فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً‏}‏ أي دماً جامداً وذلك بإفاضة اعراض الدم عليها فتصيرها دماً بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف ‏{‏فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً‏}‏ أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجراً وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلاً للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد ‏{‏فَخَلَقْنَا المضغة‏}‏ غالبها ومعظمها أو كلها ‏{‏عظاما‏}‏ صغاراً وعظاماً حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاماً من المضغة؛ وهذا أيضاً تصيير بحسب الوف فيكون من الباب الأول‏.‏

وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالاعراض كالحمرة والبياض مثلاً وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما تلاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالإعراض‏.‏

والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر ‏{‏فَكَسَوْنَا العظام‏}‏ المعهودة ‏{‏لَحْماً‏}‏ أي جعلناه ساتراً لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاماً بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحماً آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم‏.‏

وجمع ‏{‏العظام‏}‏ دون غيهرا مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقاً على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظماً وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو بكر عن عاصم‏.‏ وأبان‏.‏ والمفضل‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وهرون والجعفي‏.‏ ويونس عن أبي عمرو، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد ‏{‏العظام‏}‏ في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله‏:‏ كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ وقتادة أيضاً‏.‏ والأعرج‏.‏ والأعمش‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني‏.‏

وقرأ أبو رجاء‏.‏ وإبراهيم بن أبي بكر‏.‏ ومجاهد أيضاً بجمع الأول وإفراد الثاني ‏{‏ثُمَّ أنشأناه خَلْقاً ءاخَرَ‏}‏ مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيواناً ناطقاً سميعاً بصيراً وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، ومن هنا قيل‏:‏ وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة‏.‏ والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقاً آخر، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوثها بعد حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه، وقيل‏:‏ الخلق الآخر القوي الحساسة، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد‏:‏ الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له‏:‏ أليس يولد وعلى رأسه الشعر‏؟‏ فقال‏:‏ فأين العانة والإبط، وما أشرنا إليه من كون ‏{‏ثُمَّ‏}‏ للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى‏.‏ وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبضعها بالفاء ولم يجيء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلاً أ رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جداً وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دماً أحمر جامداً بخلاف جعل الدم لحماً مشابهاً له في اللون والصورة وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظماً وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال‏.‏

واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أنشأناه‏}‏ الخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر، قال في «الكشف»‏:‏ وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم، وقال «صاحب التقريب»‏:‏ إن تضمينه للفرخ لكونه جزاءاً من المغصوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة‏.‏

وقال الإمام‏:‏ قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام‏:‏ إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء، وعلى بطلان قول الفلاسفة‏:‏ إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولاخارجة ‏{‏فَتَبَارَكَ الله‏}‏ فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة، و‏{‏تبارك‏}‏ فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والاشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من أرثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالاً وإعظاماً لشؤونه جل وعلا ‏{‏أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ نعت للاسم الجليل، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفاً إذا أضيف إلى معرفة على الأصح‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ لا يجوز أن يكون نعتاً لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن من وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلاً وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقاً فالحسن للخلق قيل‏:‏ نظيره قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى جميل يحب الجمال» أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً فاستتر، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ وقول زهير‏:‏ ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير‏.‏ والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجود لها استقلالاً فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم‏.‏

ومن حسن خلقه تعالى اتقانه وأحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلاً من حيث أنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى‏.‏

روى أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً‏}‏ نطق عبد الله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله‏}‏ الخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ هكذا نزلت فقال عبد الله‏:‏ إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة كافراً ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل‏:‏ ما كافراً‏.‏ وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية‏.‏

وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلى الله عليه وسلم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله‏:‏ إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64-77‏]‏ قصوراً فتذكر‏.‏ وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل‏.‏ أخرج ابن راهويه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني في «الأوسط»‏.‏ وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «أملى على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلْقاً ءاخَرَ‏}‏ فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ‏:‏ مم ضحكت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بها ختمت» ورويت أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج الطبراني‏.‏ وأبو نعيم في فضائل الصحابة‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ فنزلت كما قال‏.‏ وأخرج ابن عساكر‏.‏ وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل‏:‏ قصائد إن تكن تتلى على ملاء *** صدورها علمت منها قوافيها

لا يقال‏:‏ فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك‏}‏ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازاً منزلاً منزلة الأمور الحسية ‏{‏لَمَيّتُونَ‏}‏ أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن واللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وابن محيصن ‏{‏لمايتون‏}‏ وهو اسم فاعل يراد به الحدوث، قال الفراء‏.‏ وابن مالك‏:‏ إنما يقال مايت في الاستقبال فقط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ عند النفخة الثانية ‏{‏تُبْعَثُونَ‏}‏ من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأ خلقاً آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسياً منسياً مسقراً في رحم العدم كأن لم يكن شيئاً، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأنقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الاتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في جملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه، وقيل في ذلك‏:‏ إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حياً عاقلاً سميعاً بصيراً وكان ذلك مستدعياً لذكر طور يقه فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ‏}‏ فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل‏:‏ أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشروق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لاثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى، وفيه من البعد ما فيه‏.‏

وقيل‏:‏ إنما بولغ في القرينة الأولى التمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها، قال الطيبي‏:‏ هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق، وربما يقال‏:‏ إن شدة كراهة الموت طبعاً التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه، وأما البعث فمن حيث أنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث أنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيداً واحداً‏.‏

وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيهاً في نفسه، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ‏}‏ بيان لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم، وقيل‏:‏ استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم ‏{‏سَبْعَ طَرَائِقَ‏}‏ هي السموات السبع، و‏{‏طَرَائِقَ‏}‏ جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل‏.‏ والفراء‏.‏ والزجاج، فهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طِبَاقاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب، وقيل‏:‏ جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السموات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها، وقيل‏:‏ سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك ‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق‏}‏ أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السموات السبع ‏{‏غافلين‏}‏ مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة، ويجوز أن يراد بالخلق الناس، والمعنى أن خلقنا السموات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السموات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها، والإظهار في مقام الاضمار للاعتناء بشأنه، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء‏}‏ هو المطر عند كثير من المفسرين، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء، وكان الظاهر على هذا منها بدل ‏{‏السماء‏}‏ ليعود الضمير على الطرئق إلا أنه عدل عنه إلى الاضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ صفة ‏{‏مَاء‏}‏ أي أنزلنا ماء متلبساً بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم، وجوز على هذا أن يكون في موضع الحال من الضمير، وقيل‏:‏ هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالاً متلبساً بذلك، وقيل‏:‏ في الجار والمجرور غير ذلك ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض‏}‏ أي جعلناه ثابتاً قاراً فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلاً فيه من حيث الفاعلية‏.‏

وقال ابن سينا في نجاته‏:‏ هذه الأبحرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيوناً أمدت البحار بصب الأنهاء إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانياً إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائماً‏.‏ وما في الآية يؤيد مال ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر‏:‏ إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة ألاهوية والأبخرة المنخصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد برداً منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلاً، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سبباً تاماً وأما على أنها لا مدخل لها أصلاً فلا‏.‏ والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقالات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين، وقيل‏:‏ المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«أنزل الله تعالى من الجنة إلى الألاض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ‏.‏ ودجلة والفرات‏.‏ وهما نهرا العراق‏.‏ والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض‏}‏ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ لقادرون‏}‏ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة» ولا يخفي على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه‏.‏ والخطيب بسند ضعيف، نعم حديث «أربعة أنهار من الجنة سيحان‏.‏ وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهر الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله عبد البر والفرات‏.‏ والنيل» صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك‏.‏ وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وأنت تعلم أن الأوفق بالاخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر‏.‏

‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ‏}‏ أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك ‏{‏لقادرون‏}‏ كما كنا قادين على إنزاله، فالجملة في موضع الحال‏.‏ وفي تنكير ‏{‏ذَهَابٍ‏}‏ إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجهاً للأبلغية، الأول أن ذلك على الفرض والتقدير، وهذا الجزم على معنى أنه أدلة على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع‏.‏ الثاني التوكيد بأن‏.‏ الثالث اللام في الخبر‏.‏ الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم‏.‏ الخامس أن الغائر قد يكون باقياً بخلاف الذاهب‏.‏ السادس م في تنكير ‏{‏ذَهَابٍ‏}‏ من المبالغة‏.‏ السابع اسناده ههنا إلى مذهب بخلافه ثمت حيث قيل ‏{‏غَوْرًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏‏.‏ الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة‏.‏ الناسع ما في ‏{‏قَادِرُونَ‏}‏ من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ‏.‏ العاشر ما في جمعه‏.‏ الحادي عشر ما في لفظ ‏{‏بِهِ‏}‏ من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب باطماه وهنالك ذكر الاتيان المطمع‏.‏

الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي‏.‏ الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتاً وغيره‏.‏ الخامس عشر ما في لفظ ‏{‏أَصْبَحَ‏}‏ من الدلالة على الانتقال والصيرورة‏.‏ السادس عشر أن الاذهاب ههنا مصرح به‏.‏ وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام‏.‏ السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه ههنا‏.‏ الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكداً‏.‏ ثم قال‏:‏ هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم اه‏.‏ وفي النفس من عد الأخير وجهاً شيء‏.‏

وقد يزاد على ذلك فيقال‏:‏ التاسع عشر اخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك‏.‏ العشرون عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك‏.‏ الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالاً كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت‏.‏ الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر العاصرين سلاف التحقيق من كلام أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال‏:‏ الثالث والعشرون تضمين الايعاد هنا إيعادهم بالأبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك‏.‏ الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معيناً هناك بخلافه في ‏{‏إِنْ أَصْبَحَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصاً‏.‏ الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل‏.‏ السادس والعشرون ان الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك‏.‏ السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة‏.‏ الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفاً في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الأصباح غوراً إلى الماء ومعلوم إن الماء لا يصبح غوراً بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضاً احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه‏.‏ التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالاً بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان ‏{‏ءانٍ‏}‏ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون‏.‏ الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه ‏{‏إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه‏.‏

واختيرت المبالغة ههنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدىء بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما ثمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف‏:‏ المراد أنشأنا عنده ‏{‏جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب‏}‏ قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة ‏{‏لَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الجنات ‏{‏فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏ تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب‏.‏

‏{‏وَمِنْهَا‏}‏ أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول ‏{‏تَأْكُلُونَ‏}‏ والمراد بالأكل معناه الحقيقي‏.‏

وجوز أن يكون مجازاً أو كناية عن التعيش مطلقاً أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكن في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتهما جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما‏.‏

وذكر الراغب في الفاكهة قولين‏:‏ الأول أنها الثمار كلها، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان، وصاحب القاموس اختار الأول وقال‏:‏ قول مخرج التمر والرمان منها مستدلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ باطل مردود، وقد بينت ذلك مبسوساً في اللامع المعلم العجاب اه؛ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافاً في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثري ونحوها لا العنب والرمان والرطب، وقال صاحباه‏:‏ المستثنيات أيضاً فاكهة وعليه ال فتوى، ولا خلاف كما في القهستاني نقلاً عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة‏.‏

وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفاً ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي، ولا يخفى أن شيئاً واحداً يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه اه، ثم إني لم أر أحداً من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَشَجَرَةً‏}‏ بالنصب عطف على ‏{‏جنات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 19‏]‏، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والأولى تقديره مقدماً أي أنشأنا لكن شجرة ‏{‏تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء‏}‏ وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وابلة، ويقال لها اليوم العقبة، وقيل بفلسطين من أرض الشام، ويقال له طور سينين، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد‏.‏ وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأكثر السبعة وهو اسم للبقعة‏.‏ والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى ‏{‏سَيْنَاء‏}‏ كما أجمعوا عليه‏.‏ ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت، وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد‏.‏

وجوز أن يكون كامرىء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علماً على ذلك العلم، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده‏.‏ وروي هذا عن مجاهد‏.‏ وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر‏.‏ وقيل هو اسم الجبل‏.‏ والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد‏.‏

وحكى هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء، وقيل‏:‏ منع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل‏:‏ للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادراً كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء، والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو أمانبطي أو حبشي واصل معناه الحسن أو المبارك، وجوز بعض أن يكون عربياً من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء‏.‏ ورد بأن القائل بذلك يقول إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو، وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والحسن ‏{‏سَيْنَاء‏}‏ بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضاً ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث‏.‏ وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للالحاق بفعلال كعلباء وحرباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما، وقال أبو البقاء‏:‏ همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس، وقرأ الأعمش ‏{‏سينا‏}‏ بالفتح والقصر، وقرىء ‏{‏سينا‏}‏ بالكسر والقصر فألفه للتأنيث أن لم يكن أعجمياً، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصها بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة‏.‏

وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيراً، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله‏:‏ لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة‏.‏ وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضاً وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها عليها ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها، ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحاً لها باعتبار مكانها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيْنَاء تَنبُتُ بالدهن‏}‏ مدحاً لها باعتبار ما هي عليه في نفسها، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك‏:‏ جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم‏.‏ والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة‏.‏

وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك‏:‏ ذهبت بزيد كأنه قيل‏:‏ تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله‏.‏ ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وسلام‏.‏ وسهل‏.‏ ورويس‏.‏ والجحدري ‏{‏تُنبِتُ‏}‏ بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الأفعال، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير‏:‏ رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل

وأنكر ذلك الأصمعي وقال‏:‏ إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون، ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال‏:‏ التقدير تنبت زيتونها بالدهن، والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير المستتر في الفعل؛ وقيل‏:‏ الباء زائدة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي‏:‏ ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والزهري‏.‏ وابن هرمز ‏{‏تُنبِتُ‏}‏ بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنياً للمفعول، والجار والمجرور في موضع الحال، وقرأ زر بن حبيش ‏{‏تُنبِتُ‏}‏ من الأفعال ‏{‏الدهن‏}‏ بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك‏.‏ والأشهب ‏{‏بالدهان‏}‏ جمع دهن كرماح جمع رمح، وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير على ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور‏.‏

‏{‏بالدهن وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ‏}‏ معطوف على الدهن، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين وقد جاء كثيراً تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين، ومنه قوله‏:‏ إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرح منه وكونه إداماً يصبغ فيه الخبز أي يغمس للائتدام قال في المغرب يقال‏:‏ صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الأدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت، وظاهر هذا اختصاصه بكل ادام مائع وبه صرح في المصباح‏.‏ وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز، ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه‏.‏ وروي عن مقاتل أنه قال‏:‏ الدهن الزيت والصبغ والزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتاً وهو الأكثر في العطف، ولا بد أن يقال عليه إن الصبغ الادام مطلقاً وهو ما يؤكل تبعاً للخبز في الغالب مائعاً كان أم جامداً والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعاً للخبز والأغنياء يأكلونه تبعاً لنحو الأرز وقلما يأكلونه تبعاً للخبز، وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيراً ما آكله تبعاً واستقلالاً، وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاماً هو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم‏.‏ وقد كنت قديماً تعافه نفسي وتدريجاً ألفته والحمد لله تعالى، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكله‏.‏ وصح أنه صلى الله عليه وسلم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه، وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام» وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً «كلوا الزيت واذهبوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» لكن قال بعضهم‏:‏ هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضربه كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الادهان به قد يضر كالأكل، قال ابن القيم‏:‏ الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى‏.‏

وقرأ عامر بن عبد الله ‏{‏وصباغا‏}‏ وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ‏.‏ ونصبه بالعطف على موضع ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعاً للآكلين وهو محمول على التفسير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانعام لَعِبْرَةً‏}‏ بيان للتعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه‏.‏ وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا‏}‏ تفصيل لما فيها من مواقع العبرة‏.‏ وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلق الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها‏.‏ وأياً ما كان فضمير ‏{‏بُطُونِهَا‏}‏ للانعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على الاستخدام لأن عموم ما بعده يأباه، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ‏}‏ غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام مالا يؤكل‏.‏ وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في ‏{‏تَأْكُلُونَ‏}‏ من الدلالة على العادة المستمرة‏.‏ وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها‏.‏ ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازاً أو كناية عن التعيش مطلقاً كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم‏.‏ وضمير ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ للانعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضاً‏.‏ ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحه‏:‏ سفينة بر تحت خدي زمامها *** وهذا مما لا بأس به‏.‏ وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الابل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل، قيل‏:‏ وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ‏}‏ شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش‏.‏

وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، وفي إيرادها إثر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 22‏]‏ من حسن الموقع ما لا يوصف، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين ‏{‏فَقَالَ‏}‏ متعطفاً عليهم ومستميلاً لهم إلى الحق ‏{‏يَابَنِى إسراءيل اعبدوا الله‏}‏ أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة ‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأساً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها، و‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل بلكم أو مبتدأ خبره ‏{‏لَكُمْ‏}‏ أو محذوف ودلكم‏}‏ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى‏.‏ وقرىء ‏{‏‏}‏ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى‏.‏ وقرىء ‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ بالجر اعتباراً للفظ ‏{‏إِلَهٍ‏}‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فضلاً عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الإتقاء مع تحقق ما يوجه، ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذٍ في الكمية وفي الأول في الكيفية، وتقدير مفعول ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالَ الملؤا‏}‏ أي الأشراف ‏{‏الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ‏}‏ وصف الملأ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول‏:‏ ‏{‏مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ وقال الخفاجي‏:‏ يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافاً؛ وأما قول‏:‏ ‏{‏مَا نَرَاكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ الخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف، وأياً ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ أي في الجنس والوصوف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ إغضاباً للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراءً لهم على معاداته، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل‏:‏ يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم، وقيل‏:‏ صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل‏:‏ يريد كمال الفضل عليكم ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلاً من الملائكة، وإنما قيل ‏{‏لاَنزَلَ‏}‏ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏ ولا بأس في ذلك، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمراً غريباً وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقاً فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن، وعلى هذا يجوز أن يقال‏:‏ التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 50‏]‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ‏}‏ بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضاً وذلك بناءً على أن ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول، وقيل‏:‏ الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه؛ ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد، وأياً ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادىء دعوته عليه السلام كما ينبىء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ الملا‏}‏ الخ‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته، وقيل‏:‏ إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبياً لكان له ذكر في آبائنا الأولين، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل‏:‏ بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر، وعليهما أيضاً يكون قولهم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما هو ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ بِهِ‏}‏ فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ لعله يفيق مما هو فيه محمولاً على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلاً وأرزنهم قولاً، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل‏؟‏ فقيل‏:‏ قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏رَبّ انصرنى‏}‏ بإهلاكهم بالمرة بناءً على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ الخ، والباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ وحاصله انصرني بإنجاز ذلك، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏.‏ وابن محيصن ‏{‏رَبّ‏}‏ بضم الباء ولا يخفى وجهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ‏}‏ عقيب ذلك، وقيل‏:‏ بسبب ذلك ‏{‏أَنِ اصنع الفلك‏}‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة لما في الوحي من معنى القول ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ملتبساً بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من الزيغ في الصنع ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏ وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ بيان وتفسير لمجىء الأمر‏.‏ روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معكم وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا‏.‏ واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل‏:‏ كان في عين وردة من الشام، وقيل‏:‏ بالجزيرة قريباً من الموصل، وقيل‏:‏ التنور وجه الأرض، وقيل‏:‏ فار التنور مثل كحمى الوطيس، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ بطلع الفجر فقيل‏:‏ معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد، وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك‏.‏

‏{‏فاسلك فِيهَا‏}‏ أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏مِن كُلّ‏}‏ أي من كل أمة ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اثنين‏}‏ فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين‏.‏

وقرأ أكثر القراء من ‏{‏كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ بالإضافة على أن المفعول ‏{‏اثنين‏}‏ أي لسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة‏.‏ روي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئاً منه، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر‏.‏ والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك، وفي سورة ‏[‏هود‏:‏ 04‏]‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناءً بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكى على صورة التنجيز ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ قيل عطف على ‏{‏اثنين‏}‏ على قراءة الإضافة وعلى ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ على قراءة التنوين، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على ‏{‏فاسلك‏}‏ أي واسلك أهلك، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وعلى هذا يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ‏}‏ استثناء منقطعاً، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذٍ يكون الاستثناء متصلاً كما كان هناك، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم، والمراد بالقول القول بالإهلاك، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا، وجىء بعلى لكون السابق ضاراً كما جىء باللام في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ لكون السابق نافعاً ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ تعليل للنهي أو لما ينبىء عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي أنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ‏}‏ من أهلك وأتباعك ‏{‏عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين‏}‏ فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم، وقال الخفاجي‏:‏ إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله‏.‏

وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث أنها مصيبة وهو ظاهر، وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إشارة إلى أنه نعمة عليه أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى‏}‏ في الفلك ‏{‏مُنزَلاً‏}‏ أي إنزالاً أو موضع إنزال ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ يتسبب لمزيد الخير في الدارين ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين‏}‏ أي من يطلق عليه ذلك، والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة، وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة، وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح‏.‏ وروى جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلاً الخ، وأخذ منه قتادة ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها ‏{‏رَّبّ أَنزِلْنِى‏}‏ الخ، واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الاستواء، وأعاد ‏{‏قُلْ‏}‏ لتعدد الدعاء، والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة‏.‏

وأمره عليه السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عز وجل توسلاً به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعياً لإحسانه‏.‏ وقد قالوا‏:‏ الثناء على الكريم يغني عن سؤاله، وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء لإظهار فضله عليه السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من الله تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عز وجل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه السلام وثنائه مندوحة عما عداه‏.‏

وقرأ أبو بكر‏.‏ والمفضل‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وأبان ‏{‏مُنزَلاً‏}‏ بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏مُنزَلاً‏}‏ بفتح الميم وكسر الزاي‏.‏ قال أبو علي‏:‏ يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدراً وأن يكون موضع نزول‏.‏