فصل: تفسير الآية رقم (62)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً‏}‏ أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه‏.‏ وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس‏.‏ ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان بمعنى خلق‏.‏ وجعله بعضهم بمعنى اختلافاً والمراد الاختراف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في الوساد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل؛ وفي البحر يقال‏:‏ بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه‏.‏ ومن هذا المعنى قول زهير‏:‏

بها العين والآرام يمشين خلفة *** واطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً‏:‏

ولها بالماطرون إذا *** أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتفعت *** سكنت من جلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة *** حولها الزيتون قد نبعا

انتهى وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيراً‏.‏ واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله‏.‏ وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف‏.‏ وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف‏.‏ والمعنى جعلهما مختلفين والإفراد لكونه مصدراً في الأصل ‏{‏لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركة في الآخر، وروي هذا عن جماعة من السلف، وروي الطيالسي‏.‏ وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له‏.‏ صنعت شيئاً لم تكن تصنعه قال‏:‏ إنه بقي على من وردى شيء فأحببت أن أتمه أو قال‏:‏ أقضيه وتلا هذه الآية‏.‏ وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات وهو «مما يتوقف الأداء عليه، وفي الكلام تقدير كما أشير إليه‏.‏ ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب ‏{‏أَوْ أَرَادَ شُكُوراً‏}‏ أن يشكر الله تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن ورداً له‏.‏ وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة، ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى فيعلم أنه لا بد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثوراً، والظاهر أن اللام على هذا صلة ‏{‏جَعَلَ‏}‏ ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه، وجوز أن تكون للتعليل و‏{‏أَوْ‏}‏ للتنويع على معنى الاشتمال على هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع‏.‏ وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية، ولعل في التعبير أولاً بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر‏.‏

وقرأ أبي بن كعب ‏{‏ءانٍ يَتَذَكَّرُ‏}‏ وهو أصل ليذكر فابدل التاء ذالا وأدغم‏.‏ وقرأ النخعي‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وطلحة‏.‏ وحمزة ‏{‏أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَعِبَادُ الرحمن‏}‏ كلام مستأنف لبيان أوصاف خاص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز وجل وإضافتهم إلى الرحمن دوي غيره من أسمائه تعالى وضمائره عز وجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعماً عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق‏.‏ وفي ذلك أيضاً تعريض بمن قالوا‏:‏ ‏{‏وما الرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ والأكثرون أن عباداً هنا جمع عبد، وقال ابن بحر‏:‏ جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني ‏{‏عِبَادِ‏}‏ بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب، وقال الراغب‏:‏ العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل‏.‏ وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إِحسان الله تعالى عليه‏.‏ قيل‏:‏ وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز وجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَلّ لِرَبّكَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏ وقرأ الحسن ‏{‏وَعَبَدَ‏}‏ بضم العين والباء‏.‏ وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف‏.‏ وأنشد‏:‏

أنسب العبد إلى آبائه *** اسود الجلدة من قوم عبد

وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان‏.‏ الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً‏}‏ والهون مصدر بمعنى اللين والرفق‏.‏ ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، وروي نحو هذا عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ والفصيل بن عياض‏.‏ وغيرهم، وعن الإمام أبني عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشى الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر‏.‏

شوأخرج الآمدي في «شرح ديوان الأعشى» بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له‏:‏ إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله تعالى‏.‏ وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً‏}‏ فاقصد في مشيتك‏.‏ وقيل‏:‏ المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم‏.‏ فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة‏.‏ وابن النجار عن ابن عباس قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»

وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن ‏{‏هَوْناً‏}‏ بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالاً لا غير‏.‏ والظاهر أنه عربي بمعنى اللين والرفق‏.‏ وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح‏.‏ ومنه الحديث «المؤمن هين لين» والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم‏.‏ نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل‏.‏

واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم‏.‏ والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم‏.‏ وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب‏.‏ قم قال‏:‏ وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هوناً فباطل فكم ماش هوناً رويداً وهو ذنب أطلس‏.‏ وقد كان صلى الله عليه وسلم يتكفا في مشيه كإنما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الآية‏.‏ وفيه بحث من وجهين فلا تغفل‏.‏ وقرأ اليماني‏.‏ والسلمي ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ مبنياً للمفعول مشدداً ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون‏}‏ أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله‏:‏

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

‏{‏قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم‏.‏ وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلى الإنسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلماً منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم ولا شر‏.‏ فسلاماً مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر‏.‏ والتقدير نتسلم تسلماً منكم‏.‏ والجملة مقول القول‏.‏ وإلى هذا ذهب سيبويه في اكلتاب ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين‏.‏

وقال الأصم‏:‏ هو سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه ‏{‏سلام عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏ ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد قالوا قولاً سديداً‏.‏

وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد ههنا يقولون هذه اللفظة لا أنه يقولون قولاً ذا سداد بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ لا نبتغي الجاهلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ورده صاحب الكشف بأن تلك الآية لا تخالف هذا التفسير فإن قولهم‏.‏ سلام عليكم من سداد القول أيضاً كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو ما يؤدي مؤداه أيضاً من كل قول يدل على المتاركة مع الخلو عن الإثم واللغو وهو حسن لا غبار عليه‏.‏

وفي بعض التواريخ كما في البحر أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن علي كرم الله تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له‏:‏ إنما تدعى هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكى ذلك على المأمون ثم قال‏:‏ ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون‏:‏ فما أجابك به قال‏:‏ كان يقول لي‏:‏ سلاماً سلاماً فقال المأمون‏:‏ يا عم قد أجابك بابلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزي إبراهيم واستحي عليه من الله تعالى ما يستحق، والظاهر أن المراد مدحهم بالأغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية‏.‏ ونقل عن أبي العالية واختاره ابن عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما‏}‏ بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم‏.‏ وكان الحسن إذا قرأ ما تقدم يقول‏:‏ هذا وصف نهارهم وإذا قرأ هذه قال‏:‏ هذا وصف ليلهم والبيتوتة أن يدركك الليل نمت أو لم تنم و‏{‏رَّبُّهُمْ‏}‏ متعلق بما بعده‏.‏ وقدم للفاصلة والتخصيص‏.‏ والقيام جمع قائم أو مصدر أجرى مجراه أي يبيتون ساجدين وقائمين لربهم سبحانه أي يحيون الليل كلا أو بعضا بالصلاة، وقيل‏:‏ من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل‏:‏ أريد بذلك فعل الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء، وقيل‏:‏ من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في عموم الآية‏.‏ وبالجملة في الآية حض على قيام الليل في الصلاة‏.‏ وقدم السجود على القيام ولم يعكس وإن كان متأخراً في الفعل لأجل الفواصل ولأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه سبحانه وآباء المستكبرين عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ الآية‏.‏

وقرأ أبو البرهسم ‏{‏سجوداً‏}‏ على وزن قعوداً وهو أوفق بقياماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وقياما والذين يَقُولُونَ‏}‏ في أعقاب صلواتهم أو غي عامة أوقاتهم ‏{‏رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً‏}‏ أي لازماً كما أخرجه الطستي عن ابن عباس وأنشد رضي الله تعالى عنه في ذلك قول بشر بن أبي حاتم‏:‏

ويوم النسار ويوم الجفار *** كانا عذاباً وكانا غراماً

ومثله قول الأعشى‏:‏

ان يعاقب يكن غراماً وان يع *** ط جزيلاً فإنه لا يبالي

وهذا اللزوم إما للكفار أو المراد به الامتداد كما في لزوم الغريم‏.‏ وفي رواية أخرى عنه تفسيره بالفظيم الشديدذ‏.‏ وفسره بعضهم بالمهلك، وفي حكاية قولهم هذا مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى ربهم عز وجل في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏ وفي ذلك تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء، والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَهَا‏}‏ الخ من كلام الداعين وهو تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حال عذابها‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً‏}‏ وهو تعليل لذلك بسوء حالها في نفسها‏.‏ وترك العطف للإشارة إلى أن كلا منهما مستقل بالعلية، وقيل‏:‏ تعليل لما علل به أولا وضعفه ابن هشام في التذكرة بأنه لا مناسبة بين كون الشيء غراماً وكونه ساء مستقرا‏.‏

وأجيب بأنه بملاحظة اللزوم والمقام فإن المقام من شأنه اللزوم، وقيل‏:‏ كلتا الجملتين من كلامه تعالى ابتداء علل بهما القول على نحو ما تقدم أو علل ذلك بأولاهما وعللت الأولى بالثانية، وجوز كون احداهما مقولة والأخرى ابتدائية والكل كما ترى‏.‏ و‏{‏سَاءتْ‏}‏ في حكم بئست والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي وهو الرابط لهذه الجملة بما هي خبر عنه إن لم يكن ضمير القصة‏.‏ و‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ تمييز وفيها ضمير مبهم عائد على ‏{‏مُسْتَقِرّاً‏}‏ مفسر به وأنت لتؤويل المستقر بجنهم أو مطابقة للمخصوص‏.‏ ألا ترى إلى ذي الرمة كيف أنث الزورق على تأويل السفينة حيث كان المخصوص مؤنثاً في قوله‏:‏

أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة *** دعائم الزور نعمت زورق البلد

قيل‏:‏ ويجوز أن تكون ‏{‏سَاءتْ‏}‏ بمعنى أحزنت فهي فعل متصرف متعد وفاعله ضمير جهنم ومفهوله محذوف أي أحزونت أهلها وأصحابها و‏{‏مُسْتَقِرّاً‏}‏ تمييز أو حال وهو مصدر بمعنى الفاعل أو اسم مكان وليس بذاك‏.‏

والظاهر أن ‏{‏مُسْتَقِرّاً‏}‏ ومقاماً كقوله‏:‏

وألفى قولها كذبا ومينا *** وحسنه كون المقام يستدعي التطويل أو كونه فاصلة‏.‏ وقيل‏:‏ المستقر للعصاة والمقام للكفرة وإن في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏وَمُقَاماً‏}‏ بفتح الميم أي مكان قيام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ‏}‏ أي لم يتجاوزوا حد الكرم ‏{‏وَلَمْ يَقْتُرُواْ‏}‏ أي ولم يضيقوا تضييق الشحيح، وقال أبو عبد الرحمن الحبلى‏:‏ الإسراف هو الإنفاق في المعاصي والقتر الإمسام عن طاعة، وروي نحو ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة‏:‏ الإسراف أن تنفق مال غيرك‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وعاصم ‏{‏يَقْتُرُواْ‏}‏ بفتح الياء وضم التاء‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء‏.‏ ونافع‏.‏ وابن عامر بضم الياء وكسر التاء‏.‏ وقرأ العلاء ابن سبابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق‏.‏ وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا وقال‏:‏ إنما يقال أقتر إذا افتقر ومنه ‏{‏وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ وغاب عنه ما حكاه الأصمعي‏.‏ وغيره من أقتر بمعنى ضيق ‏{‏وَكَانَ‏}‏ انفاقهم ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ المذكور من الاسراف والقتر ‏{‏قَوَاماً‏}‏ وسطار وعدلاً سمى به لاستقامة الطرفين وتعادلهما كأن كلا منهما يقاوم الآخر كما سمي سواء لاستوائهما‏.‏ وقرأ حسان ‏{‏قَوَاماً‏}‏ بكسر القاف، فقيل‏:‏ هما لغتان بمعنى واحد وقيل‏:‏ هو بالكسر ما يقام به الشيء، والمراد به هنا ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص‏.‏ وهو خبر ثان لكان مؤكد للأول وهو ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ أو هو الخبر و‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وإما حال من ‏{‏قَوَاماً‏}‏ لأنه لو تأخر لكان صفة، وجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلقاً به أو ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ هو الخبر و‏{‏قَوَاماً‏}‏ حال مؤكدة، وأجاز الفراء أن يكون «بين ذلك» اسم كان وبنى لاضافته إلى مبني كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66‏]‏ في قراءة من فتح الميم‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أوقال

وتعقبه الزمخشري بأنه من جهة الإعراب لا بأس له ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة‏.‏ وحاصله أن الكلام عليه من باب كان الذاهب جاريته صاحبها وهو غير مفيد‏.‏ ولا يخفى أنه غير وارد على قراءة «قواماً» بالكسر على القول الثاني فيه وعلى غير ذلك متجه‏.‏ وما قيل من أنه من باب شعري شعري والمعنى كان قواماً معتبراً مقبولاً غير مقبول لأنه مع بعده إنما ورد فيما اتحد لفظه وما نحن فيه ليس كذلك‏.‏ وكذا ما قيل‏:‏ إن «بين ذلك» أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه إليه على السواء فإن ما بين الاقتار والإسراف لا يلزم أن يكون قواماً بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل وفق الاقتار بقليل فإنه تكلف أيضاً إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه الكوسط من غير فرق ومثله لا يستعمل في المخاطبات لا لغازه، وقيل‏:‏ لأنه بعد تسليم جواز الأخلار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفي عن الإسلام‏.‏

وفيه أنه لا شك في جواز الأخبار عن الأعم بالأخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يذل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل‏.‏

ولعل الأخبار عن إنفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ‏}‏ المستلزم لكون إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الاْمور فقد شاع خير الأمور أوساطه، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير، وقد أخرج أحمد‏.‏ والطبراني‏.‏ عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فقه الرجل رفقه في معيشته»

وأخرج ابن ماجه في سننه عن أنس قال‏:‏ ْقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» وحكى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر‏:‏ الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية‏.‏ وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديماً وحديثاً، ومن ذلك قوله‏:‏

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقول حاتم‏:‏

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله *** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقول الآخر‏:‏

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت *** ولم ينهها تافت إلى كل باطل

وساقت إليه الأثم والعار بالذي *** دعته إليه من حلاوة عاجل

إلى غير ذلك‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ أي لا يشركون به غيره سبحانه‏.‏

‏{‏وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله‏}‏ أي حرمها الله تعالى بمعنى قتلها لأن التحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الذوات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ متعلق بلا يقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لا يقتلونها بسبب من اللأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الأحصان والكفر بعد الإيمان، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يقتلونها نوعاً من القتل إلا قتلاً ملتبساً بالحق وأن يكون حالاً أي لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز أن يكون متعلقاً بالقتل المحذوف والاستثناء أيضاً من أعم الأسباب أي لا يقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق‏.‏ ويكون الاستثناء مفرغاً في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم أو لكون حرم نفياً معنى‏.‏ ولا يخفى ما فيه من التكلف ‏{‏وَلاَ يَزْنُونَ‏}‏ ولا يطؤن فرجاً مجرماً عليهم، والمراد من نفي هذه القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم وإلا فلا حاجة إليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة وإحياء الليل بالصلاة ومزيد خوفهم من الله تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم‏.‏ ومنه يعلم حل ما قيل الظاهر عكس هذا الترتيب وتقديم التخلية على التحلية فكأنه قيل‏:‏ والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الإشراك وقتل النفس المحرمة كالموؤدة والزنا‏.‏

وقيل‏:‏ إن التصريح بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لهذا أو لإظهار كمال الاعتناء والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه، وقد صح من رواية البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي عن ابن مسعود قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر‏؟‏ قال‏:‏ أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت‏:‏ تم أي‏؟‏ قال‏:‏ أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق ذلك ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج الشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فاكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ الآية ونزلت ‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ الآية‏.‏

وقد ذكر الإمام الرازي أن ذكر هذا بعد ما تقدم لأن الموصوف بتلك الصفات قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين سبحانه أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك وكنه مجانباً لهذه الكبائر وهو كما ترى، وجوز أن يقال في وجه تقديم التحلية على التخلية كون الأوصاف المذكورة في التحلية أوفق بالعبودية التي جعلت عنوان الموضوع لظهور دلالتها على ترك الأنانية ومزيد الانقياد والخوف والاقتصاد في التصرف بما أذن المولى بالتصرف فيه‏.‏

ولا يأبى ههذا قصد التعريض بما ذكر في التخلية‏.‏ ويؤيد هذا القصد التعقيب بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً‏}‏ أي ومن يفعل ما ذكر يلق في الآخرة عقاباً لا يقادر قدره‏.‏ وتفسير الأثام بالعقاب مروى عن قتادة‏.‏ وابن زيد ونقله أبو حيان عن أهل اللغة وأنشد قوله‏:‏

جزى الله ابن عورة حيث أمسى *** عقوقا والعقوق له أثام

وأخرج ابن الأنبارى عن ابن عباس أنه فسره لنافع بن الأزرق بالجزاء وأنشد قول عامر بن الطفيل‏:‏

وروينا الأسنة من صداه *** ولاقت حمير منا أثاماً

والفرق يسير‏:‏ وقال أبو مسلم‏.‏ الأثام الاثم والكلام عليه على تقدير مضاف أي جزاء أثام أو هو مجاز من ذكر السبب وأرادة المسبب، وقال الحسن‏:‏ هو اسم من أسماء جهنم، وقيل‏:‏ اسم بئر فيها، وقيل‏:‏ اسم جبل‏.‏

وروي جماعة عن عبد الله بن عمر‏.‏ ومجاهد أنه واد في جهنم، وقال مجاهد‏:‏ فيه قيح ودم‏.‏

وأخرج ابن المبارك في الزهد عن شفى الأصبحى أن فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة، وعن عكرمة اسم لاودية في جهنم فيها الزناة‏.‏ وقرىء «يلق» بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏.‏ وأبو رجاء «يلقي» بألف كأنه نوى حذف الضمة المثدرة على الألف فأقرب الألف‏.‏ وقرأ أبو مسعود أيضاً ‏{‏أَيَّامًا‏}‏ جمع يوم يعني شدائد، واستعمال الأيام بهذا المعنى شائع ومنه يوم ذو أيام وأيام العرب لوقائعهم ومقاتلتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ بدل من ‏{‏يلق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ بدل كل من كل أو بدل اشتمال‏.‏ وجاء الإبدال من المجزوم بالشرط في قوله‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً

‏{‏وَيَخْلُدْ فِيهِ‏}‏ أي في ذلك العذاب المضاعف ‏{‏مُهَاناً‏}‏ ذليلاً مستحقر فيجتمع له العذاب الجسماني والروحاني‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وابن كثير ‏{‏يضاعف‏}‏ بالياء والبناء للمفعول وطرح الألف والتضعيف‏.‏

وقرأ شيبة‏.‏ وطلحة بن سليمان‏.‏ وأبو جعفر أيضاً ‏{‏نضعف‏}‏ بالنون مضمومة وكسر العين مضعفة و‏{‏يَرَوْنَ العذاب‏}‏ بالنصب، وطلحة بن مصرف «يضاعف» مبنياً للفاعل و‏{‏العذاب‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ طلحة بن سليمان ‏{‏وتخلد‏}‏ بتاء الخطاب على الالتفات المنبى عن شدة الغضب مرفوعاً‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏وتخلد‏}‏ مبنياً للمفعول مشدد اللام مجزوماً‏.‏ ورويت عن أبي عمرو‏.‏ وعنه كذلك مخففاً‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏يضاعف وَيَخْلُدْ‏}‏ بالرفع فيهما، وكذا ابن عامر‏:‏ والمفضل عن عاصم ‏{‏يضاعف وَيَخْلُدْ‏}‏ مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً‏.‏ والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً وقد عرفت وجه الجزم، وأما الرفع فوجهه الاستئناف، ويجوز جعل الجملة حالاً من فاعل ‏{‏يَلْقَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، والمعنى يلق أثاماً مضاعفاً له العذاب، ومضاعفته مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ قيل لانضمام المعصية إلى الكفر، ويدل عليه قوله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ‏}‏ فإن استثناء المؤمن يدل على اعتبار الكفر في المستثنى منه‏.‏ وأورد عليه أن تكرر لا النافية يفيد نفي كل من تلك الأفعال بمعنى لا يوقعون شيئاً منها فيكون ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ بمعنى ومن يفعل شيئاً من ذلك ليتحد مورد الإثبات والنفي فلا دلالة على الانضمام، والمستثنى من جمع بين ما ذكر من الإيمان والتوبة والعمل الصالح فيكون المستثنى منه غير جامع لها، فلعل الجواب أن المضاعفة بالنسبة إلى عذاب ما دون المذكورات‏.‏

وتعقب بأن الجواب المذكور لا بعد فيه وإن لم يذكر ما دونها إلا أن الإيراد ليس بشيء لأن الكلام تعريض للكفرة ومن يفعل شيئاً من ذلك منهم فقد ضم معصيته إلى كفره ولو لم يلاحظ ذلك على ما اختاره لزم أن من ارتكب كبيرة يكون مخلداً ولا يخفى فساده عندنا، وما ذكر من اتحاد مورد الإثبات والنفي ليس بلازم‏.‏

ثم إن في الكلام قرينة على أن المستثنى منه من جمع بين أضدادها كما علمت ولذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح مع أن العمل مشروط بالإيمان فذكره للإشارة إلى انتفائه عن المستثنى منه ولذا قدم التوبة عليه، ويحتمل أن تقديمها لأنها تخلية، وقال بعضهم‏:‏ ليس المراد بالمضاعفة المذكورة ضم قدرين متساويين من العذاب كل منهما بقدر ما تقتضيه المعصية بل المراد لازم ذلك وهو الشدة فكأنه قيل‏:‏ ومن يفعل ذلك يعذب عذاباً شديداً ويكون ذلك العذاب الشديد جزاء كل من تلك الأفعال ومماثلاً له، والقرينة على المجاز قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ ونحوه، ويراد من الخلود المكث الطويل الصادق بالخلود الأبدي وغيره، ويكون لمن أشرك باعتبار فرده الأول، ولمن ارتكب إحدى الكبيرتين الأخيرتين باعتبار فرده الآخر وهو كما ترى، ومثله ما قيل من أن المضاعفة لحفظ ما تقتضيه المعصية فإن الأمر الشديد إذا دام هان‏.‏

هذا والظاهر أن الاستثناء متصل على ما هو الأصل فيه، وقال أبو حيان‏:‏ الأولى عندي أن يكون منقطعاً أي لكن من تاب الخ لأن المستثنى منه على تقدير الاتصال محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف لقاء العذاب غير المضعف، وفيه إن قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ الخ احتراس لدفع توهم ثبوت أصل العذاب بإفادة أنهم لا يلقونه أصلاً على أكمل وجه، وقيل أيضاً في ترجيح الانقطاع‏:‏ إن الاتصال مع قطع النظر عن إيهامه ثبوت أصل العذاب بل وعن إيهامه الخلود غير مهان يوهم أن مضاعفة العمل الصالح شرط لنفي الخلود مع أنه ليس كذلك‏.‏

ثم أية ضرورة تدعو إلى أن يرتكب ما فيه إيهام ثم يتشبث بأذيال الاحتراس، على أن الظاهر أن يجعل من مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبره وقرنت بذلك لوقوعها خبراً عن الموصول كما في قولك‏:‏ الذي يأتيني فله درهم، وأنا أميل لما مال إليه أبو حيان لمجموع ما ذكر، وذكر الموصوف في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا‏}‏ مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة‏.‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى الموصول، والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة باعتبار لفظه أي فأولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح‏.‏

‏{‏يُبَدّلُ الله‏}‏ في الدنيا ‏{‏سَيّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف، وقيل‏:‏ المراد بالسيئات والحسنات ملكتهما لأنفسهما أي يبدل عز وجل بملكة السيئات ودواعيها في النفس ملكة الحسنات بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية، وقيل‏:‏ هذا التبديل في الآخرة، والمراد بالسيئات والحسنات العقاب والثواب مجازاً من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى يعفو جل وعلا عن عقابهم ويتفضل سبحانه عليهم بدله بالثواب، وإلى هذا ذهب القفال‏.‏ والقاضي، وعن سعيد بن المسيب‏.‏ وعمرو بن ميمون‏.‏ ومكحول أن ذلك بأن تمحي السيئات نفسها يوم القيامة من صحيفة أعمالهم ويكتب بدلها الحسنات، واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في «الصحيح» عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال‏:‏ اعرضوا عليه صغار ذنوبه وينحي عنه كبارها فيقال‏:‏ عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو يقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال‏:‏ أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول‏:‏ إن لي ذنوباً لم أرها هنا قال‏:‏ ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ‏"‏، ونحو هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات قيل‏:‏ من هم‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم الذين يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات ‏"‏ ويسمى هذا التبديل كرم العفو، وكأنه لذلك قال أبو نواس‏:‏

تعض ندامة كفيك مما *** تركت مخافة الذنب السرورا

ولعل المراد إنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلاً منه عز وجل وتكرماً لا أنه يكتب له أفعال حسنات لم يفعلها ويثاب عليها، وفي كلام أبي العالية ما هوظ اهر في إنكار تمني الاستكثار من السيآت، فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له‏:‏ إن أناساً يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ يتأولون هذه الآية ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ وكان أبو العالية إذا أخبر بما لا يعلم قال‏:‏ آمنت بما أنزل الله تعالى من كتابه فقال ذلك ثم تلا هذه الآية ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ وكأنه ظن أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني، ويمكن أن يقال‏:‏ إن ما دلت عليه تلك الآية يكون قبل الوقوف على التبديل والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن تَابَ‏}‏ أي عن المعاصي التي فعلها بتركها بالكلية والندم عليها ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ يتلافى به ما فرط منه أو ومن خرج عن جنس المعاصي وإن لم يفعله ودخل في الطاعات ‏{‏فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله‏}‏ أي يرجع إليه سبحانه بذلك ‏{‏مَتاباً‏}‏ أي رجوعاً عظيم الشأن مرضياً عنده تعالى ما حيا للعقاب محصلاً للثواب أو فإنه يتوب إلى الله تعالى ذي اللطف الواسع الذي يحب التائبين ويصطنع إليهم أو فإنه يرجع إلى الله تعالى أو إلى ثوابه سبحانه مرجعاً حسناً، وأياً ما كان فالشرط والجزاء متغايران، وهذا لبيان حال من تاب من جميع المعاصي وما تقدم لبيان من تاب من أمهاتها فهو تعميم بعد تخصيص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏}‏ أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والباقر رضي الله تعالى عنه فهو من الشهادة، و‏{‏الزور‏}‏ منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور، ويفهم من كلام قتادة أن الشهادة هنا بمعنى يعم ما هو المعروف منها، أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ أي لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ولا يؤملونهم فيه‏.‏

وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد بالزور الغناء، وروي نحوه عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه، وضم الحسن إليه النياحة، وعن قتادة أنه الكذب، وعن عكرمة أنه لعب كان في الجاهلية، وعن ابن عباس أنه صنم كانوا يلعبون حوله سبعة أيام، وفي رواية أخرى عنه أنه عيد المشركين وروي ذلك عن الضحاك، وعن هذا أنه الشرك فيشهدون على هذه الأقوال من الشهود بمعنى الحضور، و‏{‏الزور‏}‏ مفعول به بتقدير مضاف أي محال الزور؛ وجوز أن يراد بالزور ما يعم كل شيء باطل مائل عن جهة الحق من الشرك والكذب والغناء والنياحة ونحوها فكأنه قيل‏:‏ لا يشهدون مجالس الباطل لما في ذلك من الإشعار بالرضا به، وأيضاً من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ‏}‏ على طريق الاتفاق ‏{‏باللغو‏}‏ بما ينبغي أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه ‏{‏مَرُّواْ كِراماً‏}‏ أي مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معرضين عنه‏.‏

وفسر الحسن اللغو كما أخرج عنه ابن أبي حاتم بالمعاصي، وأخرج هو‏.‏ وابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال‏:‏ بلغني أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرَّ بلهو معرضاً ولم يقف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد باللغو الكلام الباطل المؤذي لهم أو ما يعمه والفعل المؤذي وبالكرم العفو والصفح عمن آذاهم، وإليه يشير ما أخرجه جماعة عن مجاهد أنه قال في الآية‏:‏ إذا أوذوا صفحوا وجعل الكلام على هذا بتقدير مضاف أي إذا مروا بأهل اللغو أعرضوا عنهم كما قيل‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

ولا يخفى أنه ليس بلازم، وقيل‏:‏ اللغو القول المستهجن، والمراد بمرورهم عليه إتيانهم على ذكره وبكرمهم الكف عنه والعدول إلى الكناية، وإليه يومىء ما أخرجه جماعة عن مجاهد أيضاً أنه قال‏:‏ فيها كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كنوا عنه، وعمم بعضهم وجعل ما ذكر من باب التمثيل، وجوز أن يراد باللغو الزور بالمعنى العام أعني الأمر الباطل عبر عنه تارة بالزور لميله عن جهة الحق وتارة باللغو لأنه من شأنه أن يلغى ويطرح، ففي الكلام وضع المظهر موضع المضمر، والمعنى والذين لا يحضرون الباطل وإذا مروا به على طريق الاتفاق أعرضوا عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ‏}‏ القرآنية المنطوية على المواعظ والأحكام ‏{‏لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً‏}‏ أي أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية فالنفي متوجه إلى القيد على ما هو الأكثر في «لسان العرب»، وفي التعبير بما ذكر دون أكبوا عليها سامعين مبصرين ونحوه تعريض لما عليه الكفرة والمنافقون إذا ذكروا بآيات ربهم، والخرور السقوط على غير نظام وترتيب، وفي التعبير به مبالغة في تأثير التذكير بهم، وقيل‏:‏ ضمير عليها للمعاصي المدلول عليها باللغو، والمعنى إذا ذكروا بآيات ربهم المتضمنة للنهي عن المعاصي والتخويف لمرتكبها لم يفعلوها ولم يكونوا كمن لا يسمع ولا يبصر وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ بتوفيقهم للطاعة كما روي عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وعكرمة‏.‏ ومجاهد فإن المؤمن الصادق إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه وسر قلبه وتوقع نفعهم له في الدنيا حياً وميتاً ولحوقهم به في الأخرى، وذكر أنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فلا يطيب عيش ذلك المهتدي فكان يدعو بما ذكر، وعن ابن ابن عباس قرة عين الوالد بولده أن يراه يكتب الفقه، ومن ابتدائية متعلقة بهب أي هب لنا من جهتهم‏.‏

وجوز أن تكون بيانية كأنه قيل‏:‏ هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ أزواجنا وذرياتنا‏}‏ وهذا مبني على مجيء من للبيان وجواز تقدم المبين على المبين، وقرة العين كناية عن السرور والفرح وهو مأخوذ من القر وهو البرد لأن دمعة السرور باردة ولذا يقال في ضده‏:‏ أسخن الله تعالى عينه، وعليه قول أبي تمام‏:‏

فأما عيون العاشقين فأسخنت *** وأما عيون الشامتين فقرت

وقيل‏:‏ هو مأخوذ من القرار لأن ما يسر يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره، وقيل‏:‏ في الضد أسخن الله تعالى عينه على معنى جعله خائفاً مترقباً ما يحزنه ينظر يميناً وشمالاً وأماماً ووراءً لا يدري من أين يأتيه ذلك بحيث تسخن عينه لمزيد الحركة التي تورث السخونة، وفيه تكلف، وقيل‏:‏ ‏{‏أَعْيُنِ‏}‏ بالتنكير مع أن المراد بها أعين القائلين وهي معينة لقصد تنكير المضاف للتعظيم وهو لا يكون بدون تنكير المضاف إليه، وجمع القلة على ما قال الزمخشري لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم‏.‏

وتعقبه أبو حيان‏.‏ وابن المنير بأن المتقين وإن كانوا قليلاً بالإضافة إلى غيرهم إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلاً في نفسه لا بالإضافة إلى غيره، وأجيب بأن المراد أنه استعمل الجمع المذكور في معنى القلة مجرداً عن العدد بقرينة كثرة القائلين وعيونهم، واستظهر ابن المنير أن ذلك لأن المحكي كلام كل واحد من المتقين فكأنه قيل‏:‏ يقول كل واحد منهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين فتدبر وتأمل في وجه اختيار هذا الجمع في غير هذا الموضع مما لا يتأتى فيه ما ذكروه ههنا‏.‏

وأنا أظن أنه اختير الأعين جمعاً للعين الباصرة والعيون جمعاً للعين الجارية في جميع القررن الكريم ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيهاً ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ وقرأ طلحة‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأهل الكوفة غير حفص ‏{‏وذرياتنا‏}‏ على الافراد‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وأبو الدرداء‏.‏ وأبو هريرة ‏{‏قَرَأْتَ‏}‏ على الجمع ‏{‏واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً‏}‏ أي اجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل، وإمام يستعمل مفرداً وجمعاً كهجان والمراد به هنا الجمع ليطابق المفعول الأول لجعل، واختير على أئمة لأنه أوفق بالفواصل السابقة واللاحقة، وقيل‏:‏ هو مفرد وأفرد مع لزوم المطابقة لأنه اسم جنس فيجوز إطلاقه على معنى الجمع مجازاً بتجريده من قيد الوحدة أو لأنه في الأصل مصدر وهو لكونه موضوعاً للماهية شامل للقليل والكثير وضعاً فإذا نقل لغيره قد يراعى أصله أو لأن المراد واجعل كل واحد منا أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر أن مدار التوجيه على أن هذا الدعاء صدر عن الكل على طريق المعية وهو غير واقع أو عن كل واحد وهو غير ثابت، فالظاهر أنه صدر عن كل واحد قول واجعلني للمتقين إماماً فعبر عنهم للإيجاز بصيغة الجمع وأبقى ‏{‏إِمَاماً‏}‏ على حاله‏.‏

وتعقب بأن فيه تكلفاً وتعسفاً مع مخالفته للعربية وأنه ليس مداره على ذلك بل أنهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتحاد ما صدر عنهم مع أنه يجوز اختيار الثاني لأن التشريك في الدعاء أدعى للإجابة فاعرف ولا تغفل‏.‏

وروي عن مجاهد أن إماماً جمع آم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم، والمعنى اجعلنا قاصدين للمتقين مقتدين بهم، وما ذكر أولاً أقرب كما لا يخفى وليس في ذلك كما قال النخعي‏:‏ طلب للرياسة بل مجرد كونهم قدوة في الدين وعلماء عاملين، وقيل‏:‏ في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين مما ينبغي أن يطلب، وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره، وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما عرفته فيما سبق غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المتصفين بما فصل في حيز الصلات من حيث اتصافهم به؛ وفيه دلالة على أنهم متميزون منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُجْزَوْنَ الغرفة‏}‏ والجملة على الأقرب استئناف لا محل لها من الإعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان ما لهم في الدنيا من الأعمال السنية، و‏{‏الغرفة‏}‏ الدرجة العالية من المنازل وكل بناء مرتفع عال، وقد فسرت هنا على ما روي عن ابن عباس ببيوت من زبرجد ودر وياقوت‏.‏

وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه‏:‏ ‏"‏ قال فيها بيوت من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم ‏"‏، وقيل‏:‏ أعلى منازل الجنة، ولا يأباه الخبر لجواز أن تكون الغرف الموصوفة فيه هناك، وروي عن الضحاك أنها الجنة، وقيل‏:‏ السماء السابعة، وعلى تفسيرها بجمع، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِى الغرفات ءامِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏ وقرىء فيه في الغرفة يكون المراد بها الجنس وهو يطلق على الجمع كما سمعت آنفاً، وإيثار الجمع هنالك على ما قال الطيبي لأنها رتبت على الإيمان والعمل الصالح ولا خفاء في تفاوت الناس فيهما وعلى ذلك تتفاوت الأجزية، وههنا رتب على مجموع الأوصاف الكاملة فلذا جىء بالواحد دلالة على أن الغرف لا تتفاوت ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ أي بسبب صبرهم على أن الباء للسببية وما مصدرية، وقيل‏:‏ هي للبدل كما في قوله‏:‏

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا *** شنوا الاغارة فرساناً وركبانا

أي بدل صبرهم ولم يذكر متعلق الصبر ليعم ما سلف من عبادتهم فعلاً وتركاً وغيره من أنواع العبادة والكل مدمج فيه فإنه إما عن المعاصي وإما على الطاعات وإما على الله تبارك وتعالى وهو أعلى منهما ويعلم من ذلك وجه إيثار ‏{‏صَبَرُواْ‏}‏ على فعلوا ‏{‏وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما‏}‏ أي تحييهم الملائكة عليهم السلام ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة عن الآفات أو يحيي بعضهم بعضاً ويدعو له بذلك، والمراد من الدعاء به التكريم وإلقاء السرور والمؤانسة وإلا فهو متحقق لهم ويعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة فليس هناك دعاء أصلاف‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ ومحمد اليماني‏.‏ وأهل الكوفة غير حفص ‏{‏يُلْقُون‏}‏ بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ لا يموتون ولا يخرجون، وهو حال من ضمير ‏{‏يُجْزَوْنَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ أو من ضمير ‏{‏يُلْقُون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏‏.‏

‏{‏حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً‏}‏ مقابل ‏{‏سَاءتْ مُسْتَقَرّاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 66‏]‏ معنى ومثله إعراباً فتذكر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلاً أي قل للناس مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر ‏{‏مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى‏}‏ أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم ‏{‏لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ‏}‏ أي عبادتكم له عز وجل حسبما مر تفصيله، فإن ما خلق له الإنسان معرفة الله تعالى وطاعته جل وعلا وإلا فهو والبهائم سواء فما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر، وأصل العبء الثقل وحقيقة قولهم‏:‏ ما عبأت به ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبأ على كما يقول‏:‏ ما اكترثت له أي ما أعددت له من كوارثي ومما يهمني‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ معناه أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم، ويجوز أن تكون ما نافية أي ليس يعبأ، وأياً ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لولا دعاؤكم لما اعتد بكم، وهذا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبْتُمْ‏}‏ بيان لحال الكفرة منهم، والمعنى إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين، فالفاء مثلها في قوله‏:‏ فقد جئنا خراساناً والتكذيب مستعار للمخالفة، وقيل‏:‏ المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم‏:‏ كذب القتال إذا لم يبالغ فيه، والأول أولى وإن قيل‏:‏ إن المراد من التقصير في العبادة تركها‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن الزبير ‏{‏فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون‏}‏ وهو على معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب الكشف، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش، والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم، وفيه معنى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْتَ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أي لولا إرادة ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏، وقيل‏:‏ المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا ركبوا في الفلك دعوا الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ وقال سبحانه‏:‏

‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏، وقيل‏:‏ المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه‏.‏

وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبْتُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً‏}‏ أي جزاء التكذيب أو أثره لازماً يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير ‏{‏يَكُونَ‏}‏ لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للعذاب، وقد صرح به من قرأ ‏{‏يَكُونَ العذاب لِزَاماً‏}‏، وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر، وروي عن أبي‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبي مالك ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى ‏{‏لِزَاماً‏}‏‏.‏

وقرأ ابن جريج تكون بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة، وقرأ المنهال، وأبان بن ثعلب‏.‏ وأبو السمال ‏{‏لِزَاماً‏}‏ بفتح اللام مصدر لزم يقال‏:‏ لزم لزوماً ولزاماً كثبت ثبوتاً وثباتاً، ونقل ابن خالويه عن أبي السمال ‏{‏لِزَاماً‏}‏ على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة والله تعالى أعلم هذا‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ إشارة قصور حال المنكرين على أولياء الله تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ إن وجه فتنته النظر إليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه، ويشعر هذا بأن كل ما سوى الله تعالى فتنة من هذه الحيثية‏.‏

وقال ابن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباءً منثوراً، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباءً كما تضمنته، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب في المتفق والمفترق عن سالم مولى أبي حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جىء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباءً ثم قذفهم في النار، قال سالم‏:‏ بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم قال‏:‏ كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض الله تعالى أعمالهم»

وذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏ الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية الله تعالى‏.‏

وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 31‏]‏ أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعدواته، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى‏.‏ ولذا قيل‏:‏ إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 34‏]‏ إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏ إنه عام في كل من مال إلى هوس نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل‏}‏ الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام ‏{‏وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 45‏]‏ في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلاً بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 46‏]‏ إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير؛ وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود‏.‏ وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا‏}‏ إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ وهذه مرتبة الصديقين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قبضناه‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وَإِلاَّ إِلَى الله تَصِيرُ الامور‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 53‏]‏ وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائماً لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قبضناه‏}‏ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً‏}‏ تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات ‏{‏والنوم سُبَاتاً‏}‏ راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات

‏{‏وَجَعَلَ النهار نُشُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم ‏{‏وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب ‏{‏بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ‏}‏ من التجليات والكشوف ‏{‏وَأَنزَلْنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ من سماء الكرم ماء حياة العرفان ‏{‏لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ أي قلوباً ميتة ‏{‏وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما‏}‏ وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات ‏{‏وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 49‏]‏ وهم الذين سكنوا إلى رياض الأنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية ‏{‏وَلَقَدْ صرفناه‏}‏ أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم ‏{‏لّيَذْكُرُواْ‏}‏ به موطنهم الأصلي ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 50‏]‏ بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها ‏{‏وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين‏}‏ بحر الروح وبحر النفس ‏{‏هذا‏}‏ وهو بحر الروح ‏{‏عَذْبٌ فُرَاتٌ‏}‏ من الصفات الحميدة الربانية، و‏{‏هذا‏}‏ وهو بحر النفس ‏{‏مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ من الصفات الذميمة الحيوانية ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏ فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة‏.‏

وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء‏:‏ تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب، وقيل‏:‏ البحر العذاب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك صارت مورد الخواص والعوام، والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لماأن الحقيقة صعبة المسالك لا يكاد يدرك ما فيها عقل السالك، والبرزخ إشارة إلى الطريقة فإنها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين ‏{‏تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61‏]‏ قيل‏:‏ هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر التوبة والزهد‏.‏ والخوف‏.‏ والرجاء‏.‏ والتوكل‏.‏ والصبر‏.‏ والشكر‏.‏ واليقين‏.‏ والإخلاص والتسليم‏.‏ والتفويض‏.‏ والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشترى المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء ‏{‏وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً‏}‏ بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه‏.‏

وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هوناً ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون‏}‏ وهم أبناء الدنيا ‏{‏قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم هما هم فيه ‏{‏قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ سلام متاركة وتوديع

‏{‏والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 64‏]‏ لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب‏:‏

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمني *** ويجمعني والهم بالليل جامع

‏{‏والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 65‏]‏ إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فإن المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل‏:‏

فليت سليمي في المنام ضجيعتي *** في جنة الفردوس أو في جهنم

‏{‏والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ إشارة إلى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لا يسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترون بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ برفع حوائجهم إلى الأغيار ‏{‏وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله‏}‏ قتلها ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ أي إلا بسطوة تجلياته تعالى ‏{‏وَلاَ يَزْنُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئاً إلا بإذنه تعالى ‏{‏والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏}‏ لا يحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ‏}‏ وهو ما لا يقربهم إلى محبوبهم ‏{‏مروا كراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏ معرضين عنه ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏ بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم ‏{‏والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا‏}‏ من ازدوج معنا وصحبنا وذرايتنا الذين أخذوا عنا ‏{‏قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ بأن يوفقوا للعمل الصالح ‏{‏واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏ وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين ‏{‏أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة‏}‏ وهو مقام العندية ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ في البداية على تكاليف الشريعة، وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة، وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة ‏{‏وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً‏}‏ هي أنس الأسرار بالحي القيوم ‏{‏وسلاما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ وهو سلامة القلوب من طور القطيعة ‏{‏خالدين فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 76‏]‏ لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق، نسأل الله تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسوابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلى الله عليه وسلم وشرق قدره وعظم‏.‏

‏[‏سورة الشعراء‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ ‏{‏طسم‏}‏ تقدم الكلام في أمثاله إعراباً وغيره والكلام هنا كالكلام هناك بيد أنه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في هذا الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحمن، وأمال فتحة الطاء حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وقرأ نافع كما روى عنه أبو علي الفارسي في الحجة بين بين ولم يمل صرفاً لأن الألف منقلبة عن ياء فلو أميلت إليها انتقض غرض القلب وهو التخفيف‏.‏

وروى بعض عنه أنه قرأ كباقي السبعة من غير إمالة أصلاً نظراً إلى أن الطاء حرف استعلاء يمنع من الإمالة، وقرأ حمزة بإظهار نون سين لأنه في الأصل لكونه أحد أسماء الحروف المقطعة منفصل عما بعده وأدغمها الباقون لما رأوها متصلة في حكم كلمة واحدة خصوصاً على القول بالعلمية، وقرأ عيسى بكسر الميم من ‏{‏طسم‏}‏ هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع، وفي مصحف عبد الله ط س م من غير اتصال وهي قراءة أبي جعفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين‏}‏ إشارة إلى السورة، وما في ذلك من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه في الفخامة، والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بأن والكلام على تقدير مضاف أو على أن الإسناد فيه مجازي، وجوز أن يكون المبين من أبان المتعدي ومفعوله محذوف أي الأحكام الشرعية أو الحق، والأول أنسب بالمقام، والمعنى هذه آيات مخصوصة من القرآن مترجمة باسم مستقل، والمراد ببيان كونها بعضاً منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الجليلة، وقيل‏:‏ الإشارة إلى القرآن والتأنيث لرعاية الخبر، والمراد بالكتاب السورة، والمعنى آيات هذا القرآن المؤلف من الحروف المبسوطة كآيات هذه السورة المتحدي بها فأنتم عجزتم عن الاتيان بمثل هذه السورة فحكم تلك الآيات كذلك وهو كما ترى‏.‏ ومن الناس من فسر ‏{‏الكتاب المبين‏}‏ باللوح المحفوظ ووصفه بالمبين لإظهاره أحوال الأشياء للملائكة عليهم السلام والأولى ما سمعته أولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ أي قاتل إياها من شدة الوجد كما قال الليث وأنشد قول الفرزدق‏:‏

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه *** لشيء نحته عن يديه المقادر

وقال الأخفش‏.‏ والفراء‏.‏ يقال بخع يبخع بخعاً وبخوعاً أي أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك، وقال الكسائي بخع الأرض بالزراعة جعلهما ضعيفة بسبب متابعة الحراثة؛ وقال الزمخشري وتبعه المطرزي‏:‏ أصل البخع أن تبلغ بالذبح البخاع بكسر الباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح، ولم يطلع على ذلك ابن الأثير مع مزيد بحثه ولا ضير في ذلك‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ وقتادة رحمهم الله تعالى ‏{‏باخع نَّفْسَكَ‏}‏ بالإضافة على خلاف الأصل فإن الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار إليه سيبويه في الكتاب، وقال الكسائي‏:‏ العمل والإضافة سواء، وذهب أبو حيان إلى أن الإضافة أحسن من العمل، ولعل في مثل هذا الموضع لإشفاق المتكلم، ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجهاً إلى المخاطب، ولما كان غير واقع منه أيضاً قالوا‏:‏ المراد الأمر به لدلالة الإنكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل‏:‏ أشفق على نفسك أن تقتلها وجداً وحسرة على ما فاتك من إسلام قومك، وقال العسكري‏:‏ هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي، والمعنى لا تبخع نفسك، وقيل‏:‏ وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع، وحكى مثله عن ابن عطية إلا أنه قال‏:‏ المراد الإنكاري أي لا تكن باخعاً نفسك ‏{‏أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ تعليل للبخع، ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيده ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا خيفة فقالوا‏:‏ خيفة أن لا يؤمنوا بذلك الكتاب المبين، ومن الأجلة من لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الايمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي؛ وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع إيمانهم والقول بأن فعل الكون أتى به لأجل الفاصلة ليس بشيء‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏