فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما ينبىء عنه خاتمة مقالهم من الوعد الضمني بالإيمان عند اتيان الآية المقترحة وبيان أنهم في اقتراح ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه وإن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوه مع عدم إيمانهم قطعاً لاستئصلوا لجريان سنة الله تعالى شأنه في الأمم السالفة على استئصال المقترحين منهم إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا وقد سبقت كلمته سبحانه أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال، وهذا أولى مما قيل أنهم لما طعنوا في القرآن وانه معجزة وبالغوا في ذلك حتى أخذوا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَأْتُونَ السحر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏ إلى أن انتهو إلى قوله سبحانه ‏{‏فَلْيَأْتِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ الخ جيء بقوله عز وجل ‏{‏مَا ءامَنَتْ‏}‏ الخ تسلية له صلى الله عليه وسلم من أن الإنذار لا يجدي فيهم‏.‏

وأياً ما كان فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن قَرْيَةٍ‏}‏ على حذف المضاف أي من أهل قرية، ومن مزيدة لتأكيد العموم وما بعدها في محل الرفع على الفاعلية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ في محل جر أو رفع صفة قرية، والمراد أهلكناها باهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات، وقيل القرية مجاز عن أهلها فلا حاجة إلى تقدير المضاف‏.‏

واعترض بأن ‏{‏أهلكناها‏}‏ يأباه والاستخدام وإن كثر في الكلام خلاف الظاهر، وقال بعضهم‏:‏ لك أن تقول إن اهلاكها كناية عن اهلاك أهلها وما ذكر أولاً أولى، والهمزة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لإنكار الوقوع والفاء للعطف إما على مقدر دخلته الهمزة فافادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم يؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوه أي مع أنهم اعتى واطغى كما يفهم بمعونة السياق والعدول عن فهم لا يؤمنون أيضاً وأما على ‏{‏مَا ءامَنَتْ‏}‏ على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الاعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة

‏[‏بم وقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ‏}‏ جواب لما زعموه من أن الرسول لا يكون إلا ملكاً المشار إليه بقولهم ‏{‏هل هذا إلا بشر مثلكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏ الذي بنوا عليه ما بنوا فهو متعلق بذلك وقدم عليه جواب قولهم‏:‏ ‏{‏شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ لأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ استئناف مبين لكيفية الإرسال، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه، والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل ارسالك إلى أمتك إلا رجالاً لا ملائكة نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقية مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا وإن ما أوحى إليك ليس مخالفاً لما أوحى إليهم فيقولون ما يقولون‏.‏ وقال بعض الأفاضل‏:‏ إن الجملة في محل النصب صفة مادحة لرجالاً وهو الذي يقتضيه النظم الجليل، وقرأ الجمهور ‏{‏يُوحِى إِلَيْهِمُ‏}‏ بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سنن الكبرياء وإيذاناً بتعين الفاعل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير أثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة، وأما الوقوف عليها بالسؤال من الغير فهو من وظائف العوام وأمره صلى الله عليه وسلم بالسؤال في بعض الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسؤول عنه لأمر آخر، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وأهل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم، أمروا بذلك لأن اخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلى الله عليه وسلم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة والسلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن‏.‏ ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم، ويرد ذلك على ما زعمته الامامية من أنهم آله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الكلام في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً‏}‏ بيان لكون الرسل عليهم السلام اسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك؛ وقال الراغب‏:‏ هو كالجسم إلا أنه أخص منه، قال الخليل‏:‏ لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضاً فإن الجسد يقال لماله لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء والماء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً‏}‏ الخ يشهد لما قاله الخليل انتهى، وقيل‏:‏ هو جسم ذو تركيب ظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به؛ وقال بعضهم‏:‏ هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أن التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصف بعضها ببعض، ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلاً غاية ما يدعى أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلاك فلا تغفل، ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل، والمراد تصييره كذلك إبداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، وأما حال من الضمير والجعل ابداعي وأفراده لا عادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره، وقيل‏:‏ لإرادة الاستغراق الإفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم؛ وقيل‏:‏ هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد، وفي التسهيل أنه يستغنى بتثنية المضاف وجمه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الاعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام‏}‏ صفة ‏{‏جَسَداً‏}‏ أي وما جعلناهم جسدا مستغنياً عن الغذاء بل محتاجاً إليه ‏{‏وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏ أي باقين ابدا، وجوز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد، واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشراً لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد، والظاهر هم يعتقدون أيضاً في الملائكة عليهم السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولاً مجردة، وحاصل المعنى جعلناهم أجساداً متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون، وقيل‏:‏ الجملة رد على قولهم ‏{‏مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ الخ والأول أولى، نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك، وفي إيثار ‏{‏وَمَا كَانُواْ‏}‏ على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعلى‏:‏ ‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً‏}‏ الخ لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمراً غريباً وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل

‏:‏ ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى *** وعرج على الباقي وسائله لم بقي

بل لا يبعد أن تكون الممكنات مطلقاً كذلك فقد قالوا‏:‏ إن الممكن إذا خلى وذاته يكون معدوماً إذ العدم لا يحتاج إلى علة وتأثير بخلاف الوجود؛ ولا يلزم على هذا أن يكون العدم مقتضى الذات حتى يصير ممتنعاً إذ مرجع ذلك إلى أولوية العدم وأليقيته بالنسبة إلى الذات، ويشير إلى ذلك على ما قيل قول أبي علي في الهيئات الشفاء للمعلول في نفسه أن يكون ليس وله عن علته أن يكون آيساً، وقولهم باستواء طرفي الممكن بالنظر إلى ذاته معناه استواؤه في عدم وجوب واحد منهما بالنظر إلى ذاته، وقولهم علة العدم عدم علة الوجود بمعنى أن العدم لا يحتاج إلى تأثير وجعل بل يكفيه انعدام العلة لا أن عدم العلة مؤثرة في عدم المعلول ولعل في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» إشارة إلى هذا فتدبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صدقناهم الوعد‏}‏ قيل‏:‏ عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الاستمرار التجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي باهلاك أعدائهم، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏نُوحِى‏}‏ السابق بمعنى أوحينا، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتماماً ما بالزامهم والرد عليهم؛ وقال الخفاجي‏:‏ هو عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ ثم للتراخي الذكرى أي أرسلنا رسلاً من البشر وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا تكذيبه وشمخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى، وفيه تأمل، ونصب ‏{‏الوعد‏}‏ على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره، وقيل‏:‏ على ما أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏‏:‏ ‏{‏ثم صدقناهم الوعد‏}‏ قيل‏:‏ عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى الى المرسلين على الاستمرار التجديدي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناه الوعد الذي وعدناه في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم، وقيل عطف على ‏{‏نوحي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ السابق بمعنى أوحينا، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتماماً بإلزامهم والرد عليهم، وقال الخفاجي‏:‏ هو عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ وثم للتراخي الذكري أي أرسلنا رسلاً من البشر وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى الله عليه وسلم فاخذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى، وفيه تأمل، ونصب ‏{‏الوعد‏}‏ على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره، وقيل‏:‏ على أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلاً‏.‏‏.‏

‏{‏فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء‏}‏ أي من المؤمنين بهم كما عليه جماعة من المفسرين، وقيل منهم ومن غيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية الذين كذبوه وآذوه صلى الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال، ورجح ما عليه الجماعة بالمقابلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ وذلك لحمل التعريف على الاستغراق والمسرفين على الكفار مطلقا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 43‏]‏ النار ملازموها والمخلدون فيها ولا يخلد فيها عندنا إلا الكفار، ومن عمم أولاً قال‏:‏ المراد بالمسرفين من عدا أولئك المنجين، والتعبير بمن نشاء دون من آمن أو من معهم مثلاً ظاهر في أن المراد بذلك المؤمنون وآخرون معهم ولا يظهر على التخصيص وجه العدول عما ذكر إلى ما في النظم الكريم والتعبير بنشاء مع أن الظاهر شئناً لحكاية الحال الماضية

‏[‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا‏}‏ كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به واضطرابهم في أمره وبيان علو مرتبته إثر تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسل الركام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذاناً بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير والخطاب لقريش، وجوز أن يكون لجميع العرب وتنوين كتاباً للتعظيم والتفخيم أي كتاباً عظيم الشأن نير البرهان، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل القدر بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع ‏{‏جليلة‏}‏ والمراد بالذكر كما أخرج البيهقي في شعب الإيمان وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس الصيت والشرف مجازاً أي فيه ما يوجب الشرف لكم لأنه بلسانكم ومنزل على نبي منكم تتشرفون بشرفه وتشتهرون بشهرته لأنكم حملته والمرجع في حل معاقده وجعل ذلك فيه مبالغة في سببيته له، وعن سفيان أنه مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أي فيه ما يحصل به الذكر أي الثناء الحسن وحسن الأحدوثة من مكالام الأخلاق ومحاسن الأعمال إطلاقاً لاسم المسبب على السبب فهو مجاز عن ذلك أيضاً‏.‏

وأخرج غير واحد عن الحسن أن المراد فيه ما تحتاجون إليه في أمور دينكم، وزاد بعض ودنياكم، وقيل الذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول، والمعنى فيه موعظتكم، ورجح ذلك بأنه الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتدبر فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة‏.‏

وقال صاحب التحرير‏:‏ الذي يقتضيه سياق الآيات إن المعنى فيه ذكر فيائحكم ومثالبكم وما عاملتم به أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام من التكذيب والعناد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ إنكار عليهم في عدم تفكرهم مؤد إلى التنبه عن سنة الغفلة انتهى، وفيه بعد، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي إلا تتفكرون فلا تعقلون ان الأمر كذلك أولاً تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر‏.‏

‏[‏بم وقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 9‏]‏ وبيان لكيفية اهلاكهم وتنبيه على كثرتهم، فكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول ‏{‏لقصمنا‏}‏ و‏{‏أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ تمييز، وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء واذهاب التئامها بالكلية كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط ما لا يخفى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَتْ ظالمة‏}‏ صفة ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ وكان الأصل على ما قيل أهل قرية كما ينبىء عنه الضمير الآتي إن شاء الله تعالى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فوصف بما هو من صفات المضاف أعني الظلم فكأنه قيل وكثيراً قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها مثلكم‏.‏

وفي الكشاف المراد بالقرية أهلها ولذلك وصفت بالظلم فيكون التجور في الطرف، وقال بعضهم‏:‏ لك أن تقول وصفها بذلك على الإسناد المجازي وقوله‏:‏ ‏{‏قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ كناية عن قصم أهلها للزوم اهلاكها اهلاكهم فلا مجاز ولا حذف، وأياً ما كان فليس المراد قرية معينة، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن الكلبي أنها حضور قرية باليمن‏.‏ وأخرج ابن مردويه من طريقه عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال بعث الله تعالى نبينا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء وفيهم أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا‏}‏ الخ؛ وفي البحر أن هؤلاء كانوا بحضور وأن الله تعالى بعث إليهم نبينا فقتلوه فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم وقتلهم، وعن بعضهم أنه كان اسم هذا النبي موسى بن ميشا، وعن ابن وهب أن الآية في قريتين باليمن إحداهما حضور والأخرى قلابة بطر أهلهما فاهلكهم الله تعالى على يد بختنصر، ولا يخفى أنه مما يأباه ظاهر الآية والقول بأنها من قبيل قولك كم أخذت من دارهم زيد على أن الجار متعلق بأخذت والتمييز محذوف أي كم درهم أخذت من دراهم زيد، ويقال هنا إنها بتقديركم ساكن قصمنا من ساكني قرية أو نحو ذلك مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إلا بالرد عليه، فلعل ما في الروايات محمول على سبيل التمثيل، ومثل ذلك غير قليل، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا‏}‏ أي بعد اهلاك أهلها لا بعد تلك الفعلة كما توهم ‏{‏قَوْماً ءاخَرِينَ‏}‏ أي ليسوا منهم في شيء تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادي اهلاك أولئك

‏[‏بم بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا‏}‏ فضمير الجمع للأهل‏.‏ لا لقوم آخرين إذ لا ذنب لهم يقتضي ما تضمنه هذا الكلام، والإحساس الإدراك بالحاسة أي فلما أدركوا بحاستهم عذابنا الشديد، ولعل ذلك العذاب كان مما يدرك بإحدى الحواس الظاهرة، وجوز أن يكون البأس استعارة مكنية ويكون الإحساس تخييلاً وأن يكون الإحساس مجازاً عن مطلق الإدراك أي فلما أدركوا ذلك ‏{‏إِذَا هُمْ مّنْهَا‏}‏ أي من القرية فمن ابتدائية أو من البأس والتأنيث لأنه في معنى النقمة والبأساء فمن تعليلية وهي على الاحتمالين متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْكُضُونَ‏}‏ وإذا فجائية، والجملة جواب لما، وركض من باب قتل بمعنى ضرب الدابة برجله وهو متعد، وقد يرد لازماً كركض الفرس بمعنى جرى كما قاله أبو زيد ولا عبرة بمن أنكره، والركض هنا كناية عن الهرب أي فإذا هم يهربون مسرعين راكضين دوابهم‏.‏

وجوز أن يكون المعنى مشبهين بمن يركض الدواب على أن هناك استعارة تبعية ولا مانع من حمل الكلام على حقيقته على ما قيل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ‏}‏ أي قيل لهم ذلك، والقائل يحتمل أن يكون ملائكة العذاب أو من كان ثمة من المؤمنين قالوا ذلك على سبيل الهزء بهم، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل على الرواية السابقة أن يكون القائل من جيش بختنصر وأراد بذلك خدعهم والاستهزاء بهم، وقيل يحتمل أن يكون المراد يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل على معنى أنهم بلغوا في الركض والفرار من العذاب بعد الاتراف والتنعم بحيث من رآهم قال لا تركضوا ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ من النعم والتلذذ والاتراف إبطار النعمة وفي ظرفية، وجوز كونها سببية ‏{‏ومساكنكم‏}‏ التي كنتم تفتخرون بها ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ‏}‏ تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل أو تسألون عما جرى علكم ونزل بأموالكم ومنازلكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة أو يسألكم حشمكم وعبيدكم فيقولوا لكم بم تأمرون وما ذا ترسمون وكيف نأتي ونذركما كنتم من قبل أو يسألكم الوافدون نوالكم اما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالكم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانو بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم، وقيل على الرواية المتقدمة المعنى لعلكم تسألون صلحاً أو جزية أو أمراً تتفقون مع الملك عليه، وقيل المراد بمساكنهم النار فيكون المراد بارجعوا إلى مساكنكم ادخلوا النار تهكماً، والمراد بالسؤال السؤال عن الأعمال أو المراد به العذاب على سبيل المجاز المرسل بذكر السبب وإرادة المسبب أي ادخلوا النار كي تسألوا أو تعذبوا على ظلمكم وتكذيبكم بآيات الله تعالى وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا استيلاء العذاب ‏{‏يَا وَيْلَنَا‏}‏ يا هلاكنا ‏{‏أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ بآيات الله تعالى مستوجبين للعذاب، وهذا اعتراف منهم بالظلم واستتباعه للعذاب وندم عليه حين لا ينفعهم ذلك، وقيل على الرواية السالفة إن هذا الندم والاعتراف كان منهم حين أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يالثارات الأنبياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ‏}‏ أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة، وتسميتها دعوى بمعنى الدعوة فإنه يقال دعا دعوى ودعوة لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلاً يا ويل تعال فهذا أوانك‏.‏

وجوز الحوفي‏.‏ والزمخشري‏.‏ وأبو البقاء كون ‏{‏طس تِلْكَ‏}‏ اسم زال و‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ خبرها والعكس، قال أبو حيان‏:‏ وقد قال ذلك قبلهم الزجاج وأما أصحابنا المتأخرون فعلى أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول فكما لا يجوز في الفاعل والمفعول التقدم والتأخر إذا أوقع ذلك في اللبس لعدم ظهور الإعراب لا يجوز في باب كان ولم ينازع فيه أحد إلا أبو العباس أحمد بن الحاج من نبهاء تلاميذ الشلوبين اه‏.‏

وقال الفاضل الخفاجي‏:‏ إن ما ذكره ابن الحاج في كتاب المدخل أنه ليس فيه التباس وأنه من عدم الفرق بين الالتباس وهو أن يفهم منه خلاف المراد والإجمال وهو أن لا يتعين فيه أحد الجانبين‏.‏ ولأجل هذا جوزه، وما ذكره محل كلام وتدبر‏.‏

وفي حواشي الفاضل البهلوان على تفسير البيضاوي إن هذا في الفاعل والمفعول وفي المبتدأ والخبر إذا انتفى الإعراب، والقرينة مسلم مصرح به، وأما في باب كان وأخواتها فغير مسلم اه‏.‏

والظاهر أنه لا فرق بين باب كان وغيرها مما ذكر وإن سلم عدم التصريح لاشتراك ما ذكروه علة للمنع ثم إن ذلك إلى الالتباس أقرب منه إلى الإجمال لا سيما في الآية في رأي فافهم ‏{‏حتى جعلناهم حَصِيداً خامدين‏}‏ أي إلى أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في «شرح المفتاح» ثم قال في ذلك استعارتان بالكناية بلفظ واحد وهو ضمير ‏{‏جعلناهم‏}‏ حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاءً بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو من خواص النار، ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع ‏{‏خامدين‏}‏ جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلاً فإنه يجعل بمنزلة هم كقوم صم وكذا يعتبر ‏{‏حَصِيداً‏}‏ بمعنى محصودين على استواء الجمع والواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلاً ثم ‏{‏خامدين‏}‏ نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى، وكذا في «شرح المفتاح» للسيد السند بيد أنه جوز أن يجعل ‏{‏حَصِيداً‏}‏ فقط من باب التشبيه بناءً على ما في «الكشاف» أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد، وجعل غير واحد إفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلاً لكونه مصدراً في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى، واعترض على قول الشارحين‏:‏ إذ ليس لنا الخ بأن فيه بحثاً مع أن مدار ما ذكراه من كون ‏{‏خامدين‏}‏ لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيهاً، وقد صرح به الشريف في حواشيه لكنه محل تردد لأنه لما صح الحمل في التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولولاه لما صحت الاستعارة أيضاً وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك و‏{‏خامدين‏}‏ مع حصيداً في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلواً حامضاً، والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد والخامد أو لمماثلة الحصيد والخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يرد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل هنا وهو مما ينصب مفعولين أو هو حال من الضمير المنصوب في ‏{‏جعلناهم‏}‏ أو من المستكن في ‏{‏حَصِيداً‏}‏ أو هو صفة لحصيداً وهو متعدد معنى، واعترض بعضهم بأن كونه صفة له مع كونه تشبيهاً أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ أي ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو واللعب وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية كأن تكون سبباً للاعتبار ودليلاً للمعرفة مع منافع لا تحصى وحكم لا تستقصى، وحاصله ما خلقنا ذلك خالياً عن الحكم والمصالح إلا أنه عبر عن ذلك باللعب وهو كما قال الراغب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه، وهذا الكلام على ما قيل إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكى من العذاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفراعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه مع التخلص إلى وعيد المخاطبين، وفي «الكشف» أن الآيات لإثبات أمر النبوة ونفي تلك المطاعن السابقة على ما ذكره الإمام وهو الحق لأنه قد تكرر في الكتاب العزيز أن الحكمة في خلق السماء والأرض وما بينهما العبادة والمعرفة وجزاء من قام بهما ومن لم يقم ولن يتم ذلك إلا بإنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعباً تعالى خالقهما وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علواً كبيراً، ومنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وفساد تلك المطاعن كلها‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏ استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهواً إلهياً أي حكمة اتخذتموها لهواً من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحاً بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسناً بالغاً انتهى، وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ أي من جهة قدرتنا، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين، وقد فسره به أيضاً البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعاً ذاتياً والممتنع لا يصلح متعلقاً للقدرة، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافي أن يفعل فعلاً يكون هو سبحانه بنفسه لاهياً به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى‏.‏

والحق عندي أن العبث لكونه نقصاً مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عز وجل، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي‏:‏ إن مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع أنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه لا واجب عليه عز وجل، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم وكالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى‏.‏

ومن أنكر أن أكون العبث نقصاً كالكذب فقد كابر عقله، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب للوجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة، ولعله حينئذٍ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناءً على استلزامه محالاً بعد صدور موجبه اختياراً لا مطلقاً ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلاً، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم‏.‏

وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى‏.‏

ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تيادراً مما في «الكشف» وذلك أبعد مغزى، وقال الإمام الواحدي‏:‏ اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهواً وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولداً ذا لهو لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 4‏]‏ وقال المفسرون‏:‏ أي من الحور العين، وهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام السلام ولداً وكونها صاحبة، ومعنى ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى‏.‏

وتفسير اللهو هنا بالولد مروى عن ابن عباس والسدي، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع، وأنشد قول امرىء القيس‏:‏ ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 16‏]‏ ولأن نفي الولد سيجىء مصرحاً إن شاء الله تعالى، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسناً معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجىء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل‏}‏ إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره، والعموم هو الأولى، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل‏.‏

‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق‏.‏

وجوز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان، وجوز أيضاً أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجىء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل، ولعل القول بالتمثيل أمثل، وقرأ عيسى ابن عمر ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ بالنصب، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافاً للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله‏:‏ سأترك منزلي لبني تميم *** وألحق بالحجاز فاستريحا

على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوباً بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقيل وهو يشبه التمني في الترقب، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذاً والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به‏.‏

وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبناً وماءً بارداً صح، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل بالقذف فالدمغ، وقرىء ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ بضم الميم والغين ‏{‏فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏ أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل‏.‏

‏{‏وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضاً مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائناً مما تصفونه عز وجل به، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد، وأبعد كل البعد من قال‏:‏ إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 15‏]‏ إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمه بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل، وقيل هو عديل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمُ الويل‏}‏ وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقاً وملكاً وتدبيراً وتصرفاً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالاً واستتباعاً، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجىء بالسموات جميعاً على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السموات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جىء بالسماء بصيغة الإفراد دون الجمع‏.‏

وفي الاتقان حيث يراد بالعدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ وهم الملائكة مطلقاً عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة‏.‏

وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلاً لهم لكرامتهم عليه عز وجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء ‏{‏وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضاً أحسرته بالهمز‏.‏

والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ على أحد الأوجه المشهورة فيه‏.‏

وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفاً على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله، وقيل إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات، والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقاً لا بتجرد بعض دون بعض‏.‏

ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ على هذا الوجه أن يكون حالاً من الأولى والثانية على قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في ‏{‏عِندَهُ‏}‏ ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجىء الحال من المبتدأ ولا يخفى‏.‏

وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبراً لمن عنده، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ في موضع الحال من مضير ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ على تقديري الاستئناف والحالية، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالاً من ضمير ‏{‏لا يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19‏]‏ أيضاً، ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالاً منه للفصل‏.‏ وجوز أن يكون استئنافاً والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلاً بفراغ أو شغل آخر، واستشكل كون الملائكة مطلقاً كذلك مع أن منهم رسلاً يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية أخرى‏.‏ وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعباً عن ذلك كما أخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة‏.‏ والبيهقي في «الشعب» فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر‏.‏ وتعقب بأن فيه بعداً، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلاً ببعض آخر، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى‏.‏ ولا يخفى حسنه، ويجوز أن يقال‏:‏ إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتخذوا ءالِهَةً‏}‏ حكاية لجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة، وأم هي المنقطعة وتقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية وهي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ الارض‏}‏ متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية‏.‏

وقال أبو البقاء وغيره‏:‏ يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض، وأياً ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص، ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غير سديد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحاً لكنهم حيث ادعوا لها الإلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتماً ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفِى الله شَكٌّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه، ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود، وقال بعضهم‏:‏ تقديم الضمير للتقوى، وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص تبع فيه الزمخشري، وفي «الكشف» الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولاً من أن الإلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجويز كونه فصلاً انتهى، وجوز أن تكون جملة ‏{‏هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ مستأنفة مقدراً معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الاتخاذ، ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع، وتفسير ‏{‏يُنشِرُونَ‏}‏ بيبعثون هو المشهور وعليه الجمهور، وقال قطرب‏:‏ هو بمعنى يخلقون‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ومجاهد ‏{‏يُنشِرُونَ‏}‏ بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر بمعنى وقد يجىء نشر لازماً يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ إبطال لتعدد الإله وضمير ‏{‏فِيهِمَا‏}‏ للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علوية وسفلية والمراد بالكون فيهما التمكن البالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والاستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي، والظرف على هذا متعلق بكان، وقال الطيبي‏:‏ أنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الله فِى السموات وَفِى الارض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏ وجعل تعلق الظرف بما ذكر ههنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية‏.‏

وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولاً، و‏{‏إِلا‏}‏ لمغايرة ما بعدها لما قبلها فهي بمنزلة غير، وفي «المغني» أنها تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية، وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن ‏{‏إِلا‏}‏ هنا اسم بمعنى غير صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في أل الموصولة في اسم الفاعل مثلاً‏.‏

وأنكر الفاضل الشمني كونها بمنزلة غير في الاسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ فَارِضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ من أنه لا قائل باسمية إلا التي بمنزلة غير ثم ذكر أن المراد بكونها بمنزلة غير أنها بمنزلتها في مغايرة ما بعدها لما قبلها ذاتاً أو صفة، ففي شرح الكافية للرضى أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل غير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به، وأصل إلا التي هي أم أدوات الاستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفياً أو إثباتاً فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد غير في معنى المغايرة حملت إلا على غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايراً لما قبلها ذاتاً أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفياً أو إثباتاً وحملت غير على إلا في الاستثناء فصار ما بعدها مغايراً لما قبلها نفياً أو إثباتاً من غير مغايرته له ذاتاً أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين إفادتها معنى غير اسماً وفي بقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع ما بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر، ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل باسميتها، ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية، ولعمري أنه أصاب المحز وإن قال العلامة ما قال، وكلام الرضي ليس نصاً في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف ولا يصح أن تكون للاستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الاستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيداً على كون الاستثناء متصلاً وكذا على كونه منقطعاً بناءً على أنه لا بد فيه من الجزم بعدم الدخول وهو مفقود جزماً، ومن أجاز الاستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم الجليل على البدلية‏.‏

واعترض بعدم تقدم النفي، وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي‏.‏ وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان معنا إلا زيد لهلكنا أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت‏.‏

ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد‏.‏ وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول‏:‏ قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏ مع أنه لا يجوز أبى ديار المجىء وأبى من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا‏.‏

وقال الرضي‏:‏ أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في قوم يونس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ الآية إجراء للتحضيض مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذ لم يثبت انتهى‏.‏

وذكر المالكي في «شرح التسهيل» أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز، وكذا لا يصح الاستثناء من جهة المعنى ففي «الكشف» أن البدل والاستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم إلا له الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد بمكان ثم أن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى‏:‏

‏{‏نَفْخَةٌ واحدة‏}‏ ‏[‏الحاقه‏:‏ 13‏]‏ فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتى المراد‏.‏ وقال الشلوبين‏.‏ وابن الصائغ‏:‏ لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التي يراد بها البدل والعوض، ورد بأنه يصير المعنى حينئذٍ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عز وجل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل‏.‏

وأجيب بأن معنى الآية حينئذٍ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلاً منه وحده عز وجل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف‏.‏ والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة، والمراد بالفساد البطلان والاضمحلال أو عدم التكون، والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الإله وهو قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله‏.‏ وفي هذا استعمال للو غير الاستعمال المشهور‏.‏

قال السيد السند‏:‏ إن لو قد تستعمل في مقام الاستدلال فيفهم منها ارتباط وجود التالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال‏:‏ لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةً *إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏‏:‏ وقال العلامة الثاني‏:‏ إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا‏}‏ الخ لظهور أن الغرض منه التصديق بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد اه‏.‏ وفيه بحث يدفع بالعناية، ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين‏.‏ وابن عصفور إن لو لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الاستقبال والظاهر أن خصوصية المضي ههنا غير معتبرة‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أن لو هنا لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الاستدلال ولا يخفى ما فيه على من دق النظر، ثم إن العلامة قال في «شرح العقائد»‏:‏ إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الافتقا على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطي السموات ورفع هذا النظام فيكون لا محالة‏.‏

وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعاً فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى‏.‏ فنفى أن تكون الآية برهاناً سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون، وفيه قدح لما أشار إليه في «شرح المقاصد» من كون كونها برهاناً على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال‏:‏ وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ‏}‏ الآية فإن أريد عدم التكون فتقريره أن يقال‏:‏ لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأنه الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح، وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال‏:‏ إنه لو تعددت الإله لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى، وذلك القدح بأن يقال‏:‏ تعدد الإله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخرة بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالاشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر؛ وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضاً ثم قال‏:‏ التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقاً فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثير فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعاً لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلاً أو بعضاً، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال‏:‏ لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكناً فضلاً عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى‏.‏

وأورد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال‏:‏ فالحق أن توجيهه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول، وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ماله وما عليه من النقض والإبرام، ثم ذكر أن للتمانع عندهم مغنيين، أحدهما‏:‏ إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما‏:‏ إرادة كل منهما إيجاد بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخرة فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم‏:‏ لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما لترجيح بلا مرجح مبني على هذا، وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلاً أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وقد فرضا كذلك؛ ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوارد وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال، وبهذا الاعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول بالنسبة إلى العوام والثاني بالنبة إلى الخواص، وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لا بد أن يكون واجب الوجود، وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكناً لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجوداً فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا بمعنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الاستدلال، ثم إن هذا النحو من الاستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على الوحيد الذي هو أجل المطالب الإلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وإن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجباً ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين، وما به الامتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجاً عن حقيقه كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته، ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركباً مما به الاشتراك وما به الامتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجباً لإمكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكناً لذاته هذا خلف، واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة أثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما أثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة، وأجيب بأن المراد العينية، ومعنى قولهم أن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية، وكذلك قياس سائر صفاته سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقق، وتوضيح ذلك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلاً نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئاً ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئاً ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط، وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفسه واجب الوجود بل يكن له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجب الوجود فلا تكون واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على ذلك سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما‏.‏

واعترض أيضاً بأنه لم لا يجوز أن يكون ما به الامتياز أمراً عارضاً لا مقوماً حتى يلزم التركيب‏.‏ وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضاً وهو خلاف ما ثبت بالبرهان، ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لا بدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية كل منهما واجباً بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعاً منهما مقولاً عليها قولاً عرضياً، وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة ونحوها‏.‏

ولعلك إذا أحطت خبراً بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال، أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن في ذاته، وأما الأول فلأن مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلاً، ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقاً لحكم واحد ومحكياً عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونه متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجودي المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضاً هذا الوجود فرضاً مباينة أصلاً ولا تغاير فلا يكون إثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانياً فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا انتهى فتأمل‏.‏

ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكرمية عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفي فيه بالإقناعات المبنية على الشهرة والعادة، ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏

‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏ ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي الإثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصاً يستلزم بالضرورة إن كل واحد واحد منهم يغايره شخصاً وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طوبق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الارض‏}‏ وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والإثنين أيضاً‏.‏ واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الارض هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 21‏]‏ لذكرها بعده، وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين، ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ وهم يقولون في آلهتهم ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ فما قالوا به لا تبطله الآية؛ وما تبطله الآية لم يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كان في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان‏:‏ لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم، وأجيب بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 21‏]‏ الخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحداً على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفهم بذلك شاؤا أو أبوا فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه ‏{‏فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى إلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوجدانية، وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة ولتربية المهابة وإدخال الروعة، والوصف برب العرش لتأكيد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة، والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه، وقيل‏:‏ المراد بالتعجيب ممن عبد تلكم المعبودات الخسيسة وعدها شريكاً مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء، والكلام عليه أيضاً كالنتيجة لما قبله من الدليل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ يمكن أن يكون جواب سؤال مقدر ناشيء من إثبات توحده سبحانه في الألوهية المتضمن توحده تعالى في الخلق والتصرف ووصف الكفرة إياه سبحانه بما لا يليق كأنه قيل إذا كان الله تعالى هو الإله الخالق المتصرف فلم خلق أولئك الكفرة ولم يصرفهم عما يقولون فأجيب بقوله سبحانه ‏{‏لاَّ يُسْئَلُ‏}‏ الخ وحاصله أنه تعالى لا ينبغي لأحد أن يعترض عليه في شيء من أفعاله إذ هو حكيم مطلق لا يفعل ما يرد عليه الاعتراض ‏{‏وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ عما يفعلون ويعترض عليهم، وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم على ما هم عليه، ووجه حل السؤال الناشيء مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة بل جميع المكلفين على حسب ما علمهم مما هم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم والعلم تابع للمعلوم فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي، وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات‏:‏ خلقت العباد على ما علمت *** ففي العلم يجري الفتى والمسن

ثم بعد أن خلقهم على حسب ذلك كلفهم لاستخراج سر ما تسبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والاباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره حيث أنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المجعول، وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاع كثير من المحققين والأجلة العارفين، وقال البعض‏:‏ إن ذلك استئناف ببيان أنه تعلى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطنته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله إثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية، وضمير ‏{‏هُمْ‏}‏ للعباد أي والعاد يسألون عما يفعلون نقيراً وقطميراً لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون، وفي هذا وعيد للكفرة، والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسئل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل، وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل‏؟‏ وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضاً وأولوا ما ظاهره التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعاقبة‏.‏

ومذهب الماتريدية كما في «شرح المقاصد» والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الطوفي وغيره‏.‏

وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعاً في بضعة عشرة ورقة ثم قال‏:‏ لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال‏:‏ وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جمله‏؟‏ وهل يمكن فقيهاً على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل‏.‏ وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد‏؟‏ ثم قال‏:‏ والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام‏.‏ وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة اه‏.‏

والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن‏.‏ والنظام‏.‏ والجاحظ والعلاف‏.‏ وأبي القاسم البلخي‏.‏ وغيرهم يقولون‏:‏ إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم‏.‏ وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازماً لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجباً لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الاختيار بالمعنى الأخص قطعاً فلا يكون الواجب مختاراً بهذا المعنى بل يؤل إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الاختيار المجامع للإيجاب، ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم الواجب تعالى وإن كان أولياً دائماً لإمكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع، نعم يرد عليهم ما يصعب التفصي عنه مما هو مذكور في الكتب الكلامية، وأورد نظير ما ذكر على الحنفية فإنهم ذهبوا إلى التعليل وجعلوا العلم بترتب المصالح علة لتعلق العلم بالوقوع فلا يتسنى لهم القول بكون الواجب تعالى مختاراً بالمعنى الأخص لأن الذات يوجب العلم والعلم يوجب تعلق الإرادة وتعلق الإرادة يوجب الفعل ولا مخلص إلا بأن يقال‏:‏ إن إيجاب العلم بالنفع والمصلحة لتعلق الإرادة ممنوع عندهم بل هو مرجح ترجيحاً غير بالغ إلى حد الوجوب وما قيل إذا لم يبلغ الترجيح إلى حد الوجوب جاز وقوع لراجح في وقت وعدم وقوعه في وقت آخر مع ذلك المرجح فإن كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع بانضمام شيء آخر إلى ذلك المرجح لم يكن المرجح مرجحاً وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح بل يلزم ترجيح المرجوح عدمه في الوقت الآخر لأن الوقوع كان راجحاً بذلك المرجح فمدفوع بوجهين إلا أنه إنما يجري في العلة التامة بالنسبة إلى معلولها لا في الفاعل المختار بالنسبة إلى فعله فإنه إن أريد لزوم الرجحان من غير مرجح كما هو اللازم في العلة التامة فعدم اللزوم ظاهر وإن أريد الترجيح من غير مرجح فبطلان اللازم في الفاعل المختار ممنوع وإلا فما الفرق بين الفاعل الموجب والمختار، الثاني أن المرجح بالنبسة إلى وقت ربما لا يكون مرجحاً بالنسبة إلى وقت آخر بل منافياً للمصلحة فلا يلزم ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح في وقت آخر بل يلزم تريح الراجح في كل وقت وهو تعالى عالم بجميع المصالح اللائقة بالأوقات فتتعلق إرادته سبحانه بوقوع كل ممكن في وقت لترتب المصالح اللائقة بذلك الوقت على عدمه فلا إشكال، وهذا هو المعول عليه إذ لقائل أن يقول على الأول أن ترجيح المرجوح مستحيل في حق الواجب الحكيم وإن جاز في حق غيره من أفراد الفاعل بالاختيار‏.‏

هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم نفي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفيه الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقاً ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائبة وغرض في الايجاد ومرادهم بالاقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الانفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتماداً على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الاتقان ونهاية من الأحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعلقه لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عرضية إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتباً ذاتياً لا عرضياً كوجود مبادىء الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء طالبة له متشوقة إليه طبعاً وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله‏.‏

والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استناز الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏لا‏}‏ بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏