فصل: تفسير الآية رقم (204)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 00 2‏]‏ والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر والمؤمن، تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين المنافق والمخلص وأصل التعجب حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقول ‏{‏فِي الحياة الدنيا‏}‏ أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش سواء كانت عائدة إليه أم لا فالمراد من الحياة ما به الحياة والتعيش،  أو في معنى الدنيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان فالحياة الدنيا على معناها، وجعله ظرفاً للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذٍ تقديرية كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ في النفس المؤمنة مائة من الإبل ‏"‏ أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما قال السدي‏:‏ نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بن زهرة «أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال‏:‏ إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بزرع ‏(‏لقوم‏)‏ من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر» وقيل‏:‏ في المنافقين كافة‏.‏

‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على ‏{‏يُعْجِبُكَ‏}‏ وفي مصحف أبيّ ‏(‏ويستشهد الله‏)‏، وقرىء ‏(‏ويشهد الله‏)‏ بالرفع، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ‏(‏والله يشهد على ما في قلبه‏)‏ على أن كلمة على لكون المشهود به مضراً له، والجملة حينئذٍ اعتراضية‏.‏

‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل‏:‏

إن تحت الحجار حزماً وجورا *** وخصيماً ألد ذا مقلاق

فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجىء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة؛ ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجهاً، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً وكفى بك ظالماً أن لا تزال مخاصماً وكفى بك كاذباً أن لا تزال محدثاً إلا حديث في ذات الله عز وجل» وشدة الخصومة من صفات المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تولى‏}‏ أي أدبر وأعرض قاله الحسن، أو إذا غلب وصار والياً قاله الضحاك‏.‏ ‏{‏سعى‏}‏ أي أسرع في المشي أو عمل‏.‏ ‏{‏فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا‏}‏ ما أمكنه‏.‏ ‏{‏وَيُهْلِكَ الحرث والنسل‏}‏ كما فعله الأخنس، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاق، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر، والحرث الزرع والنسل كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولاً إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلاً لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري أن الحرث هنا النساء والنسل الأولاد، وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس، وقرىء ‏(‏ويهلك الحرث والنسل‏)‏ على أن الفعل للحرث والنسل، والرفع للعطف على ‏{‏سعى‏}‏ وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة أبى يأبى وروي عنه ‏(‏ويهلك‏)‏ على البناء للمفعول‏.‏

‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد، لأنه يقال‏:‏ الإفساد كما قيل في الحقيقة إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفساداً فهو بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلاً لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله‏}‏ في فعلك ‏{‏أَخَذَتْهُ العزة‏}‏ أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها، والعزة في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازاً ‏{‏بالإثم‏}‏ أي مصحوباً أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق، ويجوز أن يكون أخذ من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه الأخيذ للأسير، أي جعلته العزة وحمية الجاهلية أسيراً بقيد الإثم لا يتخلص منه ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ مبتدأ وخبر أي كافيه جهنم وقيل‏:‏ جهنم فاعل لحسبه ساد مسدّ خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل‏:‏ حسب اسم فعل ماض بمعنى كفى وفيه نظر وجهنم علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزنه فعنلل، وفي «البحر» إنها مشتقة من قولهم‏:‏ ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية، والغلظ، ووزنها فعنل، ولا يلتفت لمن قال‏:‏ وزنها فعنلل كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما، وقيل‏:‏ إنها فارسي وأصلها كهنام فعرّبت بإبدال الكاف جيماً وإسقاط الألف والمنع من الصرف حينئذٍ للعلمية والعجمة ‏{‏وَلَبِئْسَ المهاد‏}‏ جواب قسم مقدر؛ والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والمهاد الفراش، وقيل‏:‏ ما يوطىء للجنب والتعبير به للتهكم وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له اتق الله ولهذا قال العلماء‏:‏ إذا قال الخصم للقاضي‏:‏ اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له‏:‏ اتق الله لا يعزره‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه‏:‏ اتق الله تعالى فيقول‏:‏ عليك بنفسك عليك بنفسك»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ‏}‏ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال‏:‏ سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنساناً يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال‏:‏ قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل‏.‏

‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ أي طلباً لرضاه، فابتغاء مفعول له، ومرضات مصدر بني كما في «البحر» على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف بالتاء ووقف عليه بالتاء والهاء وأكثر الروايات أن الآية نزلت في صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه،  فقد أخرج جماعة أنّ صهيباً أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال‏:‏ يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً؛ وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم‏.‏ فقالوا‏.‏ دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أبا يحيى ربح البيع ربح البيع ‏"‏ وتلا له الآية‏.‏ وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء‏.‏

وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ من ينزل خبيباً عن خشبته فله الجنة ‏"‏ فقال‏:‏ أنا وصاحبي المقداد وكان خبيب قد صلبه أهل مكة وقال الإمامية وبعض منا‏:‏ إنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في الشراء مثل ما ارتكب أولاً ‏{‏والله رَءوفٌ بالعباد‏}‏ أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏208‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏ أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا‏:‏ إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسلم بمعنى الإسلام، وكافة في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق والتاء فيه للتأنيث أو النقل من الوصفية إلى الإسمية كعامة وخاصة وقاطبة، أو للمبالغة واختار الطيبي الأول مدعياً أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما، ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالاً ولا نكرة خلافاً لابن هشام وليس له في ذلك ثبت وهو هنا حال من الضمير في ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ الخطاب للمنافقين، والسلم بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه، وكافة حال من الضمير أيضاً، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً، وقيل‏:‏ الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم، والمراد من السلم جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناءاً على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحمل اللام على الاستغراق، ‏{‏وكافة‏}‏ حال من ‏{‏القدوس السلام‏}‏ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل‏:‏ الخطاب للمسلمين الخلّص، والمراد من السلم شعب الإسلام، وكافة حال منه، والمعنى‏:‏ ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه‏:‏ المراد من السلم الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالاً في الآية حاصلة من ضرب احتمالي ‏(‏السلم‏)‏ في احتمالي ‏(‏كافة‏)‏ وضرب المجموع في احتمالات الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، بأحدهما أن ‏{‏كَافَّةً‏}‏ لإحاطة الأجزاء، والثاني‏:‏ أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء، ونص عليه الشيخ في «دلائل الإعجاز»، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معاً كما في قوله‏:‏

خرجت بها نمشي تجر وراءنا *** على أثرينا ذيل مرط مرحل

بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي ‏(‏السلم‏)‏ بفتح السين والباقون بكسرها وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي والانتهاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏209‏]‏

‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ‏}‏ أي ملتم عن الدخول في السلم وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازاً ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات‏}‏ أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى ‏{‏مَن يُعْجِبُكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏ بالمعنى اللائق به جل شأنه منزهاً عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات‏.‏ ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرىء ‏(‏ظلال‏)‏ كقلال ‏{‏مّنَ الغمام‏}‏ أي السحاب أو الأبيض منه‏.‏ ‏{‏والملئكة‏}‏ يأتون، وقرىء ‏{‏والملئكة‏}‏ بالجر عطف على ‏(‏ظلل‏)‏ أو ‏(‏الغمام‏)‏ والمراد‏:‏ مع الملائكة أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين لميقات يوْم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي»؛ وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال‏:‏ يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتاً تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللاً يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبيّ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله والملئكة *فِي ظُلَلٍ‏}‏ ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفاً فقال‏:‏ في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 209‏]‏ فإن العزة والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذٍ تمهيداً لذكرهم كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏ على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه التأويلات ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل ‏(‏وقضاء الأمر‏)‏ عطفاً على ‏(‏الملائكة‏)‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ تذييل للتأكيد كأنه قيل‏:‏ وإلى الله ترجع الأمور التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة معاذ عطف على ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم ‏(‏ترجع‏)‏ على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضاً بالتذكير وبناء المفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

‏{‏سَلْ بَنِى إسراءيل‏}‏ أمر للرسول صلى الله عليه وسلم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 21‏]‏ إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لـِ ‏{‏مَن يُعْجِبُكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 20‏]‏ فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك ‏{‏كَمْ ءاتيناهم مّنْ ءايَةً بَيّنَةً‏}‏ أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحسن ومجاهد، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره، و‏(‏‏)‏ بينة من بان المتعدي، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به‏.‏ و‏{‏كَمْ‏}‏ إما خبرية والمسؤول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل‏:‏ سل بني إسرائيل عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة، وزَعْمُ لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني لـ ‏{‏سَلْ‏}‏ وقيل‏:‏ في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال، وقيل‏:‏ في موضع الحال أي سلهم قائلاً كم آتيناهم والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل‏:‏ بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق؛ وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان لآتينا وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد، والتقدير آتيناهموما أو آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآية تمييز، ومن صلة أتى بها للفصل بين كون آية مفعولاً لآتينا وكونها مميزة لـ ‏{‏كَمْ‏}‏ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي‏:‏ وإذا كان الفصل بين كم الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 5 2‏]‏ و‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏ وحال كم الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى، وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل لا مطلقاً فلا تنافي بين كلاميه‏.‏

وَمَن يُبَدِّلْ نعْمَةَ الله‏}‏ أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سبباً للضلالة وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من ‏(‏نعمة‏)‏ والمفعول الثاني لـ ‏(‏يبدل‏)‏ والتقدير‏:‏ ومن يبدل بنعمة الله كفراً، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء ومن يبدل بالتخفيف ‏{‏‏}‏ أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سبباً للضلالة وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من ‏(‏نعمة‏)‏ والمفعول الثاني لـ ‏(‏يبدل‏)‏ والتقدير‏:‏ ومن يبدل بنعمة الله كفراً، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء ومن يبدل بالتخفيف ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ‏}‏ أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة وإن كان تبديل الآيات مطلقاً مذموماً التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجىء فما الفائدة في ذكره ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير‏:‏ ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا‏}‏ أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات وبدلوها؛ وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الارض وَلاغْوِيَنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9 3‏]‏ كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب‏.‏

‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزؤون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على ‏(‏زين‏)‏ وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال و‏(‏ يسخرون‏)‏ خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ نزلت في ابن أبيّ بن سلول، وقيل‏:‏ في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزلها في جميعهم‏.‏

‏{‏والذين اتقوا‏}‏ هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحاً لهم بالتقوى وإشعاراً بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً‏.‏ ‏{‏فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ مكاناً لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى‏.‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ‏}‏ في الآخرة ‏{‏مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزىء بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلاً لكلا الحكمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد، وهو المروي عن أبيّ بن كعب أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناءاً على ما في «روضة الأحباب» أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلاً وامرأة ثم ماتوا إلا نوحاً وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل‏:‏ متفقين على الجهالة والكفر بناءاً على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفاراً وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح، أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ أي فاختلفوا فبعث الخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلاً على ما يذكر عقبه‏.‏ ‏{‏مُبَشّرِينَ‏}‏ من آمن بالثواب‏.‏ ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ من كفر بالعذاب وهم كثيرون، فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم كم الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قلت‏:‏ يا رسول الله كم الرسل‏؟‏ قال‏:‏ ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير ‏"‏ ولا يعارض هذا قوله تعالى ‏{‏وَرُسُلاً قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من ‏(‏النبيين‏)‏، والظاهر أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوباً بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدراً مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور أنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى قبل التوراة عشر، والتوراة والإنجيل، والزبور والفرقان، وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه، ولا يخفى ما فيه من الركة ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بـ ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو حال من ‏{‏الكتاب‏}‏ أي متلبساً شاهداً به ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس‏}‏ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث، وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناءاً على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى؛ والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي ‏(‏لنحكم‏)‏ بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين‏.‏

‏{‏فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناءاً على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازاً عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ‏}‏ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبساً به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الذين أُوتُوهُ‏}‏ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحاً للاختلاف سبباً لرسوخه واستحكامه، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه فالاختلاف لا يكون سابقاً على البعثة وحاصله أن المراد ههنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن الإنزال لا يفيد ذلك، وقيل‏:‏ عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم

‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بـ ‏{‏اختلفوا‏}‏ محذوفاً، والحصر على تسليم أن يكون مقصوداً مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظاً، أو من تقدير المحذوف مؤخراً وفي «الدرّ المصون» تجويز تعلقه بما اختلف قبله ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقاً عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره ويجوز عند جماعة مطلقاً وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكوراً مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز وإلا فلا واستدل من أجاز مطلقاً بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7 2‏]‏ فإنه لم يذكر فيه المستثنى أصلاً، والتقدير‏:‏ ما نراك اتبعك أحد في حال إلا أراذلنا في بادي الرأي وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي‏:‏ اتبعوا وبأنّ الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره قاله الرضيّ وهو مبنى الاختلاف في الآية

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ متعلق بما تعلق به ‏{‏مِنْ‏}‏ والبغي الظلم أو الحسد، و‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف صفة ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ وفيه إشارة على ما أرى إلى أنّ هذا البغي قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه وهو فائدة التوصيف بالظرف وقيل‏:‏ أشار بذلك إلى أنّ البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، و‏{‏مِنْ‏}‏ بيان ‏{‏لَّمّاً‏}‏ والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين وليس راجعاً إلى «الذين أوتوه» كالضمائر السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل‏:‏ المراد من ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في ‏{‏اختلفوا‏}‏ للذين أوتوه أي الكتاب، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال‏:‏ اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد فهدى الله تعالى أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة‏.‏ واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للقبلة‏.‏ واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقالت اليهود‏:‏ كان يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ كان نصرانياً، وجعله الله تعالى حنيفاً مسلماً فهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمّه‏:‏ بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله تعالى روحه وكلمته، فهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبيّ بن كعب ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ لّيَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏‏.‏ ‏{‏والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، والجملة مقررّة لمضمون ما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدّة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى، حتى بلغت القلوب الحناجر، وقيل‏:‏ في غزوة أحد، وقال عطاء‏:‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتدّ الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييباً لقلوبهم هذه الآية، والخطاب إمّا للمؤمنين خاصة، أو للنبي صلى الله عليه وسلم ولهم، ونسبة الحسبان إليه عليه الصلاة والسلام إمّا لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره، وإمّا على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة والهمزة المقدّرة لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون، وقيل‏:‏ متصلة بتقدير معادل، وقيل‏:‏ منقطعة بدون تقدير، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأنّ قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، وإظهار المعجزات تشجيعاً للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين، أو للمؤمنين خاصة فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين ويؤيده ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 21‏]‏ الخ فإذا قيل‏:‏ بعد ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ كان نقلاً من الغيبة إلى الخطاب، أو لأنّ الكلام الأوّل تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين التشجيع والصبر تأسياً بمن قبلهم، كما يدل عليهم ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال‏:‏ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا‏:‏ ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا‏؟‏ فقال‏:‏ «إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال‏:‏ والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلى الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» وهذا هو المضرب عنه ببل التي تضمنتها ‏{‏أَمْ‏}‏ أي دع ذلك أحسبوا أن يدخلوا الجنة فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى، ومما ذُكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها، وقيل‏:‏ وجه ذلك أنه سبحانه لما قال‏:‏

‏{‏يَهْدِى مَن يَشَآء إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 21‏]‏ وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف

‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم‏}‏ الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم ‏{‏وَلَمَّا‏}‏ جازمة كلم وفرّق بينهما في «كتب النحو»، والمشهور أنها بسيطة، وقيل‏:‏ مركبة من لم وما النافية وهي نظيره قد في أنّ الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع‏.‏  ‏{‏مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة، فالكلام على حذف مضاف، و‏(‏ الذين‏)‏ صفة لمحذوف أي المؤمنين، ‏{‏وَمِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏خَلَوْاْ‏}‏ وهو كالتأكيد لما يفهم منه‏.‏ ‏{‏مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء‏}‏ بيان للمثل على الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا، وجوّز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد ‏{‏وَزُلْزِلُواْ‏}‏ أي أزعجوا إزعاجاً شديداً بأنواع البلاء‏.‏ ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى، وما تقتضيه حكمته، والمؤمنون المقتدون بآثاره، المهتدون بأنواره ‏{‏متى‏}‏ يأتي ‏{‏نَصْرُ الله‏}‏ طلباً وتمنياً له، واستطالة لمدة الشدّة لا شكاً وارتياباً والمراد من ‏(‏الرسول‏)‏ الجنس لا واحد بعينه، وقيل‏:‏ هو اليسع، وقيل‏:‏ شعياء، وقيل‏:‏ أشعياء، وعلى التعيين يكون المراد من ‏{‏الذين خَلَوْاْ‏}‏ قوماً بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل وقرأ نافع ‏{‏يِقُولُ‏}‏ بالرفع على أنها حكاية حال ماضية و‏{‏مَعَهُ‏}‏ يجوز أن يكون منصوباً بـ ‏{‏يِقُولُ‏}‏ أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوباً بـ ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ أي وافقوه في الإيمان ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏ استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييباً لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف، وقيل‏:‏ لما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال، وجوز أن يكون هذا وارداً من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوع المحكي، والقول بأن هذه الجملة مقول الرسول ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏ تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء، أما لفظاً فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وأما معنى للأنه لا يحسن ذكر قول الرسول ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏ في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة، والقول بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلا مقول لواحد منهما، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل لا ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفاً على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولاً لواحد منهما، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء عنه خبر

«حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيآت ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن» ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا‏}‏ يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ من المعارف والإخلاص بزعمه ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 20‏]‏ الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا‏}‏ بالقاء الشبه على ضعفاء المريدين ‏{‏وَيُهْلِكَ الحرث‏}‏ ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 20‏]‏ فكيف يدعي هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله‏}‏ حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجاً وحباً لظهور نفسه وزعماً منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 20‏]‏ أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم ‏{‏وَمِنَ الناس مَن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7 20‏]‏ يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلباً لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 802‏]‏ وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة ‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ‏}‏ عن مقام التسليم والرضا بالقضاء ‏{‏مِن بَعْدِ‏}‏ دلائل تجليات الأفعال والصفات، ‏{‏البينات فاعلموا أَنَّ الله‏}‏ تعالى ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ غالب يقهركم، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 902‏]‏ لا يقهر إلا على مقتضى الحكمة، ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ إلا أن يتجلى الله سبحانه ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ صفات قهرية منن جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية، ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل

‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ بالفناء ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم واحتجاب كل بمادة بدنه ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 21‏]‏ ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فالسفليون ازدادوا خلافاً وعناداً؛ والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ‏}‏ جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم‏}‏ حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقر وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي فأجيبوا إذا بلغ السيل الزبى، وقيل‏:‏ لهم إلا إن نصر الله برفع الحجاب وظهور آثار الجمال قريب ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق‏:‏

ومن لم يمت في حبه لم يعش به *** ودون اجتناء النحل ما جنت النحل

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح‏:‏ «كان عمرو بن الجموح شيخاً كبيراً ذا مال كثير فقال‏:‏ يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق‏؟‏ فنزلت» وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي ديناراً، فقال‏:‏ أنفقه على نفسك فقال‏:‏ إن لي دينارين فقال‏:‏ أنفقهما على أهلك فقال‏:‏ إن لي ثلاثة فقال‏:‏ أنفقها على خادمك فقال‏:‏ إن لي أربعة فقال‏:‏ أنفقها على والديك فقال‏:‏ إن لي خمسة فقال‏:‏ أنفقها على قرابتك فقال‏:‏ إن لي ستة فقال‏:‏ أنفقها في سبيل الله تعالى» وعن ابن جريج قال‏:‏ «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم‏؟‏» فنزلت‏.‏

‏{‏قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحاً لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، وأشار إجمالاً إلى بيان المنفق فإنّ ‏{‏مّنْ خَيْرٍ‏}‏ يتضمّن كونه حلالاً إذ لا يسمى ما عداه خيراً وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأنّ السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء، طلبه المريض أم لم يطلبه، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيباً في أكل العسل فقال‏:‏ كله مع الخل، فالكلام إذاً من أسلوب الحكيم، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضاً كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلاً على الجواب فتكون الآية جواباً لأمرين مسؤول عنهما، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا‏؟‏ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحاً وعن المذكور تبعاً، والأكثرون على أن الآية في التطوع، وقيل‏:‏ في الزكاة، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين، وفيه أن عموم ‏(‏خير‏)‏ مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالاجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين، و‏(‏ الرقاب‏)‏ إما اكتفاءاً بما ذكر في المواضع الأخر، وإما بناءاً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ فإنه شامل لكل خير واقع في أي مصرف كان و‏{‏مَا‏}‏ شرطية مفعول به لتفعلوا والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيداً للخاص الواقع في الجواب‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الإسمية المؤكدة، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب، وقيل‏:‏ إنها دليل الجواب، وليست به، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى ورد «الصدقة تطفىء غضب الرب»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم، وقرىء بالبناء للفاعل وهو الله عز وجل ونصب ‏(‏القتال‏)‏، وقرىء أيضاً ‏(‏كتب عليكم القتل‏)‏ أي قتل الكفرة ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ عطف على ‏(‏كتب‏)‏ وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه، وقيل‏:‏ الواو للحال، والجملة حال وردّ بأن الحال المؤكدة لا تجيء بالواو والمنتقلة لا فائدة فيها والكره بالضم كالكره بالفتح وبهما قرىء ‏(‏الكراهة‏)‏ وقيل‏:‏ المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته، وقيل‏:‏ المفتوح اسم بمعنى الإكراه والمضموم بمعنى الكراهة وعلى كل حال فإن كان مصدراً فمؤل أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروهاً لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى‏.‏

‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة‏.‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في «البحر»، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالاً ‏(‏وعسى‏)‏ الأولى‏:‏ للإشفاق والثانية‏:‏ للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروهاً ومكروهها محبوبهاً فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيراً لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرم‏}‏ أخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى نخلة فقال‏:‏ كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام؛ وكتب له كتاباً قبل أن يعلمه أين يسير فقال‏:‏ أخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحداً من أصحابك على الذهاب معك‏.‏ فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أنِ امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه‏:‏ وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعاً وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحداً فمضى معه القوم حتى إذا كانوا ببخران أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم، وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقاً قالوا‏:‏ عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا‏:‏ لئت قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئاً فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال‏:‏ سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش‏:‏ حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وفدى الأسيرين، وفي «سيرة ابن سيد الناس» إن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أيحل القتال في الشهر الحرام‏؟‏ فأنزل الله تعالى الآية‏.‏

ومن هنا قيل‏:‏ السائلون هم المشركون، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضاً بهم موافقاً لتعريضهم بالمؤمنين‏.‏

واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا‏:‏ وأكثر الروايات تقتضيه، وليس الشاهد مفصحاً بالمقصود والمراد من الشهر الحرام رجل أو جمادى فأل فيه للعهد، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، وسميت حرماً لتحريم القتال فيها، والمعنى‏:‏ يسئلونك أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أنه ‏{‏قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول‏:‏ غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني‏:‏ ملابس له بغير الكلية والجزئية، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي، وقرأ عبد الله ‏(‏عن قتال‏)‏ وهو أيضاً بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل، وقرأ عكرمة ‏(‏قتل فيه‏)‏ وكذا في ‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ أي عظيم وزراً، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقد من استحلاله صلى الله عليه وسلم القتال فيه باطل، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه بل من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد كما في الحديث، والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِى الارض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام، وساداتنا الحنفية يقولون به، وأما الشافعية فيقولون‏:‏ إن الخاص سواء كان متقدماً على العام أو متأخراً عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنياً والظني لا يعارض القطعي، وقال الإمام‏:‏ الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقاً في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعاً لأن قتال المسلمين مطلقاً من غير تقييد بالأشهر الحرم، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفاً لغواً ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8 3‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

ولا ترى الضب بها ينحجر *** وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناءاً على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفاً نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أنه ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أحلت لي ساعة من نهار ‏"‏ وحرمة قتال المسلمين مطلقاً لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكماً مستمراً إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار

‏{‏وَصُدَّ‏}‏ أي منع وصرف ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ وهو الإسلام قاله مقاتل، أو الحج قاله ابن عباس والسدي، أو الهجرة كما قيل، أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات، فالإضافة إما للعهد أو للجنس ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ أي بالله أو بسبيله ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، وأجاز ذلك الكوفيون، ويونس، والأخفش، وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظماً ونثراً، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 652‏]‏ واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على ‏{‏صَدَّ‏}‏ أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي «التسهيل» إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظاً ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياساً نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك أي مثل أبيه ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصوراً على السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ماحذف منه، واختار الزمخشري عطفه على ‏{‏سَبِيلِ الله‏}‏ تعالى، واعترض بأن عطف ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ على ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان، أحدهما أن ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل وصد عن سبيل الله أعني كفراً به والمسجد الحرام والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما‏:‏ أن موضع ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ عقيب ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفواً له، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذور الفصل ويزيد محذوراً آخر، واختار السجاوندي العطف على الشهر الحرام وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقاً بفعل محذوف دل عليه الصد أي ويصدون عن المسجد الحرام كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 5 2‏]‏ وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل‏:‏ إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى

‏{‏وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ‏}‏ وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل‏:‏ إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث‏.‏ والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم ‏{‏والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏ تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أكبر عند الله من القتل وما ذكر سابقاً داخل فيه دخولاً أولياً، وقيل‏:‏ المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى محذوفة، وقد سيق تعليلاً للحكم السابق

‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏يَسْئَلُونَكَ‏}‏ بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيراً للمؤمنين عنهم وإيقاظاً في بعض الأمور، و‏{‏حتى‏}‏ للتعليل، والمعنى لا يزالون يعادونكم لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِ اسْتَطَاعُواْ‏}‏ متعلق بما عنده، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال، وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلاً عبثاً لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقاً بلا يزالون يقاتلونكم إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة‏.‏

وذهب ابن عطية إلى أن ‏{‏حتى‏}‏ للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 0 4‏]‏ وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقاً بلا يزالون فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلاً كما لا يخفى

‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ‏}‏ الحق باضلالهم وإغوائهم، أو الخوف من عداوتهم ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏ بأن لم يرجع إلى الإسلام ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظراً للفظ والمعنى‏.‏ ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن، قيل‏:‏ وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي «النهاية» «أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال‏:‏ حَبِط عمله وأحبطه غيره وهو من قولهم‏:‏ حَبِطت الدابة حَبَطاً بالتحريك إذا أصابت مرعى طيباً فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت»، وقرىء ‏(‏حبطت‏)‏ بالفتح وهو لغة فيه‏.‏

‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ لبطلان ما تحيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏

كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئاً، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناءاً على أنها لو أحبطت مطلقاً لما كان للتقييد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏ فائدة والقول بأنه فائدته أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلاً موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمناً لا يحبط إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذٍ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى، وقيل‏:‏ بناءاً على أنه جعل الموت عليها شرطاً في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطاً بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ وما استدل به الشافعي ليس صريحاً في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة، و‏(‏ أولئك‏)‏ الخ تذييلاً معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتباً على الموت على الردة فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملاً بالدليلين، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سبباً كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما قيل‏:‏ تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافاً للشافعي وكذا الحج، واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا‏؟‏ فذهب بعض إلى الأول‏:‏ فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني‏:‏ وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في «الكبير» من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر‏.‏ ‏{‏والذين هاجروا‏}‏ أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد الوصل‏.‏ ‏{‏وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ المنعوتون بالنعوت الجليلة ‏{‏يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله‏}‏ أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض عليها بناءاً على ما رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا‏:‏ يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطي فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى أن العموم أعم نفعاً وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيراً فلا ينبغي الاتكال على العمل ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجال الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ قال الواحدي‏:‏ نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي بعض الروايات «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم‏:‏ ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعا أناساً من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا علياً كرم الله تعالى وجهه فقرأ ‏{‏قُلْ ياأهل أَيُّهَا الكافرين‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ الخ بحذف ‏(‏لا‏)‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3 4‏]‏ فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال‏:‏ اللهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 09، 19‏]‏ وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ انتهينا يا رب‏.‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعني وهذا هو الإيمان والتقى حقاً‏.‏

والخمر عند الإمام أبيحنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها، والخامر وهو من يكتم الشهادة، وقيل‏:‏ لأنها تغطي حتى تشتد، ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها، وقيل‏:‏ لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه؛ وقيل‏:‏ لأنها تترك حتى تدرك، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة، وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطاً، ثم إطلاق الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي‏:‏

‏"‏ كل مسكر خمر ‏"‏

وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والخمر ما خامر العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة ‏"‏ الخمر من هاتين الشجرتين، وأشار إلى الكرم والنخلة ‏"‏ وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البسر والتمر» ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام كالخمر وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد لا تعليم اللغات العربية سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها؛ وما يقال‏:‏ إنه مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصاً فيما تقدّم فإن النجم مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال‏:‏ إن الخمر حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكراً، وإذا استعمل في غيره كان مجازاً إلا أنّ الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة والصوم والزكاة في معانيها المعروفة شرعاً، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمراً دون المسكر من غيره أكفروا مستحل الأوّل، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا‏:‏ إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال‏:‏ إنّ السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجساً فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر وكذا قليله ولو قطرة ويحدّ شاربه مطلقاً، وفي الخبر ‏"‏ حرّمت الخمر لعينها ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ بعينها قليلها وكثيرها سواء ‏"‏ والسكر من كل شراب، وقالوا‏:‏ إنّ الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناءاً على أنّ الحدّ بالقليل النيء خاصة وهذا قد طبخ وأمّا غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتدّ على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة‏:‏ إنه مباح لأنه مشروب طيب وليس بخمر ولنا أنه رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعاً للفساد المتعلق به، وأمّا نقيع التمر وهو السكر وهو النيء من ماء التمر فحرام مكروه، وقال شريك‏:‏ إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرّم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل‏:‏ أراد بها التوبيخ أي‏:‏ ‏(‏أتتخذون منه سكراً وتدعون رزقاً حسناً‏)‏ وأمّا نقيع الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب فحرام إذا اشتدّ وغلى، وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد والشافعي حرام، ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأول والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضاً، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال‏:‏

وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا *** طلاقاً لمن من مسكر الحب يسكر

وعن كلهم يروى وأفتى محمد *** بتحريم ما قد قلّ وهو المحرر

وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أنّ الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام وقليله ككثيره ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة‏.‏

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال‏:‏ ‏"‏ كل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» وصح ‏"‏ ما أسكر كثيره فقليله حرام ‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏ ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ‏"‏ والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء كالعنبرية والإكسير ونحوهما ظناً منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمّة وهيهات هيهات الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل‏.‏

والميسر مصدر ميمي من يسر كالموعد والمرجع يقال‏:‏ يسرته إذا قمرته واشتقاقه إمّا من اليسر لأنه أخذ المال بيسر وسهولة، أو من اليسار لأنه سلب له، وقيل‏:‏ من يسروا الشيء إذا اقتسموه، وسمي المقامر ياسراً لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور، وقال الواحدي‏:‏ من يسر الشيء إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القدح، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي‏:‏ الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى‏.‏

والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة وهو المنيح والسفيح والوغد، للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمّون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم‏.‏ ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر الوغد في الأسماء بل ذكر غيره، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال‏:‏

كل سهام الياسرين عشرة *** فأودعوها صحفاً منشره

لها فروض ولها نصيب *** الفذ والتوأم والرقيب

والحلس يتلوهنّ ثم النافس *** وبعده مسبلهن السادس

ثم المعلى كاسمه المعلى *** صاحبه في الياسرين الأعلى

والوغد والسفيح والمنيح *** غفل فما فيما يرى ربيح

وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان، وعن ابن سيرين كل شيء فيه خطر فهو من الميسر ومعنى الآية يسألونك عما في تعاطي هذين الأمرين، ودل على التقدير بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا‏}‏ إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب ‏{‏إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ من حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب الإثم وهو ترك المأمور، وفعل المحظور ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف، وهي باقية قبل التحريم وبعده، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل، وخبر «ما جعل الله تعالى شفاء أمّتي فيما حرّم عليها» لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى‏.‏

‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما، فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كانت عدوّة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يعقل أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها وهو الطبع فارتكبها وأكثر منها، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله‏.‏

ذكر ابن أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيأة المتوضىء ويقول‏:‏ الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً‏.‏ وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية‏:‏ ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك‏؟‏ فقال‏:‏ ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم، ومنها صدّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالباً‏.‏ وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها، وربما أورثت فيه أمراضاً كانت سبباً لهلاكه، وقد ذكَر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع «كتب الطب»، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفي فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ‏"‏ ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلاً‏.‏

ومن مفاسد الميسر أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيراً من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير، والإثم إما العقاب أو سببه، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم، والحق أن الآية ليست نصاً في التحريم كما قال قتادة، إذ للقائل أن يقول‏:‏ الإثم بمعنى المفسدة، وليس رجحان المفسدة مقتضياً لتحريم الفعل بل لرجحانه، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها، وقالوا‏:‏ إنما نشرب ما ينفعنا، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء ‏(‏إثم كثير‏)‏ بالمثلثة، وفي تقديم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى، وقرأ أبيّ ‏(‏وإثمهما أقرب من نفعهما‏)‏‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ أخرج ابن إسحق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفراً من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت، وكان قبل ذلك ينفق الرجال ماله حتى ما يجد ما يتصدق، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي معطوفة على ‏{‏يَسْئَلُونَكَ‏}‏ قبلها عطف القصة على القصة، وقيل‏:‏ نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها، وكأنه سئل أولاً عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ أي صفته أن يكون عفواً فكلمة ‏{‏مَا‏}‏ للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد‏؟‏ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد، ولذا يقال للأرض الممهدة السهلة الوطء عفو، والمراد به ما لا يتبين في الأموال، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال، وعن الحسن ما لا يجهد، أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» وأخرج ابن خزيمة عنه أيضاً أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الصدقة ما أبقت غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق عليّ أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق عليّ أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني» وأخرج ابن سعد عن جابر قال‏:‏ قدم أبُو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال‏:‏ «يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال‏:‏ يأتي أحدكم بما يملك فيقول‏:‏ هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المتبدأ على أن ‏{‏مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ مبتدأ وخبر، والباقون بالنصب بتقدير الفعل، و‏(‏ ماذا‏)‏ مفعول ‏{‏يُنفِقُونَ‏}‏ ليطابق الجواب السؤال‏.‏

‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمان وأكثر نفعاً في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ على ما فيه لا يخفى بعده، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف، واللام في ‏(‏الآيات‏)‏ للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبييناً مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال كذلك على طبق ‏(‏لكم‏)‏ لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة، أو الجمع مما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة، وقيل‏:‏ إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2 5‏]‏ وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات‏.‏