فصل: تفسير الآية رقم (190)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏190‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته فالسبيل بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ أي يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا على ما روي عن أبي العالية قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المناجزين والمحاجزين فيكون ذلك حينئذ تعميماً بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقرراً لمنطوقه ناسخاً لمفهومه أي لا تقاتلوا المحاجزين وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ معناه الذين يناصبونكم القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم عن المشايخ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل‏:‏ المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويؤيد الأول ما أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القصاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية، وجعل ما يفهم من الأثر وجهاً رابعاً في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو لا تعتدوا بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏191‏]‏

‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏‏}‏

‏{‏واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه‏:‏

فإما ‏{‏يثقفهن‏}‏ بني لوى *** جذيمة أن قتلهم دواء

وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملاً كان أو علماً ويستعمل كثيراً في مطلق الإدراك، والفعل منه ثقف ككرم وفرح ‏{‏ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل‏:‏ إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ أي شركهم في الحرم أشد قبحاً فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها، ومن هنا قيل‏:‏

لقتل بحد سيف أهون موقعا *** على النفس من قتل ‏(‏بحد فراق‏)‏

والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقتلوهم‏}‏ الخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ‏}‏ الخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه، وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية‏.‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏ نهي للمؤمنين أن يبدءوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدءون، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سبباً لحصولها، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه‏.‏

‏{‏فَإِن قاتلوكم فاقتلوهم‏}‏ نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي ‏(‏ولا تقتلوهم حتي يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم‏)‏ واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له‏:‏ أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره‏؟‏ا فقال حمزة إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا‏:‏ قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا‏:‏ ضربنا، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلاً، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم‏}‏ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحداً منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم‏.‏

ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في ‏(‏لا تقاتلوهم‏)‏ لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر‏.‏

‏{‏كذلك جَزَاء الكافرين‏}‏ تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والكافرين إما من وضع المظهر موضع المضمر نعياً عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولاً أولياً‏.‏ والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏192‏]‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل لقرينة ذكر الأمرين ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في «البحر» على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏193‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ عطف على ‏{‏وَقَاتِلُواْ الذين يقاتلونكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 190‏]‏ والأول مسوق لوجوب أصل القتال وهذا لبيان غايته، والمراد من الفتنة الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6 1‏]‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدين للَّهِ‏}‏ أي خالصاً له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة كله كما في آية الأنفاللأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموماً فناسب العموم هناك وتركه هنا ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك والفاء للتعقيب ‏{‏فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه والتقدير‏:‏ فان انتهوا وأسلموا فلا تعتدوا عليهم لأن العدوان على الظالمين والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن العدوان واقع على غير الظالمين، والمراد من العدوان العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدواناً من حيث كان عقوبة للعدوان وهو الظلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 0 4‏]‏ وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلماً لأنه وإن كان عدلاً من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل‏:‏ لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل ‏{‏فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ بمعنى فلا عدوان على غير الظالمين المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول‏:‏ يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائداً، وعلى التقدير الثاني‏:‏ يصير المكنى عنه من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى‏:‏ الظالمين المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل‏:‏ فان انتهوا عن الشرك فلا عدوان إلا على المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين، ويؤل المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء، وجعل المذكور علة له على معنى‏:‏ فإن انتهوا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدوا عليكم لأن العدوان لا يكون إلا على الظالمين أو فإن انتهوا يسلط عليكم من يعدوا عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيروتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالاً خفيفاً بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته‏.‏ فقيل‏:‏ هذا الشهر الحرام بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قصاص أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل‏:‏ لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداءاً بالغلبة، فإن الحرمات يجري فيها القصاص فالصد قصاصه العنوة فإن قاتلوكم فاقتلوهم‏.‏

‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفاداً منه لأن الأول‏:‏ يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلاً بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفاً بالفاء والأمر للإباحة إذا العفو جائز ومَنْ تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني‏:‏ تكون الفاء صلة في الخبر والباء تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح؛ واستدل بها أيضاً على أن من غصب شيئاً وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة كما في ذوات الأمثال وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه ‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ بالنصر والعون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ عطف على ‏{‏قَاتَلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 190‏]‏ أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهياً عن ضدهما تأكيداً لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن أبي عمران قال‏:‏ كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس‏:‏ ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال‏:‏ أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وأنفقوا الخ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ التهلكة الإسراف في الانفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالانفاق تحرياً للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في «الشعب» عن الحسن أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكداً للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس الخطر والهلاك، فيكون لكلام متعلقاً بـ ‏{‏قَاتَلُواْ‏}‏ نهياً عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل‏:‏ له ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ هو الرجل يلقي العدو فيقاتل حتى يقتل، قال‏:‏ لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول‏:‏ لا يغفر الله تعالى لي أبداً وروي مثله عن عبيدة السلماني وعليه يكون متعلقاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 192‏]‏ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم وتصحيحه لا يوثق به وظاهر اللفظ العموم والإلقاء تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ من عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس‏:‏

حتى إذا ‏(‏ألقت‏)‏ يداً في كافر *** وأجن عورات الثغور ظلامها

وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء والباء مزيدة في المفعول تأكيد معنى النهي، لأن ألقى يتعدى كما في ‏{‏فألقى موسى عصاه‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5 4‏]‏ وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد بالأيدي الأنفس مجازاً، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل‏:‏ يحتمل أن تكون زائدة والأيدي بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة والأيدي أيضاً على حقيقتها ويكون المفعول محذوفاً أي‏:‏ لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة وفائدة ذكر الأيدي حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتهلكة مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة بضم العين إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب تضرة وتسرة أيضاً بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها تهلكة بكسر اللام مصدر هلك مشدداً كالتجربة والتبصرة فأبدلت الكسرة ضمة وفيه أن مجيء تفعلة بالكسر من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال الكسرة بالضم من غير علة في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار مضموم الجيم في جوار مكسورها ليس بشيء إذ ليس ذلك نصاً في الإبدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال مضموم الفاء شذوذاً يؤيده ما في «الصحاح» جاورته مجاورة وجواراً وجواراً والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التهلكة والهلاك بأن الأول‏:‏ ما يمكن التحرز عنه، والثاني‏:‏ ما لا يمكن، وقيل‏:‏ الهلاك مصدر والتهلكة نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ أي بالعود على المحتاج قاله عكرمة وقيل‏:‏ أحسنوا الظن بالله تعالى وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ ويثيبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

تِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الاتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقاً يوجب المضيّ في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناءاً على أن الأمر بالاتمام مطلقاً يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ليس بشيء لأن الأمر بالاتمام يقتضي سابقية الشروع الأمر بالاتمام مقيداً بالشروع، وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة ‏(‏وأقيموا الحج والعمرة‏)‏ ليس بسديد‏.‏ أما أولاً‏:‏ فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجهاً إلى القيد أعني تامين لا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بيعوا سواء بسواء ‏"‏ وأما ثانياً‏:‏ فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب أعني طلب الفعل والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة، فقد أخرج الشافعي في «الأم» وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الحج جهاد والعمرة تطوع ‏"‏ وأخرج الترمذي وصححه عن جابر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا، وأن تعتمروا خير لكم ‏"‏ ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عند ابن أبي شيبة وعبد بن حميد‏:‏ ‏"‏ الحج فريضة والعمرة تطوع ‏"‏ وأخرج ابن أبي داود في «المصاحف» عنه أيضاً أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول‏:‏ والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لقلت‏:‏ إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئاً فيه ولعله سمع ما يخالفه ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه؛ وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفاً إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملاً في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان على ما وهم والقول بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخاً لها سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخاً للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عن التعارض‏.‏

ثم إن هذا الذي ذكرناه وإن لم يكن مبطلاً لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جداً، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» وأخرج أبو داود، والنسائي أن رجلاً قال لعمر‏:‏ إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً فقال‏:‏ هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالاً بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن أهللت بهما جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداءاً ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل‏:‏ فما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الاهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الاتمام لأن كون الشروع في الشيء موجباً لاتمامه، لا يقال فيه أنه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات فأهللت بالفاء الدالة على الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ‏:‏ ‏(‏وأقيموا‏)‏ أيضاً كما رواه عنه ابن جرير وغيره، وكذا ابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى، والانصاف تسليم تعارض الاخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلاً للشافعية ومن وافقعهم كالإمامية علينا، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الاحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7 9‏]‏ ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططاً وقال غلطاً كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهماعن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج؛ وقيل‏:‏ إتمامهما أن تكون النفقة حلالاً، وقيل‏:‏ أن تحدث لكل منهما سفراً، وقيل‏:‏ أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ونحوها، وقرىء ‏(‏إلى البيت، و‏(‏ للبيت‏)‏ والأول‏:‏ مروي عن ابن مسعود، والثاني‏:‏ عن عليّ كرم الله تعالى وجهه‏.‏

‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقاً، وليس الحصر مختصاً بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف كما توهم الزجاج من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال‏:‏ حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكراراً ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازاً وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك، والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل‏.‏ وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال‏:‏ «أهلّ رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال‏:‏ ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة‏:‏ كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول‏:‏ فستعلم ما فيه، وأما الثاني‏:‏ فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالاً، والقول بأن أحصرتم ليس عاماً إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه إن لم يكن عاماً لكنه مطلق فيجري على إطلاقه‏.‏

وأما الثالث‏:‏ فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه قال‏:‏ يقول‏:‏ «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى‏:‏ عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول بأن حديث الحجاج ضعيف ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا‏:‏ صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة‏:‏ ‏"‏ حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني ‏"‏ لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والهدي مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية كجدي وجدية وقرىء ‏(‏هدي‏)‏ بالتشديد جمع هدية كمطي ومطية وهو في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له‏:‏ أو ما يكفيه شاة‏؟‏ فقال‏:‏ لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ‏}‏ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى‏:‏

‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏هَدْياً بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5 9‏]‏ وما روي من ذبحه صلى الله عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون‏:‏ إن محصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر في الحرم وكون الرواية عنه ليس بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلاً كان أو حرماً وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاماً للمحصر وغيره بناءاً على عطف ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ‏}‏ على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ‏}‏ لا على ‏{‏فَمَا استيسر‏}‏ يقتضي بتر النظم لأن ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ كما لا يخفى‏.‏ والمحل بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان كما يقال محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله‏.‏

‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ‏}‏ متفرع عليه ‏{‏أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ‏}‏ من جراحة وقمل وصداع ‏{‏فَفِدْيَةٌ‏}‏ أي فعلية فدية إن حلق‏.‏ ‏{‏مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ بيان لجنس الفدية‏.‏ وأما قدرها فقد أخرج في «المصابيح» عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال‏:‏ أيؤذيك هوامك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاحلق رأسك وأطعم فرقاً بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة ‏"‏ وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة‏؟‏ فقال‏:‏ لا قال‏:‏ صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك ‏"‏

وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس وهو مذهب الإمام مالك‏.‏

‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ من الأمن ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداءاً بطريق الدلالة والفاء للعطف على ‏{‏أُحْصِرْتُمْ‏}‏ مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرىء‏:‏ آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه‏.‏

‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج‏}‏ الفاء واقعة في جواب ‏(‏إذا‏)‏ والباء وإلى صلة التمتع، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل‏:‏ الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محذورات الاحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقاً، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القران وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة‏.‏

‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ الفاء واقعة في جواب ‏(‏مَنْ‏)‏ أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم الحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثمّ لا يجب على المكي ومن في حكمه، ويذبحه إذا أحرم بالحج ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكراً للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر‏.‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ أي الهدي وهو عطف على ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج‏}‏ أي فعليه صيام وقرىء ‏(‏فصيام‏)‏ بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفاً له، فقال أبو حنيفة‏:‏ المراد في وقت الحج مطلقاً لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أو لا، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدى بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي‏:‏ المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعة لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهياً فيها، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجاً بما أخرجه ابن جرير‏.‏

والدارقطني‏.‏ والبيهقي عن ابن عمر قال‏:‏ رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها، وأخرج مالك عن الزهري قال‏:‏ «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال‏:‏ إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب، وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ لم يرخص صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هدياً، وبذلك أحد الإمام مالك ولعل سادتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا‏:‏ إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعاً والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل؛ وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة‏.‏

‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ أي فرغتم ونفرتم من أعماله، فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من منى، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما هو الأصح عند معظم أصحابه‏:‏ إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطناً حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن، وفي «البحر» المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه عند بعض والفراغ بالوصول إليهم عند آخرين وفي الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل على لفظه في إفراده وغيبته؛ وقرىء ‏{‏سَبْعَةُ‏}‏ بالنصب عطفاً على محل ‏{‏ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ لأنه مفعول اتساعاً، ومن لم يجوزه قدر وصوموا وعليه أبو حيان‏.‏

‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ الإشارة إلى الثلاثة، والسبعة ومميز العدد محذوف أي أيام وإثبات التاء في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في «شرح الكتاب» على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطاً فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة «إعجاز القرآن»، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم علمان خير من علم لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام والإيذان بأن المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت‏:‏ ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر‏؟‏ أجيب بأنها لما كانت بدلاً عن الهدى والبدل يكون في محل المبدل منه غالباً جعل الثلاثة بدلاً عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير،  ولم يجعل السبعة فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت العشرة بأنها كاملة فكأنه قيل‏:‏ تلك عشرة كاملة في وقوعها بدلا من الهدى وقيل‏:‏ إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها، وقيل‏:‏ إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحد مبتدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد مجذور، والخمس أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين‏.‏

وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه لكنها عشرة غير كاملة ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ‏}‏ عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه باسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقياً لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبوراً بالدم، والمكي لا يجب إحرامه في الميقات فاقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى بعلى دون اللام في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏ لأن الهدى وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاووس، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل‏:‏ أن يسكن حيث أهله ساكنون، وللمسجد الحرام إطلاقان، أحدهما‏:‏ نفس المسجد، والثاني‏:‏ الحرم كله، ومنه قوله سبحانه‏:‏

«سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام» ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ بناءاً على أنه صلى الله عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولاً أولياً وبه يتم الانتظام ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة؛ وإضافة شديد من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏‏}‏

‏{‏الحج أَشْهُرٌ‏}‏ أي وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل‏:‏ ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل‏:‏ لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏معلومات‏}‏ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم، وأيد بأنّ يوم النحر وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملاً بظاهر لفظ الأشهر، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز كما قيل تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر على ما روي عن عروة بن الزبير ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك، فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدّ الثلاثة أشهر الحج» وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك‏.‏ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأنّ الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الرازي، وفيه أنّ فوته بفوت ركنه الأعظم وهو الوقوف لا بفوت وقته مطلقاً، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقاً أو وقت إحرامه والشافعي رضي الله تعالى عنه على الأخير والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه على ما قيل كره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن، وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل‏:‏ إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة‏.‏ والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتاً لأداء الرمي والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر وإن كان وقتاً لذلك أيضاً إلا أنه خصص بالعشر اقتضاءاً لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، والأشهر مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فرداً ثم جمع، وقيل‏:‏ إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناءاً على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة لا على اثنين وبعض ثالث، والقول بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم في حكم العدم، وقيل‏:‏ المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى في فيقال‏:‏ رأيته في سنة كذا أو شهر كذا أو يوم كذا وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك ولعله قريب إلى الحق وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجي بالألف والتاء‏.‏

‏{‏فَمَن فَرَضَ‏}‏ أي ألزم نفسه ‏{‏فِيهِنَّ الحج‏}‏ بالإحرام، ويصير محرماً بمجرد النية عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعاً فيه بمجردها كالصوم، وعندنا لا بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسياً كان أو عربياً وفعل كذلك من سوق ‏(‏الهدي‏)‏ أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما إذ لو جاز في غيرها كما ذهب إليه الحنفية لما كان لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ فائدة، وأجيب بأنّ فائدة ذكر ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ كونها وقتاً لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله، فلو قدّم الإحرام انعقد حجاً مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرماً بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده وشرط عندنا فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة، فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»

‏{‏فَلاَ رَفَثَ‏}‏ أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام ‏{‏وَلاَ فُسُوقَ‏}‏ ولا خروج عند حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل‏:‏ بالسباب والتنابز بالألقاب ‏{‏وَلاَ جِدَالَ‏}‏ ولا خصام مع الخدم والرفقة‏.‏ ‏{‏فِي الحج‏}‏ أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإنّ زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنه حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه منهياً عنه مطلقاً فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيآتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأوّلين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي‏:‏ لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أنّ قريشاً كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فيهنّ ووجهه لا يخفى‏.‏

‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ بتأويل الأمر معطوف على ‏{‏فَلاَ رَفَثَ‏}‏ أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات وفيه التفات وحث على الخير عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من العلم إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازاً ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون‏:‏ نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت فالتزوّد بمعناه الحقيقي وهو اتخاذ الطعام للسفر والتقوى بالمعنى اللغوي وهو الاتقاء من السؤال وقيل‏:‏ معنى الآية اتخذوا التقوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول ‏(‏تزوّدوا‏)‏ محذوف بقرينة خبر إن وهو التقوى بالمعنى الشرعي وكان مقتضى الظاهر أن يحمل ‏{‏خَيْرَ الزاد‏}‏ على ‏{‏التقوى‏}‏ فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسنداً، والمطلوب هنا إثبات خير الزاد للتقوى لكونه دليلاً على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خير الزاد وأنتم تطلبون نعته هو التقوى فيفيد اتحاد خير الزاد بها ‏{‏واتقون يأُوْلِي أُوْلِى *الالباب‏}‏ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه على هذا شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏198‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي حرج في ‏{‏ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ‏}‏ أي تطلبوا ‏{‏فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي رزقاً منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج، أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن ذلك فنزلت، واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجراً ولا ينقص ثواباً، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضاً لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال؛ المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح الخ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 0 1‏]‏ وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج‏.‏ وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضاً الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري، وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت‏:‏ إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا قال‏:‏ ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم‏؟‏‏؟‏ قلت بلى قال‏:‏ إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى تزلت ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال‏:‏ «أنتم الحجاج» وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد ابن حميد وابن جرير وغيرهم عنه ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضاً الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات‏}‏ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم‏:‏ إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به وليس بالبعبد و‏{‏أَفَضْتُمْ‏}‏ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا‏.‏

وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة الياء إلى الفاء قبلها فتحركت الياء في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت ألفاً ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية وعرفات موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء‏:‏ ولا واحد له بصحة، وقول الناس نزلنا عرفة شبيه بمولد وليس بعربي محض واعترض عليه بخبر ‏"‏ الحج عرفة ‏"‏ وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل‏:‏ إنه جمع عرفة وعليه صاحب «شمس العلوم»، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم‏:‏ جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة‏:‏ من أنه لو سلم كون عرفة عربياً محضاً فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضاً شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك قاله الجمهور وقال الزمخشري‏:‏ إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفاً، وقول ابن الحاجب‏:‏ إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده الرضي من أن لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظاً أو تقديراً وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر ‏(‏فلما رآه‏)‏ قال‏:‏ قد عرفت، وروي عن عطاء، أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي؛ أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم، وقيل‏:‏ سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعاً عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل‏.‏

‏{‏فاذكروا الله‏}‏ بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل‏:‏ بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب ‏{‏عِندَ المشعر الحرام‏}‏ إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال‏:‏ هذا المشعر الحرام وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عند المشعر يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح، وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع المزدلفة لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه، وعن سعيد بن جبير ما بين جبلي مزدلفة فهو المشعر الحرام ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي مشعراً لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله‏.‏

‏{‏واذكروه كَمَا‏}‏ أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي‏:‏ اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها‏.‏ و‏(‏ ما‏)‏ على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكراً مماثلاً لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملاً تفضي بمعناه إلى مدخولها، وذهب بعضهم إلى أن الكاف للتعليل وأنها متعلقة بما عندها وما مصدرية لا غير أي‏:‏ اذكروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم‏.‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏ أي وإنكم كنتم فخففت ‏(‏إن‏)‏ وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل‏:‏ إن ‏(‏إن‏)‏  نافية، واللام بمعنى إلا ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي الهدى والجار متعلق بمحذوف يدل عليه ‏{‏لَمِنَ الضالين‏}‏ ولم يعلقوه به لأن ما بعد ال الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل‏:‏ اذكروه الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هداكم لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس‏}‏ أي من عرفة لا من المزدلفة والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ‏}‏ الآية ومعناها‏:‏ ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديماً وحديثاً، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم‏}‏ ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة؛ وأتى بِثُم إيذاناً بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأموراً به، والآخر منهياً عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ‏(‏ثم‏)‏ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على فاذكروا ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضاً كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفاً على محذوف أي‏:‏ أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا الخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير‏:‏ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى كما قال الجبائي بقيت كلمة ‏(‏ثم ‏(‏على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من عرفات لأن الحاج إذا إفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر أي من حيث أفاض الناس كلهم قديماً وحديثاً، وقيل‏:‏ المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناساً لأنه كان إماماً للناس، وقيل‏:‏ المراد هو وبنوه، وقرىء ‏(‏الناس‏)‏ بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏ وكلمة ثم على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءاً على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعاً قديماً كذا قيل فليتدبر ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحو ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ للمستغفرين ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم منعم عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكراً على المجاز والمعنى واذكروا الله ذكراً كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ أو على ما أضيف إليه بناءاً على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكراً وإما منصوب بالعطف على ‏{‏ءابَاءكُمْ‏}‏ و‏{‏ذِكْراً‏}‏ من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكراً لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في «البحر» أن يكون ‏(‏أشد‏)‏ نصب على الحال من ذكراً المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له وحسن تأخر ‏{‏ذِكْراً‏}‏ لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكراً أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ‏(‏ذكراً‏)‏ بأن يكون معطوف على ‏(‏كذكركم‏)‏ صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية‏.‏

‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والاكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقاً حجاجاً أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضاً معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2 7‏]‏ وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحاً للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطاً لطالب الدنيا عن ساحة عز الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء ‏(‏الناس‏)‏ على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ الخ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7 20‏]‏ نعم سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، والطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص‏.‏

‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا‏}‏ أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيه فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهاباً إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق‏}‏‏.‏ إخبار منه تعالى ببيان حال هذا الصنف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ؛ والخلاق من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل‏:‏ الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمناً من سابقه تقريراً له وتأكيداً أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال‏:‏ إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، و‏{‏مِنْ‏}‏ صلة، وله خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏‏}‏

‏{‏وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً‏}‏ يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه، أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلاً وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي الاخرة حَسَنَةً‏}‏ فقد قيل هي الجنة، وقيل‏:‏ السلامة من هول الموقف وسوء الحساب، وقيل‏:‏ الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل‏:‏ لذة الرؤية وقيل، وقيل‏.‏‏.‏‏.‏ والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان‏.‏

‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏ أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن‏:‏ احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار، وقال علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ عذاب النار الامرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأخرجا عنه أيضاً أنه قال‏:‏ «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل كنت تدعو الله تعالى بشيء‏؟‏ قال‏:‏ نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه الله تعالى ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏202‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 00 2‏]‏ والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف ههنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل‏:‏ وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ على الأول‏:‏ للتفخيم وعلى الثاني‏:‏ للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 20‏]‏ الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسباً لأنه من الأعمال وقرىء ‏(‏مما اكتسبوا‏)‏‏.‏

‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏ يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 00 2‏]‏ الخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف، أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كماً وكيفاً، ومجازاتهم عليها هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ‏}‏ بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ومعلوماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن ‏{‏ولكن البر مَنِ اتقى‏}‏ شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة ‏{‏وَأْتُواْ‏}‏ هاتيك ‏{‏البيوت مِنْ أبوابها‏}‏ التي تلي الروح، ويدخل منها الحق ‏{‏واتقوا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم‏}‏ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة، ووظائف العبودية‏:‏

فرب مخمصة شر من التخم *** ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 190‏]‏ الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة ‏{‏واقتلوهم‏}‏ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا ‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ‏}‏ عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام‏}‏ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم ‏{‏فاقتلوهم‏}‏ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي

‏{‏كذلك جَزَاء الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ الساترين للحق ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن نزاعهم ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 192‏]‏ ‏{‏وقاتلوهم‏}‏ على دوام الرعاية وصدق العبودية ‏{‏حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ولا يحصل التفات إلى السوي ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ‏}‏ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس ‏{‏فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 19‏]‏ إلا على المجاوزين للحدود ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ الذي قامت به النفس لحقوقها ‏{‏بالشهر الحرام‏}‏ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ فلا تبالوا بهتك حرمتها ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ إلى تهلكة التفريط وأحسنوا ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له، وأتموا حج توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال‏:‏ ‏(‏ما استيسر‏)‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ‏}‏ ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذٍ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ ضعيف الاستعداد ‏{‏أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ‏}‏ أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل برأ ورياضة تقمع بعض القوى ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ من المانع المحصر ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ‏}‏ بذوق تجلي الصفات متوسلاً به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ لضعف نفسه وانقهارها ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج‏}‏ أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء وهي العقل والوهم والمتخيلة ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ‏{‏ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 19‏]‏ من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة‏:‏

‏{‏لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك‏}‏ لـ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 6‏]‏‏.‏ ومن هنا قيل‏:‏ الصوفي بعد الأربعين بارد، نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏ على نفسه بالعزيمة ‏{‏فَلاَ رَفَثَ‏}‏ أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها ‏{‏وَلاَ فُسُوقَ‏}‏ ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت ‏{‏وَلاَ جِدَالَ فِي الحج‏}‏ أي ولا ينازع أحداً في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 3 6‏]‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ‏}‏ من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور ‏{‏يَعْلَمْهُ الله‏}‏ ويثيبكم عليه، ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ‏}‏ من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ وتمامها بنفي السوي ‏{‏واتقون يأُوْلِي أُوْلِى *الالباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7 19‏]‏ فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ‏}‏ حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقاً لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة ‏{‏فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام‏}‏ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعراً لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ إلى ذكره في المراتب ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مّن‏}‏ قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها ‏{‏لَمِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ‏}‏ إلى ظواهر العبادات ‏{‏مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ‏}‏ سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ فقد كان الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ وفرغتم من الحج ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ قبل السلوك ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه ‏{‏فَمِنَ الناس‏}‏ من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها ‏{‏وماله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 00 2‏]‏ في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور؛ ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة ‏{‏النار أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 202‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا الله‏}‏ أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها‏.‏ ‏{‏فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمرو وعلي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 00 2‏]‏ الخ فكأنه قيل‏:‏ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوماً استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من قال‏:‏ يكبر خلف النوافل‏.‏ واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياماً جمع يوم وهو مذكر، ومعدودات واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له، فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة، وكثيراً ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات، وقيل‏:‏ إنه قدر اليوم مؤنثاً باعتبار ساعاته، وقيل‏:‏ إن المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ‏}‏ أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال‏:‏ تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال‏:‏ تعجل الذهاب، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ‏}‏ كما هي كذلك في قوله‏:‏

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون من ‏(‏المستعجل‏)‏ الزلل

لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور العجل لا التعجل مطلقاً، وقيل‏:‏ لأن اللازم يستدعي تقدير ‏(‏في‏)‏ فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما‏:‏ المقدر والثاني‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ بالفعل وذا لا يجوز واليومان يوم القر‏.‏ ويوم الرؤوس‏.‏ واليوم الذي بعده‏.‏ والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب وبعد رمي الجمار عند الشافعية وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا والنفر في أول يوم منها لا يجوز فظرفية اليومين له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يومين إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني، أو في آخر يومين خروج عن مذاق النظر‏.‏

‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ باستعجاله ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ‏}‏ في النفر حتى رمي في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا، وعند الشافعي بعده فقط ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ بما صنع من التأخر، والمراد التخيير بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافاً لصاحب «الإنصاف» وإنما ورد بنفي الإثم تصريحاً بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ خبر لمحذوف واللام إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل المتقي لئلا يتضرر بترك ما يقصده من التعجيل والتأخر لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقاً نظراً إلى عدم المخصص القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة بالمتقي لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من التقوى على التقديرين التجنب عما يؤثم من فعل أو ترك ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال‏:‏ إن الناس يتأوّلونها على غير تأويلها، وهو من الغرابة بمكان‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج ‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث، وأصل الحشر الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل‏.‏