فصل: تفسير الآية رقم (38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ أي وقت وقوع الساعة الموعود بها، وكانوا يقولون ذلك استعجالاً لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجواب لا طلباً لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك، و‏{‏متى‏}‏ في موضع رفع على أنه خبر لهذا‏.‏

ونقل عن بعض الكوفيين أنه في موضع نصب على الظرفية والعامل فيه فعل مقدر أي متى يأتي هذا الوعد ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ بأنه يأتي؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن إتيان الساعة، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه فإن قولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ حيث كان استبطاء منهم للموعود وطلباً لإتيانه بطريق العجلة في قوة طلب إتيانه بالعجلة فكأنه قيل إن كنتم صادقين فليأتنا بسرعة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه، وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم بحسب المقام وإلا فكثيراً ما يفيد المضارع المنفي انتفاء الاستمرار، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ‏}‏ مفعول ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ على ما اختاره الزمخشري وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضاً مع إنكار الكفرة ذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة إلى الإخبار به وإنما حقه الانتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف أي لو لم يستمر عدم علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب، وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على رفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ من جهة الغير في دفعها الخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال، وقدر الحوفي لسارعوا إلى الإيمان وبعضهم لعلموا صحة البعث وكلاهما ليس بشيء، وقيل إن ‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني لا جواب لها وهو كما ترى‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ متروك المفعول منزلاً منزلة اللازم أي لو كان لهم علم لما فعلوا ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِينٍ‏}‏ الخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل‏:‏ حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال، وفي «الكشف» كأنه استئناف بياني وذلك أنه لما نفى العلم كان مظنة أن يسأل فأي وقت يعلمون‏؟‏ فأجيب حين لا ينفعهم، والظاهر كون ‏{‏حِينٍ‏}‏ الخ مفعولاً به ليعلم‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الذي يظهر أن مفعوله محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذي كفروا مجىء الموعود الذي سألوا عنه واستبطؤوه و‏{‏حِينٍ‏}‏ منصوب بذلك المفعول وليس عندي بظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً‏}‏ عطف على ‏{‏لاَ يَكُفُّونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39‏]‏ وزعم ابن عطية أنه استدراك مقدر قبله نفي والتقدير إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، وقيل‏:‏ إنه استدراك عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39‏]‏ الخ وهو منفي معنى كأنه قيل‏:‏ لا يعلمون ذلك بل تأتيهم الخ، وبينه وبين ما زعمه ابن عطية كما بين السماء والأرض‏.‏ والمضمر في ‏{‏تَأْتِيَهُمُ‏}‏ عائد على ‏{‏الوعد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏ لتأويله بالعدة أو الموعدة أو الحين لتأويله بالساعة أو على ‏{‏النار‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39‏]‏ واستظهره في «البحر»، و‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة مصدر في موضع الحال أو مفعول مطلق لتأتيهم وهو مصدر من غير لفظه ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏ تدهشهم وتحيرهم أو تغلبهم على أنه معنى كنائي‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم‏}‏ بياء الغيبة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ بفتح الغين وهو لغة فيها، وقيل‏:‏ إنه يجوز في كل ما عينه حرف حلق ‏{‏فيبهتهم‏}‏ بياء الغيبة أيضاً، فالضمير المستتر في كل من الفعلين للوعد أو للحين على ما قال الزمخشري‏.‏

وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ يحتمل أن يكون للنار بجعلها بمعنى العذاب ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏ الضمير المجرور عائد على ما عاد عليه ضمير المؤنث فيما قبله، وقيل‏:‏ على البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين، وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ الخ تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكمية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بدىء بذكر أجلة الأنبياء عليهم السلام للتأسي وختم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ الخ، وتصدير ذلك بالقصم لزيادة تحقيق مضمونه‏.‏ وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير‏.‏ ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزىء إليه مقامه ‏{‏فَحَاقَ‏}‏ أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر‏.‏ والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله‏.‏ وقيل‏:‏ أصل حاق حق كزال وزل وذام وذم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق‏.‏ وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بالفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله‏.‏ وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا‏.‏ ولعل إيثار الإفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع المسبب إيذاناً بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروي بناءً على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول‏:‏ ‏{‏مَن يَكْلَؤُكُم‏}‏ أي يحفظكم ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل‏}‏ أي من بأسه بقرينة الحفظ، وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعاً وأشد وقعاً‏.‏ وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ وقيل إن ذلك إيماءً إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عز وجل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ والزهري‏.‏ وشيبة ‏{‏يكلوكم‏}‏ بضمة خفيفة من غير همز، وحكى الكسائي‏.‏ والفراء ‏{‏يكلوكم‏}‏ بفتح اللام وإسكان الواو، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ إضراب عن ذلك تسجيلاً عليهم بأنهم ليسوا من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عز وجل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن وال، عة حفظاً وكلاءة ليسألوا عن الكالىء على طريقة قوله‏:‏ عوجوا فحيوا لنعمي دمنة الدار *** ماذا تحيون من نوء وأحجار

وفيه أنهم مستمرون على الإعراض ذكروا ونبهوا أولاً، وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميره المنبىء عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى، وقيل إنه إضراب عن مقدر أي أنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدي السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عز وجل فالتذكير يناسبهم، وهذا مع ظهوره من مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفي عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين اه‏.‏

وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏ وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بإجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ ءالِهَةً تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا‏}‏ إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها، فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة و‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبر مقدم و‏{‏ءالِهَةً‏}‏ مبتدأ وجلمة ‏{‏تَمْنَعُهُمْ‏}‏ صفته و‏{‏مّن دُونِنَا‏}‏ قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وعليه يكون ‏{‏مّن دُونِنَا‏}‏ صفة أيضاً، وقال الحوفي‏:‏ أنه متعلق بتمنعهم أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا، والاستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك، وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم الخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلاً عن رتبة المنع ما لا يخفى‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن الإضراب الذي تضمنته ‏{‏أَمْ‏}‏ عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لكنه أبلغ منه من حيث أن سؤال الغافل عن الشيء بعيد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد، وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكماً‏.‏

وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له، والأظهر عندي جعله عائداً على الوصف بالإعراض كما سمعت أولاً‏.‏ وفي «الكشف» ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كالىء يمنعه عن بأسنا معرضاً فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم، فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم نصر من جهتنا، والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك، و‏{‏مِنَّا‏}‏ على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏ الخ إضراب على ما في «الكشف» عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم‏.‏ وفي غير كتاب أنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم‏.‏

ويحتمل أن يكون إضراباً عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا منعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ أي ألا ينظرون فلا يرون ‏{‏أَنَّا نَأْتِى الارض‏}‏ أي أرض الكفرة أو أرضهم ‏{‏نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في «النظم الجليل» لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيماً لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين‏.‏

والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال‏:‏ إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال‏:‏ إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة، وقيل ننقصها بموت العلمخاء وهذا إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظراً إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَهُمُ الغالبون‏}‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم‏}‏ بعد ما بين من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعى عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم‏:‏ إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة ‏{‏بالوحى‏}‏ الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإن الإيمان برهاني لا عياني‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء‏}‏ إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم توبيخاً وتقريعاً وتسجيلاً عليهم بكمال الجهل والعناد، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 42‏]‏ كأنه قيل قل لهم ذلك وهم بمعزل عن السماع، واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء الكفرة انتظاماً أولياً وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم، وتقييد نفي السماع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏ مع أن الصم لا يسمعون مطلقاً لبيان كمال شدة الصمم كا أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك، فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع بمثلها، وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى‏}‏ وفيه دغدغة لا تخفى‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وابن جبير عن أبي عمرو‏.‏ وابن الصلت عن حفص ‏{‏تُسْمِعُ‏}‏ بالتاء عن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من الاسماع ‏{‏الصم الدعاء‏}‏ بنصبهما على المفعولية، وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى‏.‏ وقرىء ‏{‏يَسْمَعُ‏}‏ بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ‏{‏الصم الدعاء‏}‏ بنصبهما على ما مر‏.‏ وذكر ابن خالويه أنه قرىء ‏{‏يَسْمَعُ‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏الصم‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل ‏{‏الدعاء‏}‏ بالنصب على المفعولية‏.‏ وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو ‏{‏يَسْمَعُ‏}‏ بضم ياء الغيبة وكسر الميم ‏{‏الصم‏}‏ بالنصب على المفعولية ‏{‏الدعاء‏}‏ بالرفع على الفاعلية بيسمع، وإسناد الإسماع إليه من باب الاتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئاً

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ‏}‏ بيان لسرعة تأثرهم من مجىء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجىء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَقُولُنَّ ياويلنا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق، وفي ‏{‏مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ‏}‏ ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في «الكشف» ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما، وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيراً، وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم، وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير، واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح‏.‏

واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في «الكشف» يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية، ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل؛ ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه، وقيل في الدنيا بناءً على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل بمكة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط‏}‏ بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه‏.‏

وجعل الطيبي الجملة حالاً من الضمير في ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 46‏]‏ بتقدير ونحن نضع، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة، ويجوز أن يقال‏:‏ أقيم العموم في ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل، وتظهر بصور جوهرية مشرفة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان، وقيل لكل مكلف ميزان، وقيل للمؤمن موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته، والأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كإطباق السموات والأرض لصحة الإخبار بذلك، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبّ ارجعون لَّعَلّى أَعْلَمُ صالحا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ وقوله‏:‏ فارحموني يا إله محمد *** وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظراً إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في «نوادر الأصول»، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غداً‏؟‏‏.‏

قال اللقاني‏:‏ لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اه، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال‏:‏ يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر‏.‏

وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا‏:‏ يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف، ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال، وروي هذا عن الضحاك‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر، وإفراد القسط مع كونه صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولاً لأجله نحو قوله‏:‏ لا أقعد الجبن عن الهيجاء *** وحينئذٍ يستغني عن توجيه إفراده، وقرىء ‏{‏القصط‏}‏ بالصاد، واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏القسط لِيَوْمِ القيامة‏}‏ بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي‏:‏ أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم *** كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها؛ وقال غير واحد‏:‏ هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في‏.‏

‏{‏فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ‏}‏ من النفوس ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود‏.‏ فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏شَيْئاً‏}‏ مفعولاً به على الحذف والإيصال والظلم بحاله أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثواباً أو تزاد عذاباً، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوز في ‏{‏شَيْئاً‏}‏ المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئاً من النقص أو شيئاً من الثواب، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم‏.‏ والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين‏.‏

وربما يفهم من ذلك أن كل أحد توزن أعماله، وقال القرطبي‏:‏ الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال‏:‏ «يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن» الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين‏.‏

وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صباً، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العزوم، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الأنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن ‏{‏وَإِن كَانَ‏}‏ أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين، وقيل الضمير راجع لشيئاً بناءً على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال ‏{‏مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ ونافع ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ بالرفع على أن كان تامة ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏ أي جئنا بها وبه قرأ أبي، والمراد أحضرناها، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأنث لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ والعلاء بن سيابة‏.‏ وجعفر بن محمد‏.‏ وابن شريح الأصبهاني ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً، والمراد جازينا أيضاً مجازاً ولذا عدى بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدى بنفسه كما قال ابن جني وغيره‏.‏ وقرأ حميد ‏{‏أثبنا‏}‏ من الثواب ‏{‏بِهَا وكفى بِنَا حاسبين‏}‏ قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مراداً به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة‏.‏ وذكر اللقاني أن الحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثنى منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيراً كانت أو شراً تفصيلاً لا بالوزن، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الإسرار قبل الوزن، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في «البحر»‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ الخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكير في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏ إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 11‏]‏ فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 18‏]‏ إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19‏]‏ قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏ إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئاً بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوف حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه «الجواهر واليواقيت»

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ قد تقدم ما فيه من الإشارة ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ قال الجنيد قدس سره‏:‏ من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيراً ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ ‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 41‏]‏ قال بعض الصوفية‏:‏ الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفساً منها السموات والأرض‏.‏

وذكروا أن في الدنيا موازين أيضاً وأعظم موازينها الشريعة وكفتاه الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال أنه عز وجل المتفضل بأنواع الإفضال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 9‏]‏ وإشارة إلى كيفية انجائهم وإهلاك أعدائهم، وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه، والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر، والعطف كما في قوله‏:‏ إن الملك القرم وابن الهمام *** وليس الكتيبة في المزدحم

ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على ‏{‏ضِيَاء‏}‏ وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 49‏]‏ وقال سيبويه‏:‏ إذا قلت مررت بزيد وصاحبك جاز وإذا قلت ومررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز كما جاز بالواو لأن الفاء تقتضي التعقيب وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو، وأما قول القائل‏:‏ يا لهف زيابة للحارث الصا *** بح فالغانم فالآيب

فإنما ذكر بالفاء وجاء لأنه ليس بصفة على ذلك الحد لأن أل بمعنى الذي أي فالذي صبح فالذي غنم فالذي آب‏.‏

وأبو الحسن يجيز المسألة بالفاء كما يجيزها بالواو انتهى، والمعنى وبالله لقد آتيناهما كتاباً جامعاً بين كونه فارقاً بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس ويتذكرون، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به أو ذكر ما يحتاجون به من الشرائع والأحكام أو شرف لهم‏.‏

وقيل‏:‏ الفرقان النصر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وأطلق عليه لفرقه بين الولي والعدو وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس، والضياء حينئذ إما التوراة أو الشريعة أو اليد البيضاء، والذكر بأحد المعاني المذكورة‏.‏

وعن الضحاك أن الفرقان فلق البحر والفلق إخوان، وإلى الأول ذهب مجاهد‏.‏ وقتادة وهو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ والضحاك ‏{‏ضِيَاء‏}‏ بغير واو على أنه حال من ‏{‏الفرقان‏}‏ وهذه القراءة تؤيد أيضاً التفسير الأول

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم‏}‏ مجرور المحل على أنه صفة مادحة للمتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح، والمراد على كل تقدير يخشون عذاب ربهم‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من المفعول أي يخشون ذلك وهو غائب عنهم غير مرئي لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عن أعين الناس ورجحه ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ يخشونه بقلوبهم ‏{‏وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ‏}‏ أي خائفون بطريق الاعتناء، والجملة تحتمل العطف على الصلة وتحتمل الاستئناف، وتقديم الجار لرعاية الفواصل، وتخصيص إشفاقهم من الساعة بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونه معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الاشفاق الدائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره، وقيل‏:‏ لقرب مزمانه ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ أي كثير الخبر غزير النفع؛ ولقد عاد علينا ولله تعالى الحمد من بركته ما عاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا، وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه ‏{‏أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلاً من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلاً وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 52‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ‏}‏ أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية؛ وقيل الصحف، وقيل‏:‏ الحكمة، وقيل‏:‏ التوفيق للخير صغيراً، واختار بعضهم التعميم‏.‏

وقرأ عيسى الثقفي ‏{‏رُشْدَهُ‏}‏ بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والأول مروي عن ابن عباس‏.‏ وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في «الكشف»‏:‏ وهو الوجه الأوفق لفظاً ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اه ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عالمين‏}‏ أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس‏:‏ أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل‏.‏

وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك‏:‏ علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر ‏{‏إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ‏}‏ ظرف لـ ‏{‏آتينا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوز أن يكون ظرفاً لرشد أو لعالمين، وأن يكون بدلاً من موضع ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ وأن ينتصب بإضمار أعني أو اذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام في النصيحة والانقاذ من الضلال‏.‏

والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين‏:‏ ‏{‏مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏ أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا إنه عبر عنها بالتماثيل تحقيراً لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به القريب إشارة إلى التحقير أيضاً، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع، واللام في ‏{‏لَهَا‏}‏ للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف‏.‏

واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة ‏{‏عاكفون‏}‏ محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 7‏]‏ وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية‏.‏

وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً و‏{‏عاكفون‏}‏ خبر بعد خبر، وأنت تعلم أن نفي بعده مكابرة‏.‏ ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الشعب عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال‏:‏ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفى خير له من أن يمسها، وفيه نظر لا يخفى، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بالطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجؤا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين‏}‏ وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ‏}‏ الذين وجدتموهم كذلك ‏{‏فِى ضلال‏}‏ عجيب لا يقادر قدره ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالاً لاستنادكم وأياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، و‏{‏أَنتُمْ‏}‏ تأكيد للضمير المتصل في ‏{‏كُنتُمْ‏}‏ ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم، وفي اختيار ‏{‏فِى ضلال‏}‏ على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقاً بكثرة المتمسكين به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ما هم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام أياهم على أتم وجه ‏{‏أَجِئْتَنَا بالحق‏}‏ أي بالجد ‏{‏أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين‏}‏ أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب، وقولهم‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنتَ‏}‏ الخ عديله كلام منصف مومىء فيه بالطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة، وأشار في «الكشاف» كما في «الكشف» إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه‏.‏

وقال «صاحب المفتاح»‏:‏ أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطى الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهراً وبيان المراد بالمجيء، وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة‏.‏ واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال‏:‏ إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب إنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاؤا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غريق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوي اللعب واللهو على سبيل الكناية الإيمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان، وهذه الكناية توقفك على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعاً وكذا بل فيما بعد انتهى؛ والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه، وأما وجوبه ففيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والارض *الذى فطَرَهُنَّ‏}‏ أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جعلتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة، وضمير ‏{‏فطَرَهُنَّ‏}‏ أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان، ووصفه تعالى بإيجادهن إثر وفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقاً للحق للحق وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة، وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين‏}‏ تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل، والإشارة إلى المذكور، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلك من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده وإن كان في صلة أل لا تساعهم في المظروف أقوال مشهورة، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّبُّكُمْ‏}‏ الخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أرباباً لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم الخ؛ وقال القاضي‏:‏ هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعباً بإقامة البرهان على ما أدعاه، وجعله الطيبي إضراباً عن ذلك أيضاً قال‏:‏ وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّبُّكُمْ‏}‏ الآية لينبه به على أن إطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين‏}‏ تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم ‏{‏أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 55‏]‏ من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال‏:‏ لست من اللاعبين في الدعاوي بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوي اه، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الإضراب أولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهر خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليختاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزماً على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روى عن قتادة أنه قال‏:‏ نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل‏:‏ قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين‏:‏ وقيل إثنين وسبعين‏.‏

وقرأ معاذ بن جبل‏.‏ وأحمد بن حنبل ‏{‏بالله‏}‏ بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث أن الواو تفيد معنى قريباً من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة‏.‏

وتعقبه في «البحر» بأنه لا يقوم على ذلك دليل، وقد رده السهيلي، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلاً لآخر، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة‏.‏ ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم، وفرق آخرون بينهما استعمالاً بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافاً إلى اللكعبة على قلة ‏{‏بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ‏}‏ من عبادتها إلى عيدكم‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 90‏]‏ والفاء في

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ‏}‏ فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ أي قطعاً فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر‏:‏ بنو المهلب جذ الله دابرهم *** أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف

فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر، وقرأ الكسائي‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وابن مقسم‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وحميد والأعمش في رواية ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ بكسر الجيم، وابن عباس‏.‏ وابن نهيك‏.‏ وأبو السمال ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ بالفتح، والضم قراءة الجمهور، وهي كما روى ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع، وقال اليزيدي‏:‏ جذاذاً بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقيل‏:‏ بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام، وقيل‏:‏ هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود‏.‏

وقرأ يحيى بن وثابت ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ بضمتين جمع جذيذ كسرير وسرر، وقرىء ‏{‏جذذاً‏}‏ بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين‏.‏ روى أن آزر خرج به في عيد لهم فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال ‏{‏إني سقيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏ فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في بده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه، وقيل‏:‏ في يده وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة، والكبر إما في لمنزلة على زعمهم أيضاً أو في الجثة، وقال أبو حيان‏:‏ يحتمل أن يكون الضمير للعبدة، قيل‏:‏ ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏}‏ استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير، وضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ ليس أجنبياً في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده‏.‏

وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس في عنقك أو في يدك‏؟‏ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها‏.‏

ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الاستهزاء والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادراً لكن جمهور المفسرين على الأول، والجار والمجرور متعلق بيرجعون، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ماقيل، وقيل‏:‏ هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل‏.‏

وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلاً من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا ‏{‏مَن فَعَلَ هذا‏}‏ الأمر العظيم ‏{‏بِئَالِهَتِنَا‏}‏ قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع، والتعبير عنها بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏ استئناف مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة أما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم، والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي بعض منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه السلام ‏{‏وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ عند بعض ‏{‏سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ‏}‏ يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم، وسمع كما قال بعض الأجلة حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيراً وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء، وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش‏.‏ والفارسي في الإيضاح‏.‏ وابن مالك‏.‏ وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدي إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت‏.‏

واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيداً يقول كذا دون قائلاً كذا لأنه دال على ذات لا تسمع، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 72‏]‏ فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم، وقيل‏:‏ ما أضيف إليه الظرف مغن عنه، وفيه نظر، وقال بعضهم‏:‏ إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات، والجملة أن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولاً ثانياً لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها‏.‏

وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في «التسهيل وشروحه» فجوز هنا كون ‏{‏فَتًى‏}‏ مفعولاً أولاً وجملة ‏{‏يَذْكُرُهُمْ‏}‏ مفعولاً ثانياً، وكونه مفعولاً والجملة صفة له لأنه نكرة، وقيل إنها بدل منه، ورجحه بعضهم باستغنائه عن التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز‏.‏ وفي «الهمع» أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال، وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل، وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة‏.‏

ووجه بعضهم الأبلغية بغير ماذكر مما بحث فيه، ولعله الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تفوت المبالغة عليه، وقد يقال‏:‏ إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه مما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقاً لما أن ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏ لما تعلق بفتى أفاد إجمالاً أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعاً ثم إذا ذكر ‏{‏يَذْكُرُهُمْ‏}‏ علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا رجح أسلوب الآية على غيره فتدبر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏ صفة لفتى، وجوز أن يكون استئنافاً بيانياً والأول أظهر، ورفع ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ على أن نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري‏.‏

وابن عطية، والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ، وقد اختلف في جواز كون مفعول القول مفرداً لا يؤدي معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدراً لقول أو صفته كقلت قولاً أو حقاً فذهب الزجاج‏.‏ والزمخشري‏.‏ وابن خروف‏.‏ وابن مالك إلى الجمواز إذ أريد بالمفرد لفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه، وآخرون إلى المنع قال أبو حيان‏:‏ وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلان زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معنتاها، وجعل المانعون ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله‏:‏ إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة *** وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله؛ وأن يكون منادي حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعي يا إبراهيم، وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري‏.‏ وابن عطية ويكفي الظهور مرجحاً في أمثال هذه المطالب، وذهب الأعلم إلى أن ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذ القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملاً والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملاً لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أولئك القائلون ‏{‏مَن فَعَلَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 59‏]‏ الخ إذا كان الأمر كذا ‏{‏فَأْتُواْ بِهِ‏}‏ أي أحضروه ‏{‏على أَعْيُنِ الناس‏}‏ مشاهداً معايناً لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لتمكن الرؤية ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏ أي يحضرون عقوبتنا له، وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس‏.‏ والضحاك، والثاني عن الحسن‏.‏ وقتادة، والترجي أوفق به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أولاً‏؟‏ فقيل قالوا‏:‏

‏{‏ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا قَالُواْ ءأَنْتَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ اقتصاراً على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم‏:‏ ‏{‏فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا‏}‏ وأيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل‏.‏ واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام‏.‏ وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد حلف بقوله ‏{‏تالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ الخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا ‏{‏مَن فَعَلَ هذا‏}‏ الخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام‏.‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إن الحلف كما قاله كثير كان سراً أو سمعه رجل واحد، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 60‏]‏ الخ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 59‏]‏ الخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون ‏{‏أانت فَعَلْتَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 62‏]‏ كلام ذلك البعض‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر فاأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل‏.‏ وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكاً تعريضياً يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولاً في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلاً بجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسناداً مجازياً عقلياً باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا، وإنما لم يكسره وإن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة، وتسمية ذلك كذباً كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقيل في توجيه ذلك أيضاً‏:‏ إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة‏.‏

ويحكى أنه عليه السلام قال‏:‏ فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها، قيل‏:‏ فيكون حينئذٍ تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمناً فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط‏:‏ أأنت كتبت هذا‏؟‏ فقلت له‏:‏ بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك‏.‏

وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائراً بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثاً‏.‏

ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في ‏{‏أأنت فَعَلْتَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 62‏]‏ تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا، وقيل إن ‏{‏فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ‏}‏ جواب قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ معنى وقوله‏:‏ ‏{‏فاسألوا‏}‏ جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله‏:‏ فاعلم فعلم المرء ينفعه *** فيكون كون الكبير فاعلاً مشروطاً بكونهم ناطقين ومعلقاً به وهو محال فالمعلق به كذلك، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ إن الكلام تم عند قوله‏:‏ ‏{‏فَعَلَهُ‏}‏ والضمير المستتر فيه يعود على ‏{‏فَتًى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 60‏]‏ أو إلى إبراهيم، ولا يخفى أن كلاً من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذٍ والمناسب في الجواب نعم، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزى إلى الكسائي أنه جعل الوقف على ‏{‏فَعَلَهُ‏}‏ أيضاً إلا أنه قال‏:‏ الفاعل محذوف أي فعله من فعله‏.‏

وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه‏.‏

وقيل يجوز أن يقال‏:‏ أنه أراد بالحذف الإضمار، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء، وقيل الوقف على ‏{‏كَبِيرُهُمْ‏}‏ وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها، ويعزى للفراء أن الفاء في ‏{‏فَعَلَهُ‏}‏ عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف‏.‏

واستدل عليه بقراءة ابن السميقع ‏{‏فَعَلَهُ‏}‏ مشدد اللام، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا التخريج، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلاً وأن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإنما قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل، وقد حصل ذلك حسبما نطق به

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏