فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ أي ما يتخذونك ‏{‏إِلاَّ هُزُواً‏}‏ على معنى ما يفعلون به إلا اتخاذك هزواً أي موضع هزو أو مهزواً به فهزوا إما مصدر بمعنى المفعول مبالغة أو هو بتقدير مضاف وجملة ‏{‏إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ جواب إذا، وهي كما قال أبو حيان‏.‏ وغيره تنفرد بوقوع جوابها المنفي بأن ولا وما بدون فاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏ مقول قول مضمر أي يقول أهذا الخ‏.‏ والجملة في موضع الحال من فاعل يتخذونك أو مستأنفة في جواب ماذا يقولون‏؟‏

وجوز أن تكون الجواب‏.‏ وجملة ‏{‏إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ معترضة، وقائل ذلك أبو جهل ومن معه، وروى أن الآية نزلت فيه، والإشارة للاستحقار كما في يا عجباً لابن عمر وهذا، وعائد الموصول محذوف أي بعثه و‏{‏رَسُولاً‏}‏ حال منه وهو بمعنى مرسل‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون مصدراً حذف منه المضاف أي ذا رسول أي رسالة وهو تكلف مستغنى عنه، وإخراج بعث الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم رسولاً بجعله صلة وهم على غاية الانكار تهكم واستهزاء وإلا لقالوا‏:‏ أبعث الله هذا رسولاً‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك بتقدير أهذا الذي بعث الله رسولاً في زعمه، وما تقدم أوفق بحال أولئك الكفرة مع سلامته من التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِن كَادَ‏}‏ إن مخففة من إن واسمها عند بعض ضمير الشأن محذوف أي إنه كاد ‏{‏لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا‏}‏ أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً بحيث يبعدنا عنها لاعن عبادتها فقط، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوي‏.‏

‏{‏لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا‏}‏ ثبتنا عليها واستمكنا بعبادتها، و‏{‏لَوْلاَ‏}‏ في أمثال هذا الكلام يجري مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبيانات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم، ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سبباً لذلك قاتلهم الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إن كلامهم قد تناقض لاضرابهم وتحيرهم فإن الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قوة حجته وكمال عقله صلى الله عليه وسلم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه‏.‏

وقيل عليه‏:‏ إنه ليس بصريح في اعترافهم بما ذكر بل الظاهر أنه أخرج في معرض التسليم تهكماً كما في قولهم ‏{‏بعث الله رسولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41‏]‏ وفيه منع ظاهر والتناقض مندفع كما لا يخفى‏.‏

‏{‏وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب‏}‏ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم ‏{‏مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏ أي يعلمون جواب هذا على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ استفهامية تبتدأ و‏{‏أَضَلَّ‏}‏ خبرها والجملة في موضع مفعولي ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ إن كانت تعدت إلى مفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كانت متعدية إلى واحد أو يعلمون الذي هو أضل على أن من موصولة مفعول ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ وأضل خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول‏.‏ وحذف صدر الصلة وهو العائد لطولها بالتمييز، وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد إضلالاً حيث قالوا ‏{‏إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا‏}‏ الخ والمضل لغيره لا بد أن يكون ضالاً في نفسه جيء بهذه الجملة رداً عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلى الله عليه وسلم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي في ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هادياً لا مضلاً، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمال وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه، والظاهر أن رأى بصرية و‏{‏مِنْ‏}‏ مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة، و‏{‏اتخذ‏}‏ متعدية لمفعولين أولهما ‏{‏هَوَاهُ‏}‏ وثانيهما ‏{‏إلهه‏}‏ وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث أن الإله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلهاً لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضاً عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه، وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول ‏{‏أَرَأَيْتَ واتخذ‏}‏ الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره إلهه فإذا قيل إلهه هواه كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه‏.‏

وقال «صاحب الفرائد»‏:‏ تقدمي المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبراً فالمقدم هو المبتدأ فمن جحعل ما هنا نظير قولك‏:‏ علمت منطلقاً زيداً فقد غفل عن هذا، ويمكن أن يقال‏:‏ المتقدم ههنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم ‏{‏إلهه‏}‏ يشعر بأنه لا بد من إله فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فإنه يشعر بأن له ابناً ولا يشعر بأن له غلاماً فهدا فائدة تقديم إلهه على هواه‏.‏ وتعقب ذلك الطيبي فقال‏:‏ لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى فإذا قيل‏:‏ زيد الأسد فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فإذا جعلته مبتدأ في قولك‏:‏ الأسد زيد فقد أزلته مقره الأصلي للمبالغة، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القاء فيه فالمشبه به ههنا إلاله والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإلهفقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبهاً ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ولمح «صاحب المفتاح» إلى هذا المعنى في كتابه‏.‏

وأما المثال الذي أورده «صاحب الفرائد» فمعنى قوله‏:‏ اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله‏:‏ اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرماً مدللاً اه، وأنت تعلم ما في قوله‏:‏ إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن ‏{‏إلهه‏}‏ الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي، وقال شيخ الإسلام‏:‏ من توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة؛ وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب‏.‏

ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ منونة على الجمع وجعل ذلك على التقديم والتأخير، والمعنى جعل كل جنس من هواه إلهاً، وذكر أيضاً أن ابن هرمز قرأ ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ على وزن فعالة وهو أيضاً من التقديم والتأخير أي جعل هواه الهة بمعنى مألوهة أي معبودة والهاء للمبالغة فلذلك صرفت، وقيل‏:‏ بل الإلاهة الشمس ويقال ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف قاله «صاحب اللوامح» وهو كما ترى‏.‏ والآية نزلت على ما قيل في الحرب بن قيس السهمي كان كلما هوى حجراً عبده، وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية فإذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل الله تعالى ‏{‏أَرَأَيْتَ‏}‏ لخ‏.‏ وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لا يخفى‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية كلما هوى شيئاً ركبه وكلما اشتهى شيئاً أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فالآية شاملة لمن عبد غير الله تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي وهو الذي يقتضيه كلام الحسن، فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له‏:‏ أفي أهل القبلة شرك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم المنافق مشرك إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله تعالى وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية، والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة‏.‏

وقد أخرج الطبراني‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية» عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله تعالى أعظم عند الله عز وجل من هوى يتبع ‏"‏ ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره الله تعالى لعباده وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر، وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولاً أولياً ‏{‏أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً‏}‏ استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلى الله عليه وسلم حفيظاً على هذا المتخذ يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعاً أو كرهاً وإنكار له، والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل‏:‏ أبعد ما شاهدت غلوه في طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى، وجوز أن تكون وأي علمية وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ‏}‏ إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إمكار حسبانه صلى الله عليه وسلم إياهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبىء عنه جده عليه الصلاة والسلام في الدعوة واهتمامه بالإرشاد والتذكير على معنى أنه لا ينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات القرآنية أو يعقلون ما أظهر لهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فتعتني في شأنهم وتطمع في إيمانهم، ولما كان الدليل السمعي أهم نظراً للمقام من الدليل العقلي قيل‏:‏ يسمعون أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن اقبائح الداعية إلى المحاسن فتجتهد في دعوتهم وتهتم بإرشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر‏.‏

وأياً ما كان فضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ لمن باعتبار معناه وضمير ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏ له أيضاً باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ للكفار لا لمن لأن قوله‏:‏ ‏{‏تَعَالَى‏}‏ عليه يأباه وليس بشيء، وضميرا الفعلين للأكثر لا لما أضيف إليه، وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالإيمان بعد الاتخاذ المذكور، ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكباراً وخوفاً على الرياسة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالانعام‏}‏ الخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن، واكتفى عن ذكر الأكثر بماق بله أي ما هم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ منها ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى إليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي، ولأنها إن لم تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها‏.‏

واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز وجل، ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية‏.‏ وجماعة من الناس قال‏:‏ إن هذا خارج مخرج الظاهر، وقيل‏:‏ المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الأنفسية والآفاقية فإن الأنعام كذلك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلالياً بل هو فطري، وكونهم أضل سبيلاً من الأنعام من حيث أنها رزقت علماً بربها تعالى فهي تسبحه عز وجل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلالة‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل‏}‏ الخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بإلى، وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي ألم تنظر إلى صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله عز وجل، وكون إلى اسماً واحداً الآلاء وهي النعم بعيداً جداً، وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بإلى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى‏.‏

وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في «النظم الجليل» إشعاراً بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه، وقال الفاضل الطيبي‏:‏ لو قيل ألم تر إلى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذه الدلائل ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدماً على أفعاله في سائر آياته ‏{‏وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 51‏]‏ وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام ‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ ومخاطبة الخاص ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ‏}‏ انتهى، وفي الأرشاد لعل توجيه الرؤية إليه سبحانه مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره صلى الله عليه وسلم معرفة شؤون الصانع المجيد جل جلاله ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي، وقيل‏:‏ إن التعبير المذكور للإشعار بأن المقصود العلم بالرب علماً يشبه الرؤية، ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم‏.‏ وذكر أن الكلام من باب القلب، والتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك ولا حاجة إلى ذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته جل وعلا، ‏{‏وَكَيْفَ‏}‏ منصوب بمد على الحالية وهي معلقة لتر إن لم تكن الجملة مستأنفة، وفي «البحر» أن الجملة الاستفهامية التي يتعلق عنها فعل القلب ليس باقية على حقيقة الاستفهام وفيه بحث، وذكر بعض الأفاضل أن كيف للاستفهام وقد تجرد عن الاستفهام وتكون بمعنى الحال نحو أنظر إلى كيف تصنع، وقد جوزه الدماميني في هذه الآية على أنه بدل اشتمال من المجرور وهو بعيد انتهى، ولا يخفى أنه يستغني على ذلك عن اعتبار المضاف لكنه لا يعادل البعد‏.‏

والمراد بالظل على ما رواه جماعة عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد وقتادة‏.‏ والحسن‏.‏ وأيوب بن موسى‏.‏ وإبراهيم التيمي والضحاك‏.‏ وأبي مالك الغفاري‏.‏ وأبي العالية‏.‏ وسعيد بن جبير ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وذلك أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وتسد النظر وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر، ومن هنا كان ظل الجنة مدوداً كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَظِلّ مَّمْدُودٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به ما يكون من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس عند ابتداء طلوعها، ومد الظل من باب ضيق فم القربة، فالمعنى ألم تنظر إلى صنع ربك كيف أنشأ ظلاً أي مظلاً كان عند ابتداء طلوع الشمس ممتداً إلى ما شاء الله عز وجل واختاره شيخ الإسلام‏.‏ وتعقب ما تقدم بقوله‏:‏ غير سديد إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته سبحانه فيما يشاهدونه فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس، وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلاً للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافه المعهودة اه وفيه منع ظاهر، وهو أظهر على ما ذكره أبو حيان في الاعتراض على ذلك من أنه لا يسمى ظلاً فقد قال الراغب وكفى به حجة في اللغة الظل ضد الضح وهو أعم من الفىء فإنه يقال‏:‏ ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفىء إلا لما زال عنه الشمس انتهى، وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظِلّ مَّمْدُودٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 30‏]‏ في وصف الجنة يقتضي أنهم يعدون مثل ما ذكر ظلاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما كان من غروب الشمس إلى طلوعها وحكي ذلك عن الجبائي‏.‏ والبلخي‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما كان يوم خلق الله تعالى السماء وجعلها كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها وليس بشيء، وإن فسر ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ بألم تعلم لما في تطبيق ما يأتي من تتمة الآية عليه من التكلف وارتكاب خلاف الظاهر، وربما يفوت عليه المقصود الذي سيق له النظم الكريم، وربما يختلج في بعض الأذهان جواز أن يراد به ما يشمل جميع ما يصدق عليه أنه ظل فيشمل ظل الليل وما بين الفجر وطلوع الشمس وظل الأشياء الكثيفة المقابلة للشمس كالجبال وغيرها فإذا شرع في تطبيق الآية على ذلك عدل عنه كما لا يخفى، وللصوفية في ذلك كلام طويل سنذكر إن شاء الله تعالى شيئاً منه، وجمهور المفسرين على الأول، والقول الثاني أسلم من القال والقيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً‏}‏ جملة اعتراضية بين المتعاطفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على الأول أو قيام الشاخص الكثيف على الثاني، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة، ومفعول المشيئة محذوف وهو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة في أمثال هذا التركيب أي ولو شاء جعله ساكناً لجعله ساكناً أي ثابتاً على حاله ظلاً أبداً كما فعل عز وجل في ظل الجنة أو لجعله ثابتاً على حاله من الطول والامتداد وذلك بأن لا يجعل سبحانه للشمس على نسخه سبيلاً بأن يطلعها ولا يدعها تنسخه أو بأن لا يدعها تغيره باختلاف أوضاعها بعد طلوعها، وقيل‏:‏ بأن يجعلها بعد الطلوع مقيمة على وضع واحد وليس بذاك، وإنما عبر عن ذلك بالسكون قيل‏:‏ لما أن مقابله الذي هو زواله لما كان تدريجياً كان أشبه شيء بالحركة، وقيل‏:‏ لما أن مقابله الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين الظل وبين الشمس يرى رأي العين حركة وانتقالاً‏.‏

وأفاد الزمخشري أنه قوبل مد الظل الذي هو انبساطه وامتداده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَاكِناً‏}‏ والسكون إنما يقابل الحركة فيكون قد أطلق ‏{‏مَدَّ الظل‏}‏ على الحركة مجازاً من باب تسمية الشيء باسم ملابسه أو سببه كما قرره الطيبي وذكر أنه عدل عن حرك إلى مد مع أنه أظهر من مد في تناوله الانبساط والامتداد ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات وهو معرفة أوقات الصلوات فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط وتمم معنى الإدماج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 46‏]‏ أي بالتدرج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات وفيه لمحة من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ اه‏.‏ ولا يبعد أن يقال‏:‏ إن التعبير بمد لما أن الظل المذكور ظل الأفق الشرقي، وقد اعتبر المشرق والمغرب طرفي جهتي الأرض طولاً والشمال والجنوب طرفي جهتيها عرضاً أو لأن ظهوره في الأرض وطول المعمور منها الذي يسكنه من يشاهد الظل أكثر من عرض المعمور منها إذ الأول كما هو المشهور نصف دور أعني مائة وثمانين درجة، والثاني دون ذلك على جميع الأقوال فيه فيكون الظل بالنظر إلى الرائين في المعمور من الأرض ممتداً ما بين جهتي شرقيه وغربيه أكثر مما بين جهتي شماليه وجنوبيه، وربما يقال‏:‏ إن ذلك لما أن مبدأ الظل الفجر الأول وضوؤه يرى مستطيلاً ممتداً كذنب السرحان ويلتزم القول بأنه لا يذهب بالكلية وإن ضعف بل يبقى حتى يمده ضوء الفجر الثاني فيرى منبسطاً والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً‏}‏ عطف على ‏{‏مَدَّ‏}‏ داخل في حكمه أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلاً على ظهوره للحس فإن الناظر إلى الجسم الملون حال قيام الظل عليه لا يظهر له شيء سوى الجسم ولونه ثم إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ظهر له أن الظل كيفية زائدة على الجسم ولونه‏.‏

والضد يظهر حاله الضد *** قاله الرازي‏.‏ والطبري‏.‏ وغيرهما، وقيل‏:‏ أي ثم جعلناها دليلاً على وجوده أي علة له لأن وجوده بحركة الشمس إلى الأفق وقربها منه عادة ولا يخفى ما فيه أو ثم جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعاً حسبما نطق به الشرطية المعترضة، ومن الغريب الذي لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد أن على بمعنى مع أي ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلاً على وحدانيتنا على معنى جعلنا الظل دليلاً وجعلنا الشمس دليلاً على وحدانيتنا‏.‏

والالتفات إلى نون العظمة للإيذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبىء عن السببية من مزيد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة، وثم إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر، وإما للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناءً على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ عطف على ‏{‏مَدَّ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 45‏]‏ داخل في حكمه أيضاً أي ثم أزلناه بعد ما أنشأناه ممتداً عند إيقاع شعاع الشمس موقعه أو بإيقاعه كذلك ومحوناه على مهل قليلاً قليلاً حسب سير الشمس، وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه، وأما على القول بأن المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لا يزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق لكريوة الأرض واختلاف الآفاق فقد تطلع في أفق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في أفق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل ومتى ارتفعت عن الأفق الأول حتى بانت من أفقهم زال ما عندهم من الظل فزوال الظل بعد عمومه تدريجي كذا قيل‏.‏

وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن زواله تدريجي نظراً إلى أفق واحد أيضاً بناءً على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس ما لم يقع على موقعه شعاعها لمانع جبل ونحوه ويزول ذلك تدريجاً حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على ما لم يقع عليه ابتداء طلوعها، وكأن التعبير عن تلك الإزالة بالقبض وهو كما قال الطبرسي‏:‏ جمع الأجزاء المنبسطة لما أنه قد عبر عن الأحداث بالمد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلَيْنَا‏}‏ للتنصيص على كون مرجع الظل إليه عز وجل لا يشاركه حقيقة أحد في إزالته كما أن حدوثه منه سبحانه لا يشاركه حقيقة فيه أحد، وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر، ومن فسر الظل بما كان يوم خلق الله تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها جعل معنى ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 45‏]‏ الخ ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل وجعلناها دليلاً متبوعاً له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص ثم قبضناه قبضاً سهلاً لا عسر فيه‏.‏

ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة إلينا وكذا ‏{‏يَسِيراً‏}‏ وذلك بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه، وثم للتراخي الزماني وفيه ما فيه كما أشرنا إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً‏}‏ بيان لبعض بدائع آثار قدرته عز وجل وروائع أحكام رحمته ونعمته الفائضة على الخلق، وتلوين الخطاب لتوفية مقام الامتنان حقه، واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم، وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ‏{‏وَ‏}‏ جعل ‏{‏النَّوْمَ‏}‏ الذي يقع فيه غالباً بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة، وقيل‏:‏ بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح‏.‏

‏{‏نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏ راحة للأبدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة، وأصل السبت القطع، وقيل‏:‏ يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل، وقيل‏:‏ لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئاً، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة‏:‏ مسبوت، وإلى هذا ذهب أبو مسلم‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ السبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان النوم سكوناً ما ‏{‏وَجَعَلَ النهار نُشُوراً‏}‏ أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 11‏]‏ وفي جعله نفس النشور مبالغة، وقيل‏:‏ نشوراً بمعنى ناشراً على الإسناد المجازي، وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الإحساس أو الحياة، وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة‏.‏ وأبى الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال‏:‏ إنه يأباه النشور في مقابلته إباء العيوف الورد وهو مرنق، وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لا يكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش، وعلل في «الكشف» إباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الإعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذه وبين أترابها‏.‏

وكأنه جعل جعل الليل لباساً والنوم فيه سباتاً بمجموعه مقابل جعل النهار نشوراً ولهذا كرر جعل فيه لما في النشور من معنى الظهور الحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في آية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ وقرأ ابن كثير بالتوحيد على إرادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور، وقال ابن عطية‏:‏ قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من ههنا وههنا وشيئاً إثر شيء وريح العذاب تأتي جسداً واحداً لا تتذأب إلا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه‏.‏

وقال الرماني‏:‏ جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب‏.‏ والصبا‏.‏ والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور، وفي قوله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح‏:‏ اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً إشارة إلى ما ذكر، وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولاً عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان، وقد ذكر في «البحر» أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلاً منهما متواتر، وأل في الريح للجنس فتعم، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث‏.‏

‏{‏بَشَرًا‏}‏ تخفيف بشراً بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي أرسل الرياح مبشرات، وقرىء ‏{‏نَشْراً‏}‏ بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل، و‏{‏نَشْراً‏}‏ بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضاً أي أرسلها ناشرات للسحاب من النشر بمعنى البعث لأنها تجمعه كأنها تحييه لا من النشر بمعنى التفريق لأنه غير مناسب إلا أن يراد به السوق مجازاً، و‏{‏نَشْراً‏}‏ بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة، وجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً لأرسل لأنه بمعنى نشر والكل متواتر‏.‏

وروي عن ابن السميقع أنه قرأ ‏{‏بُشْرىً‏}‏ بألف التأنيث ‏{‏بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي قدام المطر وقد استعيرت الرحمة له ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح، وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية و‏{‏بَشَرًا‏}‏ من تتمة الاستعارة داخل في جملتها، والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء‏}‏ لإبراز كمال العناية لإنزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ‏{‏مَاء‏}‏ الظاهر أنه نعت الماء، وعليه قيل معناه بليغ الطهارة زائدها، ووجه في «البحر» المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الأرض، وفسره ثعلب بما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره‏.‏

وتعقبه الزمخشري بأنه إن كان ما قاله شرحاً لبلاغته في الطهارة كان سديداً وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء، وقال غيره‏:‏ إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة والمبالغة في اللازم لا توجب التعدي‏.‏

وأجاب صاحب الكشف بأنه لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير إليها لا أن اللازم صار متعدياً، وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملاً من حيث أن انضمام معنى التطهير لما كان مستفاداً من المبالغة بمعونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سبباً للتعدي، ثم قال‏:‏ ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله، والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي إليه لا تعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان، وذكر بعض الأجلة أن إفادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف وأين هذا التعلق في قول جرير‏:‏

إلى رجح الأكفال غيد من الظبا *** عذاب الثنايا ريقهن طهور

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏ ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن «البحر»، وقال بعض المحققين‏:‏ إن ‏{‏طَهُوراً‏}‏ هنا اسم لما يتطهر به كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ التراب طهور المؤمن ‏"‏ وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدراً وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعاً، ويمكن حمل ما روي عن ثعلب على هذا، واعتبار كونه طاهراً في نفسه لأن كونه مطهراً للغير فرع ذلك، وجعل على هذا بدلاً من ماء أو عطف بيان له لا نعتاً فيكون التركيب نحو أرسلت إليك ماء وضوءاً‏.‏

وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتاً فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن القيل والقال، وحكى سيبويه أن طهوراً جاء مصدر التطهر في قولهم‏:‏ تطهرت طهوراً حسناً، وذكر أن منه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا صلاة إلا بطهور ‏"‏ وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي‏.‏ وأياً ما كان ففي توصيف الماء به إعظام للمنة كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏لّنُحْيِىَ بِهِ‏}‏ أي بما أنزلنا من الماء الطهور ‏{‏بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ ليس فيها نبات وذلك بإنبات النبات به؛ والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله‏:‏

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها

وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع، وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن ‏{‏مَيْتًا‏}‏ من أمثلة المبالغة التي لا تشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فأجري مجرى الجوامد، ولام ‏{‏لّنُحْيِىَ‏}‏ متعلق بأنزلنا وتعلقه بطهوراً ليس بشيء‏.‏ وقرأ عيسى‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏مَيْتًا‏}‏ بالتشديد، قال أبو حيان‏:‏ ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث‏.‏

‏{‏وَنُسْقِيَهِ‏}‏ أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآباء ‏{‏مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً‏}‏ أي أهل البوادي الذي يعيشون بالحياء، ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع‏.‏

وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فيهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالباً، ومساق الآيات الكريمة كا هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها أحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الأسباب على المسببات، وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الأناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم، وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والأصل في باب الامتنان، وذكر سقي الأناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب، ومن تبعيضية أو بيانية و‏{‏كَثِيراً‏}‏ صفة للمتعاطفين لا على البدل‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ والأعمش‏.‏ وعاصم‏.‏ وأبو عمرو في رواية عنهما ‏{‏وَنُسْقِيَهِ‏}‏ بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأسقى وسقى لغتان، وقيل‏:‏ أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهيأها، و‏{‏أناسي‏}‏ جمع إنسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها‏.‏

وذهب الفراء‏.‏ والمبرد‏.‏ والزجاج إلى أنه جمع إنسي، قال في «البحر»‏:‏ والقياس أناسية كما قالوا في مهلبى مهالبة‏.‏ وفي «الدر المصون» أن فعالى إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة إذا لم يكن للنسب ككرسي وكراسي وما فيه ياء النسب يجمع على أفاعلة كأزرقي وأزارقة وكون ياء إنسي ليست للنسب بعيد فحقه أن يجمع على أناسية، وقال في التسهيل‏:‏ أنه أكثري، وعليه لا يرد ما ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏كَثِيراً وَلَقَدْ صرفناه‏}‏ الضمير للماء المنزل من السماء كالضميرين السابقين، وتصريفه تحويل أحواله وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة أي وبالله تعالى لقد صرفنا المطر ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ أي بين الناس في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما ‏{‏لّيَذْكُرُواْ‏}‏ أي ليعتبروا بذلك ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ أي لم يفعل إلا كفران النعمة وإنكارها رأساً بإضافتها لغيره عز وجل بأن يقول‏:‏ مطرنا بنوء كذا معتقداً أن النجوم فاعلة لذلك ومؤثرة بذواتها فيه، وهذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى كفر، وفي «الكشاف» وغيره أن من اعتقد أن الله عز وجل خالق الأمطار وقد نصب الأنوار دلائل وأمارات عليها وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا مطرنا في وقت سقوط النجم الفلاني في المغرب مع الفجر لا يكفر، وظاهره أنه لا يأثم أيضاً، وقال الإمام‏:‏ من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال‏:‏ إنه سبحانه جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى منا في هذه المسألة كلام أرجو من الله تعالى أن تستحسنه ذوو الأفهام ويتقوى به كلام الإمام، ورجوع ضمير ‏{‏أنزلنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ إلى الماء المنزل مروى عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏

وأخرج جماعة عن الأول وصححه الحاكم أنه قال‏:‏ ما من عام بأقل مطراً من عام ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية‏.‏ وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الثاني مثله، ويفهم من ذلك حمل التصريف على التقسيم، وقال بعضهم‏:‏ هو راجع إلى القول المفهوم من السياق وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال القطر لما ذكر من الغايات الجليلة وتصريفه تكريره وذكره على وجوه ولغات مختلفة، والمعنى ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل في ذلك فأبى أكثرهم ممن سلف وخلف إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث بها أو إنكارها رأساً بإضافتها لغيره تعالى شأنه، واختار هذا القول الزمخشري، وقال أبو السعود‏:‏ هو الأظهر، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن ألا ترى قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وجاهدهم بِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏ وحكاه في «البحر» عن ابن عباس أيضاً والمشهور عنه ما تقدم، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل أو نحو ذلك فتأمل، وأما ما قيل إنه عائد على الريح فليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً‏}‏ نبياً ينذر أهلها فتخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك وقصرنا الأمر عليك إجلالاً لك وتعظيماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تُطِعِ الكافرين‏}‏ فيما يريدونك عليه وهو تهييج له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين‏.‏

‏{‏وجاهدهم بِهِ‏}‏ أي بالقرآن كما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة ‏{‏جِهَاداً كَبيراً‏}‏ فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كماً وكيفاً، وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه عليه الصلاة والسلام نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل‏:‏ بعثناك نذيراً لجميع القرى وفضلناك وعظمناك ولم نبعث في كل قرية نذيراً فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، وفي «الكشف» لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏ وذنب بدلائل القدرة والنعمة والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد وأنهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالأنعام وأضل وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى، قيل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 51‏]‏ على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم، وقيل‏:‏ فلا تطعهم‏.‏ ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً على الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها ‏{‏تَبَارَكَ الذى نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏ إلى آخر الآيات، وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بما عندها على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم، كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو الأنفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع الخ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه‏.‏

هذا وجوز أن يكون ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائداً على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابساً ترك طاعتهم كأنه قيل‏:‏ وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملائمة والمداراة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 9‏]‏ وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلاً وليس فيه شائمة الجهاد فضلاً عن الجهاد الكبير، وجوز أيضاً أن يكون لما دل عليه قوله عز وجل‏:‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 51‏]‏ من كونه صلى الله عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة والسلام‏:‏ وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهاداً كبيراً جامعاً لكل مجاهدة‏.‏ وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية، وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف‏.‏

وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف، ومع هذا لا يخفى ما فيه، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة وأوفرهم حظاً المجاهدون بالقرآ منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين‏}‏ أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويقال في هذا أمرج أيضاً على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد‏.‏

وأصل المرج كما قال الراغب‏:‏ الخلط، ويقال‏:‏ مرج أمرهم أي اختلط، وسمي المرعى مرجاً لاختلاط النبات فيه، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ‏}‏ الخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها، وقيل؛ هو البارد كما في «مجمع البيان» إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات ‏{‏وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ وقيل‏:‏ هي حال من غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك، واسم الإشارة غني غناء الضمير، والإجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش، وقال الراغب‏:‏ هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى، وقيل‏:‏ هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة، وقيل الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف‏.‏ وقتيبة عن الكسائي ‏{‏مِلْحٌ‏}‏ بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر، قال أبو حاتم‏:‏ وهذا منكر في القراءة، وقال أبو الفتح‏:‏ أراد مالحاً فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله‏:‏

أصبح قلبي صردا *** لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا وصلينا بردا وعكنا ملتبدا

وقيل‏:‏ مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح، وقال أبو الفضل الرازي في «كتاب اللوامح»‏:‏ هي لغة شاذة قليلة فليس مخففاً من شيء، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح، والأفصح أن يقال في وصف الماء‏:‏ ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحاً كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب، وقال الخفاجي‏:‏ الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله‏:‏ ماء مالك فقد أخطأ جاهلاً بقدر هذا الإمام ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً‏}‏ أي حاجزاً وهو لفظ عربي، وقيل‏:‏ أصله بزره فعرب، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضاً فلا إشكال في التثنية، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير، والمراد حيلولتها في مجارهيا وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز وجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعاً غامراً للأرض محيطاً بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضاً لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذل الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والانجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال، و‏{‏بَيْنَهُمَا‏}‏ ظرف الجعل، ويجوز أن يكون حالاً من ‏{‏بَرْزَخاً‏}‏، والظاهر أن تنوين ‏{‏بَرْزَخاً‏}‏ للتعظيم أي وجعل بينهما برزخاً عظيماً حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه ‏{‏وَحِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ أي وتنافراً مفرطاً كأن كلاً منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحاً في مكانه ولا البحر الملح عذباً في مكانه وذلك من كمال ذرته تعالى وبالغ حكمته عز وجل فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذباً أو الكل ملحاً، وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحاً أن لا نتن بطول المكث وتقادم الدهور؛ قيل‏:‏ وهو السر في جعل دمع العين ملحاً، وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها‏.‏

والظاهر إن ‏{‏حِجْراً‏}‏ عطف على ‏{‏بَرْزَخاً‏}‏ أي وجعل بينهما هذه الكلمة، والمراد بذلك ما سمعت آنفاً وهو من أبلغ الكلام وأعذبه، وقيل‏:‏ هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجراً محجوراً، وعن الحسن أن المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك، وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى، وقيل‏:‏ المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عز وجل غير مرئي وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ التميز التام وعدم الاختلاط، وأصله كلام يقوله المستعيد لما يخافه كما تقدم تفصيله، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عز وجل أكمل انفصال بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلاً‏.‏

وحكى هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيهرما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضاً ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفاً كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلاً، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى، ولا أرى وجهاً لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين؛ وقيل‏:‏ المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطاً ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مازجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضاً مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَحِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ فيما عدا ذلك وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما، بل بقي على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى، وحكى في «البحر» أن المبارد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس‏.‏

وذكره في «الدر المنثور» عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ نعم قد يصح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من آية سورة الرحمن أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19، 20‏]‏ لعدم ذكر ما يمنعه هناك، وما روى عن الحسن إن صح فلعله في ذلك الآية، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وأنهما يلتقيان كل عام، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر؛ وأما أنت فبالخيار والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً‏}‏ هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءاً من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الإشكال والهيئات، فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته، ومن ابتدائية، ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً‏}‏ أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 39‏]‏ فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهراً وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصاً، وهذ الجعل والتقسيم مما لا خفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس، وأما على تقدير أن يراد به آدم عليه السلام فقيل‏:‏ هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك‏:‏ عندي درهم ونصفه، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والإيصال، أي جعل منه وقد جيء به على الأصل في نظير هذه الآية وهو ما سمعته آنفاً، وقيل‏:‏ معنى جعل آدم نسباً وصهراً خلق حواء منه وإبقاؤه على ما كان عليه من الذكورة‏.‏

وتعقيب جعل الجنس قسمين خلق آدم أو الجنس باعتبار خلقه أو جعل قسمين من آدم خلقه عليه السلام كما تؤذن به الفاء ظاهر، وربما يتوهم أن الضمير المنصوب في جعله عائد على الماء والفاء مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 45‏]‏ الخ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ وليس بشي‏.‏

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع، وتفسير الصهر بذلك مروى عن الضحاك أيضاً‏.‏

‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً‏}‏ مبالغاً في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة، وجعله قسمين متقابلين ‏{‏وَكَانَ‏}‏ في مثل هذا الموضع للاستمرار‏.‏ وإذا قلنا بأن الجملة الإسمية نفسها تفيد ذلك أيضاً أفاد الكلام استمراراً على استمرار‏.‏ وربما أشعر ذلك بأن القدرة البالغة من مقتضيات ذاته جل وعلا‏.‏ ومن العجب ما زعمه بعض من يدعي التفرد بالتحقيق ممن صحبناه من علماء العصر رحمة الله تعالى عليه إن ‏{‏كَانَ‏}‏ في مثله للاستمرار فيما لم يزل والجملة الاسمية للاستمرار فيما لا يزال فيفيد جمعهما استمرار ثبوت الخبر للمتبدأ أزلاً وأبداً، ويعلم منه مبلغ الرجل في العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ الذي شأنه تعالى شأنه ما ذكر ‏{‏مَا لاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ إن عبدون ‏{‏وَلاَ يَضُرُّهُمْ‏}‏ إن لم يعبدوه، والمراد بذلك الأصنام أو كل ما عبد من دون الله عز وجل وما من مخلوق يستقل بالنفع والضر ‏{‏وَكَانَ الكافر على رَبّهِ‏}‏ الذي ذكرت آثار ربوبيته جل وعلا ‏{‏ظَهِيرًا‏}‏ أي مظاهراً كما قال الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن زيد، وفعيل بمعنى مفاعل كثير ومنه نديم وجليس، والمظاهرة المعاونة أي يعاون الشيطان على ربه سبحانه بالعداوة والشرك، والمراد بالكافر الجنس فهو إظهار في مقام الإضمار لنعي كفرهم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أبو جهل والآية نزلت فيه، وقال عكرمة‏:‏ هو إبليس عليه اللعنة، والمراد يعالون المشركين على ربه عز وجل بأن يغريهم على معصيته والشرك به عز وجل، وقيل‏:‏ المراد يعاون على أولياء الله تعالى‏.‏

وجوز أن يكون هذا مراداً على سائر الاحتمالات في الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بظهيراً مهيناً من قولهم‏:‏ ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك أي كان من يعبد من دون الله تعالى ما لا ينفعه ولا يضره مهيناً على ربه عز وجل لا خلاق له عنده سبحانه قاله الطبري، ففعيل بمعنى مفعول، والمعروف أن ‏{‏ظَهِيرًا‏}‏ بمعنى معين لا بمعنى مظهور به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أرسلناك‏}‏ في حال من الأحوال ‏{‏إِلا‏}‏ حال كونك ‏{‏مُبَشّرًا‏}‏ للمؤمنين ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ أي ومنذراً مبالغاً في الإنذار للكافرين، ولتخصيص الأنذار بهم وكون الكلام فيهم والاشعار بغاية إصرارهم على ما هم فيه من الضلال اقتصر على صيغة المبالغة فيه، وقيل‏:‏ المبالغة باعتبار كثرة المنذرين فإن الكفرة في كل وقت أكثر من المؤمنين‏.‏

وبعضهم اعتبر كثرتهم بإدخال العصاة من المؤمنين فيهم أي ونذيراً للعاصين مؤمنين كانوا أو كافرين والمقام يقتضي التخصيص بالكافرين كما لا يخفى، والمراد ما أرسلناك إلا مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم دافعاً عن نفسك تهمة الانتفاع بإيمانهم ‏{‏مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي على تبليغ الرسالة الذي ينبىء عنه الإرسال أو على المذكور من التبشير والإنذار، وقيل‏:‏ على القرآن ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي أجر ما من جهتكم ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ‏}‏ أي إلى رحمته ورضوانه ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ أي طريقاً، والاستثناء عند الجمهور منقطع أي لكن ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبحانه سبيلاً أي بالانفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى ليناسب الاستدراك فليفعل، وذهب البعض إلى أنه متصل، وفي الكلام مضاف مقدر أي الأفعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بالايمان والطاعة حسبما أدعو إليهما، وهو مبني على الادعاء وتصوير ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الاتيان به، وهذا كالاستثناء في قوله‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم *** يعاب بنسيان الأحبة والوطن

وفي ذلك قلع كلي لشائبة الطمع وإظهار لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كونه نفعه عائداً إليهم عائداً إليه صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ المعنى ما أسألكم عليه أجراً إلا أجر من آمن أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله وحينئذ لا يحتاج إلى الادعاء والتصوير السابق، والأولى ما فيه قلع شائبة الطمع بالكلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ‏}‏ في الإغناء عن أجورهم والاستكفاء عن شرورهم، وكأن العدول عن وتوكل على الله إلى ما في النظم الجليل ليفيد بفحواه أو بترتب الحكم فيه على وصف مناسب عدم صحة التوكل على غير المتصف بما ذكر من الحياة والبقاء، أما عدم صحة التوكل على من لم يتصف بالحياة كالأصنام فظاهر وأما عدم صحته على من لم يتصف بالبقاء بأن كان ممن يموت فلأنه عاجز ضعيف فالمتوكل عليه أشبه شيء بضعيف عاد بقرملة، وقيل‏:‏ لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا في التوكل‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عقبة بن أبي ثبيت قال‏:‏ مكتوب في التوراة لا توكل على ابن آدم فإن ابن آدم ليس له قوام، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت‏.‏ وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال‏:‏ لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي ونزهه سبحانه ملتبساً بالثناء عليه تعالى بصفات الكمال طالباً لمزيد الانعام بالشكر على سوابقه عز وجل فالباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال، وقدم التنزيه لأنه تخلية وهي أهم من التحلية، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ من قال سبحان الله وبحمد غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ‏"‏ ‏{‏وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ‏}‏ ما ظهر منها وما بطن كما يؤذن به الجمع المضاف فإنه من صيغ العموم أو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَبِيراً‏}‏ لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور كما ذكره الراغب ومن علم البواطن علم الظواهر بالطريق الأولى فيدل على ذلك مطابقة والتزاماً‏.‏

والظاهر أن ‏{‏بِذُنُوبِ‏}‏ متعلق بخبيراً وهو حال أو تمييز‏.‏ وباء ‏{‏بِهِ‏}‏ زائدة في فاعل ‏{‏كفى‏}‏، وجوز أن يكون ‏{‏بِذُنُوبِ‏}‏ صلة كفى، والجملة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم ووعيد الكفار أي أنه عز وجل مطلع على ذنوب عباده بحيث لا يخفى عليه شيء منها فيجازيهم عليها ولا عليك إن آمنوا أو كفروا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ قد سلف تفسيره‏.‏ ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحي، ووصف سبحانه بالصفة الفعلية بعد وصفه جل وعلا بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى اتصافه تعالى بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه جل جلاله وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته سبحانه على إبداعها دفعة بحكم جليلة وغايات جميلة لا تقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما في قراءة زيد بن عبد الرحمن بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه جل شأنه وإن لم يتبعه في الأعراب لما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه في الأعراب وبذلك سميا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبياً على شدة الاتصال بينهما وإنما قطعوا للافتنان الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجد في الإصغار‏.‏

وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الاختصاص وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف صفة له أو مبتدأ و‏{‏الرحمن‏}‏ خبره، وجوز أن يكون ‏{‏الرحمن‏}‏ بدلاً من المستكن في ‏{‏استوى‏}‏ ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون ‏{‏الرحمن‏}‏ مبتدأ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً‏}‏ خبره على حد تخريجه قول الشاعر‏:‏

وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** وهو بعيد، والظاهر أن هذه جملة منقطعة عما قبلها إعراباً، والفاء فصيحة والجار والمجرور صلة اسأل‏.‏ والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدي بالباء لتضمنه معنى الاعتناء‏.‏ وعليه قول علقمة بن عبيدة‏:‏

فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خبير بادواء النساء طبيب

فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن كما فعل الأخفش‏.‏ والزجاج‏.‏ والضمير راجع إلى ما ذكر إجمالاً من الخلق والاستواء‏.‏ والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معتنياً به خبيراً عظيم الشأن محيطاً بظواهر الأمور وبواطنها وهو الله عز وجل يطلعك على جلية الأمر‏.‏ والمسؤول في الحقيقة تفاصيل ما ذكر لا نفسه إذ بعد بيانه لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء المبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعى لكون المسؤول أمراً خطيراً مهتماً بشأنه غير حاصل للسائل فائدة فإن نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس كذلك كما لا يخفى‏.‏

وكون التقدير إن شككت فهي فاسأل به خبيراً على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره عليه الصلاة والسلام بمعزل عن السداد، وقيل‏:‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ صلة ‏{‏خَبِيراً‏}‏ قدم لرؤس الآي‏.‏

وجوز أن يكون الكلام من باب التجريد نحو رأيت به أسداً أي رأيت برؤيته أسداً فكأنه قيل هنا فاسأل بسؤاله خبيراً، والمعنى إن سألته وجدته خبيراً، والباء عليه ليست صلة فإنها باء التجريد وهي على ما ذهب إليه الزمخشري سببية والخبر عليه هو الله تعالى أيضاً‏.‏ وقد ذكر هذا الوجه السجاوندي‏.‏ واختاره «صاحب الكشف» قال‏:‏ وهو أوجه ليكون كالتتميم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَ‏}‏ الخ فإنه لإثبات القدرة مدمجاً فيه العلم، وكون ضمير به راجعاً إلى ما ذكر من الخلق والاستواء، والخبير في الآية هو الله تعالى مروي عن الكلبي‏.‏ وروى تفسير الخبير ‏{‏بِهِ‏}‏ تعالى عن ابن جريج أيضاً‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخبير هو جبريل عليه السلام، وقيل‏:‏ هو من وجد ذلك في الكتب القديمة المنزلة من عنده تعالى أي فاسأل بماذكر من الخلق والاستواء من علم به من أهل الكتب ليصدقك، وقيل‏:‏ إذا أريد بالخبير من ذكر فضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للرحمن، والمعنى إن أنكروا إطلاق الرحمن عليه تعالى فاسأل به من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم‏.‏ وفيه أنه لا يناسب ما قبله ولأن فيه عود الضمير للفظ ‏{‏الرحمن‏}‏ دون معناه وهو خلاف الظاهر ولأنه كان الظاهر حينئذ أن يؤخر عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا الرحمن‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ الخير محمد صلى الله عليه وسلم وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للرحمن؛ والمراد فاسأل بصفاته والخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم ممن لم يعلم ذلك وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للرحمن، والمراد فاسأل برحمته وتفاصيلها عارفاً يخبرك بها أو المراد فاسأل برحمته حال كونه عالماً بكل شيء على أن ‏{‏خَبِيراً‏}‏ حال من الهاء لا مفعول اسأل كما في الأوجه السابقة‏.‏

وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏خَبِيراً‏}‏ حالاً من ‏{‏الرحمن‏}‏ إذا رفع باستوى‏.‏ وقال‏:‏ يضعف أن يكون حالاً من فاعل اسأل لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد مثل ‏{‏وَهُوَ الحق مُصَدّقًا‏}‏ والوجه الأقرب الأولى في الآية من بين الأوجه المذكورة لا يخفى، وقرىء ‏{‏فسل‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن‏}‏ القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا‏.‏ وفيه كما قال الخفاجي‏:‏ معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ‏{‏قَالُواْ‏}‏ على سبيل التجاهل والوقاحة ‏{‏وَمَا الرحمن‏}‏ كما قال فرعون ‏{‏وما رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ حين قال له موسى عليه السلام ‏{‏إني رسول من رَّبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 104‏]‏ وهو عز وجل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والارض بَصَائِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏، والسؤال يحتمل أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فإذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو، ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز وجل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه كان عبرانياً وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه‏.‏ والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ أي للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه‏.‏ فما موصولة والعائد محذوف‏.‏ وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا إليه‏.‏ ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا‏.‏ واعتبار الحذف تذريجاً مذهب أبي الحسن‏.‏ ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج، ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت‏.‏ ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي أنسجد له لأجل أمرك إيانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ والأسود بن زيد‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يأمرنا‏}‏ بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول قول بعضهم لبعض ‏{‏تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ‏}‏ أي الأمر بالسجود للرحمن‏.‏ والإسناد مجازي‏.‏ والجملة معطوفة على ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي قالوا ذلك وزادهم ‏{‏نُفُورًا‏}‏ عن الايمان وفي اللباب أن فاعل ‏{‏زَادَهُمْ‏}‏ ضمير السجود لما روى أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين، وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل‏:‏ وفي لا يستقدمون من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ والأول أولى وأظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً‏}‏ الظاهر أنها البروج الإثنا عشر المعروفة‏.‏ وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي في الأصل القصور العالية وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل‏.‏ واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلاً لا سيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم إطلاق السماء عليه وإن كان صحيحاً لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثواب، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولاً وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منقطة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها، وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل‏.‏ والثور‏.‏ والجوزاء وتسمى التوأمين أيضاً، وثلاثة صيفية وهي السرطان‏.‏ والأسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضاً وهذه الستة شمالية‏.‏ وثلاثة خريفية وهي الميزان‏.‏ والعقرب‏.‏ والقوس ويسمى الرامي أيضاً، وثلاثة شتوية وهي الجدي‏.‏ والدلو‏.‏ ويسمى الدالي وساكب الماء أيضاً‏.‏ والحوت تسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية، ولحلو الشمس في كل من الأثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة الليل والنهار طولاً وقصراً وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها‏.‏

وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعاً وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال أو وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك مفصلاً، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري وحار وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئاً منه بعد أن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم، ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وإن لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه، وقيل‏:‏ إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولاً هرمس وهو على ما قيل ادريس عليه السلام فتأمل‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل‏:‏ هي القصور في الجنة، قال الأعمش‏:‏ وكان أصحاب عبد الله يقرؤون في السماء قصوراً، وتعقب بأنه يأباه السياق لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله، والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم وتلك القصور ليست كذلك، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم، وروي ذلك عن قتادة أيضاً، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لا سيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة‏.‏

وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروى عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا‏}‏ أي في السماء، وقيل‏:‏ في البروج ‏{‏سِرَاجاً‏}‏ هي الشمس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 16‏]‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وعلقمة‏.‏ والأعمش‏.‏ والأخوان ‏{‏سِرَاجاً‏}‏ بالجمع مضموم الراء، وقرأ الأعمش أيضاً‏.‏ والنخعي‏.‏ وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر‏:‏

لمعان برق أو شعاع شموس *** وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة‏:‏ الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَمَراً مُّنِيراً‏}‏ بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها‏.‏ ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ما ذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن لا يجدي‏.‏

والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر، قيل‏:‏ وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه‏.‏ وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به‏.‏ وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بمنيراً دون مضيئاً إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره وهو الشمس بل قال غير واحد‏:‏ إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ والنخعي‏.‏ وعصمة عن عاصم ‏{‏وَقَمَراً‏}‏ بضم القاف وسكون الميم؛ واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل‏:‏ هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّنِيراً‏}‏ صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه‏:‏

بردى يصفق بالرحيق السلسل *** فإنه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء‏.‏