فصل: تفسير الآية رقم (64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا‏.‏

‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم ‏{‏إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏ أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدو لكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمناً التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل‏.‏ وابن إسحاق، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُواْ على‏}‏ أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح‏.‏

وذكر الزمخشري على ما في «الكشف» في المراد به هنا ثلاثة أوجه، الأول‏:‏ أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلاً أن تكون في معرض الإلهية فمعنى ‏{‏رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ‏}‏ لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي، والثاني‏:‏ أنه الرجوع عن الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم‏:‏ ‏{‏مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 59‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أأنت فَعَلْتَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 62‏]‏ إلى الجدال عنه بالحق في قولهم ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ لأنه نفى للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكساً وإن كان حقاً لأنه ما أفادهم عقداً فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا‏.‏ وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذاً لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 64‏]‏ إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ والثالث‏:‏ أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤوسهم خجلاً وقولهم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ الخ رمى عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة، قال في «الكشف»‏.‏ وهذا وجه حسن وكذلك الأول، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏نُكِسُواْ على رُءوسِهِمْ‏}‏ ردت السفلة على الرؤساء فالمراد بالرؤوس الرؤساء، والأظهر عندي الوجه الثالث، وأياً ما كان فالجار متعلق بنكسوا‏.‏

وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالاً، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين ‏{‏لَقَدِ‏}‏ الخ، والخطاب في ‏{‏عَلِمَتِ‏}‏ لإبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع، وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وابن مقسم‏.‏ وابن الجارود‏.‏ والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف ‏{‏نُكِسُواْ‏}‏، وقرأ رضوان بن عبد المعبود ‏{‏نُكِسُواْ‏}‏ بتخفيف الكاف مبنياً للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل‏:‏ رجعوا على رؤسائهم بناءاً على ما يقتضيه تفسير مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عليه السلام مبكتاً لهم ‏{‏أَفَتَعْبُدُونَ‏}‏ أي أتعلمون ذلك فتعبدون ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أي مجاوزين عبادته تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً‏}‏ من النفع، وقيل‏:‏ بشيء ‏{‏وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة، واللام لبيان المتأفف له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ألا تتفكروا فلا تعقلون قبح صنيعكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة ‏{‏حَرّقُوهُ‏}‏ فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها ‏{‏وانصروا ءالِهَتَكُمْ‏}‏ بالانتقام لها ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئاً ما فيها، ويشعر بذلك العدول عن إن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في «النظم الكريم»، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام‏.‏

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال‏:‏ أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ رجل من أعراب فارس يعني الأكراد ونص على أنه من الأكراد ابن عطية، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، واسمه على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون، وقيل‏:‏ هدير‏.‏ وفي «البحر» أنهم ذكروا له اسماً مختلفاً فيه لا يوقف منه على حقيقة، وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 97‏]‏ فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه، وقيل‏:‏ صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا‏:‏ أن استغاث بأحد منكم فلينصره وأن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن أبي بن كعب قال‏:‏ حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا إبراهيم ألك حاجة‏؟‏ قال‏:‏ أما إليك فلا قال‏:‏ جبريل عليه السلام فاسأل ربك فقال‏:‏ حسبي من سؤال علمه بحالي، ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار، وقد جاء ذلك في رواية البخاري‏.‏

وفي «البحر» ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك، فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة، وذلك

‏[‏بم قوله سبحانه وتعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْنَا ياذا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم‏}‏ أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي برداً غير ضار، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه أحمد وغيره‏:‏ لو لم يقل سبحانه‏:‏ ‏{‏وسلاما‏}‏ لقتله بردها‏.‏

وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل‏:‏ نصب ‏{‏سَلاَماً‏}‏ بفعله أي وسلمنا سلاماً عليه، والجملة عطف على ‏{‏قُلْنَا‏}‏ وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار‏.‏ روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي إبراهيم عليه السلام فاقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال عليه السلام‏:‏ ما كنت أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها، قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليهما السلام يؤنسه، قالوا‏:‏ وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل عليه السلام‏:‏ يا إبراهيم إن ربك يقول‏:‏ أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها‏؟‏ قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ نعم قال‏:‏ هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه، وقال له‏:‏ يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك‏؟‏ قال‏:‏ ذلك ملك الظل أرسله إلى ربي ليؤنسني فيها فقال‏:‏ يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له إبراهيم عليه السلام‏:‏ إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال‏:‏ لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ستة عشرة سنة، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا‏:‏ إنه سحر النار فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالماً لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام‏:‏ إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هارون فأحرقته، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا لوط قال وكان عمه‏:‏ إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقاً من النار فأحرقه، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في «البحر»‏:‏ قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام برداً وسلاماً‏.‏

ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها ‏{‏كُونِى بَرْداً‏}‏ الخ وأن هناك قولاً حقيقة، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه، وقيل قول ذلك مجاز عن جعلها باردة، والظاهر أيضاً أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق، وقيل إنها انقلبت هواءً طيباً وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على إبراهيم‏}‏ وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظراً إلى مفهوم اللقب إذ الأكثرون على عدم اعتباره‏.‏ وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده، وأياً ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفاراً فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفراً وإن كان معها ما لا كفر فيه، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى الله عليه وسلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعاً للسنة وأشدهم تجنباً عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ، قال في «العبر»‏:‏ قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التاتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى‏.‏

والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطاً لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلاً، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر، والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون، وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنوراً كبيراً تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء، وأقرب ما يقال في مثل ذلك‏:‏ إنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال‏:‏ إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلى بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة‏.‏

هذا واستدل بالآية من قال‏:‏ إن الله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلاً بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلاً وفي تلك خاصة الإحراق مثلاً لكن لا تحرق هذه ولا يروى ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال‏.‏ ولا قائل بالفرق فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ مكراً عظيماً في الإضرار به ومغلوبيته ‏{‏فجعلناهم الاخسرين‏}‏ أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفار نور الحق قولاً وفعلاً برهاناً قاطعاً على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجباً لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب، وقيل جعلهم الأخسرين من حيث أنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضاً فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى، والمعول عليه التفسير الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏ونجيناه وَلُوطاً‏}‏ وهو على ما تقدم ابن عمه، وقيل‏:‏ هو ابن أخيه وروي ذلك في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ضمن ‏{‏نجيناه‏}‏ معنى أخرجناه فلذا عدى بإلى في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين‏}‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بمحذوف وقع حالاً أي منتهياً إلى الأرض فلا تضمين، والمراد بهذه الأرض أرض الشام، وقيل‏:‏ أرض مكة، وقيل‏:‏ مصر والصحيح الأول، ووصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادىء الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها محيطة بالبركة، وقيل‏:‏ المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره، والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام، روي أنه عليه السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى‏.‏ وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب، وفي الآية من مدح الشام ما فيها، وفي الحديث ‏"‏ ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏

وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ طوبى لأهل الشام فقلت‏:‏ وما ذاك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليها ‏"‏ أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده‏.‏ وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الاحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمة وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ أي عطية كما روي عن مجاهد‏.‏ وعطاء من نقله بمعنى أعطاه، وهو على ما اختاره أبو حيان مصدر كالعاقبة والعافية منصوب بوهبنا على حد قعدت جلوساً، واختار جمع كونه حالاً من إسحاق ويعقوب أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل عليه السلام وهو إسحاق فيكون حالاً من يعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ من المذكورين وهم إبراهيم‏.‏ ولوط‏.‏ وإسحاق‏.‏ ويعقوب عليهم السلام لا بعضهم دون بعض ‏{‏جَعَلْنَا صالحين‏}‏ بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً‏}‏ يقتدى بهم في أمور الدين ‏{‏يَهْدُونَ‏}‏ أي الأمة إلى الحق ‏{‏بِأَمْرِنَا‏}‏ لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات‏}‏ ليتم الكمال بانضمام العمل إلى العلم، وأصله على ما ذهب إليه الزمخشري ومن تابعه أن يفعل الخيرات ببناء الفعل لما لم يسم فاعله، ورفع الخيرات على النيابة عن الفاعل ثم فعلا الخيرات بتنوين المصدر ورفع الخيرات أيضاً على أنه نائب الفاعل لمصدر المجهول ثم فعل الخيرات بحذف التنوين وإضافة المصدر لمعموله القائم مقام فاعله، والداعي لذلك كما قيل أن ‏{‏فِعْلَ الخيرات‏}‏ بالمعنى المصدري ليس موحى إنما الموحى أن يفعل، ومصدر المبني للمفعول والحاصل بالمصدر كالمترادفين، وأيضاً الوحي عام للأنبياء المذكورين عليهم السلام وأممهم فلذا بني للمجهول‏.‏

وتعقب ذلك أبو حيان بأن بناء المصدر لما لم يسم فاعله مختلف فيه فأجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، وما ذكر من عموم الوحي لا يوجب ذلك هنا إذ يجوز أن يكون المصدر مبنياً للفاعل ومضافاً من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات وإذا كانوا قد أوحى إليهم ذلك فاتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به انتهى‏.‏ وانتصر للزمخشري بأن ما ذكره بيان لأمر مقرر في النحو والداعي إليه أمران ثانيهما ما ذكر من عموم الموحى الذي اعترض عليه والأول سالم عن الاعتراض ذكر أكثر ذلك الخفاجي ثم قال‏:‏ الظاهر أن المصدر هنا للأمر كضرب الرقاب، وحينئذٍ فالظاهر أن الخطاب للأنبياء عليهم السلام فيكون الموحى قول الله تعالى افعلوا الخيرات، وكان ذلك لأن الوحي مما فيه معنى القول كما قالوا فيتعلق به لا بالفعل إلا أنه قيل يرد عليه ما أشير أولاً إليه من أن ما ذكر ليس من الأحكام المختصة بالأنبياء عليهم السلام ولا يخفى أن الأمر فيه سهل، وجوز أن يكون المراد شرعنا لهم فعل ذلك بالإيحاء إليهم فتأمل، والكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاء الزكواة‏}‏ على هذا الطرز، وهو كما قال غير واحد من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته، وأصل ‏{‏إقام‏}‏ أقوام فقلبت واوه ألفاً بعد نقل حركتها لما قبلها وحذف إحدى الفيه لالتقاء الساكنين، والأكثر تعويض التاء عنها فيقال إقامة وقد تترك التاء إما مطلقاً كما ذهب إليه سيبويه والسماع يشهد له، وإما بشر الإضافة ليكون المضاف ساداً مسدها كما ذهب إليه الفراء وهو كما قال أبو حيان مذهب مرجوح، والذي حسن الحذف هنا المشاكلة، والآية ظاهرة في أنه كان في الأمم السالفة صلاة وزكاة وهو مما تضافرت عليه النصوص إلا أنهما ليسا كالصلاة والزكاة المفروضتين على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية ‏{‏وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا‏}‏ خاصة دون غيرنا ‏{‏عابدين‏}‏ لا يخطر ببالهم غير عبادتنا كأنه تعالى أشار بذلك إلى أنهم وفوا بعهد العبودية بعد أن أشار إلى أنه سبحانه وفى لهم بعهد الربوبية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءاتيناه‏}‏ أي وآتينا لوطاً آتيناه والجملة عطف على ‏{‏وَهَبْنَا لَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏ جمع سبحانه إبراهيم ولوطاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونجيناه وَلُوطاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏ ثم بين ما أنعم به على كل منهما بالخصوص وما وقع في البين بيان على وجه العموم‏.‏ والطبرسي جعل المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏ الخ أي كلاً من إبراهيم وولديه إسحاق‏.‏ ويعقوب جعلنا الخ فلا اندراج للوط عليه السلام هناك وله وجه، وأما كون المراد وكلاً من إسحاق ويعقوب فلا وجه له ويحتاج إلى تكليف توجيه الجمع فيما بعده، وقيل باذكر مقدراً وجملة ‏{‏ءاتيناه‏}‏ مستأنفة ‏{‏حُكْمًا‏}‏ أي حكمة، والمراد بها ما يجب فعله أو نبوة فإن النبي حاكم على أمته أو الفصل بين الخصوم في القضاء، وقيل حفظ صحف إبراهيم عليه السلام وفيه بعد ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام ‏{‏ونجيناه مِنَ القرية التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث‏}‏ قيل أي اللواطة، والجمع باعتبار تعدد المواد، وقيل المراد الأعمال الخبيثة مطلقاً إلا أن أشنعها اللواطة، فقد أخرج إسحاق بن بشر‏.‏ والخطيب‏:‏ وابن عساكر عن الحسن قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا إتيان الرجال بعضهم بعضاف ورميهم بالجلاهق والخذف ولعبهم بالحمام وضرب الدفوف وشرب الخمور وقص اللحية وطول الشارب والصفر والتصفيق ولباس الحرير وتزيدها أمتي بحلة إتيان النساء بعضهن بعضاً ‏"‏‏.‏

وأسند ذلك إلى القرية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالنعت سببي نحو جاءني رجل زنى غلامه، ولو جعل الإسناد مجازياً بدون تقدير أو القرية مجازاً عن أهلها جاز، واسم القرية سدوم، وقيل كانت قراهم سبعاً فعبر عنها ببعضها لأنها أشهرها‏.‏ وفي «البحر» أنه عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ويروى أنها كلها قلبت إلا زغر لأنها كانت محل من آمن بلوط عليه السلام، والمشهور قلب الجميع‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين‏}‏ أي خارجين عن الطاعة غير منقادين للوط عليه السلام، والجملة تعليل لتعمل الخبائث، وقيل‏:‏ لنجيناه وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ أي في أهل رحمتنا أي جعلناه في جملتهم وعدادهم فالظرفية مجازية أو في جنتنا فالظرفية حقيقية والرحمة مجاز كما في حديث الصحيحين‏:‏ «قال الله عز وجل للجنة‏:‏ أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» ويجوز أن تكون الرحمة مجازاً عن النبوة وتكون الظرفية مجازية أيضاً فتأمل ‏{‏إِنَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏ الذين سبقت لهم منا الحسنى، والجملة تعليل لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُوحاً‏}‏ أي واذكر نوحاً أي نبأه عليه السلام، وزعم ابن عطية أن نوحاً عطف على ‏{‏لوطاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 74‏]‏ المفعول لآتينا على معنى وآتينا نوحاً ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء، قيل ولما ذكر سبحانه ‏{‏ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ عليه السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه السلام الأب الأول بناءً على المشهور من أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام وهو ابن لملك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم السلام على ما في التهذيب عمراً، وذكر الحاكم في «المستدرك» أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه، وقال الجواليقي‏:‏ إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ أي دعا الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ وإذ ظرف للمضاف المقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح‏.‏

‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل هؤلاء المذكورين، وذكرنا قبل قولاً آخر ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ دعاءه ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏ وهو الطوفان أو أذية قومه؛ وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب، وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه، وقيل‏:‏ أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على، وقال بعضهم‏:‏ إن النصر يتعدى بعلى ومن، ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه، وفرق بينهما بأن المتعدي بعلى يدل على مجرد الأعانة والمتعدي بمن يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء‏}‏ منهمكين في الشر، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ فإن تكذيب الحق والانهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعاً في الأمم السابقة، ونصب ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى، وقال أبو حيان‏:‏ على أنه تأكيد له وقد كثير التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعكمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعاً لكل انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَاوُودَ وسليمان‏}‏ اما عطف على ‏{‏نُوحاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ معمول لعامله أعني اذكر عليه على ما زعم ابن عطية، وأما مفعول لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف أي نبأ داود وسليمان‏.‏ وداود بن إيشا بن عوبر بن باعر بن سلمون بن يخشون بن عمى بن يارب بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام، كان كما روى عن كعب أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت وجمع له بين النبوة والملك، ونقل النووي عن أهل التاريخ أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وكان له إثنا عشر ابناً وسليمان عليه السلام أحد أبنائه وكان عليه السلام يشاور في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله وعلمه‏.‏

وذكر كعب أنه كان أبيض جسيماً وسيماً وضيئاً خاشعاً متواضعاً، وملك كما قال المؤرخون وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وله ثلاث وخمسون سنة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَحْكُمَانِ‏}‏ ظرف لذلك المقدر، وجوزت البدلية على طرز ما مر، والمراد إذ حكماً ‏{‏فِى الحرث‏}‏ إلا أنه جيء بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها، والمراد بالحرث هنا الزرع‏.‏

وأخرج جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه الكرم، وقيل‏:‏ إنه يقال فيهما إلا أنه في الزرع أكثر، وقال الخفاجي‏:‏ لعله بمعنى الكرم مجاز على التشبيه بالزرع، والمعنى إذ يحكمان في حق الحرث ‏{‏إِذْ نَفَشَتْ‏}‏ ظرف للحكم، والنفش رعي الماشية في الليل بغير راع كما أن الهمل رعيها في النهار كذلك، وكان أصله الانتشار والتفرق أي إذ تفرقت وانتشرت ‏{‏فِيهِ غَنَمُ القوم‏}‏ ليلاً بلا راع فرعته وأفسدته ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏ أي حاضرين علماً، وضمير الجمع قيل‏:‏ لداود وسليمان ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏لحكمهما‏}‏ بضمير التثنية، واستدل بذلك من قال‏:‏ إن أقل الجمع اثنان، وجوز أن يكون الجمع للتعظيم كما في ‏{‏قَالَ رَبّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ هو للحاكمين والمتحاكمين، واعترض بأن إضافة حكم إلى الفاعل على سبيل القيام وإلى المفعول على سبيل الوقوع وهما في المعنى معمولان له فكيف يصح سلكهما في قرن‏.‏ وأجيب بأن الحكم في معنى القضيلا لا نظر ههنا إلى علمه وإنما ينظر إليه إذا كان مصدراً صرفاً، وأهظر منه كما في «الكشف» أن الاختصاص يجمع القيام والوقوع وهو معنى الإضافة ولم يبق النظر إلى العمل بعدها لا لفظاً ولا معنى فالمعنى وكنا للحكم الواقع بينهم شاهدين، والجملة اعتراض مقرر للحكم، وقد يقال‏:‏ إنه مادح له كأنه قيل‏:‏ وكنا مراقبين لحكمهم لا نقرهم على خلل فيه، وهذا على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ في إفادة العناية والحفظ، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ عطف على ‏{‏يَحْكُمَانِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ فإنه في حكم الماضي كما مضى‏.‏

وقرأ عكرمة ‏{‏فافهمناها‏}‏ بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق‏.‏ روى أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت أحدهما للأخرى‏:‏ قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشر ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا انها قد بغت وكان من زنى فيهم حدّه الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان‏:‏ ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتى بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جداً فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما‏:‏ إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال‏:‏ كيف قضى بينكما أبي‏؟‏ فأخبراه فقال‏:‏ غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له‏:‏ بحق النبوة والابوه إلا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال‏:‏ أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال‏:‏ القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق، ثم قوله‏:‏ أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليه السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بداء وحرم عليه كتمه، مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبياً في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضاً كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد، وفي «الكشف» أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما السلام والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعاً حكماً بالوحي، ويكون ما أوحى به لسليمان عليه السلام ناسخاً لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شاهدين ففهمناها‏}‏ لا يدل على أن ذلك اجتهاد‏.‏

وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانياً وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون أوحى إلى داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد، وقيل‏:‏ إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال‏:‏ بل أقول والله تعالى أعلم‏.‏

إن رأي سليمان عليه السلام استحسان كما ينبىء عنه قوله‏:‏ أرفق بالجانبين ورأى داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏

وقد روى أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت، وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق تراداً انتهى‏.‏

وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رجح العجماء جبار ‏"‏ ولا تقييد فيه بليل أو نهار، وعند الشافعي يجب الضمان ليلاً لا نهاراً لما في «السنن» من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل‏.‏

وأجيب بأن في الحديث اضطراباً، وفي رجال سنده كلاماً، مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ من داود وسليمان ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ ه ‏{‏حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ كثيراً ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهداً، وقيل‏:‏ إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري‏.‏

والقاضي، ومن المعتزلة كأبي الهذيل‏.‏ والجبائي وأتباعهم، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض، وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك‏.‏ ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيداً‏.‏ وتعقبه الآمدي بقوله‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إن غاية ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكماً بالنص حكماً واحداً ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه، والذي يدل على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً وأن سلمنا أن حكمهما كان مختلفاً لكن يحتمل أنهما حكماً بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به حقاً متعيناً بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئاً في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى‏.‏

وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال‏}‏ شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام ‏{‏يُسَبّحْنَ‏}‏ يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول‏:‏ سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل‏:‏ يسمعه كل أحد، وقيل‏:‏ بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدا فليس بشيء أصلاً؛ ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل‏:‏ ‏{‏يُسَبّحْنَ‏}‏ بمعنى يسرن من السباحة‏.‏

وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى وأو خبر سير الجبال معه عليه السلام‏.‏

وقيل‏:‏ إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى‏.‏

وتأول الجبائي‏.‏ وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من ‏{‏الجبال‏}‏ أو استئناف مبين لكيفية التسخير و‏{‏مَّعَ‏}‏ متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء‏:‏ بيسبحن وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضْلاً ياجبال أَوّبِى مَعَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدا ‏{‏والطير‏}‏ عطف على ‏{‏الجبال‏}‏ أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال‏.‏ وقرىء ‏{‏والطير‏}‏ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل‏:‏ على العطف على الضمير في ‏{‏يُسَبّحْنَ‏}‏ ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا فاعلين‏}‏ تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعاً عندكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ‏}‏ أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت‏.‏ البس لكل حالة لبوسها *** أما نعيمها وإما بوسها

وقيل‏:‏ هو اسم للسلاح كله درعاً كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحاً‏:‏ ومعي لبوس للبئيس كأنه *** روق بجبهة ذي نعاج محفل

قال قتادة‏:‏ كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر‏:‏ نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع‏.‏ وقرىء ‏{‏لَبُوسٍ‏}‏ بضم اللام ‏{‏لَكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ‏}‏ متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من ‏{‏لَكُمْ‏}‏ بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لام ‏{‏لَكُمْ‏}‏ والضمير المستتر للبوس، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة‏.‏

وقرأ جماعة ‏{‏ليحصنكم‏}‏ بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم ‏{‏لنحصنكم‏}‏ بالنون، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف‏.‏ وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب‏.‏ والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ‏}‏ قيل أي من جرب عدوكم، والمراد مما يقع فيها، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون‏}‏ أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ أي وسخرنا له الريح، وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخري ما سخر له عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فإنه كان بطريق التبعية والاقتداء به عليه السلام في عبادة الله عز وجل ‏{‏عَاصِفَةً‏}‏ حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب، ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصهفا في موضع آخر بأنها رخاء بمعنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة‏.‏

ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه السلام فيه، وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصهفا بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن فهي عاصفة في وقت رخاء في آخر‏.‏ وقرأ ابن هرمز‏.‏ وأبو بكر في رواية ‏{‏الريح‏}‏ بالرفع مع الأفراد‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏الرياح‏}‏ بالنصب والجمع، وأبو حيوة بالرفع والجمع،‏.‏ ووجه النصب ظاهر، وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم و‏{‏عَاصِفَةً‏}‏ حال من ضمير المبتدا في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بمشيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع، ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجرة للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاها، والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى ‏{‏إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ وهي الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي، وكان عليه السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحاً بعدما سارت به منها بكرة، ولشيوع كونه عليه السلام ساكناً في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان، وقيل كان مسكنه اصطخر وكان عليه السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام‏.‏

وقيل‏:‏ يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام، ووصفها بالبركة لأنها عليه السلام إذا حل أرضاً أمر بقتل كفارها وإثبات الايمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك، ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركاً فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركاً فيها من بعد‏.‏ وأبعد جداً منذر بن سعيد بقوله إن الكلام قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى الارض‏}‏ والتي باركنا فيها صفة للريح؛ وفي الآية تقديم وتأخير، والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه، ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة، وقيل‏:‏ المراد بها الصبا‏.‏

وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك، فعن مقاتل أنه قال نسجت لسليمان عليه السلام الشياطين بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ووضعت له منبراً من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح‏.‏

وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال‏:‏ كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود، وقيل في وجه الجمع‏:‏ إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك‏.‏

وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيراً منها من حيث السرعة مع الراحة، ومن العجب أن أهل لندن قد اتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغتراراً بما ظهر منذ سنوات من عمر سفينة تجري الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لها ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤا بل إلى حيث ألقت رحلها ‏{‏وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين‏}‏ فماأعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الشياطين‏}‏ أي وسحرنا له من الشياطين ‏{‏مَن يَغُوصُونَ لَهُ‏}‏ فمن في موضع نصب لسخرنا، وجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء وخبره ما قبله، وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصولة وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة، ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا، وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر، وجيء بضمير الجمع نظراً للمعنى، وحسنه تقدم جمع قبله، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل ‏{‏لَهُ‏}‏ للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام‏.‏ وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه ‏{‏وَيَعْمَلُونَ‏}‏ له ‏{‏عَمَلاً‏}‏ كثيراً ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى ‏{‏يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ الآية، قيل‏:‏ إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم، وذكر ذلك الإمام الرازي في «التفسير»، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافاً‏.‏ ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر‏.‏ وقيل‏:‏ من صناعة بقراط وجالينوس انتهى؛ وقيل هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم، ثم هؤلاء أما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة ‏{‏مِنْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ومن يعملون، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نطير قلع الهواء الأجسام الثقيلة، وقال الجبائي‏:‏ إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفي ردهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي أبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى‏.‏

والظاهر أن المسخرين كانوا كفاراً لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقاً عليهم، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا لَهُمْ حافظين‏}‏ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا، وقال الزجاج‏:‏ كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحداً؛ والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم أنه وكل بهم جمعاً من الملائكة عليهم السلام وجمعاً من مؤمني الجن، هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى‏.‏

قال الإمام‏:‏ وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ ألانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيواناً فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَيُّوبَ‏}‏ الكرم فيه كما مر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَاوُودَ وسليمان‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى‏}‏ أي بأني ‏{‏الإنسان الضر‏}‏ وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلاً إني، ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال، والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلاه، ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعدما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفياً بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألطف وجهه‏.‏

ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال‏:‏ املؤا بيتها خبزاً وسمناً ولحماً، وهو عليه السلام على ما قال ابن جرير‏:‏ ابن اموص بن رزاح بن عيص بن إسحق، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام فعلى هذا كان قبل موسى عليه السلام، وقال ابن جرير‏:‏ كان بعد شعيب عليه السلام، وقال ابن أبي خيثمة، كان بعد سليمان عليه السلام‏.‏

وأخرج ابن سعد عن الكلبي قال‏:‏ أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسمعيل‏.‏ وإسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى‏.‏ وهرون ثم الياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب عليهم السلام، وقال ابن إسحق‏:‏ الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أموص‏.‏

وكان عليه السلام على ما أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب طويلاً جعد الشعر واسع العينين حسن الخلق قصير العنق عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين وكان قد اصطفاه الله تعالى وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده بهدم بيت عليهم وبذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعاً وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات أو ثلاث سنين، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وقيل ثمانون سنة، وقيل أكثر، ومدة عمره على ما روى الطبراني ثلاث وتسعون سنة وقيل أكثر‏.‏ روى أن امرأته وكونها ماضر بنت ميشا بن يوسف عليه السلام أو رحمة بنت افراثيم بن يوسف إنما يتسنى على بعض الروايات السابقة في زمانه عليه السلام قالت له يوماً‏:‏ لو دعوت الله تعالى فقال‏:‏ كم كانت مدة الرخاء فذكرت مدة كثيرة وفي بعض الروايات ثمانين سنة فقال عليه السلام‏:‏ أتسحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي‏.‏

وروى أن إبليس عليه اللعنة أتاها على هيئة عظيمة فقال لها‏:‏ أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما‏.‏

وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرددت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب عليه السلام وكان ملقى في الكناسة ببيت المقدس لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام‏:‏ لعلك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضربنك مائة سوط وحرام على أن أذوق بعد هذا من طعامك وشرابك شيئاً فطردها فبقى طريحاً في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجداً فقال ‏{‏رَبّ إِنّى مَسَّنِىَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏ وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه عليه السلام قال ذلك حين مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ لو كان لله تعالى في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله فسمع عليه السلام فشق عليه فقال ‏{‏رَبّ‏}‏ الخ، وروى أنس مرفوعاً أنه عليه السلام نهض مرة ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ‏}‏ الخ وقيل غير ذلك ولعل هذا الأخير أمثال الأقوال، وكان عليه السلام بلاؤه في بدنه في غاية الشدة، فقد أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال، كان يخرج في بنده مثل ثدي النساء ثم يتفقأ، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال‏:‏ ما كان بقى من أيوب عليه السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه فكانت الدواب تختلف في جسده، وأخرج أبو نعيم‏.‏ وابن عساكر عنه أن الدودة لتقع من جسد أيوب عليه السلام فيعيدها إلى مكانها ويقول‏:‏ كلي من رزق الله تعالى، وما أصاب منه إبليس في مرضه كما أخرج البيهقي في الشعب إلا الأنين، وسبب ابتلائه على ما أخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه استعان به مسكين على درء ظلم عنه فلم يعنه‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني في ذلك أن الشام أجدب فكتب فرعون إليه عليه السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة فأقبل بما عنده فأقطعه أرضاً فاتفق أن دخل شعيب على فرعون وأيوب عليه السلام عنده فقال‏:‏ أما تخاف أن يغضب الله تعالى غضبة فيغضب لغضبه أهل السموات والأرض والجبال والبحار فسكت أيوب فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب أو سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء قال‏:‏ فديني قاله سبحانه‏:‏ أسلمه لك قال‏:‏ لا أبالي، والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، ثم إنه عليه السلام لما سجد فقال ذلك قيل له‏:‏ ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلى برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إليه شبابه وجماله وذلك

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ‏}‏ ثم كسى حلة وجلس على مكان مشرف ولم تعلم امرأته بذلك فأدركتها الرقة عليه فقالت في نفسها‏:‏ هب إنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعن فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال فجعلت تطوف حيث الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله فدعاها أيوب عليه السلام فقال‏:‏ ما تريدين يا أمة الله‏؟‏ فبكت وقالت‏:‏ أريد ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة قال لها‏:‏ ما كان منك‏؟‏ فبكت وقالت‏:‏ بعلي قال‏:‏ أتعرفينه إذا رأيتيه‏؟‏ قالت‏:‏ وهل يخفى علي فتبسم فقال‏:‏ أنا ذرك فعرفته بضحكة فأعتنقته ‏{‏وءاتيناه أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ‏}‏ الظاهر أنه عطف على ‏{‏كَشَفْنَا‏}‏ فيلزم أن يكون داخلاً معه في حيز تفصيل استجابة الدعاء، وفيه خفاء لعدم ظهور كون الاتيان المذكور مدعواً به وإذا عطف على ‏{‏استجبنا‏}‏ لا يلزم ذلك، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية، أخرج ابن مردويه‏.‏ وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب وَءاتَيْنَاهُ‏}‏ الخ قال‏:‏ رد الله تعالى امرأته إليه وزاد في شبابها حتى ولدت له ستاً وعشرين ذكراً» فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عدداً مع زيادة مثل آخر، وقال ابن مسعود‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة في الآية‏:‏ إن الله تعالى أحيى له أولاده الذين هلكوا في بلائه وأوتي مثلهم في الدنيا، والظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضاً، وقيل‏:‏ كانوا نوافل؛ وجاء في خبر أنه عليه السلام كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فأفرغت إحداهما في أندر القمح الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض، وأخرج أحمد، والبخاري‏.‏ وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بينما أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه السلام يحثي في ثوبه فناداه ربه سبحانه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال‏:‏ بلى وعزتك لكن لا غنى بي عن بركتك» وعاش عليه السلام بعد الخلاص من البلاء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعين سنة، ويظهر من هذا مع القول بأن عمره حين أصابه البلاء سبعون أن مدة عمره فوق ثلاثين وتسعين بكثير، ولما مات عليه السلام أوصى إلى ابنه حرمل كما روى عن وهب، والآية ظاهرة في أن الأهل ليس المرأة ‏{‏رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وذكرى للعابدين‏}‏ أي وآتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب عليه السلام وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب، فرحمة نصب على أنه مفعول له و‏{‏للعابدين‏}‏ متعلق بذكري، وجوز أن يكون ‏{‏رَحْمَةً وذكرى‏}‏ تنازعاً فيه على معنى وآتيناه العابدين الذين من جملتهم أيوب عليه السلام وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم‏.‏

وجوز أبو البقاء نصب ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ على المصدر وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل‏}‏ أي واذكرهم؛ وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم وهو الذي ذهب إليه الأكثر، واختلف في اسمه فقيل بشر وو ابن أيوب عليه السلام بعثه الله تعالى نبياً بعد أبيه وسماه ذا الكفل وأمره سبحانه بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيماً بالشام عمره ومات وهو ابن خمس وسبعين سنة وأوصى إلى ابنه عبدان وأخرج ذلك الحاكم عن وهب، وقيل‏:‏ هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم السلام، وصنيع بعضهم يشعر باختياره، وقيل يوشف بن نون، وقيل‏:‏ اسمه ذو الكفل، وقيل هو زكريا حكى كل ذلك الكرماني في العجائب، وقيل هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وزعمت اليهود أنه حزقيال وجاءته النبوة وهو في وسط سبي بختنصر على نهر خوبار‏.‏

وقال أبو موسى الأشعري‏.‏ ومجاهد‏:‏ لم يكن نبياً وكان عبداً صالحاً استخحلفه على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد اليسع عليه السلام بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل ولم يذكر مجاهد ما اسمه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان قاضياً في بني إسرائيل فحضره الموت فقال‏:‏ من قوم مقامي على أن لا يغضب‏؟‏ فقال رجل‏:‏ أنا يسمى ذا الكفل الخبر، وأخرج عن ابن حجيرة الأكبر كان ملك من ملوك بني إسرائيل فحضرته الوفاة فأتاه رؤس بني إسرائيل فقالوا‏:‏ استخلف علينا ملكاً نفزع إليه فقال‏:‏ من تكفل لي بثلاث فأوليه ملكي‏؟‏ فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال‏:‏ أنا فقال‏:‏ اجلس ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا الفتى فقال‏:‏ تكفل لي بثلاث وأليك ملكي تقوم الليل فلا ترقد وتصوم فلا تفطر وتحكم فلا تغضب قال‏:‏ نعم قال‏:‏ قد وليتك ملكي الخبر، وفيه وكذا في الخبر السابق قصة إرادة إبليس عليه اللعنة إغضابه وحفظ الله تعالى إياه منه، والكفل الكفالة والحظ والضعف، وإطلاق ذلك عليه إن لم يكن اسمه إما لأنه تكفل بأمر فوفى به، وإما لأنه كان له ذا حظ من الله تعالى، وقيل لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم‏.‏

ومن قال إنه زكريا عليه السلام قال‏:‏ إن إطلاق ذلك عليه لكفالته مريم وهو داخل في الوجه الأول، وفي «البحر» وقيل‏:‏ في تسميته ذا الكفر أقوال مضطربة لا تصح والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد من هؤلاء ‏{‏مّنَ الصابرين‏}‏ أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب ويعلم هذا من ذكر هؤلاء بعد أيوب عليهم السلام، والجملة استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ الكلام فيه على طرز ما سبق من نظيره آنفاً‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين‏}‏ أي الكاملين في الصلاح لعصمتهم من الذنوب‏.‏ والجملة في موضع التعليل وليس فيه تعليل الشيء بنفسه من غير حاجة إلى جعل من ابتدائية كما يظهر بأدنى نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَا النون‏}‏ أي واذكر صاحب الحوت يونس عليه السلام ابن متى وهو اسم أبيه على ما في «صحيح البخاري» وغيره وصححه ابن حجر قال‏:‏ ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، وقال ابن الأثير كغيره إنه اسم أمه ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما السلام‏.‏

واليهود قالوا بما تقدم إلا أنهم سموه يونه بن إميتاي، وبعضهم يقول يونان بن أماثي، والنون الحوت كما أشرنا إليه ويجمع على نينان كما في «البحر» وأنوان أيضاً كما في «القاموس»‏.‏

‏{‏إِذ ذَّهَبَ مغاضبا‏}‏ أي غضبان على قومه لشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مع طول دعوته إياهم، وكان ذهابه هذا هجرة عنهم لكنه لم يؤمر به‏.‏ وقيل‏:‏ غضبان على الملك حزقيل، فقد روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً فأوحي الله تعالى إلى شعياء النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له يوجه خمسة من الأنبياء لقتال هذا الملك فقال‏:‏ أوجه يونس ابن متى فإنه قومي أمين فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال يونس‏:‏ هل أمرك الله تعالى بإخراجي‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ هل سماني لك، قال‏:‏ لا فقال يونس‏:‏ فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً فأتى بحر الروم فوجد قوماً هيئوا سفينة فركب معهم فلما وصلوا اللجنة تكفأت بهم السفينة وأشرفت على الغرق فقال الملاحون‏:‏ معنا رجل عاص أو عبد آبق ومن رسمنا إذا ابتلينا بذلك أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأن يغرق أحدنا خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام فقال‏:‏ أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاءت فحوت فابتلعته فأوحى الله تعالى إليها أن لا تؤذيه بشعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً ثم نجاه الله تعالى من بطنها ونبذه بالعراء وقد رق جلده فأنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له‏:‏ أتحزن على شجرة ولم تحزنم على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم‏؟‏ فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم وقال لملكهم‏:‏ إن الله تعالى أرسلني إليك فأرسل معي بني إسرائيل قالوا‏:‏ ما نعرف ما تقول ولو علمنا علمنا أنك صادق لفعلنا وقد آتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان الأمر كما تقول لمنعنا الله تعالى عنكم فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم يؤمنوا جاءهم العذاب فأبلغهم فأبو فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس عليه السلام للعلماء الذين عندهم فقالوا‏:‏ انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس كما ذكر من نزول العذاب وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم‏:‏ إنه خرج العشية فلما أيسوا غلقوا باب مدينتهم ولم يدخلوا فيها دوابهم ولا غيرها وعزلوا كل واحدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح نزل العذاب من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاحت الصبيان والدواب فرفع الله تعالى العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس حتى لقوه فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل، وقيل مغاضباً لربه عز وجل، وحكى في هذه المغاضبة كيفيات؛ وتعقب ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن‏.‏

والشعبي‏.‏ وابن جبير‏.‏ وغيرهم من التابعين‏.‏ وابن مسعود من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى وحمية لدينه، فاللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به انتهى‏.‏

وكون المراد مغاضباً لربه عز وجل مقتضى زعم اليهود فإنهم زعموا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى نينوى وينذر أهلها فهرب إلى ترسيس من ذلك وانحدر إلى يافا ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان، ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت‏.‏

ونصب ‏{‏مغاضبا‏}‏ على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكاً نحو عاقبت اللص وسافرت، وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة؛ وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب‏.‏ وقرأ أبو سرف ‏{‏مغاضبا‏}‏ ابم مفعول ‏{‏فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ أي أنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه، ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز‏.‏ والزهري ‏{‏نَّقْدِرَ‏}‏ بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة، وقراءة على كرم الله تعالى وجهه‏.‏ واليماني ‏{‏يُقَدّرُ‏}‏ بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور، ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضاً كما ذكره الراغب، وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلاً عن النبي عليه السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولاً؛ وجوز أن يكون من القدرة وتكون مجازاً عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل‏:‏ يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه عليه السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت، ومنه

‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ والخطاب للمؤمنين‏.‏ وتعقبه «صاحب الفرائد» بأن مثله عن المؤمن نعيد فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم لأنه كفر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تظنون‏}‏ الخ ليس من هذا القبيل على أن شامل للخلص وغيرهم، وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظناً، وبأن الخواطر لا عتب عليها، وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة‏.‏ وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضباً ولا وجه لجعله حاملاً على الخروج؛ ومع هذا هو وجه لا وجاهة له‏.‏ وقرأ ابن أبي ليلى‏.‏ وأبو سرف‏.‏ والكلبي‏.‏ وحميد بن قيس‏.‏ ويعقوب ‏{‏والله يُقَدّرُ‏}‏ بضم الياء وفتح الدال مخففاً، وعيسى‏.‏ والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال‏.‏

‏{‏فنادى‏}‏ الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات، وأنشد السيرافي‏:‏ وليل تقول الناس في ظلماته *** سواء صحيحات العيون وعورها

أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، وقيل‏:‏ ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل ‏{‏أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ‏}‏ أي بأنه لا إله إلا أنت على أن أن مخففة من الثقيلة والجار مقدر وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة ‏{‏سبحانك‏}‏ أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي ‏{‏إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ لأنفسهم بتعريضهم للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة من غير أمر على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام، وهذا اعتراف منه عليه السلام بذنبه وإظهار لتوبته ليفرج عنه كربته‏.‏