فصل: تفسير الآية رقم (27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏السجود وَأَذّن فِى الناس‏}‏ أي ناد فيهم ‏{‏بالحج‏}‏ بدعوة الحج والأمر به، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ «لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال‏:‏ رب قد فرغت فقال‏:‏ أذن في الناس بالحج قال‏:‏ يا رب وما يبلغ صوتي‏؟‏ قال‏:‏ أذن وعلي البلاغ قال‏:‏ رب كيف أقول‏؟‏ قال‏:‏ قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه أهل السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد يلبون» وجاء في رواية أخرى عنه أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أدنيه ثم نادى يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم أفجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من أجاب يومئذ إبراهيم عليه السلام، وفي رواية أنه قام على الحجر فنادى، وعن مجاهد أنه عليه السلام قام على الصفا، وفي رواية أخرى عنه أنه عليه السلام تطاول به المقام حتى كان كأطول جبل في الأرض فاذن بالحج، ويمكن الجمع بتكرر النداء، وأياً ما كان فالخطاب لإبراهيم عليه السلام‏.‏ وزعم بعضهم أنه لنبينا صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع وروي ذلك عن الحسن وهو خلاف الظاهر جداً ولا قرينة عليه، وقيل‏:‏ يأباه كون السورة مكية وقد علمت ما فيه أولها‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن محيصن و‏{‏أَذِنَ‏}‏ بالمد والتخفيف أي أعلم كما قال البعض، وقال آخرون‏:‏ المراد به هنا أوقع الإيذان لأنه على الأول كان ينبغي أن يتعدى بنفسه لا بقي فهو كقوله‏:‏ يجرح في عراقيها نصلى *** وقال ابن عطية‏:‏ قد تصحفت هذه القراءة على ابن جنى فإنه حكى عنهما ‏{‏وَأَذّن‏}‏ فعلا ماضياً وجعله معطوفاً على ‏{‏بَوَّأْنَا‏}‏ وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بتصحيف بل قد حكى ذلك أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه، وقرأ ابن أبي إسحق ‏{‏بالحج‏}‏ بكسر الحاء حيث وقع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ‏}‏ جزم في جواب الأمر وهو دآذن‏}‏ على القراءتين و‏{‏‏}‏ على القراءتين و‏{‏طهر‏}‏ على الثالثثة كما قال صاحب اللوامح‏:‏ وإيقاع الاتيان على ضميره عليه السلام لكون ذلك بندائه، والمراد يأتوا بيتك، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْهُمَا رِجَالاً‏}‏ في موضع الحال أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم‏.‏

وقرأ ابن أبي اسحق ‏{‏رِجَالاً‏}‏ بضم الراء والتخفيف وروي ذلك عن عكرمة‏.‏ والحسن‏.‏ وأبي مجاز، وهو اسم جمع لراجل كطؤار لطائر أو هو جمع نادر، وروي عن هؤلاء‏.‏

وابن عباس‏.‏ ومحمد بن جعفر‏.‏ ومجاهد رضي الله تعالى عنهم ‏{‏رِجَالاً‏}‏ بالضم والتشديد على أنه جمع راجل كتاجر وتجار، وعن عكرمة أنه قرأ ‏{‏رجالى‏}‏ كسكارى وهو جمع رجلان أو راجل، وعن ابن عباس‏.‏ وعطاء‏.‏ وابن حدير مثل ذلك إلا أنه شددوا الجيم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رِجَالاً وعلى كُلّ ضَامِرٍ‏}‏ عطم على ‏{‏رِجَالاً‏}‏ أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد الشقة فهزله أو زاد هزاله، والضامر يطلق على المذكر المؤنث، وعدل عن ركباناً الأخصر للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة‏.‏

وفي الآية دليل على جواز المشي والركوب في الحج، قال ابن العربي‏:‏ واستدل علماؤنا بتقديم ‏{‏رِجَالاً‏}‏ على أن المشي أفضل، وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن سعد‏.‏ وابن أبي سيبة‏.‏ والبيهقي‏.‏ وجماعة أنه قال‏:‏ ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشياً حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلّ ضَامِرٍ‏}‏ فبدأ بالرجال قبل الركبان، وفي ذلك حديث مرفوع فقد أخرج ابن سعد‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وغيرهما عنه أنه قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل‏:‏ يا رسول الله وما حسنات الحرم‏؟‏ قال‏:‏ الحسنة مائة ألف حسنة» وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أن إبراهيم‏.‏ واسمعيل عليهما السلام حجا وهما ماشيان‏.‏

وقال ابن الفرس‏:‏ واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجب الحج على من في طريقه بحر ولا طريق له سواه لكونه لم يذكر في الآية‏.‏ وتعق بأنه استدلال ضعيف لأن مكة ليست على بحر وإنما يتوصل إليها على إحدى الحالين مشي أو ركوب، وأيضا في دلالة عدم الذكر على عدم الوجوب نظر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِينَ‏}‏ صفة لضامر أو لكل، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وركباناً على ضوامر يأتين، و‏{‏كُلٌّ‏}‏ هنا للتكثير لا للإحاطة وما قيل من أنها إذا أضيفت لنكرة لم يراع معناها إلا قليلاً ردوه بهذه الآية ونظائرها، وكذا ما قيل إنه يجوز إذا كانا في جملتين لأن هذه جملة واحدة‏.‏

وجوز أبو حيان أن يكون الضمير شاملاً لرجال و‏{‏كُلّ ضَامِرٍ‏}‏ والجملة صفة لذلك على معنى الجماعات والرفاق‏.‏ وتعقب بأنه يلزمه تغليب غير العقلاء عليهم وقد صرحوا بمنعه‏.‏ نعم قرأ عبد الله‏.‏ وأصحابه‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏يَأْتُونَ‏}‏ واعتبار التغليب فيه على بابه، والمشهور جعل الضمير لرجالا وركباناً فلا تغليب، وجوز جعل الضمير للناس والجملة استئنافية ‏{‏مِن كُلّ فَجّ‏}‏ أي طريق كما روي عن ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك‏:‏ وأبي العالية، وهو في الأصل شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وكأنهم جردوه عن معنى السعة لأنه لا يناسب هنا بل لا يخلو من خلل ‏{‏عَميِقٍ‏}‏ أي بعيد وبه فسره الجماعة أيضاً، وأصله البعيد سفلا وهو غير مناسب هنا‏.‏

وقرأ ابن مسعود دمعيق‏}‏ قال الليث‏:‏ يقال عميق ومعيق لتميم وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَشْهَدُواْ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏يأتوك‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏، وجوز أبو البقاء تعلقه بـ ‏{‏أذن‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ أي ليحضروا ‏{‏منافع‏}‏ عظيمة الخطر كثيرة العدد فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير‏.‏ ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعاً من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين مما ذهب إليه جمع وروى ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية‏:‏ منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات، وخص مجاهد منافع الدنيا بالتجارة فهي جائزة للحاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر‏.‏ واعترض بأن نداءهم ودعوتهم لذلك مستبعد، وفيه نظر، على أنه إنما يتأتى على ما جوزه أبو البقاء، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه تخصيص المنافع بالأخروية، وفي رواية عن ابن عباس تخصيصها بالدنيوية والتعميم أولى‏.‏

‏{‏لَهُمْ‏}‏ في موضع الصفة لمنافع أي منافع كائنة لهم ‏{‏وَيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ عند النحر ‏{‏فِى أَيَّامٍ معلومات‏}‏ أي مخصوصات وهي أيام النحر كما ذهب إليه جماعة منهم أبو يوسف‏.‏ ومحمد عليهما الرحمة‏.‏ وعدتها ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده عندنا، وعند الثوري‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ وسعيد بن المسيب لما روى عن عمر‏.‏ وعلي‏.‏ وابن عمر وابن عباس‏.‏ وأنس‏.‏ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم قالوا‏:‏ أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها، وقد قالوه سماعاً لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار التي يعول عليها تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وقال الشافعي‏.‏ والحسن‏.‏ وعطاء‏:‏ أربعة أيام يوم العيد وثلاثة بعده لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيام التشريق كلها أيام ذبح» وعند النخعي وقت النحر يومان، وعند ابن سيرين يوم واحد، وعند أبي سلمة‏.‏ وسلميان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم ولم نجد في ذلك مستنداً يعول عليه‏.‏ واستدل بذكر الأيام على أن الذبح لا يجوز ليلاً، قال أبو حيان‏:‏ وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي انتهى‏.‏ والمذكور في كتب الأصحاب أنه يجوز الذبح ليلاً إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل‏.‏

وأما الاستدلال على عدم الجواز بذكر الأيام فكما ترى، وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وإليه ذهب أبو حنيفة عليه الرحمة وروى عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وإبراهيم‏.‏ وقتادة؛ ولعل المراد بذكر اسمه تعالى على هذا ما قيل حمده وشكره عز وجل؛ وعلى الأول قول الذابح‏:‏ بسم الله والله أكبر على ما روى عن قتادة، وذكر أنه يقال مع ذلك‏:‏ اللهم منك ولك عن فلان، وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر‏.‏

ورجح كونه بمعنى الشكر بأنه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام‏}‏‏.‏

واختار الزمخشري أن الذكر على بهيمة الأنعام أو مطلقاً على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر، وذكر أنه دل بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات‏.‏ وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر‏.‏ وأنه قيل‏:‏ ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ‏}‏ إلى آخره تشويقاً في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهويناً عليهم في الانفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير، وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها عشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها، وقد يقال مثل ذلك على تقدير إبقاء الذكر على ما يتبادر منه ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا‏}‏ التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها، والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهياً عنه شرعاً‏.‏ وقد قالوا‏:‏ إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة، ويدل على سبق النهي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا» وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها، وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه‏.‏

‏{‏وَأَطْعِمُواْ البائس‏}‏ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، وعن مجاهد‏.‏ وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى النار يسأل ‏{‏الفقير‏}‏ أي المحتاج، والأمر للندب عند الإمام على ما ذكره الخفاجي أيضاً، ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابتان بالآية والادخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثاً؛ وقال بعضهم‏:‏ لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية، وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضاً‏.‏ وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني، وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ‏}‏ هو في الأصل الوسخ والقذر، وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره، وقال أبو محمد البصري‏:‏ التفث من التفت وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور، وفسره جمع هنا بالسعور والاظفار الزائدة ونحو ذلك، والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازاً أي ليزيلوا ذلك بتقليم الاظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الإبط وحلق الرأس والعانة، وقيل‏:‏ القضاء مقابل الأداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم، والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال‏:‏ التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، والقضاء على هذا بمعنى الاداء كأنه قيل‏:‏ ثم ليؤدوا نسكهم‏.‏ وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج ما لم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى، وقد يقال‏:‏ إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤَده ما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ قضاء التفث قضاء النسك كله‏.‏

‏{‏وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ‏}‏ ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن‏.‏ وعن عكرمة هي مواجب الحج‏.‏ وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدى وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقاً مجازاً‏.‏ وقرأ شعبة عن عاصم ‏{‏وَلْيُوفُواْ‏}‏ مشدداً ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُواْ‏}‏ طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق، وروى ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك‏.‏ وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له‏:‏ لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر، وقيل‏:‏ طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عدة من المناسك خلاف ‏{‏بالبيت العتيق‏}‏ أخرج البخاري في «تاريخه»‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن جرير‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عن ابن الزبير قال‏:‏ قال ‏"‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمي الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط ‏"‏ وإلى هذا ذهب ابن أبي نجيح‏.‏ وقتادة، وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل‏:‏ له رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه، وأما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولعل ما وقع من القرامطة وإن أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم سنين من هذا القبيل، ويقال فيما يكون آخر الزمان من هدم الحبشة إياه وإلقاء أحجاره في البحر إن صح‏:‏ إن ذلك من أشراط الساعة التي لا ترد نقضاً على الأمور التي قيل باطرادها، وقيل‏:‏ في الجواب غير ذلك‏.‏

وعن مجاهد أنه إنما سمي بذلك لأنه لم يملك موضعه قط، وفي رواية أخرى عنه أن ذلك لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان، وعن ابن جبير أن العتيق بمعنى الجيد من قولهم‏:‏ عتاق الخيل وعتاق الطير، وقيل‏:‏ فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الاعتاق إليه مجاز لأنه تعالى يعتق رقابهم بسبب الطواف به، وقال الحسن‏.‏ وابن زيد‏:‏ العتيق القديم فإنه أول بيت وضع للناس وهذا هو المتبادر إلا إنك تعلم أنه إذا صح الحديث لا يعدل عنه، ثم إن حفظه من الجبابرة وبقاءه الدهر الطويل معظماً يؤتي من كل فج عميق بمحض إرادة الله تعالى المبنية على الحكم الباهرة‏.‏

وبعض الملحدين زعموا أنه بنى في شرف زحل والطالع الدلو أحد بيتيه وله مناظرات سعيدة فاقتضى ذلك حفظه من الجبابرة وبقاءه معظماً الدهر الطويل ويسمونه لذلك بيت زحل، وقد ضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ من يقول بتأثير الطالع أتم بيان والله تعالى المستعان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَئَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة‏:‏ هذا وليس كمن يعيا بخطبته *** وسط الندى إذا ما ناطق نطقاً

واختيار ‏{‏ذلك‏}‏ هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل‏:‏ هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله‏}‏ جمع حرمة وهو ما يحترم شرعاً، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع‏:‏ هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام‏.‏ والمسجد الحرام‏.‏ والبيت الحرام‏.‏ والشهر الحرام‏.‏ والمحرم حتى يحل ‏{‏فَهُوَ‏}‏ أي فالتعظيم ‏{‏خَيْرٌ لَّهُ‏}‏ من غيره على أن ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ اسم تفضيل‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيراً له ‏{‏عِندَ رَبّهِ‏}‏ أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير ‏{‏مِنْ‏}‏ لتشريفه والإشعار بعلة الحكم‏.‏

‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام‏}‏ أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن ‏{‏مَا‏}‏ عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى‏.‏ وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً بناء على أن ‏{‏مَا‏}‏ عبارة عما حرم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه الاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضاراً للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل‏:‏ التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد ‏{‏فاجتنبوا الرجس‏}‏ أي القذر ‏{‏مِنَ الاوثان‏}‏ أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية‏.‏

وفي تعريف ‏{‏الرجس‏}‏ بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من البالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل‏:‏ من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاماً ثم عين سبحانه لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي «البحر» يمكن أن تكون للتبعيض بن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روى ذلك عن ابن عباس‏.‏

وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجل وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية‏:‏ إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى‏.‏ ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغنى عنه، وههنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريباً، والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ‏}‏ الخ من وجوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها‏.‏

وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الانعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل‏:‏ ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل‏:‏ الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ الانعام‏}‏ فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر‏.‏ والإشراك به بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى‏}‏ ويؤيده قوله تعالى‏:‏ فيما بعد ‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏ فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكراراً انتهى‏.‏ وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه‏.‏ وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جداً وإنكار ذلك مكابرة فتأمل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتنبوا قَوْلَ الزور‏}‏ تعميم بعد تخيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف قول الزور على الرجل بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل‏:‏ هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد‏.‏

وأبو داود‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائماً قال‏:‏ عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية‏.‏

وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالخصيص‏.‏ ولا يخفى أن التعميم أولى منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام ‏{‏حُنَفَاء للَّهِ‏}‏ مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى ‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ أي شيئاً من الأشياء فيدخلوا في ذلك الأوثان دخولاً أولياء وهما حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا‏.‏ وجوز أن يكون حالاً من واو ‏{‏واجتنبوا‏}‏ وأخر التبري عن التولي ليتصل

‏[‏بم بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 33‏]‏

‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏حنفاء لله‏}‏ مائلين عن كل دين زائع الى الدين الحق مخلصين له تعالى ‏{‏غير مشركين به‏}‏ أي شيئاً من الأشياء فيدخل في ذلك الأوصان دخولاً أولياً هما حالان مؤكدتان من واو ‏{‏فاجتنبوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وجوز أن يكون حالاً من واو ‏{‏واجتنبوا‏}‏ ‏[‏الجح‏:‏ 30‏]‏ وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء‏}‏ وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب من الإشراك، وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك، وقد شبه الايمان بالسماء لعلوه والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الايمان إلى حضيض الكفر وهذا السقوط إن كان في حق المرتد فظاهره وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ‏{‏فَتَخْطَفُهُ الطير‏}‏ فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ وأصل الخطف الاختلاس بسرعة‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏فَتَخْطَفُهُ‏}‏ بفتح الخاء والطاء مشددة‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو بجار‏.‏ والأعمش ‏{‏فَتَخْطَفُهُ‏}‏ بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة‏.‏ وقرأ الأعمش أيضاً ‏{‏تخطفه‏}‏ بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة، والجملة على هذه القراءة في موضع الحال، وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على ‏{‏فَلَمَّا خَرَّ‏}‏ وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهد المخاطب تعجيباً له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدي فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة في مشاهد المخاطب تعجيباً له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعف من عطف الجملة على الجملة ‏{‏أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح‏}‏ أي تسقطه وتقذفه‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏الرياح‏}‏ ‏{‏فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة، وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 83‏]‏ فالتشبيه في الآية مفرق‏.‏ والظاهر أن ‏{‏تَهْوَى‏}‏ عطف على ‏{‏تخطف‏}‏ وأو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوى به الريح في مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلاً، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير‏:‏ إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادى على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على قطعة منه إلا انتبا منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشيز لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الأحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر‏.‏

وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال‏:‏ من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وجعل في «الكشف» أو على هذا للتخيير وليس بمتعين فيما يظهر، وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان‏.‏

وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين، و‏{‏وَمَا تَهْوَى‏}‏ عطف على ‏{‏خَرَّ‏}‏ وعلى التفريق تشبيهاً واحداً و‏{‏تَهْوَى‏}‏ عطف على ‏{‏تخطف‏}‏ وزعم أن في عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم ‏{‏يَفْعَلْ ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله‏}‏ أي البدن الهدايا كما روى عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وجماعة وهي جمع شعيرة أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار، وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته‏.‏

وقال الراغب‏:‏ لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمى بشعيرة أي حديدة يشعر بها، ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى، وتعظيمها أن تختار حساناً سماناً غالية الأثمان، روى أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال‏:‏ بل أهدها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، وقال زيد بن أسلم‏:‏ الشعار ست الصفا‏.‏ والمروة والبدن‏.‏ والجمار والمسجد الحرام‏.‏ وعرفة‏.‏ والركن، وتعظيمها إتمام ما يفعل بها، وقال ابن عمر‏.‏

والحسن‏.‏ ومالك‏.‏ وابن زيد‏:‏ الشعائر مواضع الحجج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد‏.‏

وقيل‏:‏ هي شرائع دينية تعالى وتعظيمها التزامها، والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد، و‏{‏مِنْ‏}‏ إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لا بد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب‏}‏ من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها الخ، والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولا بد له من فاعل وهو ليس إلا ضميراً يعود إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها، و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوى القلوب وأن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشيء من تقوى القلوب، وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث أن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت ‏{‏مِنْ‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ ليرتبط به اه‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قيل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال الخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤا بضمير مجرور‏.‏ عائد إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ في آخر الكلام أو في أثنائه، وبعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لكن التزم جعل اللام في ‏{‏القلوب‏}‏ بدلاً من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقوى قلوبهم‏.‏ والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عارياً عن الراجع إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور‏.‏

وقال «صاحب الكشف»‏:‏ في الانتصار له أيضاً أراد أنه على ماقدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه‏.‏ واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوى بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض وأما إذا جعل للابتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشيء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولاً، ولم يرتض ذلك «صاحب الكشف» قال‏:‏ إن إضمار الأفعال لأن المعنى إن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذي تقوى‏.‏ ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشيء من تقوى القلوب‏.‏ والاعتراض بأن قول الزمخشري‏:‏ إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أن حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع، ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى‏.‏

واعترض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد‏.‏ وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره، وبأن القول بعدم الاحتياج إلى الاضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضاً من التقوى صلح لا يرضى به الخصم‏.‏ وبأنه إذا صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري‏:‏ لا يستقيم الخ‏.‏

وتعقب بأنه غير وارد، أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من أعظمها وكونه ناشئاً منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه، وأما الثاني فلأن الدلالة على الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت‏:‏ هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهعد به الذوق، وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الاحتياج إلى الاضمار على تقدير كون التعظيم بعضاً بل يقول الرابط العموم كما قال أولاً، وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفياً في قوة الخطا إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض، وأقول‏:‏ لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال‏:‏ التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال‏:‏ التقدير فأن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب‏.‏ ومن في ذلك للتبعيض، وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان، تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق‏.‏ وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيراً ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه‏.‏ والتركيب أشبه التراكيب بقولهم‏:‏ العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم‏.‏

ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر‏.‏

ومن الناس من لم يوجب تقدير التعظيم وأرجع ضمير ‏{‏فَإِنَّهَا‏}‏ إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من ‏{‏يُعَظّمْ‏}‏ أي التعظيمة‏.‏

واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه‏.‏

نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم، ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع، على أنه قيل عليه‏:‏ إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى، ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفعهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى‏.‏

وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام ‏{‏القلوب‏}‏ لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلاً‏.‏ وذهب بعض أهل الكمال إلى أن الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقاً لدلالة التعليل القائم مقامه عليه‏.‏ وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الأعلام والأخبار كما عرف في أمثاله، وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل‏.‏ وقرىء ‏{‏القلوب‏}‏ بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو ‏{‏تَقْوَى‏}‏ واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية على مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعلق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الشعائر بالمعنى السابق ‏{‏منافع‏}‏ هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها ‏{‏إلى أَجَعَلَ مُّسَمًّى‏}‏ وهو وقت أن يسميها ويوجبها هدياً وحينتذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة والضحاك، وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدى أصلاً لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقاً، نعم يجوز له الانتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما روى عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اركبها فقال يا رسول الله‏:‏ إنها هدى فقال‏:‏ اركبها ويلك» وقال عطاء‏:‏ منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً أن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي، فعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهراً» واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الانتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدى كذلك لا يملك المهدى بيعه وإجارته ويملك الانتفاع به بغير ذلك، وقيل الأجل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة‏.‏

وروى أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة، وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها، وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه‏.‏

‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا‏}‏ أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدراً ميمياً بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان، وهو على الاحتمالين معطوف على ‏{‏منافع‏}‏ والكلام على تقدير مضاف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى البيت العتيق‏}‏ في موضع الحال أي منتهية إلى البيت، والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه، وقد جعلت مني منحراً ففي الحديث ‏"‏ كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر ‏"‏ وقال القفال‏:‏ هذا في الهدايا التي تبلغ منى وأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه، وقالت الإمامية‏:‏ منحر هدى الحج منى ومنحر هدى العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة، والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل‏.‏

والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة؛ وروي نحو ذلك عن مالك في «الموطأ» أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة الخ، وهكذا يقال على ما روي عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست، وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام، وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال، وقيل كون محلها منتهياً إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك، وقيل‏:‏ غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلاً عن كلام رب العالمين، وأهون ما قيل‏:‏ إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وضمير ‏{‏فِيهَا‏}‏ لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ عطف على قوله سبحانه ‏{‏لَكُمْ فِيهَا منافع‏}‏ أو على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏ الخ وما في البين اعتراض على ما قيل، وكأني بك تختار الأول؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية، والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدراً، وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدراً وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقاً وشاع في أعمال الحج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد، وقال قتادة‏:‏ هو الحج‏.‏ وقال ابن عرفة ‏{‏مَنسَكًا‏}‏ أي مذهباً من طاعته تعالى‏.‏

واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم، فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص‏.‏ وقرأ الأخوان وابن سعدان‏.‏ وأبو حاتم عن أبي عمرو‏.‏ ويونس‏.‏ ومحبوب‏.‏ وعبد الوارث ‏{‏مَنسَكًا‏}‏ بكسر السين، قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب، قال الأزهري‏:‏ الفتح والكسر فيه لغتان مسموعتان ‏{‏لّيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسياق، وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز وجل ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام‏}‏ عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز بالخيل ونحوها‏.‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏ قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر، والفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَسْلِمُواْ‏}‏ لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز وجل، وقيل‏:‏ الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضاً فءن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكاً يدل على وحدانيته جل وعلا، ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء، وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلهاً لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلهاً لهم أن يكون عز وجل واحداً لأنه لا يستحق الألوهية أصلاً من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى، وفي «الكشف» لما كانت العلة لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً‏}‏ ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكراً عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَسْلِمُواْ‏}‏ مسبباً عنه تسبباً حسناً‏.‏

واعترض بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏ لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضاً كون الذكر هو المقصود من شرعية النسك انتهى، وهو يشعر بأن الفاء الأولى للاعتراض والفاء الثانية للترتيب‏.‏ ولعل ما ذكر أولاً أظهر، وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهكم إله واحد فمما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى، وإنما قيل‏:‏ ‏{‏إله واحد‏}‏ ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته؛ وتقديم الجار على الأمر للقصر، والمراد اخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالماً خالصاً لا تشوبوه بإشراك ‏{‏وَبَشّرِ المخبتين‏}‏ خطاب له صلى الله عليه وسلم، والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك‏.‏ وقال عمرو بن أوس‏:‏ هم الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏ وقال سفيان‏:‏ هم الراضون بقضاء الله تعالى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هم المجتهدون في العبادة، وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب‏:‏ نزول الخبت وهو المطمئن من الأرض، ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا من حيث أن نزول الخبت مناسب للحاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ‏}‏ أي خافت ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ منه عز وجل لإشراق أشعة الجلال عليها ‏{‏والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ من مشاق التكاليف ومؤنات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضاً، والظاهر أن الصبر على المكاره مطلقاً ممدوح‏.‏ وقال الرازي‏:‏ يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى، وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر ‏{‏والمقيمى الصلاة‏}‏ في أوقاتها، ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏الصلاة‏}‏ بالنصب على المفعولية لمقيمي وحذفت النون منه تخفيفاً كما في بيت الكتاب‏:‏ الحافظو عورة العشيرة لا *** تأتيهم من ورائهم نطف

بنصب عورة ونظير ذلك قوله‏:‏ إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم مالك

وقوله‏:‏ ابني كليب أن عمي اللذا *** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقرأ ابن مسعود‏.‏ والأعمش ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، وقرأ الضحاك ‏{‏إِلَى الصلاة‏}‏ بالإفراد والإضافة ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ في وجوه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله‏}‏ أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري‏.‏ ناقة أو بقرة تنحر بمكة‏.‏ وفي «القاموس» هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدي إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو نذر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء‏.‏ وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميدة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر‏.‏

وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال‏:‏ وهل هي إلا من البدن، وقال صاحب البارع من اللغويين‏:‏ إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزى عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما رواه أبو داود عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ‏"‏ فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخراً تأييد لذلك أيضاً، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحداً‏.‏

ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر‏:‏ أن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال‏:‏ أوصى إلى رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له‏:‏ إن رجلاً أوصى إلي وأوصى ببدنة فهل تجزى عني بقرة‏؟‏ قال‏:‏ نعم ثم قال‏:‏ ممن صاحبكم‏؟‏ فقلت‏:‏ من رياح قال‏:‏ ومتى اقتنى بنور رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد‏.‏ وعبد القيس فتدبر‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وشيبة‏.‏ وعيسى ‏{‏البدن‏}‏ بضم الباء والدال، قيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع‏.‏ وأبي جعفر‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بنى على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب ‏{‏البدن‏}‏ على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرىء بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله لَكُمْ‏}‏ ظرف متعلق بالجعل، و‏{‏مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ في موضع المفعول الثاني له، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏ أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس‏.‏

وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها‏.‏

‏{‏فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك‏.‏ وقد أخرج ذلك جماعة عن ابن عباس، وفي «البحر» بأن يقول‏:‏ عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك‏.‏

‏{‏صَوَافَّ‏}‏ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن عمر وابن مسعود‏.‏ والباقر‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وعطاء‏.‏ والكلبي‏.‏ والأعمش بخلاف عنه ‏{‏صوافن‏}‏ بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنة، فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال‏:‏ ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها‏.‏ وأخرج عن الحسن قيل له‏:‏ كيف تنحر البدنة‏؟‏ قال‏:‏ تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن عطاء قال‏:‏ اعقل أي اليدين شئت‏.‏

وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر ‏{‏عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلاً، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث‏.‏ وقرأ أبو موسى الأشعري‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وزيد بن أسلم‏.‏ وشقيق‏.‏ وسليمان التيمي‏.‏ والأعراج ‏{‏صوافي‏}‏ بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر‏.‏ وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن ‏{‏صوافي‏}‏ ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين، أحدهما‏:‏ أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلاً من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم

‏:‏ والصرف في الجمع أتى كثيرا *** حتى ادعى قوم به التخييرا

وقرأ الحسن أيضاً ‏{‏عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل ‏{‏صَوَافَّ‏}‏ صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفى بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها التنوين ونحوه‏.‏ ولو أن واش باليمامة داره *** وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله‏:‏ يا باري القوس بريا ليست تحسنها *** لا تفسدنها وأعط القوس باريها

وعلى ذلك قراءة بعضهم ‏{‏صوافي‏}‏ بإثبات الياء ساكنة بناءً على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير ‏{‏وَجَدْنَا عَلَيْهَا‏}‏ ولو جعل كما قيل بدلاً من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت‏.‏ وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجز عادة بذبحها قائمة وإنما تذحب مضطجعة وقلما شوهد نحر الإبل وهي مضطجعة ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع‏}‏ أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد‏:‏ فمنهم سعيد آخذ بنصيبه *** ومنهم شقي بالمعيشة قانع

‏{‏والمعتر‏}‏ أي المعترض للسؤال من اعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروى عن ابن عباس‏.‏ وجماعة، وقال محمد بن كعب‏.‏ ومجاهد‏.‏ وإبراهيم‏.‏ والحسن‏.‏ والكلبي‏:‏ ‏{‏القانع‏}‏ السائل كما في قول عدي بن زيد‏:‏ وما خنت ذا عهد وأيت بعهده *** ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعاً

‏{‏والمعتر‏}‏ المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعاً إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظاً ومعنى قنوعاً‏.‏ وعلى ذلك جاء قول الشاعر‏:‏ العبد حر إن قنع *** والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تطمع فما

شيء يشين سوى الطمع *** فلا يكون ‏{‏القانع‏}‏ على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكماً بتوهم من يقول بخلافه‏.‏ وفي «الصحاح» نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضاً أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعاً لأنه يرضى بما يعطي قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعاً إلى الرضا، وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعانا ومصدر الثاني قنوعاً‏.‏ ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساتراً لفقره كقولهم‏:‏ خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفاً لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبي رجاء ‏{‏القانع‏}‏ بوزن الحذر بناءً على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد ‏{‏القانع‏}‏ الجار وإن كان غنياً وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل‏:‏ المعتر الصديق الزائر، والذي اختاره من هذه الأقوال أولها‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏والمعتري‏}‏ اسم فاعل من اعترى وهو واعتر بمعنى‏.‏ وقرأ عمرو‏.‏ وإسماعيل كما نقل ابن خالويه ‏{‏المعتر‏}‏ بكسر الراء بدون ياء، وروى ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضاً عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفاً منه واستغناءً بالكسرة عنها‏.‏ واستدل بالآية على أن الهدى يقسم أثلاثاً ثلث لصاحبه وثلث للقانع والمعتر ثلثاً والبائس الفقير ثلثاً وأهلي ثلثاً وفي القلب من صحته شيء‏.‏

وقال ابن المسيب‏:‏ ليس لصاحب الهدى منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما ترى، قال ابن عطية‏:‏ وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب‏.‏

وفي التيسير أمر ‏{‏وَفَرْشًا كُلُواْ‏}‏ للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر ‏{‏أطعموا‏}‏ للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئاً، وهذا في كل هدى نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصدق بجميعها فما أكله أو أهداه لغنى ضمنه‏.‏ وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدى التطوع والمتعة والقران وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين‏.‏ وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب الأجزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَوَافَّ‏}‏ ‏{‏سخرناها لَكُمْ‏}‏ مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصى عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي لتشكروا أنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا‏}‏ أي لن يصيب رضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث أنها لحوم ودماء ‏{‏ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ‏}‏ ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز وجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيماً لها وتقرباً إليه تعالى فنزلت هذه الآية، وروي نحوه عن ابن عباس‏.‏ وغيره‏.‏ وقرأ يعقوب‏.‏ وجماعة ‏{‏لَن تَنَالُواْ ولكن تَنَالُهُ‏}‏ بالتاء‏.‏ وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني بالياء آخر الحروف، وعن يحيى بن يعمر‏.‏ والجحدري أنهما قرأا بعكس ذلك‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏لَن يَنَالَ ولكن يَنَالُهُ‏}‏ بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين ‏{‏ولحومها ولا دماءها‏}‏ بالنصب ‏{‏يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ‏}‏ كرره سبحانه تذكيراً للنعمة وتعليلاً له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتُكَبّرُواْ الله‏}‏ أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل فتوحدوه بالكبرياء، وقيل‏:‏ أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح ‏{‏على مَا هَدَاكُمْ‏}‏ أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، فما مصدرية، وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف، ولا بد أن يعتبر منصوباً عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجروراً بمثل ما جر به الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً، و‏{‏على‏}‏ متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل‏:‏ لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم، وقال بعضهم‏:‏ على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين، ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا‏:‏ الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا، ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجهاً ليس فيما نحن فيه فافهم ‏{‏وَبَشّرِ المحسنين‏}‏ أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم‏.‏ وعن ابن عباس هم الموحدون‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ‏}‏ بالإعراض عن السوي وطلب الجزاء ‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ وهي مبادىء القيامة الكبرى ‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ‏}‏ وهي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الاستعداد ‏{‏وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ‏}‏ وهي الهيولات ‏{‏حِمْلِهَا‏}‏ وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ‏{‏وَتَرَى الناس سكارى‏}‏ الحيرة ‏{‏وَمَا هُم بسكارى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏ المحبة، قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات‏.‏ وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال‏.‏

وسكر المريدين من لمعان الأنوار‏.‏ وسكر المحبين من كشوف الأسرار‏.‏ وسكر المشتاقين من ظهور سني الصفات‏.‏ وسكر العاشقين من مكاشفة الذات‏.‏ وسكر المقربين من الهيبة والجلال‏.‏ وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال‏.‏ وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية‏.‏ وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من اطلاعهم على أسرار الأزلية‏:‏

ألم بنا ساق يجل عن الوصف *** وفي طرفه خمر وخمر على الكف

فاسكر أصحابي بخمرة كفه *** وأسكرني والله من خمرة الطرف

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ‏}‏ الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعاً في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنايهم فإن رأي شيئاً من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها ‏{‏خَسِرَ الدنيا‏}‏ بفقدان الجاه والقبول والافتضاح عند الخلق ‏{‏والاخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد ‏{‏مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والاخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏ الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضا بما فعل الحكيم جل جلاله ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏ فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه، وقد جعلها الله تعالى مثالاً لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثناؤهم بتلك الكلمات من حيث أنها كلماته تعالى نواباً عنه عز وجل في ذلك ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته، وللكعبة أيضاً امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمى الكعبة تشبيهاً بالكعب، ولما جعل الله تعالى له بيتاً في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقد يقال‏:‏ محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده‏:‏ أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام، وأودع سبحانه فيه كنزاً أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل‏.‏

وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ثمانية وعشرون ذراعاً، وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف‏.‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلاً للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية‏.‏ وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلاً أو بقراً، وهذه مسألة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى‏.‏ وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم‏.‏

‏{‏وَبَشّرِ المخبتين الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34، 35‏]‏ حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك، وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذاك ذلك، وذكر بعضهم أن لكل اسم تجلياً خاصاً فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الاستعداد ومن ههنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة؛ و‏{‏إِذَا‏}‏ لا تقتضي الكلية بل كثيراً ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية، وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجل قلبه ومتى سمعه منه عز وجل اطمأن‏.‏ ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع، وأكثر مشايخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أينشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم عن طمأنينة‏؟‏ وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر ‏{‏والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ قد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلى الله عليه وسلم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أول الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضاً، وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت، وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وشفع الرجلين لقوله تعالى‏:‏

‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 29‏]‏ وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة، وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الاقتدار‏.‏ وكان العقل في اليد السرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة‏.‏

وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فاشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته» الحديث‏.‏

والسر في كون هديه عليه الصلاة والسلام من الإبل مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة والسلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب‏.‏ وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلى الله عليه وسلم بأنه عليه الصلاة والسلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليجتنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الاقتدار والقوة، والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد، وجعل عليه الصلاة والسلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد، وعلق النعال بقلائد العهن ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وقد ذكروا لجميع أفعال الحج أسراراً من هذا القبيل، وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطرد لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد تعظيم ما صد عنه، وتصديره بكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من حملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ وابن كثير ‏{‏يدفع‏}‏ والمفعول محذوف كما أشير إليه، وفي «البحر» أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءامَنُواْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ‏}‏ تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي‏.‏ وقيل‏:‏ تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن إن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر ‏{‏لاَ يُحِبُّ‏}‏ على يبغض تنبيهاً على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى، ولعل الأول أولى لإيهام هذا إن الآية من قبيل قولك‏:‏ إني أدفع زيداً عن عمرو لبغضي زيداً وليس في ذلك كثير عناية بعمر وأي أن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز وجل، وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نف يالمحبة على اعتبار النفي أولاً وإيراد معنى المبالغة ثانياً كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 10‏]‏ وقد علمت ما فيه‏.‏

وأياً ما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏أَذِنَ‏}‏ أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير‏.‏ وابن عامر‏.‏ وحمزة والكسائي ‏{‏أَذِنَ‏}‏ بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى ‏{‏لِلَّذِينَ يقاتلون‏}‏ أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ وأبو بكر‏.‏ ويعقوب ‏{‏يقاتلون‏}‏ على صيغة المبنى للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور ‏{‏بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ‏}‏ أي بسبب أنهم ظلموا‏.‏ والمراد بالموصول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين في مكة فقد نقل الواحدي‏.‏ وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يؤتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم‏:‏ اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فانزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق‏.‏ وابن المنذر عن الزهري‏.‏

وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 190‏]‏ وفي الأكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، وروى البيهقي في الدلائل‏.‏ وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشياً عن ذكره‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيداً بليغاً زيادة في توطين نفوس المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة ‏{‏بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم‏.‏

وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجاً كائناً بهذه الصفة، واختار الطبري كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ استثناء متصل من ‏{‏حَقّ‏}‏ وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة‏:‏ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وجوز أن يكون الإبدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا الخ وهو وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم‏:‏ ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلاً وكون ما بعد ءلا بدلاً من ‏{‏حَقّ‏}‏ بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ‏}‏ تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية لينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ الخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدفت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل‏:‏ المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد‏:‏ أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت الخ‏.‏

وقال قوم‏:‏ أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة‏:‏ أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب‏:‏ أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس‏.‏ وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الأفهام‏.‏

والصوامع جمع صومعه بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول، وقال الراغب‏:‏ هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقة والأصمع اللاصقة إذنه برأسه وهو قريب من قريب، وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والمراد بها هنا متعبد الرهبان عند أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات، والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة، قال الراغب‏:‏ فإن يكن ذلك عربياً في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ الآية، وقيل هي كنيسة اليهود‏.‏

وقرأ أهل المدينة‏.‏ ويعقوب ‏{‏وَلَوْلاَ‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ الحرميان‏.‏ وأيوب‏.‏ وقتادة‏.‏ وطلحة‏.‏ وزائدة عن الأعمش‏.‏ والزعفراني ‏{‏بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ‏}‏ بالتخفيف، والتضعيف باعتبار كثرة المواضع‏.‏

‏{‏وصلوات‏}‏ جمع صلاة وهي كنيسة اليهود، وقيل‏:‏ معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال، وقيل‏:‏ هي بمعناها الحقيقي وهدمت بمعنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك، وقيل‏:‏ ‏{‏صلوات‏}‏ معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى‏.‏ وروى عن أبي رجاء‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبي العالية‏.‏ ومجاهد أنهم قرأوا بذلك‏.‏ والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هرون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمة يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه صرف لمشابهته للجمع لفظاً فيكون كعرفات، والظاهر أنه نكر إذ جعل عاماً لما عرب، وأما القول بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي‏.‏

وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما ‏{‏صلوات‏}‏ بضم الصاد واللام، وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري، وحكى عنه أيضاً ‏{‏صلوات‏}‏ بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي، وقرأ أبو العالية في رواية ‏{‏صلوات‏}‏ بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأ الحجاج بن يوسف ‏{‏صلوات‏}‏ بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضاً، وقرأ مجاهد ‏{‏صلوتا‏}‏ بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف، وقرأ الضحاك‏.‏ والكلبي ‏{‏صلوث‏}‏ بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة، وقرأ عكرمة ‏{‏صلويثا‏}‏ بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف، وحكى عن الجحدري أيضاً ‏{‏صلوث‏}‏ بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة، وحكى عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد، وحكى ابن خالويه‏.‏

وابن عطية عن الحجاج‏.‏ والجحدري ‏{‏صلوب‏}‏ بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليت كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراآت قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة ‏{‏وصلوات ومساجد‏}‏ جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين، وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث أن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه عز وجل، وقيل‏:‏ لاختصاص السجود في الصلاة بالمسلمين، ولد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ واسجدى واركعى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏ مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد، وقال ابن عطية‏:‏ الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة، والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين‏.‏

ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتيب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم، ولعل تأخير ‏{‏صلوات‏}‏ عن ‏{‏بَيْعٌ‏}‏ مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل، وقيل إنما جيء بهذه المتعبدات على هذا النسق للانتقال من شريف إلى أشرف فإن البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم والصوامع معبد للرهبان فقد وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع لأن الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها‏.‏

ولعل المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُدّمَتْ‏}‏ الخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الاختلال في أمر العباد لولا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين ‏{‏يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً‏}‏ في موضع الصفة لمساجد، وقال الضحاك‏:‏ ومقاتل‏.‏ والكلبي‏:‏ في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان، وكون كون بيان ذكر الله عز وجل في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الانتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لماقبل الانتساخ كما مر‏.‏

‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ‏}‏ وبالله أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم ‏{‏إِنَّ الله لَقَوِىٌّ‏}‏ على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يمانعه شيء ولا يدافعه‏.‏