فصل: تفسير الآية رقم (56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏الملك‏}‏ أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذا تأتيهم الساعة أو عذابها؛ وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك، ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ وحده بلا شريك أصلاً بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفاً صورياً في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه، وإضافة يوم إليه من إضافة العام إلى الخاص وهو متعلق بالاستقرار الواقع خبراً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الاخبار بكون الملك يومئذ لله، وضمير الجمع للفريقين المؤمنين ولكافرين لذكرهما أولاً واشتمال التفصيل عليهما آخراً، نعم ذكر الكافرين قبيلة ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل‏:‏ فماذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ‏؟‏ فقيل‏:‏ يحكم بينهم بالمجازاة، وجوز أن تكون حالاً من الاسم الجليل ‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سابقاً كيفما كان متعلق الايمان ‏{‏فِي جنات النعيم‏}‏ أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم الكثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك، وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الايمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقه الآيات، والظاهر أن المراد بها الآيات التنزيلية، وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها الأعم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر احتمالاً في الآية، ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل، والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبا راتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابَ‏}‏ جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبراً للمبتدأ الثاني أو ‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبر له و‏{‏عَذَابِ‏}‏ مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماد على المبتدا وجملة المبتدا الثاني وخبره خبر للمبتدا الأول، وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب قبائحهم ولذا جيء بأولئك‏.‏

وقيل لهم عذاب بلام الاستحقاق وكان الظاهر في عذاب كما قيل ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 56‏]‏ وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لا لإيجاب محاسنهم إياها، ولا ينافي ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 6‏]‏ ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سبباً، وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل‏:‏ فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك الخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 56‏]‏ الخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّهِينٌ‏}‏ صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة، ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات، وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أنه للمتصف به دون عمل السيئات عذاباً مهيناً ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل، والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الاحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الظاهر كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏}‏ أي في تضاعيف المهاجرة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏قاتلوا‏}‏ بالتشديد، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله‏}‏ جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبراً، ومن منع أضمر قولاً هو الخبر والجملة محكية به، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ أما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقاً حسناً أو مصدر مبين للنوع، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من مات مرابطاً أجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين» واقرؤا إن شئتم ‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا‏}‏ إلى قوله تعالى ‏{‏حليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 58-59‏]‏ وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون‏:‏ المراد به ما لا ينقطع أبداً من نعيم الجنة‏.‏ ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم‏.‏

وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير ‏{‏رِزْقاً‏}‏ يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين، وقيل المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلف الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ هو الغنيمة، وقال الأصم‏:‏ هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو وتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا ولعل قائل ذلك يقول‏:‏ إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضاً

وظاهر الآية على ما قيل‏:‏ استواء من قتل ومن مات مهاجراً في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم‏.‏

وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون‏.‏ وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس‏:‏ من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال‏:‏ والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ‏}‏ الآية‏.‏

ويؤذ ذلك بما روى عن أنس قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجراً في سبيل الله تعالى شهيداً كالقتيل وبه صرح بعضهم، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطى ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى، وما تقدم في سبيل النزول غير مجمع عليه، فقد روى أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا‏:‏ يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت، واستدل بعضهم بهذا أيضاً على التسوية، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة لهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد، وأياً ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل‏.‏ ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولاً أولياً في ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 56‏]‏ تفخيماً لشأنهم وهو كما ترى، ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏ فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه‏.‏

واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد‏.‏

وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلاناً من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما لا بأس به، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 60‏]‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ‏}‏ استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 58‏]‏ أو بدل منه مقصود منه تأكيده‏.‏ و‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ إما اسم مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بسر، وقيل على الثاني‏:‏ إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام‏.‏

وقرأ أهل المدينة ‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ بالفتح والباقون بالضم ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ‏}‏ بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضاً مناسبة لما بعد ‏{‏ذلك‏}‏ قد حقق أمره ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏ أي من جازى الجاني بمثل ماجنى به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقاباً مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سبباً للجزاء أطلق عليه مجازاً مرسلاً بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين‏:‏ يجوز أن يقال‏:‏ لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، و‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للآلة وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي‏:‏ باء ‏{‏بِمَثَلٍ‏}‏ آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للآلة وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل‏.‏

‏{‏ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ‏}‏ بالمعاودة إلى العقاب ‏{‏لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏ على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه ‏{‏إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 43‏]‏ بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعى الشريطة وهي عدم العدوان‏.‏ وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية‏.‏

وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع‏.‏ وثانيها‏:‏ أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ فهو أي ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ الخ على هذا أيضاً تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضاً للحث على العفو وهذا وجه وجيه اه، وثالثها‏:‏ أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولاً إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏ والخبر الآخر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏ فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إخلاله ثانياً بذلك‏.‏

وجعل ذلك بعضهم من التقديم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل‏:‏ إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك‏.‏ ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا‏:‏ إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر الملسمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية، ثم قال‏:‏ فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظة ‏{‏ذلك‏}‏ فصل للخطاب وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ‏}‏ شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه ‏{‏والذين هاجروا‏}‏ الآيتين اه‏.‏

وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغياً ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصاً وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب اه، وهو كلام رصين، ولا يعكر عليه قولهم‏:‏ إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل‏.‏ وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات‏.‏

واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في «الخبر» والمراد به السلاح وخبر ‏{‏مِنْ‏}‏ لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا‏:‏ إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏إصلاح بَيْنَ الناس وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ إشارة إلى النصر المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَنصُرَنَّهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحاً، ومحله الرفع على الإبتداء وخبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى‏}‏ والباء فيه سببية، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك‏.‏

وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في يالآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بن كل نهارين ليلاً وبين كل ليلين نهاراً كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل، وعلى الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لا بد منه إذ لا بد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى، وقيل‏:‏ لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدوه الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمداً فتتعطل المصالح، وفيه أنه مع كون لا يناسب السياق غير ظاهر لا سيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ على مدخول الباء فيما قبل، نعم الإشارة إلى الاتصاف

‏[‏بم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 61‏]‏ الخ وكمال العلم الدال عليه ‏{‏سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 61‏]‏ بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعان ولا بد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه، وقيل‏:‏ إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم ‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ إلهاً ‏{‏هُوَ الباطل‏}‏ أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مراداً على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض‏.‏ وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضاً زيدت اللام في قوله تعالى الآتي ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى الحميد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 64‏]‏ دون نظيره في تلك السورة، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر ههنا قاله النيسابوري، ويجوز أن يكون زيادة ‏{‏هُوَ‏}‏ في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد من في ذلك الموضع فتأمل ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ العلى‏}‏ على جميع الأشياء ‏{‏الكبير‏}‏ عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأناً وأكبر سلطاناً‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏وَإِن مَّا‏}‏ بكسر الهمزة، وقرأ نافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو بكر ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ بالتاء على خطاب المشركين‏.‏ وقرأ مجاهد‏.‏ واليماني‏.‏ وموسى الإسواري ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالياء التحتية مبنية للمفعول على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء‏}‏ أي من جهة العلو ‏{‏مَاء‏}‏ أي ألم تعلم ذلك، وجوز كون الرؤية بصرية نظراً للماء المنزل، والاستفهام للتقرير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الارض مُخْضَرَّةً‏}‏ أي فتصير، وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلاً فتصبح الأرض مخضرة، والأول أولى عطف على ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله، والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الاستعداد التام للإخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى، وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها، والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول‏:‏ أنعم على فلان عام كذا فاروح وأغدو شاكراً له ولو قلت‏:‏ فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الاستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه، ففي البحر أنه يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت‏:‏ ما تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما تأتينا ولا تحدث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الاستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المراد، وأيضاً جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن رك إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن إخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال اه‏.‏

وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال‏:‏ لو نصب الفعل جواباً للاستفهام لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار لكن تعقبه «صاحب الفرائد» حيث قال‏:‏ لا وجه لما ذكره «صاحب الكشاف» ولا يلزم المعنى الذي ذكر بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ تابعاً له ولم يكن تابعاً لإنزال ويكون مع ناصبه مصدراً معطوفاً على المصدر التي تضمنه ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل المراد أن يكون إصباح الأرض مخضرة بأنزال الماء فيكون حصول إخضرار الأرض تابعاً للإنزال معطوفاً عليه اه وفيه بحث‏.‏

وقال «صاحب التقريب» في ذلك‏:‏ إن النصب بتقدير إن وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقباً والرفع جزم بأخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزماً بإثباته لا أنه جزم بنفيه، ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري، وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين، أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر، والثاني أن الاستفهام المذكور بمعنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ خبر كما تقول في الكلام أعلم أن الله تعالى يفعل كذا فيكون كذا، وقال سيبويه‏:‏ وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الارض مُخْضَرَّةً‏}‏ فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت‏:‏ أتسمع‏؟‏ وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا‏.‏

وقال بعض المتأخرين‏:‏ يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الاستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الاستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات، فإن قلت‏:‏ الرؤية لا تكون سبباً لا نفياً ولا إثباتاً للإخضرار، قلت‏:‏ الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضى في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه، واختار هذا في الاستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى‏.‏

وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب، وأن المعنى المراد عليه ينقلب‏.‏ وقرىء ‏{‏مُخْضَرَّةً‏}‏ بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مبقلة ومجزرة أي ذات خضرة ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ أي متفضل على العباد بايصال منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء وإخضرار الأرض بسببه ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، وقال مقاتل‏:‏ لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه، وقال الكلبي‏:‏ لطيف بأفعاله خبير بأعمال عباده، وقال ابن عطية‏:‏ اللطيف هو المحكم للأمور برفق، ونقل الآمدي أنه العالم بالخفيات، وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير، وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ خلقاً وملكاً وتصرفاً فاللام للاختصاص التام ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى‏}‏ الذي لا يفتقر إلى شيء أصلاً ‏{‏الحميد‏}‏ الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الارض‏}‏ أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ‏{‏والفلك‏}‏ بالنصب وإسكان اللام‏.‏ وقرأ ابن مقسم‏.‏ والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على ‏{‏مَا‏}‏ عطف الخاص على العام تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على الاسم الجليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر‏.‏ وفي «البحر» هو إعراب بعيد عن الفصاحة‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ والأعرج‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والزعفراني ‏{‏والفلك‏}‏ بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة‏.‏

وجوز أن تكون حالية، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الارض‏}‏ أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك، وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين، والكوفيون يقدرون لئلا تقع‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن ‏{‏تَقَعَ‏}‏ في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض‏.‏ ورد بأن الإمساك بمعنى اللزوم يتعدى بالباء وبمعنى الكف بعن وكذا بمعنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما بمعنى المنع فهو غير مشهور‏.‏ وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة، قال الراغب‏:‏ يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ وكنى عن البخل بالإمساك اه، وصرح به الزمخشري‏.‏ والبيضاوي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والارض *أَن تَزُولاَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ نعم الأظهر هو الإعراب الأول، والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آناً فآناً‏.‏ وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعاً قطعاً، وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة، وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف‏:‏ وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حال ولا بارد ولا رطب ولا يابس، واستدلوا على استحالة قبوله الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم‏.‏

والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطاً لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد ‏"‏ وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع بمحض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها‏.‏

وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار التجددي أي يمسكها آناً فآناً من الوقوع ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بمشيئته، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون ‏{‏يُمْسِكُ‏}‏ فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها، وقيل‏:‏ استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها ملتبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر‏.‏ وفي «البحر» أن الجار والمجرور متعلق بتقع، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى، ولعمري أن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلاً عن أن يكون صريحاً فيه، والظاهر أن المراد بالسماء جنسها الشامل للسموات السبع، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو بك فقل‏:‏ الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعاً الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جاراً من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات‏.‏

والظاهر أيضاً أن مساق الآية للامتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الانتفاع به من وقوع السماء على الأرض، وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، وجعل الجملة تعليلية لما في ضمن ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ‏}‏ الخ أظهر فيما قلنا، والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل ما تقتضي جلب المصالح ولكون درء المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رؤوف على رحيم، وفي كل مما امتن به سبحانه درء وجلب، نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى، وقال بعضهم‏:‏ الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم ‏{‏رؤف‏}‏ للفاصلة‏.‏ وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر، وتقديم ‏{‏الله بالناس‏}‏ للاهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ‏}‏ بعد أن كنتم جماداً عناصر ونطفاً حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند مجىء آجالكم ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ عند البعث ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ أي جحود بالنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده، وقيل المراد بالإنسان الكافر وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد، وعن ابن عباس أيضاً أنه قال‏:‏ هو الأسود بن عبد الأسد‏.‏ وأبو جهل‏.‏ وأبي بن خلف ولعل ذلك على طريق التمثيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ كلام مستأنف جىء به لزجر معاصريه عليه الصلاة والسلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته عليه الصلاة والسلام ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ وضعنا وعيناً ‏{‏مَنسَكًا‏}‏ أي شريعة خاصة، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر لا لأمة أخرى منهم، والكلام نظير قولك لكل من فاطمة وزينب وهند وحفصة أعطيت ثوباً خاصاً إذا كنت أعطيت فاطمة ثوباً أحمر وزينب ثوباً أصفر وهنداً ثوباً أسود وحفصة ثوباً أبيض فإنه بمعنى لفاطمة أعطيت ثوباً أحمر لا لأخرى من أخواتها ولزينب أعطيت ثوباً أصفر لا لأخرى منهن وهكذا، وحاصل المعنى هنا عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى لا استقلالاً ولا اشتراكاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ صفة لمنسكاً مؤكدة للقصر، والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكون به وعاملون لا أمة أخرى؛ فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام منسكهم ما في التوراة هم عاملون به لا غيرهم، وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم ما في القرآن ليس إلا، والفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ ينازعنك فِى الامر‏}‏ أي أمر الدين لترتيب النهي على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتها أمته عليه الصلاة والسلام شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم ما عين لها موجب لطاعة هؤلاء له صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعماً منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم مما في التوراة والإنجيل فإن ذلك شريعة لمن مضى قبل انتساخه وهؤلاء أمة مستقلة شريعتهم ما في القرآن فحسب، والظاهر أن المراد نهيهم حقيقة عن النزاع في ذلك‏.‏

واختار بعضهم كونه كناية عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم المبني على زعمهم المذكور لأنه أنسب بقوله تعالى الآتي ‏{‏وادع‏}‏ الخ، وأمر الأنسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر، وقال الزجاج‏:‏ هو نهي له عليه الصلاة والسلام عن منازعتهم كما تقول‏:‏ لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية، وهذا إنما يجوز على ما قيل وبحث فيه في باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضربنك زيد أن تريد لا تضربنه‏.‏

وتعقب بأنه لا يساعده المقام‏.‏ وقرىء ‏{‏فَلاَ ينازعنك‏}‏ بالنون الخفيفة‏.‏ وقرأ أبو مجلز‏.‏

ولاحق بن حميد ‏{‏فَلاَ ينازعنك‏}‏ بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في «البحر»، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره‏.‏

وفي «الكشاف» أن المعنى أثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة، لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذاً، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذاً عند الجمهور‏.‏

وقال سيبويه‏:‏ كما في «المفصل» وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول‏:‏ نازعني فنزعته استغنى عنه بغلبته، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهى له صلى الله عليه وسلم عن فعل غيره، هذا وما ذكرنا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال، وقال الإمام‏:‏ هو الأقرب، وقيل‏:‏ هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة، قال ابن عطية‏:‏ يعطي ذلك ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ وقيل‏:‏ هو اسم زمان، وقيل‏:‏ اسم مكان، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك، وقال مجاهد‏:‏ هو الذبح‏.‏

وأخرج ذلك الحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما؛ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وعبد بن حميد عن عكرمة، وجعل ضمير ‏{‏ينازعنك‏}‏ للمشركين، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء‏.‏ وبشر بن سفيان‏.‏ ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى‏.‏ ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور‏.‏ وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلاً كيف لا وأنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل‏.‏ وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها، وقيل‏:‏ المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه‏.‏

وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا مما لا شك في صحته، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلاً لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولاً في تفسير الآية، وأياً ما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ الخ لضعف الجامع بينها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك‏.‏ وفي «الكشف» بياناً لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِى أَيَّامٍ معلومات‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ إلا أن فيه تخصيصاً بالمخاطبين فعطف عليه ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه لم يزل متضمناً لمنافع جليلة في الدارين، وأما فيما نحن فيه فأين حديث النسائك من حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ولعمري أن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لكن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع، وذكره ههنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق اه، وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح‏.‏

وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏ الخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة‏.‏

وهذه الآية مقدمة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكاً وديناً يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقاً وديناً هم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة‏.‏ سمي دأبهم نسكاً لإيجابهم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكماً بهم ومسلاة لرسوله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 55‏]‏ يوجب القلع عن إنذار القوم والإياس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجىء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ ينازعنك‏}‏ تحريضاً له عليه الصلاة والسلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى‏:‏

‏{‏الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 69‏]‏ فالربط على طريقة الاستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي‏.‏ والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏ وكررها وجعلها أصلاً للمعنى المهتم به وكلما شرع في أمر كر إليه تثبيتاً لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة والسلام فلا يقال‏:‏ إن هذه الآية واقعة مع أباعد عن معناها انتهى، ولعمري أنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق‏.‏ وقد تعقب في «الكشف» اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتأكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏ الآيات لا سيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للاستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ ينازعنك‏}‏ الخ، وأما قوله والذي يدور عليه الخ فهو مسلم وهو عليه لا له فتأمل والله تعالى الموفق للصواب‏.‏

‏{‏وادع‏}‏ أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولاً أولياً ‏{‏إلى رَبّكَ‏}‏ إلى توحيده وعبادته حسبما بين في منسكهم وشريعتهم ‏{‏إِنَّكَ لعلى هُدًى‏}‏ أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة مكنية وتخييليتها على، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي سوي أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح، ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها، والجملة استئناف في موضوع التعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن جادلوك‏}‏ في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم على سبيل الوعيد ‏{‏الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها، وهذا إن أريد به الموادعة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ تسلية له صلى الله عليه وسلم؛ والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصاً بالكافرين كالذي قبله ولا داخلاً في حيز القول، وجوز أن يكون داخلاً فيه على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل ‏{‏فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ أي من أمر الدين، وقيل الجدال والاختلاف في أمر الذبائح، ومعنى الاختلاف ذهاب كل إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ‏}‏ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام للتقرير أي قد علمت ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والارض‏}‏ فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها أقوال الكفرة وأعمالهم ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي ما في السماء والأرض ‏{‏فِى كتاب‏}‏ هو كما روي عن ابن عباس اللوح المحفوظ، وذكر رضي الله تعالى عنه أن طوله مسيرة مائة عام وأنه كتب فيه ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنكر ذلك أبو مسلم وقال‏:‏ المراد من الكتاب الحفظ والضبط أي أن ذلك محفوظ عنده تعالى، والجمهور على خلافه، والمراد من الآية أيضاً تسليته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل إن الله يعلم الخ فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي ما ذكر من العلم والإحاطة بما في السماء والأرض وكتبه في اللوح والحكم بينكم، وقيل ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الحكم فقط، وقيل إلى العلم فقط، وقيل إلى كتب ذلك في اللوح، ولعل كونه إشارة إلى الثلاثة بتأويل ما ذكر أولى ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ فإن علمه وقدرته جل جلاله مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور، وتقديم الجار والمجرور لمناسبة رؤوس الآي أو للقصر أي يسير عليه جل وعلا لا على غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم وهي بناء أمرهم على غير مبنى دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقى إليهم من سلطان بين هو أساس الدين أي يعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ‏}‏ أي بجواز عبادته ‏{‏سلطانا‏}‏ أي حجة، والتنكير للتقليل، وهذا إشارة إلى الدليل السمعي الحاصل من جهة الوحي‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ إشارة إلى الدليل العقلي أي ما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل أو استدلاله، والحاصل يعبدون من دون الله ما لا دليل من جهة السمع ولا من جهة العقل على جواز عبادته، وتقديم الدليل السمعي لأن الاستناد في أكثر العبادات إليه مع أن التمسك به في هذا المقام أرجى في الخلاص إن حصل لوم من التمسك بالدليل العقلي، وإن شككت فارجع إلى نفسك فيما إذا لامك شخص على فعل فإنك تجدها مائلة إلى الجواب بأني فعلت كذا لأنك أخبرتني برضاك بأن أفعله أكثر من ميلها إلى الجواب بأني فعلته لقيام الدليل العقلي وهو كذا على رضاك به وإنكار ذلك مكابرة، وقد يقال‏:‏ إنما قدم هنا ما يشير إلى الدليل السمعي لأنه إشارة إلى دليل سمعي يدل على جواز تلك العبادة منزل من جهته تعالى غير مقيد بقيد بخلاف ما يشير إلى الدليل العقلي فإن فيه إشارة إلى دليل عقلي خاص بهم، وحاصله أن التقديم والتأخير للإطلاق والتقييد وإن لم يكونا لشيء واحد فافهم، وقال العلامة الطيبي‏:‏ في اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل ومقابله بالعلم دليل واضح على أن الدليل السمعي هو الحجة القاطعة وله القهر والغلبة وعند ظهوره تضمحل الآراء وتتلاشى الأقيسة ومن عكس ضل الطريق وحرم التوفيق وبقي متزلزلاً في ورطات الشبه؛ وإن شئت فانظر إلى التنكير في ‏{‏سلطانا وَعَلَّمَ‏}‏ وقسهما على قول الشاعر‏:‏ له حاجب في كل أمر يشينه *** وليس له عن طالب العرف حاجب

لتعلم الفرق إلى آخر ما قال، ومنه يعلم وجه للتقديم واحتمال آخر في تنوين ‏{‏سلطانا‏}‏ غير ما قدمنا، وظاهره أن الدليل السمعي يفيد اليقين مطلقاً وأنه مقدم على الدليل العقلي، ومذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنه لا يفيد اليقين مطلقاً لتوقف ذلك على أمور كلها ظنية فتكون دلالته أيضاً ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة، والحق أنه قد يفيد اليقين في الشرعيات دون العقليات بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات‏.‏

وذكر الفاضل الرومي في حواشيه على شرح المواقف بعد بحث أن الحق أنه قد يفيد اليقين في العقليات أيضاً وأما أنه مقدم على الدليل العقلي فالذي عليه علماؤنا خلافه، وأنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي إلى ما لا يعارضه الدليل العقلي إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقديم السمع على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضاً لنفسه وكان باطلاً لكن ظاهر كلام محيي الدين بن العربي قدس سره في مواضع من فتوحاته القول بأنه مقدم‏.‏

ومن ذلك قوله في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من أبيات‏:‏ كل علم يشهد الشرع له *** هو علم فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل

طورك الزم ما لكم فيه قدم *** وقوله في الباب الأربعمائة والاثنين والسبعين‏:‏ على السمع عولنا فكنا أولى النهي *** ولا علم فيما لا يكون عن السمع

إلى غير ذلك وهو كأكثر كلامه من وراء طور العقل ‏{‏وَمَا للظالمين‏}‏ أي وما لهم إلا أنه عدل إلى الظاهر تسجيلاً عليهم بالظلم مع تعليل الحكم به، وجوز أن لا يكون هناك عدول، والمراد ما يعمهم وغيرهم ودخولهم أولى، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن نَّصِيرٍ‏}‏ سيف خطيب، والمراد نفى أن يكون لهم بسبب ظلمهم من يساعدهم في الدنيا بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم ودفع ما يخالفه وفي الآخرة بدفع العذاب عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ عطف على ‏{‏يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏ وما بينهما اعتراض، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بينات‏}‏ حال من الآيات أي واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي في وجوههم، والعدول على نحو ما تقدم، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لمن يصح أن يعرف كائناً من كان ‏{‏المنكر‏}‏ أي الإنكار على أنه مصدر ميمي، والمراد علامة الإنكار أو الأمر المستقبح من التجهم والبسور والهيئات الدالة على ما يقصدونه وهو الأنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليداً، ولا يخفى ما في ذلك من الجهالة العظيمة، وكان المراد أنهم طول دهرهم يقاربون ذلك وإلا فقد سطوا في بعض الأوقات ببعض الصحابة التالين كما في «البحر»، والجملة في موقع الحال من المضاف إليه، وجوز أن يكون من الوجوه على أن المراد بها أصحابها وليس بالوجه‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏يُعْرَفُ‏}‏ بالبناء للمفعول ‏{‏المنكر‏}‏ بالرفع ‏{‏قُلْ‏}‏ على وجه الوعيد والتقريع ‏{‏أَفَأُنَبّئُكُم‏}‏ أي أخاطبكم أو أتسمعون فأخبركم ‏{‏بِشَرّ مّن ذلكم‏}‏ الذي فيكم من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلى عليكم ‏{‏النار‏}‏ أي هو أو هي النار على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ ما هو‏؟‏ وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهو على الوجه الأول جملة مستأنفة، وجوز أن يكون خبراً بعد خبر‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏.‏ وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏النار‏}‏ بالنصب على الاختصاص، وجملة ‏{‏وَعَدَهَا‏}‏ الخ مستأنفة أو حال من ‏{‏النار‏}‏ بتقدير قد أو بدونه على الخلاف، ولم يجوزوا في قراءة الرفع الحالية على الأعراب الأول إذ ليس في الجملة ما يصح عمله في الحال‏.‏

وجوز في النصب أن يكون من باب الاشتغال وتكون الجملة حينئذٍ مفسرة‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق‏.‏ وإبراهيم بن نوح عن قتيبة ‏{‏النار‏}‏ بالجر على الإبدال من شر، وفي الجملة احتمالا الاستئناف والحالية، والظاهر معنى أن يكون الضمير في ‏{‏وَعَدَهَا‏}‏ هو المفعول الثاني والأول الموصول أي وعد الذين كفروا إياها، والظاهر لفظاً أن يكون المفعول الأول والثاني الموصول كأن النار وعدت بالكفار لتأكلهم ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏المصير يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلاً وتسير في الأمصار والأعصار، وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر، وقيل المثل على حقيقته و‏{‏ضُرِبَ‏}‏ بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكي ذلك عن الأخفش، والكلام متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏فاستمعوا لَهُ‏}‏ أي للمثل نفسه استماع تدبر وتفكر أو لأجله ما أقول فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلاً لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني، ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكي عن الأخفش تفسيراً أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي، فإن المعنى جعل الكفار لله مثلاً فاستمعوا لحاله وما يقال فيه، والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكى فيه عدول عن المتبادر‏.‏

والظاهر أن الخطاب في ‏{‏يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ لجميع المكلفين لكن الخطاب في ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ للكفار‏.‏ واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني، وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين، وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك‏:‏ أنتم يا بني تميم قتلتم فلاناً وفيه بحث‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ويعقوب‏.‏ وهارون‏.‏ والخفاف‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالياء التحتية مبنياً للفاعل كما في قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ اليماني‏.‏ وموسى الأسواري ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالياء من تحت أيضاً مبنياً للمفعول، والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف ‏{‏لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً‏}‏ أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته، ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اجتمعوا لَهُ‏}‏ أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال‏:‏ لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل، وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفى وهو الخلق والمنفى عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه، والظاهر أن هذا لا يستغنى عن معونة المقام أيضاً، وأنت تعلم أن في إفادة لن النفي المؤكد خلافاً؛ فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في أنموذجه بإفادتها التأبيد‏.‏

وذهب الجمهور وقال أبو حيان‏:‏ هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأبيد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة القرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذباباً ولو اجتمعوا له لفهم ذلك، ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاه‏:‏ إن الإفادة فيه من خارج ولا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبداً‏.‏ والانتصار بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأبيد ليس بشيء أصلاً كما لا يخفى، وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتماداً على ما لا ينتهض دليلاً شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان، والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكى في البحر ضمها في ذبان أيضاً، وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الاختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الاختلاف حتى قيل‏:‏ إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا له ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل‏:‏ لن يخلقوا ذباباً على كل حال‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الواو للحال ‏{‏وَلَّوْاْ اجتمعوا لَهُ‏}‏ بجوابه حال، وقال آخرون‏:‏ إن ‏{‏لَوْ‏}‏ هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير، والمعنى لن يخلقوا ذباباً مفروضاً اجتماعهم ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً‏}‏ بيان لعجزهم عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا ‏{‏لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه‏.‏

والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ، وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجزة لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ ما يختطفه منهم ما لا يخفى‏.‏ والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورؤسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وقيل‏:‏ كانوا يضمخونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة‏.‏

‏{‏ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ تذييل لما قبل اختبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدى‏.‏

والضحاك، وكون عابد ذلك طالباً لدعائه إياه واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوباً ظاهراً كضعفه، وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب‏.‏

وروي ابن مردويه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب، وفي هذا التذييل حينئذ ايهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلباً ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك‏.‏ ومن الناس من اختار الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير ءالهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏مَا قَدَرُواْ الله قَدْرِهِ‏}‏ قال الحسن‏.‏ والفراء‏:‏ أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه فإن تعظيمه تعالى حق تعظيمه أن يوصف بما وصف به نفسه ويعبد كما أمر أن يعبد وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فانهم عبدوا من دونه من لا يصلح للعبادة أصلاً وفي ذلك وصفه سبحانه بما نزه عنه سبحانه من ثبوت شريك له عز وجل‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ أي ما عرفوه حق معرفته فإن معرفته تعالى حق معرفته التصديق به سبحانه موصوفاً بما وصف به نفسه وهؤلاء لم يصدقوا به كذلك لشركهم به وعبادتهم من دونه من سمعت حاله، وقيل‏:‏ حق المعرفة أن يعرف سبحانه بكنهه وهذا هو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك»‏.‏

وأنت تعلم أن الظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا قَدَرُواْ‏}‏ الخ أخبار عن المشركين وذم لهم ومتى كان المراد منه نفي المعرفة بالكنه كان الأمر مشتركاً بينهم وبين الموحدين فإن المعرفة بالكنه لم تقع لأحد من الموحدين أيضاً عند المحققين ويشير إلى ذلك الخبر المذكور لدلالته على عدم حصولها لأكمل الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وإذا لم تحصل له صلى الله عليه وسلم فعدم حصولها لغيره بالطريق الأولى، واحتمال حمل المعرفة المنفية فيه على اكتناه الصفات لا يخفى حاله، وكذا احتمال حصول المعرفة بالكنه له عليه الصلاة والسلام بعد الأخبار المذكور، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذاته فانكم لن تقدروا قدرة»‏.‏

والظاهر عموم الحكم دون اختصاصه بالمخاطبين إذ ذاك، وقول الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك، وقول علي كرم الله تعالى وجهه متماً له بيتاً‏:‏ والبحث عن سر ذات الله إشراك بل قال حجة الإسلام الغزالي‏.‏ وشيخه إمام الحرمين‏.‏ والصوفية‏.‏ والفلاسفة بامتناع معرفته سبحانه بالكنه‏.‏

ونقل عن أرسطوا أنه قال في ذلك‏:‏ كما تعتري العين عند التحديق في جرم الشمس ظلمة وكدورة تمنعها عن تمام الأبصار كذلك تعتري العقل عند إرادة اكتناه ذاته تعالى حيرة ودهشة تمنعه عن اكتناهه سبحانه‏.‏

ولا يخفى أنه لا يصلح برهاناً للامتناع وغاية ما يقال‏:‏ إنه خطابي لا يحصل به إلا الظن الغير الكافي في مثل هذا المطلب، ومثله الاستدلال بأن جميع النفوس المجردة البشرية وغيرها مهذبة كانت أو لا أنقص تجرداً وتنزهاً من الواجب تعالى والأنقص يمتنع له اكتناه من هو أشد تجرداً وتنزهاً منه كامتناع اكتناه الماديات للمجردات، وكذا الاستدلال بكونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فيمتنع إدراكه كما يمتنع إدراك البصر ما اتصل به، وأحسن من ذلك كله ما قيل‏:‏ إن معرفة كنهه ليست بديهية بالضرورة بالنسبة إلى شخص وإلى وقت فلا تحصل لأحد في وقت بالضرورة فتكون كسببية والكسب إما نحد تام أو ناقص وهو محال مستلزم لتركب الواجب لوجوب تركب الحد من الجنس القريب أو البعيد ومن الفصل مع أن الحد الناقص لا يفيد الكنه، وأما الحد البسيط بمفرد فمحال بداهة فإن ذلك المفرد إن كان عين ذاته يلزم توقف معرفة الشيء على معرفة نفسه من غير مغايرة بينهما ولو بالإجمال والتفصيل كما في الحد المركب مع حده التام، وإن كان غيره فلا يكون حداً بل هو رسم أو مفهوم آخر غير محمول عليه وإما برسم تام أو ناقص ولا شيء منهما مما يفيد الكنه بالضرورة‏.‏

واعترض بأن عدم إمكان البداهة بالنسبة إلى جميع الأشخاص وإلى جميع الأوقات يحتاج إلى دليل فربما تحصل بعد تهذيب النفس بالشرائع الحقة وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية، ولو سلمنا عدم إمكان البداهة كذلك فلنا أن نختار كون المعرفة مما تكتسب بالحد التام المركب من الجنس والفصل وغاية ما يلزم منه التركب العقلي وليس بمحال إلا إن قلنا بأنه يستلزم التركب الخارجي المستلزم للاحتياج إلى الأجزاء المنافي لوجوب الوجود، ونحن لا نقول بذلك لأن المختار عند جمع أن أجزاء الماهية مأخوذة من أمر واحد بسيط وهي متحدة ماهية ووجوداً فتكون أموراً انتزاعية لا حقيقية فلا استلزام، نعم يكون ذلك إن قلنا‏:‏ إلا الاجزاء مأخوذة من أمور متغايرة بحسب الخارج لكن لا نقول به لأنه إن قيل حينئذ بتغاير الأجزاء أنفسها ماهية ووجوداً كما ذهب إليه طائفة يرد لزوم عدم صحة الحمل بينها ضرورة أن الموجودين بوجودين متغايرين لا يحمل أحدهما على الآخر كزيد وعمرو، وإن قيل بتغايرها ماهية لا وجوداً ليصح الحمل كما ذهب إليه طائفة أخرى يرد لزوم قيام الوجود الواحد بالشخص بموجودات متعددة متغايرة بالماهية، ولو سلمنا الاستلزام بين التركب العقلي والتركب الخارجي فلنا أن نقول‏:‏ لا نسلم أنه لا شيء من الرسم مما يفيد الكنه بالضرورة كيف وهو مفيد فيما إذا كان الكنه لازماً للرسم لزوماً بيناً بالمعنى الأخص بل يمكن إفادة كل رسم إياه على قاعدة الأشعري من استناد جميع الممكنات إليه تعالى بلا شرط وإن لم تقع تلك الإفادة أصلاً إذ الكلام في امتناع حصول الكنه بالكسب كذا قالوا‏.‏

واستدّل الملا صدرا على نفي الأجزاء العقلية له تعالى بأن حقيقته سبحانه انية محضة ووجود بحت فلو كان له عز وجل جنس وفصل لكان جنسه مفتقراً إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ يقال‏:‏ ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجوداً محضاً أو ماهية غير الوجود، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضنا فصلاً ليس بفصل إذ الفصل ما به يوجد الجنس وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد حقق أن نفس الوجود حقيقته بلا شوب، وأيضاً لو كان له تعالى جنس لكان مندرجاً تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية فيكون مشاركاً لسائرها في الجنس؛ وقد برهن على إمكانها وحقق أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المستلزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقاً له إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس أي مطلقاً لكان ممتنعاً على كل فرد فإذا يلزم من ذلك إمكان الواجب تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومبني هذا أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت وهو مما ذهب الحكماء وأجلة من المحققين، وليس المراد من هذا الوجود المعنى المصدري الذي لا يجهله أحد فإنه مما لا شك في استحالة كونه حقيقة الواجب سبحانه بل هو بمعنى مبدأ الآثار على ما حققه الجلال الدواني وأطال الكلام فيه في حواشيه على شرح التجريد وفي شرحه للهياكل النورية وفي غيرهما من رسائله، وللملا صدرا في هذا المقام والبحث في كلام الجلال كلام طويل عريض وقد حقق الكلام بطرز آخر يطلب من كتابه الأسفار بيد أنا نذكر هنا من كلامه سؤالاً وجواباً يتعلقان فيما نحن فيه فنقول‏:‏

قال فإن قلت‏:‏ كيف يكون ذات الباري سبحانه عين حقيقة الوجود والوجود بديهي التصور وذات الباري مجهول الكنه‏؟‏ قلت‏:‏ قد مر أن شدة الظهور وتأكد الوجود هناك مع ضعف قوة الإدراك وضعف الوجود ههنا صاراً منشأين لاحتجابه تعالى عنا وإلا فذاته تعالى في غاية الإشراق والإنارة، فإن رجعت وقلت‏:‏ إن كان ذات الباري نفسه الوجود فلا يخلو إما أن يكون الوجود حقيقة الذات كما هو المتبادر أو يكون صادقاً عليها صدقاً عرضياً كما يصدق عليه تعالى مفهوم الشيء، وعلى الأول إما أن يكون المراد به هذا المعنى العام البديهي التصور المنتزع من الموجودات أو معنى آخر والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي أن يكون حقيقته تعالى غير ما يفهم من لفظ الوجود كسائر الماهيات غير أنك سميت تلك الحقيقة بالوجود كما إذا سمي إنسان بالوجود ومن البين أنه لا أثر لهذه التسمية في الأحكام وأن هذا القسم راجع إلى الواجب ليس الوجود الذي الكلام فيه ويلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد يرهن أن كل ذي ماهية معلول، وعلى الثاني وهو أن يصدق عليه تعالى صدقاً عرضياً فلا يخفى أن ذلك لا يغنيه عن السبب بل يستدعي أن يكون موجوداً ولذلك ذهب جمهور المتأخرين من الحكماء إلى أن الوجود معدوم فأقول‏.‏

منشأ هذا الاشكال حسبان أن معنى كون هذا العام المشترك عرضياً أن للمعروض موجودية وللعارض موجودية أخرى كالماشي بالنسبة إلى الحيوان والضاحك بالقياس إلى الإنسان وليس كذلك بل هذا المفهوم عنوان وحكاية للوجودات العينية ونسبته إليها نسبة الإنسانية إلى الإنسان والحيوانية إلى الحيوان فكما أن مفهوم الإنسانية صح أن يقال‏:‏ إنها عين الإنسان لأنها مرآة لملاحظته وحكاية عن جهته صح أن يقال‏:‏ إنها غيره لأنها أمر نسبي والإنسان ماهية جوهرية، وبالجملة الوجود ليس كالامكان حتى لا يكون بإزائه شيء يكون المعنى المصدري حكاية عنه بل كالسواد الذي قد يراد به نفس المعنى النسبي أعنى الأسودية وقد يراد به ما يكون به الشيء أسود أعني الكيفية المخصوصة فكما أن السواد إذا فرض قيامه بذاته صح أن يقال ذاته عين الأسودية وإذا فرض جسم متصف به لم يجز أن يقال إن ذاته عين الأسودية مع أن هذا الأمر لكونه اعتباراً ذهنياً زائد على الجميع، إذا تقرر هذا قلنا في الجواب في الترديد الأول‏:‏ نختار الشق الأول وهو أن الوجود حقيقة الذات قولك في الترديد الثاني إما أن يكون ذلك الوجود ما يفهم من لفظ الوجود الخ نختار منه ما بإزاء ما يفهم من هذا اللفظ أعني حقيقة الوجود الخارجي الذي هذا المفهوم حكاية عنه فإن للوجود عندنا حقيقة في كل موجود كما أن للسواد حقيقة في كل أسود لكن في بعض الموجودات مخلوط بالنقائص والاعدام وفي بعضها ليس كذلك وكما أن السوادات متفاوتة في السوادية بعضها أقوى وأشد وبعضها أضعف وأنقص كذلك الموجودات بل الوجودات متفاوتة في الموجودية كما لا ونقصاناً، ولنا أيضاً أن نختار الشق الثاني من شقي الترديد الأول إلا أن هذا المفهوم الكلي وإن كان عرضياً بمعنى أنه ليس له بحسب كونه مفهوماً عنوانياً وجود في الخارج حتى يكون عيناً لشيء لكنه حكاية عن نفس حقيقة الوجود القائم بذاته وصادق عليه بحيث يكون منشأ صدقه ومصداق حمله عليها نفس تلك الحقيقة لا شيئاً آخر يقوم به كسائر العرضيات في صدقها على الأشياء فصدق هذا المفهوم على الوجود الخاص يشبه صدق الذاتيات من هذه الجهة، فعلى هذا لا يرد علينا قولك‏:‏ صدق الوجود عليه لا يغنيه عن السبب لأنه لم يكن يغنيه عن السبب لو كان موجوديته بسبب عروض هذا المعنى أو قيام حصة من الوجود وليس كذلك بل ذلك الوجود الخاص بذاته موجود كما أنه بذاته وجود سواء حمل عليه مفهوم الوجود أو لم يحمل، والذي ذهب الحكماء إلى أنه معدوم ليس هو الوجودات الخاصة بل هذا الأمر العام الذهني الذي يصدق على الاينات والخصوصيات الوجودية انتهى، وما أشار إليه من تعدد الوجودات قال به المشاؤون وهي عند الأكثرين حقائق متخالفة متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة إلى الماهيات لتكون متماثلة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنساً لها، وقال بعضهم بالاختلاف بالحقيقة حيث يكون بينها من الاختلاف ما بالتشكيك كوجود الواجب ووجود الممكن وكذا وجود المجردات ووجود الأجسام؛ وقالت طائفة من الحكماء المتألهين إنه ليس في الخارج الا وجود واحد شخصي مجهول الكنه وهو ذات الواجب تعالى شأنه وأما الممكنات المشاهدة فليس لها وجود بل ارتباط بالوجود الحقيقي الذي هو الواجب بالذات ونسبة إليه، نعم يطلق عليها أنها موجودة بمعنى أن لها نسبة إلى الواجب تعالى فمفهوم الموجود أعم من الوجود القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه نحواً من الانتساب وصدق المشتق لا ينافي قيام مبدأ الاشتقاق بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا كون ما صدق عليه أمراً منتسباً إلى المبدأ لا معروضاً له بوجه من الوجوه كما في الحداد والمشمس على أن أمر اطلاق أهل اللغة وأرباب اللسان لا عبرة به في تصحيح الحقائق، وقالوا‏:‏ كون المشتق في المعقولات الثانية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدأ حقيقة متأصلة متشخصة مجهولة الكنه وثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور ولا يخفى ما فيه من الأنظار، ومثله ما دار على السنة طائفة من المتصوفة من أن حقيقة الواجب المطلق تمسكاً بأنه لا يجوز أن يكون عدماً أو معدوماً وهو ظاهر ولا ماهية موجودة بالوجود أو مع الوجود تعليلاً أو تقييداً لما في ذلك من الاحتياج والتركيب فتعين أن يكون وجوداً وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق، ومتمسكهم هذا أوهن من بيت العنكبوت، والذي حققته من كتب الشيخ الأكبر قدس سره وكتب أصحابه أن الله سبحانه ليس عبارة عن الوجود المطلق بمعنى الكلي الطبيعي الموجود في الخارج في ضمن أفراده ولا بمعنى أنه معقول في النفس مطابق لكل واحد من جزئياته في الخارج على معنى أن ما في النفس لو وجد في أي شخص من الأشخاص الخارجية لكان ذلك الشخص بعينه من غير تفاوت أصلاً بل بمعنى عدم التقيد بغيره مع كونه موجوداً بذاته، ففي الباب الثاني من الفتوحات أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا معلول من شيء ولا علة لشيء بل هو خالق المعلولات والعلل‏.‏

والملك القدوس الذي لم يزل‏.‏ وفي النصوص للصدر القونوي تصور اطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل بمعنى أنه وصف سلبي لا يمعنى أنه اطلاق ضده التقييد بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين وعن الحصر أيضاً في الإطلاق والتقييد وفي الجمع بين كل ذلك والتنزيه عنه فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع‏.‏

وذكر بعض الأجلة أن الله تعالى عند السادة الصوفية هو الوجود الخاص الواجب الوجود لذاته القائم بذاته المتعين بذاته الجامع لكل كمال المنزه عن كل نقص المتجلي فيما يشاء من المظاهر مع بقاء التنزيه ثم قال‏:‏ وهذا ما يقتضيه أيضاً قول الأشعري بأن الوجود عين الذات مع قوله الأخير في كتابه الأبانة بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع التنزيه بليس كمثله شيء‏.‏

وتحقيق ذلك أنه قد ثبت بالبرهان أن الواجب الوجود لذاته موجود فهو إما الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته أو الوجود المقترن بالماهية المتعين بحسبها أو الماهية المعروضة للوجود المتعين بحسبها أو المجموع المركب من الماهية والوجود المتعين بحسبها لا سبيل إلى الرابع لأن التركيب من لوازمه الاحتياج ولا إلى الثالث لاحتياج الماهية في تحققها الخارجي إلى الوجود ولا إلى الثاني لاحتياج الوجود إلى الماهية في تشخصه بحسبها والاحتياج في الجميع ينافي الوجوب الذاتي فتعين الأول فالواجب سبحانه الموجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، ثم هو إما أن يكون مطلقاً بالإطلاق الحقيقي وهو الذي لا يقابله تقييد القابل لكل إطلاق وتقييد وإما أن يكون مقيداً بقيد مخصوص لا سبيل إلى الثاني لأن المركب من القيد ومعروضه من لوازمه الاحتياج المنافي للوجوب الذاتي فتعين الأول فواجب الوجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق بالإطلاق الحقيقي، وأهل هذا القول ذهبوا إلى أنه ليس في الخارج إلا وجود واحد وهو الوجود الحقيقي وأنه لا موجود سواه وماهيات الممكنات أمور معدومة متميزة في أنفسها تميزاً ذاتياً وهي ثابتة في العلم لم تشم رائحة الوجود ولا تشمه أبداً لكن تظهر أحكامها في الوجود المفاض وهو النور المضاف ويسمى العماء والحق المخلوق به وهؤلاء هم المشهورون بأهل الوحدة، ولعل القول الذي نقلناه عن بعض الحكماء المتألهين يرجع إلى قولهم وهو طور ما وراء طور العقل وقد ضل بسببه أقوام وخرجوا من ربقة الإسلام، وبالجملة إن القول بأن حقيقة الواجب تعالى غير معلومة لأحد علماً اكتناهياً احاطياً عقلياً أو حسياً مما لا شبهة عندي في صحته وإليه ذهب المحققون حتى أهل الوحدة، والقول بخلاف ذلك المحكى عن بعض المتكلمين لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلاً، ولا أدري هل تمكن معرفة الحقيقة أولا تمكن ولعل القول بعدم إمكانها أوفق بعظمته تعالى شأنه وجل عن إحاطة العقول سلطانه، وأما شهود الواجب بالبصر ففي وقوعه في هذه النشأة خلاف بين أهل السنة وأما في النشأة الآخرة فلا خلاف فيه سوى أن بعض الصوفية قالوا‏:‏ إنه لا يقع إلا باعتبار مظهر ما وأما باعتبار الإطلاق الحقيقي فلا، وأما شهوده سبحانه بالقلب فقد قيل بوقوعه في هذه النشأة لكن على معنى شهود نوره القدسي ويختلف ذلك باختلاف الاستعداد لا على معنى شهود نفس الذات والحقيقة ومن ادعى ذلك فقد اشتبه عليه الأمر فادعى ما ادعى‏.‏

هذا ومن الناس من قال‏:‏ لا مانع من أن يراد من ‏{‏حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ حق معرفته ويراد من حق معرفته المعرفة بالكنه وكونها غير حاصلة لأحد مؤمناً كان أو غيره لا يضر فيما نحن فيه لأن المراد إثبات عظمته تعالى المنافية لما عليه المشركون وكونه سبحانه لا يعرف أحد كنه حقيقته يستدعي العظمة على أتم وجه فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق للصواب‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لَقَوِىٌّ‏}‏ على جميع الممكنات ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة، والجملة في موضع التعليل لما قبلها‏.‏