في مفرداته‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرَ ناظرين إناه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ أي وقته، والاناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة‏:‏

وآنيت العشاء إلى سهيل *** أو الشعري فطار بي الاناء

ثم قال‏:‏ ويقال ءانيت الشيء إيناء أي أخرته عن أوانه ويانيت تأخرت اه، وفي «المصباح» آنيته بالفتح والمد أخرته، والاسم إناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية بمضمر، وقوله بحانه ‏{‏فَسَبّحْ‏}‏ عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى، وقيل‏:‏ منصوب بسبح على نسق ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏، والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة، وقيل‏:‏ إنه معمول ‏{‏فَسَبّحْ‏}‏، والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها‏.‏

وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لأنها لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة، والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف ‏{‏مِنْ ءانَاء اليل‏}‏ على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن ءاناء الليل وأمنيازها على سائر الأوقات بأمور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطْرَافَ النهار‏}‏ عطف على محل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ ءانَاء اليل‏}‏ وقيل‏:‏ على قوله عز وجل ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ‏}‏ والمراد من التبيح أطراف النهار على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي، ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه، وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفا كذا قيل‏.‏ وأورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه، ولا شك في بعض كون الجمع بمثل هذا الاعتبار على أنه لا بد مع ذلك من القول بأن أقل الجمع اثنان، وأيضاً أن إطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فإنه ليس طرفاً له بل لنصفه‏.‏

وقيل‏:‏ هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية، والمراد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشيء وآخره، والاتيان بلفظ الجمع مع أن المراد إثنان لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان، ونظيره قول العجاج‏:‏

ومهمهين فدفدين مرتين *** ظهراهما مثل ظهور الترسين

والمرجح المشاكلة لآناء الليل، واختار هذا من أدخل الظهر فيما قبل الغروب، وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهي به الشيء وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة، وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة؛ وجوز أن يكون تكريراً لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول، والآخر بحسب العرف وإذا أريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة، وقيل‏:‏ هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع باللاصة كلاماً لا يخفى على الفقيه‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل سبحانه الله والحمد لله أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء وأثن عليه بالجميل‏.‏

وفي خبر ذكره ابن عطية «من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» وقال أبو مسلم‏:‏ لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضاً العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ للآلة، وقال‏:‏ إن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئاً فقد أثبت ضده وأشداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد أثبت صفات الكمال، وجوز في إضافة الحمد إلى الرب أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل أو من إضافة المصدر إلى المفعول أو من إضافة الاختصاص بأن يكون الحمد بمعنى المحامد؛ ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه، والمتبادر جعل الباء للملابسة والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول‏.‏

واختار الإمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك، وقال‏:‏ إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره أولاً على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم‏:‏ حتى يكون مظهراً لذلك وداعياً إليه‏.‏ واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغداة والعشى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏ ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه ‏{‏مِنْ أَمَّنْ هُوَ‏}‏ على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال‏:‏ قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت، ولا يخفى أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ أَمَّنْ هُوَ‏}‏ متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم، والثاني لتخصيص البعض اعتناء به، نعم يرد أن التنزيه عن الشرك لا معنى لتخيصه إلا إذا أريد به قول‏:‏ سبحانه الله مراداً به التنزيه عن الشكر، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون المراد من الحمد الصلاة والظرف متعلق به فتكون حكمة التخصيص ظاهرة كذا في «الحواشي الشهابية»‏.‏ وقد عورض ما قاله الإمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشاداً لما تصمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ وأيضاً الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضي ذلك ثم إنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشيء فإنه أحد معانيه كما في «الصحاح» و«القاموس» وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روى عن قتادة كما كان فتدبر‏.‏

‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏ قيل‏:‏ هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب‏.‏ واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى، وجوز أن يكون متعلقاً بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة، والمراد ‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏ في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك، وقرأ أبو حيوة‏.‏ وطلحة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وإبان‏.‏ وعصمة‏.‏ وأبو عمارة عن حفص‏.‏ وأبو زيد عن المفضل‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ ومحمد بن عيسى الأصفهاني ‏{‏ترضى‏}‏ على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ أي لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ‏}‏ من زخارف الدنيا كالبنين‏.‏ والأموال والمنازل‏.‏ والملابس‏.‏ والمطاعم ‏{‏أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ أي أصنافاً من الكفرة وهو مفعول متعنا قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به ومن بيانية، وجون أن يكون حالاً من ضمير به ومن تبعيضية مفعول متعنا أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم أو بعضاً كائناً منهم‏.‏ والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك، وقيل‏:‏ الخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان أبعد شيء عن إطالة النظر إلى زينة الدينا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز وجل من كل أحد وهو عليه الصلاة والسلام القائل‏:‏ «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله تعالى» وكان صلى الله عليه وسلم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها، والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة، وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به الخ إلى ما في النظم الكريم إشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك والرغبة فيه والميل إليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر إليها محصلاً لغرضهم وكالمغري لهم على اتخاذها‏.‏

‏{‏زَهْرَةَ الحياة الدنيا‏}‏ أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه متعناً أي جعلنا لهم زهرة إو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى أعظينا أو على أنه بدل من محل به وضعفه ابن الحاجب في أماليه لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد أخاك ولأن الإبدال من العائد مختلف فيه‏.‏ ومثل ذلك ما قيل إنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من أزواجاً بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة، وقيل‏:‏ بدون تقدير على كون أزواجاً حالاً بمعنى أصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة‏.‏ وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على أنه تمييز لما أو لضمير به، وحكى عن الفراء أو صفة أزواجاً ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة، وقيل‏:‏ على أنه حال من ضمير به أو من ما وحذف التنوين للالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من ما واختاره مكي ولا يخفى ما فيه، وقيل‏:‏ نصب على الذم أي اذم زهرة الخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر إليها والرغبة فيها ولا يلائمه تحقيرها ورد بأن في إضافة الزهرة إلى الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرعبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت‏.‏

نور التوفيق‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وطلحة‏.‏ وحميد‏.‏ وسلام‏.‏ ويعقوب‏.‏ وسهل‏.‏ وعيسى‏.‏ والزهري زهرة بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة، وفي المحتسب لابن جني مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر‏.‏ ونهر‏.‏ وشعر‏.‏ وشعر‏.‏ ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفاً حلقياً وإن لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ نحو لأنه لو حرك قلب الواو ألفاً، وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجاً أي أزواجاً من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، وجوز على هذا كونه حالاً لأن إضافته لفظية‏.‏

وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك سوء عاقبته مآلاً أثر بهجته حالاً، وقرأ الأصمعي عن عاصم لنفتنهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان ‏{‏وَرِزْقُ رَبّكَ‏}‏ أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى، وادعى «صاحب الكشف» أنه أنسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم، وقيل‏:‏ القناعة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما متعوا به ‏{‏وأبقى‏}‏ فإنه نفسه أو أثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ أمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهله بالصلاة بعدما أمر هو عليه الصلاة والسلام بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة، والمراد بأهله صلى الله عليه وسلم قيل أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ ما يشملهم وسائر مؤمني بني هاشم‏.‏ والمطلب، وقيل‏:‏ جميع المتبعين له عليه الصلاة والسلام من أمته، واستظهر أن المراد أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأيد بما أخرجه ابن مردويه‏.‏ وابن عساكر‏.‏ وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ‏}‏ الخ كان عليه الصلاة والسلام يجيء إلى باب علي كرم الله تعالى وجهه صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول‏:‏ الصلاة رحمكم الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، وروى نحو ذلك الإمامية بطرق كثيرة‏.‏

والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ويؤمر بأدائها الصبي وإن لم تجب عليه ليعتاد ذلك فقد روى أبو داود بإسناد حسن مرفوعاً «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»‏.‏ ‏{‏واصطبر عليها‏}‏ أي وداوم عليها فالصبر مجاز مرسل عن المداومة لأنها لازم معناه، وفيه إشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس، والخطاب عام شامل للأهل وإن كان في صورة الخاص وكذا فيما بعد، ولا يخفى ما في التعبير بالتسبيح أولاً والصلاة ثانياً مع توجيه الخطاب بالمداومة إليه عليه الصلاة والسلام من الإشارة إلى مزيد رفعة شأنه صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش فكأنه قيل داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وزعم بعضهم أن الخطاب خاص وكذا الحكم إذ لو كان عاماً لرخص لكل مسلم المداومة على الصلاة وترك الاكتساب وليس كذلك، وفيه أن قصارى ما يلزم العموم سواء كان الأهل خاصاً أو عاماً لسائر المؤمنين أن يرخص للمصلي ترك الاكتساب المانع من الصلاة وأي مانع عن ذلك بل ترك الاكتساب لأداء الصلاة المفروضة فرض وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائماً في أوقاتها المعينة لها لا استغراق الليل والنهار بها وكان الزاعم ظن أن المراد بالصلاة ما يشمل المفروضة وغيرها وبالمداومة عليها فعلها دائماً على وجه يمنع من الاكتساب وليس كذلك، ومما ذكرنا يعلم أنه لا حاجة في رد ما ذكره الزاعم إلى حمل العموم على شمول خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهله فقط دون جميع الناس كما لا يخفى، نعم قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقاً تكون سبباً لإدرار الرزق وكشف الهم وعلى ذلك يحمل ما جاء في الأخبار، أخرج أبو عبيد‏.‏

وسعيد بن منصور وابن المنذر‏.‏ والطبراني في «الأوسط»‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «شعب الايمان» بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة ‏"‏ وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا قال ثابت وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وأخرج مالك‏.‏ والبيهقي عن أسلم قال كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل إيقظ أهله للصلاة ويقول لهم‏:‏ الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ‏}‏ الخ، وجوز لظاهر الاخبار أن يراد بالصلاة مطلقها فتأمل، وقرأ ابن وثاب‏.‏ وجماعة ‏{‏نَرْزُقُكَ‏}‏ بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب ‏{‏والعاقبة‏}‏ الحميدة أعم من الجنة وغيرها وعن السدي تفسيرها بالجنة ‏{‏للتقوى‏}‏ أي لأهلها كما في قوله تعالى ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏ ولو لم يقدر المضاف صح وفيما ذكر تنبيه على أن ملاك الأمر التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو بآية من الآيات التي اقترحوها لا على التعيين بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترؤا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الاولى‏}‏ رد من جهته تعالى لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم فما دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأرفعها وأنفعها لأن حقيقة المعجزة الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند التحدي أي أمر كان ولا ريب في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال وبه تنال المراتب العلية والسعادة الأبدية، ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد من لم يمارس شيئاً من العلوم ولم يدارس أحداً من أهلها أصلاً فأي معجزة تراد بعد وروده، وأية آية تطلب بعد وفوده، فالمراد بالبينة القرآن الكريم، والمراد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل وسائل الكتب السماوية وبما فيها العقائد الحقة وأصول الأحكام التي اجمعت عليها كافة الرسل عليهم السلام، ومعنى كونه بينة لذلك كونه شاهداً بحقيته، وفي إيراده بهذا العنوان ما لا يخفى من التنويه بشأنه والإنارة لبرهانه حيث أشار إلى امتيازه وغناه عما يشهد بحقية ما فيه بإعجازه‏.‏ وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتياً به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة، والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل‏:‏ ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأول تقريراً لإتيانه وإيذاناً بأنه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكار أصلاً‏:‏ وإن اجترؤا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعناداً، وتفسير الآية بما ذكر هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل‏.‏

وزعم الإمام‏.‏ والطبرسي أن المعنى أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية بقولهم ‏{‏لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ‏}‏ كحال أولئك الهالكين اه‏.‏ وهو بمعزل عن القبول كما لا يخفى على ذوى العقول‏.‏ وقرأ أكثر السبعة‏.‏ وأبو بحرية وابن محيصن‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وابن مناذر‏.‏ وخلف‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن عيسى‏.‏ وابن جبير الأنطاكي ‏{‏يَأْتِهِمْ‏}‏ بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الآية والفصل‏.‏

وقرأت فرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ بالتنوين على أن ‏{‏مَا‏}‏ في القرآن من الناسخ والفضل مما لم يكن في غيره من الكتب وهو كما ترى‏.‏ وقرأت فرقة بنصب ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ والتنوين على أنه حال، و‏{‏مَا‏}‏ فاعل‏.‏ وقرأت فرقة منهم ابن عباس «الصحف» بإسكان الحاء للتخفيف، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ‏}‏ إلى آخر الآية جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة، والمعنى ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب مستأصل ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبله، والضمير للبينة والتذكير باعتبار أنها برهان ودليل أو للإتيان المفهوم من الفعل أي من قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَقَالُواْ‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِلَيْنَا رَسُولاً‏}‏ مع آيات ‏{‏فَنَتَّبِعَ ءاياتك‏}‏ التي جاءنا بها ‏{‏مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ‏}‏ بالعذاب في الدنيا ‏{‏ونخزى‏}‏ بدخول النار اليوم، وقال أبو حيان‏:‏ الذل والخزي كلاهما بعذاب الآخرة‏.‏ ونقل تفسير الذل بالهوان والخزي بالافتضاح والمراد أنا لو أهلكناهم قبل ذلك لقالوا ولكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم فعند ذلك ‏{‏قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ومحمد بن الحنفية‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والحسن في رواية عباد‏.‏ والعمري‏.‏ وداود والفزاري‏.‏ وأبو حاتم‏.‏ ويعقوب ‏{‏نَّذِلَّ‏}‏ بالناء للمفعول، واستدل الإشاعرة بالآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع والجبائي على وجوب اللطف عليه عز وجل وفيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏اثنين قُلْ‏}‏ لأولئك الكفرة المتمردين ‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد منا ومنكم ‏{‏مُّتَرَبّصٌ‏}‏ أي منتظر لما يؤل إليه أمرنا وأمركم وهو خبر ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وإفراده حملاً له على لفظه ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ وقرىء ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ عن قريب ‏{‏مَنْ أصحاب الصراط السوي‏}‏ أي المستقيم‏.‏ وقرأ أبو مجلز‏.‏ وعمران بن حدير ‏{‏السواء‏}‏ أي الوسط، والمراد به الجيد‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ وابن يعمر ‏{‏السوأى‏}‏ بالضم والقصر على وزن فعلى وهو تأنيث الأسوأ وأنث لتأنيث الصراط وهو مما يذكر ويؤنث‏.‏ وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏مَطَرَ السوء‏}‏ بفتح وسكون وهمزة آخره بمعنى الشر‏.‏ وقرىء ‏{‏السوي‏}‏ بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء وهو تصغير سوء بالفتح، وقيل‏:‏ تصغير سوء بالضم، وقال أبو حيان‏:‏ الأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطا عطى لأنه لو كان تصغير ذلك لثبتت همزته، وقيل‏:‏ سوئى‏.‏ وتعقب بأن إبدال مثل هذه الهمزة ياء جائز، وعن الجحدري‏.‏ وابن يعمر أنهما قرآ ‏{‏السوي‏}‏ بالضم والقصر وتشديد الواو، واختير في تخريجه أن يكون أصله السوآى كما في الرواية الأولى فخففت الهمزة بإبدالها واواً وأدغمت الواو في الواو، وقد روعيت المقابلة على أكثر هذه القراءات بين ما تقدم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنِ اهتدى‏}‏ أي من الضلالة ولم تراع على قراءة الجمهور والأولى من الشواذ‏.‏

ومن في الموضعين استفهامية في محل رفع على الابتداء والخبر ما بعد والعطف من عطف الجمل ومجموع الجملتين المتعاطفتين ساد مسد مفعولي العلم أو مفعوله إن كان بمعنى المعرفة، وجوز كون من الثانية موصولة فتكون معطوفة على محل الجملة الأولى الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد إذ لولاه لكان الموصول بواسطة العطف أحد المفعولين وكان المفعول الآخر محذوفاً اقتصاراً وهو غير جائز‏.‏

وجوز أن تكون معطوفة على ‏{‏أصحاب‏}‏ فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على ‏{‏الصراط‏}‏ فتكون في حيز أصحاب أي ومن ‏{‏أصحاب‏}‏ فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على ‏{‏الصراط‏}‏ فتكون في حيز أصحاب أي ومن ‏{‏أصحاب‏}‏ الذي اهتدى يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عنى بالصراط السوي النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً كان العطف من باب عطف الصفات على الصفات مع اتحاد الذات‏.‏

وأجاز الفراء أن تكون من الأولى موصولة أيضاً بمعنى الذين وهي في محل النصب على أنها مفعول للعلم بمعنى المعرفة و‏{‏أصحاب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وهو العائد أي الذين هم أصحاب الصراط وهذا جائز على مذهب الكوفيين فإنهم يجوزون حذف مثل هذا العائد سواء كان في الصلة طول أو لم يكن وسواء كان الموصول أياً أو غيره بخلاف البصريين، وما أشد مناسب هذه الخاتمة للفاتحة، وقد ذكر الطيبي أنها خاتمة شريفة ناظرة إلى الفاتحة وأنه إذا لاح أن القرآن أنزل لتحمل تعب الإبلاغ ولا تنهك نفسك فحيث بلغت وبلغت جهدك فلا عليك وعليك بالإقبال على طاعتك قدر طاقتك وأمر أهلك وهم أمتك المتبعون بذلك ودع الذين لا ينجع فيهم الإنذار فإنه تذكرة لمن يخشى وسيندم المخالف حين لا ينفعه الندم انتهى‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 67‏]‏ قيل‏:‏ إنه عليه السلام رأى أن الله تعالى ألبس سحر السحرة لباس القهر فخاف من القهر لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏.‏

وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال‏:‏ ما خاف عليه السلام على نفسه وإنما خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا لاَ تُخفُ *إِنَّكَ أَنتَ الاعلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏ أي إنك المحفوظ بعيون الرعاية وحرس اللطف أو أنت الرفيع القدر الغالب عليه غلبة تامة بحيث يكونون بسببها من أتباعك فلا يفوتهم حظهم من الله تعالى ‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 70‏]‏ إلى آخر ما كان منهم فيه إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء بالتوفيق والوصول إليه سبحانه في أقصر وقت فلا يستبعد حصول الكمال لمن تاب وسلك على يد كامل مكمل في مدة يسيرة‏.‏ وكثير من الجهلة ينكرون على السالكين التائبين إذا كانوا قريبي العهد بمقارفة الذنوب ومفارقة العيوب حصول الكمال لهم وفيضان الخير عليهم ويقولون كيف يحصل لهم ذلك وقد كانوا بالأمس كيت وكيت، وقولهم‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏ الخ كلام صادر من عظم الهمة الحاصل للنفس بقوة اليقين فإنه متى حصل ذلك للنفس لم تبال بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية الروحانية ‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏ الخ فيه إشارة إلى استحباب مفارقة الأغيار وترك صحبة الأشرار ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏ عد من الطغيان فيه استعماله مع الغفلة عن الله تعالى وعدم نية التقوى به على تقواه عز وجل ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83‏]‏ الإشارة فيه أنه ينبغي للرئيس رعاية الأصلح في حق المرؤس وللشيخ عدم فعل ما يخشى منه سوء ظن المريد لا سيما إذا لم يكن له رسوخ أصلاً ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ‏}‏‏.‏

قال ابن عطاء‏:‏ إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام بعد أن أخبره بذلك‏:‏ أتدري من أين أتيت‏؟‏ قال‏:‏ لا يا رب قال سبحانه‏:‏ من قولك لهارون‏:‏ ‏{‏اخلفني في قومي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ وعدم تفويض الأمر إلي والاعتماد في الخلافة علي‏.‏

وذكر بعضهم أن سر إخبار الله تعالى إياه بما ذكر مباسطته عليه السلام وشغله بصحبته عن صحبة الأضداد وهو كما ترى‏:‏

‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 85‏]‏ صار سبب ضلالهم بما صنع قال بعض أهل التأويل‏:‏ إنما ابتلاهم الله تعالى بما ابتلاهم ليتميز منهم المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول‏.‏ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏ أي برأينا فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين لا طريق لهم إلا التقليد والعمل لا التحقيق والعلم وإنما استعبدهم السامري بالطلسم المفرغ من الحلي لرسوخ محبة الذهب في نفوسهم لأنها سفلية منجذبة إلى الطبيعة الجسمانية وتزين الطبيعة الذهبية وتحلى تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية التي هي أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المشار إليها بحيزوم وفرس الحياة وهي مركب جبريل عليه السلام المشار به إلى العقل الفعال بالقوى الأرضية ولذلك قال‏:‏ ‏{‏بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 96‏]‏ أي من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبتني عليهما علم الطلسمات والسيمياء ‏{‏قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 97‏]‏ قال ذلك عليه السلام غضباً على السامري وطرداً له وكل من غضب عليه الأنبياء وكذا الأولياء لكونهم مظاهر صفات الحق تعالى وقع في قهره عز وجل وشقي في الدنيا والآخرة وكانت صورة عذاب هذا الطريد في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل وأثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105‏]‏ قال أهل الوحدة‏:‏ أي يسألونك عن وجودات الأشياء فقل ينسفها ربي برياح النفحات الإلهية الناشئة من معدن الأحدية فيذرها في القيامة الكبرى ‏{‏قاعاً صفصفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 106‏]‏ وجوداً أحدياً ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏ اثنينية ولا غيرية ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى‏}‏ الذي هو الحق سبحانه لا عوج له إذ هو تعالى آخذ بنواصيهم وهو على صراط مستقيم ‏{‏وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن‏}‏ إذ لا فعل لغيره عز وجل ‏{‏فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ أمراً خفياً باعتبار الإضافة إلى المظاهر انتهى‏.‏

ولكم لهم مثل هذه التأويلات والله تعالى العاصم ‏{‏يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 109‏]‏ قيل‏:‏ هو من صحح فعله وعقده ولم ينسب لنفسه شيئاً ولا رأى لها عملاً ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏ لكمال تقدسه وتنزهه وجلاله سبحانه عز وجل فهيهات أن تحلق بعوضة الفكر في جو سماء الجبروت‏.‏ ومن أين لنحلة النفس الناطقة أن ترعى أزهار رياض بيداء اللاهوت، نعم يتفاوت الخلق في العلم بصفاته عز وجل على قدر تفاوت استعداداتهم وهو العلم المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ وقيل‏:‏ هذا إشارة إلى العلم اللدني، والإشارة في قصة آدم عليه السلام إلى أنه ينبغي للإنسان مزيد التحفظ عن الوقوع في العصيان، ولله تعالى در من قال‏:‏

يا ناظراً يرنو بعيني راقد *** ومشاهداً للأمر غير مشاهد

منيت نفسك ضلة وأبحتها *** طرق الرجاء وهن غير قواصد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** درج الجنان بها وفوز العابد

ونسيت أن الله أخرج آدما *** منها إلى الدنيا بذنب واحد

وروى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ بينا آدم عليه السلام يبكي جاءه جبريل عليه السلام فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه عليهما السلام وقال‏:‏ يا آدم ما هذا البكاء‏؟‏ قال‏:‏ يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس فانطلق جبريل عليه السلام بمقالة آدم فقال الله تعالى‏:‏ يا جبريل انطلق إليه فقل له‏:‏ يا آدم يقول لك ربك ألم أخلقك بيدي ألم أنفخ فيك من روحي ألم أسجد لك ملائكتي ألم أسكنك جنتي ألم آمرك فعصيتني فوعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالاً مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى‏}‏ أي بالتوجه إلى العالم السفلي ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 124‏]‏ لغلبة شحه وشدة بخله فإن المعرض عن جناب الحق سبحانه انجذبت نفسه إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياه واشتد حرصه وكلبه عليها وشغفه بها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية فيشح بها عن نفسه وغيره وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحه بها وتلك المعيشة الضنك‏.‏

ولهذا قال بعضهم‏:‏ لا يعرض أحد عن ذكر ربه سبحانه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه بخلاف الذاكر المتوجه إليه تعالى فإنه ذو يقين منه عز وجل وتوكل عليه تعالى في سعة من عيشه ورغد ينفق ما يجد ويستغني بربه سبحانه عما يفقد ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ أي العاقبة التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة لأهل التقوى المتخلين عن الرذائل النفسانية المتحلين بالفضائل الروحانية، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بحسن العاقبة وصفاء العمر عن المشاغبة ونحمده سبحانه على آلائه ونسلم على خير أنبيائه وعلى آله خير آل ما طلع نجم ولمع آل‏.‏

‏[‏سورة الأنبياء‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏ روي عن ابن عباس كما قال الإمام‏.‏ والقرطبي‏.‏ والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين، وقال بعض الأجلة‏:‏ إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس، ووجه حسنه ههنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعاً وعرفاً‏.‏ ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيما بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق، وقال بعضهم‏:‏ إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست الأعلى تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به، ويمكن أن يحمل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جداً، واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهي بمعنى إلى أو بمعنى من فإن ‏{‏اقترب‏}‏ افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بإلى وبمن، واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدى القرب بهما، وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلاً من من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذا أوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى انتهاء الغاية كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه، وفي «الكشف» المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب اقترب من الناس لأن معنى الاختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى، وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الاقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملاءمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من يجىء لذلك، قال الشمني‏:‏ وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقربت منه فإنه مساو لتقربت إليه، ومما يشهد لذلك أن فعل الاقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى، وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون الصلتان بمعنى فتحمل من على إلى في كون المراد بها الانتهاء، وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملاً على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدي بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة؛ والمشهور أن ‏{‏اقترب‏}‏ بمعنى قرب كارتقب بمعنى رقب، وحكى في «البحر» أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة، ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أي يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الاقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى أن وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلاء إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء وأن الذي يرخي في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضاً غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه ههنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحاً عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

وجوز أن يكون الكلام مع المشركين السائلين عن زمان الساعة المستعجلين لها استهزاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ متى هُوَ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ فحينئذٍ يكون الإخبار عن الاقتراب على مقتضى الظاهر، وإيثار بيان اقتراب الحساب على بيان اقتراب سائر وقوع مستتبعات البعث كفنون العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادىء العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والاستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال‏.‏

وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة إن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه، ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الاقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الاقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكماً حتى أنه لو كان كل منهما متوجهاً إلى الآخر يصح إلى كل منهما، وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه، وقد صرح به أجلة المفسرين، وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار التوجكه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والاستقبال فكان الجدير أن يسند الاقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنواً إليهم‏.‏

وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى، وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير واليلمعي الخبير، والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة، واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردى الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصل معناه‏.‏

نعم قد يفهم منه عرفاً كونه قريباً في نفسه أيضاً فيصار حينئذٍ إلى هذا التوجيه‏.‏ وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الإنصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له أيضاً إذ الدلائل دلت على حصول هذا الاقتراب حين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية‏.‏

ثم قال‏:‏ فليت شعري ما معنى عدم عدم تعلقه بما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الاقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الاستمرار والدوام، ثم لا يخفى على أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر اه فتدبر، وقيل المراد اقتراب ذلك عند الله تعالى، وتعقب بأنه لا عند لله عز وجل إذ لا نسبة للكائنات إليه عز وجل بالقرب والبعد‏.‏

ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره لا الدنو والاقتراب المعروف، وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره‏.‏

وقال بعض الأفاضل‏:‏ ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عز وجل مدنواً منه ومقرباً إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى، وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريباً من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال، وعلى هذا يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرَوْنَهُ بَعِيداً يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6، 7‏]‏ وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته واستكثاره فمن التسويلات الشيطانية وأن اللائق بأصحاب البصيرة أن يعدوا تلك المدة قصيرة فيشمروا الذيل ليوم يكشف فيه عن ساق ويكون إلى الله تعالى شأنه المساق، وقول شيخ الإسلام في الاعتراض على ما قيل أنه لا سبيل إلى اعتباره ههنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتماً وإنما اعتباره في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏ ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث مبني على حمل القرب عنده تعالى على القرب إليه تعالى بمعنى حضور ذلك في علمه الأزلي فإنه الذي لا يجري فيه التفاوت حتماً وأما قرب الأشياء بعضها إلى بعض زماناً أو مكاناً فلا ريب أنه يتجدد تعلقات علمه سبحانه بذلك فيعلمه على ما هو عليه مع كون صفة العلم نفسها قديمة على ما تقرر في موضعه اه‏.‏ واختار بعضهم أن المراد بالعندية ما سمعته أولاً وهو معنى شائع في الاستعمال وجعل التجدد باعتبار التعلق كما قيل بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك بعثناهم لَنَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏ الآية، وقيل المراد من اقترابه تحقق وقوعه لا محالة فإن كل آت قريب والبعيد ما وقع ومضى ولذا قيل‏:‏ فلا زال ما تهواه أقرب من غد *** ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

ولا بد أن يراد من تحقق وقوعه تحققه في نفسه لا تحققه في العلم الأزلي ليغاير القول السابق‏.‏ وبعض الأفاضل قال‏:‏ إنه على هذا الوجه عدم تعلقه بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي إلا أن يصار إلى القول بتجرد الصيغة عن الدلالة على الحدوث كما في قولهم‏:‏ سبحان من تقدس عن الأنداد وتنزه عن الأضداد فتأمل ولا تغفل‏.‏

وتقديم الجار والمجرور على الفاعل كما صرح به شيخ الإسلام للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب المشركين من أول الأمر يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجاً من المقترب، واعترض بأن هؤلاء المشركين لا يحصل لهم الترويع والانزعاج لما ستسمع من غفلتهم وإعراضهم وعدم اعتدادهم بالآيات النازلة عليهم فكيف يتأتى تعجيل المساءة‏.‏ وأجيب بأن ذلك لا يقتضي أن لا يزعجهم الإنذار والتذكير ولا يروعهم التخويف والتحذير لجواز أن يختلج في ذهنهم احتمال الصدق ولو مرجوحاً فيحصل لهم الخوف والإشفاق‏.‏

وأيد بما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزلت‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ قال الكفار فيما بينهم‏:‏ إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا‏:‏ ما نرى شيئاً فنزلت ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏ فأشفقوا فانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا‏:‏ يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به انتهى‏.‏

وقال بعضهم في بيان ذلك‏:‏ إن الاقتراب منبىء عن التوجه والإقبال نحو شيء فإذا قيل اقترب أشعران هناك أمراً مقبلاً على شيء طالباً له من غير دلالة على خصوصية المقترب منه فإذا قيل بعد ذلك ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ دل على أن ذلك الأمر طالب لهم مقبل عليهم وهم هاربون منه فأفاد أن المقترب مما يسوؤهم فيحصل لهم الخوف والاضطراب قبل ذكر الحساب بخلاف ما إذا قيل اقترب الحساب للناس فإن كون إقبال الحساب نحوهم لا يفهم على ذلك التقدير إلا بعد ذكر للناس فتحقق فائدة التعجيل في التقديم مما لا شبهة فيه بل فيه فائدة زائدة وهي ذهاب الوهم في تعيين ذلك الأمر الهائل إلى كل مذهب إلى أن يذكر الفاعل، ويمكن أيضاً أن يقال في وجه تعجيل التهويل‏:‏ إن جرين عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم على إنذار المشركين وتحذيرهم وبيان ما يزعجهم يدل على أن ما بين اقترابه منهم شيء سيء هائل فإذا قدم الجار يحصل التخويف حيث يعلم من أول الأمر أن الكلام في حق المشركين الجاري عادته الكريمة عليه الصلاة والسلام على تحذيرهم بخلاف ما إذا قدم الفاعل حيث لا يعلم المقترب منه إلى أن يذكر الجار والمجرور والقرينة المذكورة لا تدل على تعيين المقترب كما تدل على تعيين المقترب إذ من المعلوم من عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم أنه إذا تكلم في شأنهم يتكلم غالباً بما يسوؤهم لا أنه عليه الصلاة والسلام يتكلم في غالب أحواله بما يسوؤهم وفرق بين العادتين، ولا يقدح في تمامية المرام توقف تحقق نكتة التقديم على ضم ضميمة العادة إذ يتم المراد بأن يكون للتقديم مدخل في حصول تلك النكتة بحيث لو فات التقديم لفاتت النكتة، وقد عرفت أن الأمر كذلك وليس في كلام الشيخ قدس سره ما يدل على أن المسارعة المذكورة حاصلة في من التقديم وحده كذا قيل‏.‏

ولك أن تقول‏:‏ التقديم لتعجيل التخويف ولا ينافي ذلك عدم حصوله كما لا ينافي عدم حصول التخويف كون إنزال الآيات للتخويف فافهم، وجوز الزمخشري كون اللام تأكيداً لإضافة الحساب إليهم قال في «الشكف»‏:‏ فالأصل اقترب حساب الناس لأن المقترب منه معلوم ثم اقترب للناس الحساب على أنه ظرف مستقر مقدم لا أنه يحتاج إلى مضاف مقدر حذف لأن المتأخر مفسر أي اقترب الحساب للناس الحساب كما زعم الطيبي وفي التقديم والتصريح باللام وتعريف الحساب مبالغات ليست في الأصل ثم اقترب للناس حسابهم فصارت اللام مؤكدة لمعنى الاختصاص الإضافي لا لمجرد التأكيد كما في لا أبا له وما ثنى فيه الظرف من نحو فيك زيد راغب فيك انتهى‏.‏

وادعى الزمخشري أن هذا الوجه أغرب بناءً على أن فيه مبالغات وكتاً ليست في الوجه الأول وادعى شيخ الإسلام أنه مع كونه تعسفاً تاماً بمعزل عما يقتضيه المقام، وبحث فيه أيضاً أبو حيان وغيره ومن الناس من انتصر له وذب عنه، وبالجملة للعلماء في ذلك مناظرة عظمى ومعركة كبرى، والأولى بعد كل حساب جعل اللام صلة الاقتراب هذا‏.‏

واستدل بالآية على ثبوت الحساب، وذكر البيضاوي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ ‏(‏البقرة؛ 284‏)‏‏}‏ أن المعتزلة والخوارج ينكرونه ويعضده ما ذكره الإمام النسفي في بعض مؤلفاته حيث قال‏:‏ قالت المعتزلة لا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا حوض ولا شفاعة وكل موضع ذكر الله تعالى فيه الميزان أو الحساب أراد سبحانه به العدل انتهى‏.‏ لكن المذكور في عامة المعتبرات الكلامية أن أكثرهم ينفي الصراط وجميعهم ينفي الميزان ولم يتعرض فيها لنفيهم الحساب، والحق أن الحساب بمعنى المجازاة مما لا ينكره إلا المشركون ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ أي في غفلة عظيمة وجهالة فخيمة عنه، وقيل الأولى التعميم أي في غفلة تامة وجهالة عامة من توحيده تعالى والإيمان بكتبه ورسله عليهم السلام ووقوع الحساب ووجود الثواب والعقاب وسائر ما جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم، وذكر غفلتهم عن ذلك عقيب بيان اقتراب الحساب لا يقتضي قصر الغفلة عليه فإن وقوع تأسفهم وندامتهم وظهور أثر جهلهم وحماقتهم لما كان مما يقع في يوم الحساب كان سبباً للتعقيب المذكور انتهى‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن ظاهر التعقيب يقتضي ذلك، ومن غفل عن مجازاة الله تعالى له المراد من الحساب صدر منه كل ضلالة وركب متن كل جهالة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً لهم وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي عن الآيات والنذر الناطقة بذلك الداعية إلى الإيمان به المنجي من المهالك خبر بعد خبر، واجتماع الغفلة والإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسىء ولذا إذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا إلى آخر ما قال‏.‏

وحاصله يتضمن دفع التنافي بين الغفلة التي هي عدم التنبه والإعراض الذي يكون من المتنبه بأن الغفلة عن الحساب في أول أمرهم والإعراض بعد قرع عصا الإنذار أو بأن الغفلة عن الحساب والإعراض عن التفكر في عاقبتهم وأمر خاتمتهم، وفي «الكشف» أراد أن حالهم المستمرة الغفلة عن مقتضى الأدلة العقلية ثم إذا عاضدتها الأدلة السمعية وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا، وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفاً منتقلاً دالاً على نوع تجدد، ومنه يظهر ضعف الحمل على أن الظرفية حال من الضمير المستكن في ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ قدمت عليه انتهى‏.‏

ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بد من الجزاء لا يتسنى إلا على القول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار، وقال بعض الأفاضل‏:‏ يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله‏:‏ عطاء فتى تمكن في المعالي *** وأعرض في المعالي واستطالا

وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏ فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها‏.‏

ويمكن أيضاً أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏ فلا تنافي بين الوصفين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ‏}‏ من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر، و‏{‏مِنْ‏}‏ سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية، والقول بأنها تبعيضية بعيد، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر، وأياً ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع ‏{‏مُّحْدَثٍ‏}‏ بالجر صفة لذكر‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضاً على المحل، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناءً على وصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ استمعوه‏}‏ استثناءً مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول ‏{‏يَأْتِيهِمُ‏}‏ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل، وقال نجم الأئمة الرضي‏:‏ إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكرماً فصار كالمضارع المثبت‏.‏

وجوز أن يكون حالاً من المفعول لأنه حامل لضميره أيضاً والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر، وكلمة ‏{‏إِلا‏}‏ وإن كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏استمعوه‏}‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏ إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏ فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏.‏ وعيسى ‏{‏لاَهِيَةً‏}‏ بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم، والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى، و‏{‏لاَهِيَةً‏}‏ من لهى عن الشيء بالكسر لهياً ولهياناً إذا سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في «الصحاح»‏.‏ وفي «الكشاف» هي من لهى عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمغفول عنه أصلاً بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفلة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوفقوا للإيمان وبقوا في غيابة الخزي والخذلان‏.‏

وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏البقرة؛ 102‏)‏‏}‏ وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهى الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح، وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ بذلك حينئذٍ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل، والمراد بالحدوث الذي يستدعيه ‏{‏مُّحْدَثٍ‏}‏ التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم، ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتباره نفسه وإن صح ذلك بناءً على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعرة من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مراراً لا يزيدهم ذلك إلا فراراً، وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الإفهام‏.‏ وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقاً كذلك؛ والمراد من الحدوث التجدد ويقال‏:‏ إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة‏.‏ والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم، وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمي ذكراً في قوله تعالى‏:‏

‏{‏قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 10، 11‏]‏ ويدل عليه هنا ‏{‏هَلْ هذا‏}‏ الخ الآتي قريباً إن شاء الله تعالى وفيه نظر، وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم، و‏{‏النجوى‏}‏ اسم من التناجي ولا تكون إلا سراً فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها، ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم، وهذا على ما في «الكشف» أظهر وأحسن موقعاً، وقال أبو عبيدة‏:‏ الإسرار من الأضداد، ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق‏:‏ فلما رأى الحجاج جرد سيفه *** أسر الحروري الذي كان أضمرا

وأنت تعلم أن الشائع في الاستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بدل من ضمير ‏{‏أَسَرُّواْ‏}‏ كما قال المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه، وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به، وقال أبو عبيدة‏.‏ والأخفش‏.‏ وغيرهما‏:‏ هو فاعل ‏{‏أَسَرُّواْ‏}‏ والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزدشنوءة قال شاعرهم‏:‏ يلومونني في اشتراء النخيل أهلي وكلهم ألوم‏.‏ *** وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم، وقال الكسائي‏:‏ هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماماً به، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً، وقيل هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيراً ما يضمر، واختاره النحاس، وهو على هذه الأقوال في محل الرفع‏.‏

وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم، وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتاً ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ كما قال أبو البقاء أو بدلاً منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ الخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم‏؟‏ فقيل قالوا هذا هذا الخ أو بدل من ‏{‏أَسَرُّواْ‏}‏ أو معطوف عليه، وقيل حال أي قائلين هل هذا الخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس، وقيل مفعول للنجوى نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل‏.‏

وسيبويه، وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث، و‏{‏هَلُ‏}‏ بمعنى النفوي ليست للاستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان، والهمزة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَأْتُونَ السحر‏}‏ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للاستبعاد، وأرادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الاذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر، وعنوا بالسحر ههنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أني يؤفكون، وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيق العهد وترتيب مبادي الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقاً فاخبرونا بما أسررناه‏؟‏ ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ولا في قوله سبحانه ‏{‏أَفَتَأْتُونَ‏}‏ السحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول فِى السماء والارض‏}‏ حكاية من جهته تعالى لما قال عليه الصلاة والسلام بعدما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم بياناً لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ففاعل ‏{‏قَالَ‏}‏ ضميره صلى الله عليه وسلم والجملة بعده مفعوله، وهذه القراءة قراءة حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وحفص‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وأيوب وخلف‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن جبير الانطاكي‏.‏ وابن جرير، وقرأ باقي السبعة ‏{‏قُلْ‏}‏ على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم، و‏{‏القول‏}‏ عام يشمل السر والجهر فايثاره على السر لإثبات علمه سبحانه به على النهج البرهاني مع ما فيه من الإيدان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعاً كما في علوم الخلق‏.‏

وفي الكشف أن بين السر والقول عموماً وخصوصاً من وجه والمناسب في هذا المقام تعميم القول ليشمل جهره وسره والأخفى فيكون كأنه قيل يعلم هذا الضرب وما هو أعلى من ذلك وأدنى منه وفي ذلك من المبالغة في إحاطة علمه تعالى المناسبة لما حكى عنهم من المبالغة في الإخفاء ما فيه؛ وإيثار السر على القول زي بعض الآيات لنكتة تقتضيه هناك ولكل مقام مقال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائناً في السماء والأرض، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ أي بجميع المسموعات ‏{‏العليم‏}‏ أي بجميع المعلومات، وقيل أي المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ويدخل في ذلك أقوالهم وأفعالهم دخولاً أولياً اعتراض تذييلي مقدر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد بمجازاتهم على ما صدر منهم، ويفهم من كلام البحر أن ما قبل متضمن ذلك أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ اضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب باطل أي لم يقتصروا على القول في حقه صلى الله عليه وسلم هل هذا إلا بشر مثلكم وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا هو أي القرآن تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا‏:‏ ‏{‏بَلِ‏}‏ من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم أضربوا فقالوا‏:‏ ‏{‏افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، وهذا الاضطراب شأن المبطل المحجوج فإنه لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد؛ قبل الأولى كما ترى من كلامه عز وجل وهي انتقالية والمنتقل منه ما تقدم باعتبار خصوصه والأخيرتان من كلامهم المحكى وهما ابطاليتان لترددهم وتحيرهم في تزويرهم وجملة المقول داخلة في النجوى‏.‏ ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر عن خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى، وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل، وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكى ولا مانع منه‏.‏

وجوز أن تكون الأولى من كلامهم وهي إبطالية أيضاً متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه بـ ‏{‏أفتأتون السحر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل الخ ليفيد حكاية اضرابهم، وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه، وقد أجيب أيضاً بأنه اضراب في قولهم المحكى بالقول المقدر قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ هذا‏}‏ ‏[‏لأنبياء‏:‏ 3‏]‏ الخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضاً، وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عز وجل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث، ويطلق على نحو هذا الاضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى أن الرتقي في القبح تنزيل في الحقيقة، ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال‏:‏ إن من البيان لسحراً لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لأشبه لها بوجه بالنظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق، ثم ادعاء أنها مع كونها تخاليط متفريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة والسلام علم عندهم في الأمانة والصدق، والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعاً وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلاً عن ذلك وبين محسنات الشهر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها، ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الإجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الإشراف فأظهر وأظهر، هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وان أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة اه‏.‏

وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن من الشعر لحكمة ‏"‏ لأنه باعتبار الندرة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه، وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب‏:‏ إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع، وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة، وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب، وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فاثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ ووهم ابن مالك في «شرح الكافية» فنفاه، والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء، وربما يقال‏:‏ مراد ابن مالك بالمنفى الضرب الثاني، ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر‏.‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله عز وجل كما يقول فليأتنا بآية ‏{‏كَمَا أُرْسِلَ الاولون‏}‏ وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية‏:‏ إنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة وما كل خارق لها معجز فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن لعادة لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فانا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث احلام سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده سلمنا أنه كلام فصيح لكنه لا يتجاوز فصاحة الشعر وإذا كان حال هذا المعجز هكذا فليأتنا بآية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كما أرسل الأولون انتهى وهو كما ترى‏.‏

وما موصولة في محل الجر بالكاف والجملة بعدها صلة والعائد محذوف، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لآية أي فليأتنا بآية مثل الآية التي أرسل بها الأولون، ولا يضر فقد بعض شروط جواز حذف العائد المجرور بالحرف إذ لا اتفاق على اشتراط طلك، ومن استرط اعتبر العائد المحذوف هنا منصوباً من باب الحذف والإيصال، وهو مهيع واسع، وأرادوا بالآية المشبة بها كما روي عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما الناقة والعصا ونحوهما، وكان الظاهر أن يقال فليأتنا بما أتى به الأولون أو بمثل ما أتى به الأولون إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لدلالته على ما دل عليه مع زيادة كونه مرسلاً به من الله عز وجل، وفي التعبير في حقه صلى الله عليه وسلم بالاتيان والعدول عن الظاهر فيما بعده إيتاء إلى أن ما أتى به صلى الله عليه وسلم من عنده وما أتى به الأولون من الله تبارك وتعالى ففيه تعريض مناسب لما قبله من الافتراء قاله الخفاجي وذكر أن ما قيل إن العدول عن كما أتى به الأولون لأن مرادهم اقتراح آية مثل آية موسى وآية عيسى عليهما السلام لا غيرهما مما أتى به سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن العلامة البيضاوي أشار إلى ذلك مما لا وجه له، وجوز أن تكون ما مصدرية والكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث أن المراد مثل اتيان الأولين بها لأن ارسال الرسل عليهم السلام متضمن الإتيان المذكور كما في الكشاف، وفي الكشف أنه يدل على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا أُرْسِلَ الاولون‏}‏ كناية في هذا المقام، وفائدة العدول بعد حسن الكناية تحقيق كونها آية بمثلها تثبت الرسالة لا تنازع فيها ويترتب المقصود عليها، والقول بأن الإرسال المشبه به مصدر المجهول ومعناه كونه مرسلاً من الله تعالى بالآيات لا يسمن ولا يغنى في توجيه التشبيه لأن ذلك مغاير للإتيان أيضاً وإن لم ينفك عنه، وقيل يجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال، وفي جانب المشبه به ذكر الإتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر، ولا يخفى بعده، ثم أن الظاهر أن إقرارهم بإرسال الأولين ليس عن صميم الفؤاد بل هو أمر اقتضاه اضطرابهم وتحيرهم، وذكر بعض الأجلة أنّ مما يرجح الحمل على أن ما تقدم حكاية أقوالهم المضطربة هذه الحكاية لأنهم منعوا أولاً أن يكون الرسول بشراً وبتوا القول به وبنوا ما بنوا ثم سلموا أن الأولين كانوا ذوي آيات وطالبوه عليه الصلاة والسلام بالاتيان بنحو ما أتوا به منها، وعلى وجه التنزيل لأقوالهم على درج الفساد يحمل هذا على أنه تنزل منهم، والعدول إلى الكناية لتحقيق تنزله عن شأوهم انتهى فتأمل ولا تغفل‏.‏