فصل: تفسير الآية رقم (4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِن نَّشَأْ‏}‏ الخ استئناف لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه صلى الله عليه وسلم أو النهي عن البخع، ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما ذل عليه مضمون الجزاء، وجوز أن يكون مدلولاً عليه بما قبل أي إن نشأ إيمانهم ‏{‏نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً‏}‏ ملجئة لهم إلى الايمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر‏.‏

وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه ‏{‏إِن يَشَأْ يُنَزّلٍ‏}‏ على الغيبة والضمير له تعالى، وفي بعض المصاحب لو شئنا لأنزلنا ‏{‏فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد اكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف إليه فأخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض أجلة علماء العربية‏.‏

واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك، وجوزأن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏ وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم، ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الإضافة إلى ضميرهم، وقال الزمخشري‏:‏ أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأنه يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الأقحام على ما كان عليه قبل‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للأعناق‏.‏

وتعقبه أبو البقاء فقال‏:‏ هو بعيد في التحقيق لأن ‏{‏خاضعين‏}‏ يكون جارياً على غير فاعل ‏{‏ظَلْتَ‏}‏ فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم، وقال ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن زيد‏.‏ والأخفش‏:‏ الأعناق الجماعات يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي جماعة، والمعنى ظلت جماعاتهم أي جملتهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بها الرؤساء والمقدمون مجازاً كما يقال لهم‏:‏ رؤس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى، وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقاً رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الأساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤا رسلاً رسلاً وعنقاً عنقاً والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض ثم قال‏:‏ يفهم من تقابل رسلاً رسلاً لقوله‏:‏ عنقاً عنقاً أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لا يخرج أحد منهم عنه‏.‏

وقرأ عيسى‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏خاضعة‏}‏ وهي ظاهرة على جميع الأقوال في الأعناق بيد أنه إذا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الإسناد إليها مجازياً و‏{‏مَا لَهَا‏}‏ في القراءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر، وظلت عطف على ننزل ولا بد من تأويل أحد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فإنه لا يترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه، وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه إليه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول الآية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعاً قبله، وبعضهم تأويل ننزل بأنزلنا، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الايمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب مه فتأمل‏.‏

وقرأ طلحة ‏{‏فتظل‏}‏ بفك الإدغام، والجزم وضعف الحريري في درة الغواض الفك في مثل ذلك، ورجح «صاحب الكشف» القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفاً، هذا والظاهر أنه لم يتحقق إنزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالايمان من دون الجاء، نعم إذا قيل‏:‏ المراد آية مذلة لهم كما روى عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك، ولعل ما روى عن ابن عباس كما في «البحر» و«الكشاف» من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هو أن بعد عزة ناظر إلى هذا، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏خاضعين وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏ بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيداً لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم‏.‏ ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم، وجوز أن تكون تبعيضية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى، والثانية لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر، وأياً ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به‏.‏

والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابة جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عز وجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضاً عنه واستمروا على ما كانوا عليه، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول ‏{‏يَأْتِيهِمُ‏}‏ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً مقارناً للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرً وتارة أساطير الأولين وأخرى شعراً‏.‏

وقال بعض الفضلاء‏:‏ أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحاث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِهِ‏}‏ لاقتضائه تقدم الاستهزاء، وقيل‏:‏ إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاتسهزاء، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب، وقيل من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى، وعبر عن ذلك بالانباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء‏.‏ وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤن به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الارض‏}‏ بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الايمان به عز وجل ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الايمان به تعالى، وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام‏:‏ أي افعلوا ما فعلوا من الاعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه انتهى‏.‏

وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5‏]‏ الخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لا يظهر كونه زاجراً عن التكذيب بكون القرآن منزلاً من الله عز وجل وداعياً إلى الإقبال إليه، وقال ابن كمال‏:‏ التقدير ألم يتأملوا في عجائب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى‏.‏

والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم، وقيل‏:‏ هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدأ وكفرهم به عز وجل والعطف على مقدر أيضاً، والتقدير أن كذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والأول أولى وأظهر، وأياً ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير إليه، وجوز أن يراد من الأرض عجا ئبها مجازاً؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الايمان‏.‏

وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى انبتنا فيها شيئاً كثيراً من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئاً كثيراً هو كل صنف على أن من بيانية، وأياً ما كان فلا تكرار بينهما، وقد يقال‏:‏ المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتاً لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا‏}‏ الخ يدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ما تقدم واحتياجه إلى ما احتاج إليه من الحذف أو التجوز، والزوج الصنف كما أشرنا إليه، وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث أن له ضداً ما أو مثلاً ما أو تركيباً ما بل لا ينفك بوجه من تركيب، والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده، ومنه قوله‏:‏

حتى يشق الصفوف من كرمه *** فإنه أراد من كونه مرضياً في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح، ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضاً، ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وأياً ما كان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت، وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الأرض إنبات له كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ وعن الشعبي التصريح بدخول الإنسان فيه، فقد روى عنه أنه قال الناس‏.‏ من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي الانبات أو المنبت ‏{‏لآيَةً‏}‏ عظيمة دالة على ما يجب عليهم الايمان به من شؤونه عز وجل، وما ألطف ما قيل في صف النرجس‏:‏

تأمل في رياض الورد وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ قيل‏:‏ أي وما كان في علم الله تعالى ذلك‏.‏ واعترض بناء على أنه يفهم من السياقة العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس‏.‏ ورد بأن معنى كونه علمه تعالى تابعاً للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقوعه تابع له، ونقل عن سيبويه إن ‏{‏كَانَ‏}‏ صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين فالمراد الأخبار عن حالهم في الواقع لا في علم الله تعالى الأزلي وارتضاه شيخ الإسلام، وقال‏:‏ هو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاقد موجبات الايمان من جهته عز وجل وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر ويحتاج حينئذ إلى تحقيق عدم العذر بما يخفى على العلماء المتقنين، والمعنى على الزيادة وما أكثرهم مؤمنين مع عظم الآية الموجبة للايمان لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة، ويجوز على قياس ما مر عن بعض الأجلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ أن يقال‏:‏ إن ‏{‏كَانَ‏}‏ للاستمرار واعتبر بعد النفي فالمراد استمرار نفي إيمان أكثرهم مع عظم الآية الموجبة لايمانهم، وفيه من تقبيح حالهم ما فيه‏.‏

وهذا المعنى وإن تأتي على تقدير إسقاط ‏{‏كَانَ‏}‏ بأن يعتبر الاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية بعد النفي أضاً إلا أنه فرق بين الاستمرارين بعد اعتبار كان قوة وضعفاً فتدبر، ونسبة عدم الايمان إلى أكثرهم لأن منهم من لم يكن كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ أي الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلا الكفرة ‏{‏الرحيم‏}‏ أي البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترؤا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن أو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لك بأن يقدر من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام والعدة الخفية له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وتقديم العزيز لأن ما قبله أظهر في بيان القدرة أو لأنه أدل على دفع المضار الذي هو أهم من جلب المصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى‏}‏ كلام مستأنف مقرر لسوء حالهم ومسل له صلى الله عليه وسلم أيضاً لكن بنوع آخر من أنواع التسلية على ما قيل‏:‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ منصوب على المفعولية بمقدر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة، والتقدير عند بعض واذكر في نفسك وقت ندائه تعالى أخاك موسى عليه السلام وما جرى له مع قومه من التكذيب مع ظهور الآيات وسطوع المعجزات لتعلم أن تكذيب الأمم لأنبيائهم ليس بأول قارورة كسرت ولا بأول صحيفة نشرت فيهون عليك الحال وتستريح نفسك مما أنت فيه من البلبال‏.‏

وعند شيخ الإسلام واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام زاجراً لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيراً من أن يحيق بهم مثل ما حاق بهم حتى يتضح لديك أنهم في غاية العناد والإصرار لا يردعهم أخذ إضرابهم من المكذبين الأشرار ولا يؤثر فيهم الوعظ والإنذار، وهذا التقدير يناسب صدر القصة الآتية أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏ والأول يناسب القصص المصدرة بـ ‏{‏كذبت‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ على ما قيل‏.‏

والأظهر عندي تقدير واذكر لقومك لوضوح اقتضاء ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏ له‏.‏ ولا نسلم اقتضاء تلك القصص المصدرة بكذبت تقدير اذكر في نفسك وأمر المناسبة مشترك وإن سلم اختصاصها به فهي لا تقاوم الاقتضاء المذكور‏.‏ نعم الأظهر أن يكون وجه التسلي بما ذكر كونه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل ولا قومه بدعا من الأقوام في التكذيب مع ظهور الآيات وسطوع المعجزات وقد تضمن الأمر بذكر ذلك لهم الأمر بالتسلي به على أتم وجه فتدبر‏.‏ وأياً ما كان فوجه توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه قد مر مراراً‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك المقدر معطوف على مقدر آخر أي خذ الآيات أو ترقب إتيان الأنباء واذكر وهو تكلف لا حاجة إليه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف لقال بعد وليس بذاك‏.‏ ومعنى نادى دعا‏.‏ وقيل‏:‏ أمر ‏{‏أَنِ ائت‏}‏ أي بأن ائت على أن أن مصدرية حذف عنها حرف الجر أو أي ائت على أنها مفسرة‏.‏

‏{‏القوم الظالمين‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة طه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى‏}‏ وسنة القرآن الكريم إيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة لاقتضاء المقام ما يكون فيه من العبارات كما حقق في موضعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ عطف بيان للقوم الظالمين جيء به للإيذان بأنهم علم في الظلم كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وقال أبو البقاء‏:‏ بدل منه؛ ورجح أبو حيان الأول بأنه أقضى لحق البلاغة لإيذانه بما سمعت، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون أولى بما ذكر وقد خص في بعض المواضع للدلالة على ذلك، وجوز أن يقال قوم فرعون شامل شمول بني آدم آدم عليه السلام ‏{‏أَلا يَتَّقُونَ‏}‏ حال بتقدير القول أي ائتهم قائلاً لهم ألا يتقون‏.‏

وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار‏.‏ وشقيق بن سلمة‏.‏ وحماد بن سلمة‏.‏ وأبو قلابة بتاء الخطاب، ويجوز في مثل ذلك الخطاب والغيبة فيقال قل لزيد تعطي عمراً كذا ويعطي عمراً كذا‏.‏ وقرىء بكسر النون مع الخطاب والغيبة والأصل يتقونني فحذفت إحدى النونين لاجتماع المثلين وحذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة‏.‏ وقول موسى عليه السلام ذلك بطريق النيابة عنه عز وجل نظير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ ائتهم قائلاً قولي لهم ألا تتقونني، وقال الزمخشري هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله عز وجل، وقراءة الخطاب على طريقة الالتفات إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، وإجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه في مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس فلا يضر كونهم غيباً حقيقة في وقت المناجاة، وفيه مزيد حث على التقوى لمن تدبر وتأمل انتهى، والاستئناف عليه قيل‏:‏ بياني بتقدير لم هذا الأمر‏؟‏، وقيل‏:‏ هو نحوي إذ لا حاجة إلى هذا السؤال بعد ذكرهم بعنوان الظلم ودفع بالعناية، ولعل ما ذكرناه أسرع تبادراً إلى الفهم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يحتمل أن يكون ‏{‏لاَ يَتَّقُونَ‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏الظالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 101‏]‏ أي يظلمون غير متقين الله تعالى وعقابه عز وجل فادخلت همزة الإنكار على الحال دلالة على إنكار عدم التقوى والتوبيخ عليه ليفيد إنكار الظلم من طريق الأولى فإن فائدة الاتيان بهذه الحال الإشعار بأن عدم التقوى هو الذي جرأهم على الظلم‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ فاحش لأن فيه مع الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي لزوم أعمال ما قبل‏:‏ الهمزة فيما بعدها‏.‏ وأجيب بمنع كون الفاصل أجنبياً وأنه يتوسع في الهمزة وهو كما ترى، وجوز أيضاً في ‏{‏أَلا يَتَّقُونَ‏}‏ بالياء التحتية وكسر النون أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 25‏]‏ فتكون ‏{‏إِلا‏}‏ كلمة واحدة للعرض ويا ندائية سقطت ألفها لالتقاء الساكنين وحذف المنادى وما بعده فعل أمر ويكون إسقاط الألفين مخالفاً للقياس، ولا يخفى أنه تخريج بعيد وأن الظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى في جميع القراءات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال موسى عليه السلام‏؟‏ فقيل‏:‏ قال متضرعاً إلى الله عز وجل‏.‏

‏{‏رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ‏}‏ من أول الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى‏}‏ معطوفان على خبر ‏{‏إن‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 12‏]‏ فيفيد أن فيه عليه السلام ثلاث علل‏.‏ خوف التكذيب‏.‏ وضيق الصدر‏.‏ وامتناع انطلاق اللسان والظاهر ثبوت الأمرين الأخيرين في أنفسهما غير متفرعين على التكذيب ليدخلا تحت الخوف لكن قرأ الأعرج‏.‏ وطلحة‏.‏ وعيسى‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وزائدة عن الأعمش‏.‏ ويعقوب بنصب الفعلي عطفاً على ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 12‏]‏ فيفيد دخولهما تحت الخوف ولأن الأصل توافق القراءتين قيل إنهما متفرعان على ذلك كأنه قيل‏:‏ رب إني أخاف تكذيبهم إياي ويضيق صدري انفعالاً منه ولا ينطلق لساني من سجن اللكنة وقيد العي بانقباض الروح الحيواني الذي تتحرك به العضلات الحاصل عند ضيق الصدر واغتمام القلب، والمراد حدوث تلجلج اللسان له عليه السلام بسبب ذلك كما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم فإن ألسنتهم تتلجلج حتى لا تكاد تبين عن مقصود، هذا إن قلنا‏:‏ إن هذا الكلام كان بعد دعائه عليه السلام بحل العقدة واستجابة الله تعالى له بإزالتها بالكلية أو المراد ازدياد ما كان فيه عليه السلام إن قلنا‏:‏ إنه كان قبل الدعاء أو بعده لكن لم تزل العقدة بالكلية وإنما انحل منها ما كان يمنع من أن يفقه قوله عليه السلام فصار يفقه قوله مع بقاء يسير لكنة، وقال بعضهم‏:‏ لا حاجة إلى حديث التفرع بل هما داخلان تحت الخوف بالعطف على ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 12‏]‏ كما في قراءة النصب وذلك بناءً على ما جوزه البقاعي من كون ‏{‏أَخَافُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 12‏]‏ بمعنى أعلم أو أظن فتكون أن مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد ما يفيد علماً أو ظناً، ويلتزم على هذا كون ‏{‏أَخَافُ‏}‏ في قراءة النصب على ظاهره لئلا تأبى ذلك ويدعي اتحاد المآل، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب ‏{‏يَضِيقُ‏}‏ ورفع ‏{‏يَنطَلِقُ‏}‏، والكلام في ذلك يعلم مما ذكر، وأياً ما كان فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد منه الغم، ثم هذا الكلام منه عليه السلام ليس تشبثاً بأذيال العلل والاستعفاء عن امتثال أمره عز وجل وتلقيه بالسمع والطاعة بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه فإن ما ذكره ربما يوجب اختلال الدعوة وانتباذ الحجة وقد تضمن هذا الاستدعاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ إلى هارون‏}‏ كأنه قال أرسل جبريل عليه السلام إلى هارون واجعله نبياً وآزرني به واشدد به عضدي لأن في الإرسال إليه عليه السلام حصول هذه الأغراض كلها لكن بسط في سورة القصص واكتفى ههنا بالأصل عما في ضمنه‏.‏

ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع ‏{‏فَأَرْسِلْ‏}‏ معترضاً بين الأوائل والرابعة أعني

‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ الخ فاذن بتعلقه بها ولو كان تعللاً لآخر وليس أمره بالإتيان مستلزماً لما استدعاه عليه السلام، وتقدير مفعول ‏{‏أُرْسِلَ‏}‏ ما أشرنا إليه قد ذهب إليه غير واحد، وبعضهم قدر ملكاً إذ لا جزم في أنه عليه السلام كان يعلم إذ ذاك أن جبريل عليه السلام رسول الله عز وجل إلى من يستنبئه سبحانه من البشر، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى إلى هارون وكان هارون بمصر حين بعث الله تعالى موسى نبياً بالشام، وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ عن السدي قال‏:‏ أقبل موسى عليه السلام إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون الطفيشل فنزلت في جانب الدار فجاء هارون عليه السلام فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه فلما قعدا تحدثا فسأله هارون من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى‏.‏ يا هارون انطلق معي إلى فرعون فإن الله تعالى قد أرسلنا إليه قال هارون‏:‏ سمعاً وطاعة فقامت أمهم فصاحت وقالت‏:‏ أنشدكما بالله تعالى أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلاً الخبر والله تعالى أعلم بصحته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ‏}‏ أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو سمي باسمه مجازاً بعلاقة السببية، والمراد به قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكزها وقصته مبسوطة في غير موضع، وتسميته ذنباً بحسب زعمهم بما ينبىء عنه قوله تعالى لهم‏:‏ ‏{‏فَأَخَافُ‏}‏ إن آتيتهم وحدي ‏{‏أَن يَقْتُلُونِ‏}‏ بسبب ذلك، ومراده عليه السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولى العزم من الرسل عليهم السلام فإنهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏(‏المائدة 67‏)‏‏}‏، ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لا ينافي مقامهم‏.‏

وفي «الكشاف» أنه عليه السلام فرق أن يقتل قبل أداء الرسالة، وظاهره أنه وإن كان نبياً غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة وإليه ذهب بعضهم لاحتمال أنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين مع أن له تعالى نسخ ذلك قبله‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه سبحانه يمكنهم وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت وفيه منع ظاهر، وفي «الكشف» أنه على القولين يصح قول الزمخشري فرق الخ لأن ذلك كان قبل الاستنباء فإن النداء كان مقدمته ولا أظنك تقول به

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا‏}‏ إجابة له عليه السلام إلى الطلبتين حيث وعده عز وجل دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف وضم إليه أخاه بقوله‏:‏ ‏{‏اذهبا‏}‏ فكأنه قال له عز وجل‏:‏ ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا فاذهب أنت وأخوك هارون الذي طلبته، وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى عليه السلام وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هارون ففي الخطاب المذكور تغليب والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه ‏{‏كَلاَّ‏}‏ كما أشرنا إليه، وقيل‏:‏ الفاء فصيحة، والمراد بالآيات ما بعثهما الله تعالى به من المعجزات وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ والخطاب لموسى وهارون ومن يتبعهما من بني إسرائيل فيتضمن الكلام البشارة بالإشارة إلى علو أمرهما واتباع القوم لهما، وذهب سيبويه إلى أنه لهما عليهما السلام ولشرفهما وعظمتهما عند الله تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع، واعترض بأنه يأباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية، وقيل‏:‏ هو لهما عليهما السلام ولفرعون واعتبر لكون الموعود بمحضر منه وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضاً، واعترض بأن المعية العامة أعني المعية العلمية لا تختص بأحد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ والمعية الخاصة وهي معية الرأفة والنصرة لا تليق بالكافر ولو بطريق التغليب، وأجيب بأن خصوص المعية لا يلزم أن يكون بما ذكر بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل، وأياً ما كان فالظرف في موضع الخبر لأن و‏{‏مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ خبر ثان أو الخبر ‏{‏مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ والظرف متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من ضميره وتقديمه للاهتمام أو الفاصلة أو الاختصاص بناءً على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه عز وجل وهو مجاز عن السمع اختير للمبالغة لأن فيه تسلماً للإدراك وهو مما ينزه الله تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة فإن أريد به مطلق الإدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه، وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد، وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ جملة استعارة تمثيلية مثل سبحانه حاله عز وجل بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة وحينئذٍ لا تجوز في شيء من مفرداته ولا يكون ‏{‏مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ مطلقاً عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين إلا أن يقال‏:‏ إنه في المستعار منه كذلك لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لا يوصل إليه لكنه كما ترى‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ فقط تمثيلاً لحاله عز وجل في نصره وإمداده بحال من ذكر ويكون الاستماع مجازاً عن السمع وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع كالقرينة وإن كان مجازاً والقرينة في الحقيقة عقلية وهي استحالة حضوره تعالى شأنه في مكان، ولا بد على هذا من أن يقال‏:‏ إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في «النظم الكريم» بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة وفيه بعد‏.‏

ثم إن ما ذكروه وإن كان مبنياً على جعل الخطاب لموسى وهارون وفرعون يمكن إجراؤه على جعله لهما عليهما السلام ولمن يتبعهما أولهما فقط أيضاً بأدنى عناية فافهم ولا تغفل‏.‏

وزعم بعضهم إن المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل، والمراد أن ملائكتنا معكم مستمعون وهو مما لا ينبغي أن يستمع، ولا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة وإلا فبمجرد معية الملائكة عليهم السلام واستماعهم لا يطيب قلب موسى عليه السلام‏.‏

‏[‏بم والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم، وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب‏.‏

وأفرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه، ولا يخفى الأوجه منها، وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة‏:‏

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم *** بسر ولا أرسلتهم برسول

وأظهر منه قول العباس بن مرداس‏:‏

إلا من مبلغ عنى خفافا *** رسولاً بيت أهلك منتهاها

أو لاتحادهما للأخزة أو لوحدة المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ بمعنى إن كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك، وفائدته الإشارة إلى أن كلاً منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفرداً، وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين ونقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر، و‏{‏ءانٍ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عز وجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك‏:‏ أرسلت الحجر من يدي وأرسل الصقر، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين ألفاً على ما ذكره البغوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به، ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب‏:‏ إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين فقال‏:‏ ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فادياً إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال عند ذلك‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً‏}‏ وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلاً فقرع الباب ففزع فرعون وقال‏:‏ من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة‏؟‏ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى‏:‏ إنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال‏:‏ إن ههنا إنساناً مجنوناً يزعم أنه رسول رب العالمين فقال‏:‏ أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى، وأراد اللعين من قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ‏}‏ الخ الامتنان، و‏{‏فِينَا‏}‏ على تقدير المضاف أي منازلنا، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان على ما قال الراغب‏:‏ يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنى فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم، وقال بعضهم‏:‏ كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها ‏{‏وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏}‏ قيل‏:‏ لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل‏:‏ لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عز وجل والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ أبو عمرو في رواية ‏{‏مِنْ عُمُرِكَ‏}‏ بإسكان الميم، والجار والمجرور في موضع الحال من ‏{‏سِنِينَ‏}‏ كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ‏}‏ يعني قتل القبطي‏.‏ وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام‏.‏ وقرأ الشعبي ‏{‏فَعْلَتَكَ‏}‏ بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة ‏{‏وَأَنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذٍ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي، وهذا الحكم منه بناءً على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل‏:‏ كان ذلك افتراء منه عليه عليه السلام، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولاً لسجنه أو قتله، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التائين في الفعلين السابقين‏.‏

وجوز أن يكون ذلك حكماً مبتدأ عليه عليه السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعاً منه، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالاً لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولاً ما وبخه به قدحاً في نبوته أعني قوله‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ‏}‏ الخ اعتناءً بذلك واهتماماً به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا‏}‏ أي تلك الفعلة ‏{‏إِذَا‏}‏ أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي الله تعالى ثراه من أن ‏{‏إِذَا‏}‏ ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثراً فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور، وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحاً في النبوة وهو جملة ‏{‏وَأَنَاْ مِنَ‏}‏ أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس‏.‏ وابن مسعود كما نقله أبو حيان في «البحر» لكنه قال‏:‏ ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مريوة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأراد عليه السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلاً به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه، وقيل‏:‏ المعنى فعلتها مقدماً عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله‏:‏

ألا لا يجلهن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وهذا مما يحسن على بعض الأوجه في تقرير الجواب المذكور، قيل‏:‏ إن الضلال ههنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 95‏]‏ وعنى عليه السلام أنه قتل القبطي غيرة لله تعالى حيث كان عليه السلام من المحبين له عز وجل وهو كما ترى، ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع، وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏، وقال أبو عبيدة‏:‏ من الناسين، وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وعليه قيل المراد فعلتها ناسياً حرمتها، وقيل‏:‏ ناسياً أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة؛ والذي أميل إليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام‏.‏

وأخرج أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ ‏{‏فَعَلْتُهَا وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏فَفَرَرْتُ‏}‏ أي خرجت هارباً ‏{‏مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏ أي حين توقعت مكروهاً يصيبني منكم وذلك حين قيل له‏:‏ ‏{‏إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏ ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم ‏{‏فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً‏}‏ أي نبوة أو علماً وفهماً للأشياء على ما هي عليه والأول مروى عن السدي، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علماً هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني، وقرأ عيسى ‏{‏حُكْمًا‏}‏ بضم الكاف ‏{‏وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين‏}‏ إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي ربي حكماً ورسالة أو وجعلني رسولاً إعظاماً لأمر الرسالة وتنبيهاً لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمراً مبتدعاً بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك، ورد ثانياً امتنانه الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ الخ فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ أي التربية المفهومة من قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ الخ ‏{‏نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا‏}‏ أي تنعم بها ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ فهو من باب الحذف والإيصال، وتمن من المنة بمعنى الإنعام والمضارع لاستحضار الصورة، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها علي فليس هناك حذف وإيصال، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر ‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسراءيل‏}‏ أي ذللتهم واتخذتهم عبيداً يقال‏:‏ عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبداً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

علام يعبدني قومي وقد كثرت *** فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان‏؟‏

وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من ‏{‏تِلْكَ‏}‏ أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في ‏{‏تَمُنُّهَا‏}‏ أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل أن وما بعدها بعد حذف الجار، والقول الآخر أن محله النصب، وحاصل الرد إن ما ذكرت نعمة ظاهراً وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب إذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولولا ذلك لم أحصل بين يديك ولم أكن في معهد تربيتك، وقيل‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بتفسيرها و‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ‏}‏ عطف بيان لها، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وحاصل الرد إنكار ما امتن به أيضاً‏.‏ ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك «وتلك نعمة مالك أن تمنها علي»، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش‏.‏ والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو، والأصل وأتلك نعمة الخ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقال‏:‏ وتربيتك إياي نعمة على من حيث أنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً لكن لا يدفع ذلك رسالتي‏.‏ وإلى هذا التأويل ذهب السدي‏.‏ والطبري ولس بذاك‏.‏

وأياً ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته‏.‏ وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين‏.‏ هذا وذهب الزمخشري إلى أن ‏{‏إِذَا‏}‏ في قوله تعالى ‏{‏فَعَلْتُهَا إِذاً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 20‏]‏ جواب وجزاء بين وجه كون الكلام جزاء بقوله‏:‏ قول ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام‏:‏ نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء‏.‏

واعترض بأن هذا لا يلائم قوله‏:‏

‏{‏وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 20‏]‏ لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً‏.‏ وفي «الكشف» تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديرياً كأنه قال‏:‏ إن كان ذلك كفراناً بنعمتك فقد فعلته جزاء، ولكن الوصف أي كونه كفراناً غير مسلم‏.‏ وأمده بقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا‏}‏ وفيه القول بالموجب أيضاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 20‏]‏ على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضاً كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافراً، فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافراً بك فإنه عين الهدى بل ضالاً في الإقدام على الفعل وما كنت كافراً لنعمة منعم أصلاً ولكن كنت فاعلاً لذلك خطأ، ومنه ظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 20‏]‏ لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه‏.‏

ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله‏:‏ فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدماً عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون ‏{‏إِذَا‏}‏ هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب، وفي «البحر» أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية‏.‏ وهم لم يحيطوا بكل شيء علماً، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط، ومن العجيب قول ابن عطية‏:‏ إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله‏:‏ وكأنها بمعنى حينئذٍ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ مستفهماً عن المرسل سبحانه ‏{‏وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي‏.‏ أنه عز وجل لما أمرهما بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 17‏]‏ فلا بد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ إلى آخره وثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ ولذلك جىء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال‏:‏ أأنت الرسول وما رب العالمين‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن اللعين لما قال له بوابه‏:‏ إن ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله‏:‏ وما رب العالمين‏؟‏ واعترض بأنه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار إليه هو في سابق كلامه‏.‏ وانتصر له صاحب الكشف فقال‏:‏ أراد أنه تعالى ذكر مرة ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏ وأخرى ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب من لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولاً‏:‏ في الطعن فيه وأن مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لا يرشح لمنصب عال فضلاً عما ادعاه؛ وثانياً‏:‏ في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء، ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لا يدل على اختلال النظم الذي أشار إليه انتهى‏.‏

وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏ وسأل ثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ وقد قص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولاً وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانياً وهو سورة الشعراء، فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء، وقال آخر‏:‏ يحتمل أنهما إنما قالا‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود، وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل‏:‏ إن فرعون سأل في المرأة الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ رَبّكُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 49‏]‏ طلباً للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافاً للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال‏:‏ أبشر هو أم ملك أم جني‏؟‏ والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلباً للماهية والحقيقة انتقالاً لما هو أصعب ليتوصل بذلك إلى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد، و‏{‏مَا‏}‏ يسئل بها عن الحقيقة مطلقاً سواء كان المسؤول عن حقيقته من أولي العلم أولاً فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذٍ أن يقال من رب العالمين‏؟‏ حتى يوجه بأنه لإنكار اللعين له عز وجل عبر بما، ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عليه السلام عادلاً عن جوابه إلى ذكر صفاته عز وجل على نهج الأسلوب الحكيم إشارة إلى تعذر بيان الحقيقة ‏{‏رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر، ورفع ‏{‏رَبّ‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض وما بينهما من العناصر والعنصريات ‏{‏إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ‏}‏ أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله فإن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لا بد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال، وجواب أن محذوف كما أشرنا إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون عند سماع جوابه عليه السلام خوفاً من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء ‏{‏لِمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ من أشراف قومه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة ‏{‏أَلاَ تَسْتَمِعُونَ‏}‏ جوابه يريد التعجيب منه والإزراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث لم يبين فيه الحقيقة المسؤول عنها وكونه في زعمه نظراً لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بإمكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله، وكان موسى عليه السلام لما استشعر ذلك من اللعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عدولاً إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين‏}‏ فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق؛ ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ مبالغاً في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحاً بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجىء به‏.‏

‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ حيث يسئل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه، وسماه رسولاً بطريق الاستهزاء، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعاً من أن يكون مرسلاً إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعاً بأنفسهم عن أن يكونوا أهلاً لأن يرسل إليهم مجنون‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ وحميد‏.‏ والأعرج ‏{‏أُرْسِلَ‏}‏ على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم، وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عليه السلام تفسيراً لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمى به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضاً بالإصرار على الجواب بالصفات ‏{‏رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السموات وما فيها وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السموات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليكم حكيم، وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ان كنتم تعقلون شيئاً من الأشياء أو ان كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحاً إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون‏.‏

وقرأ عبد الله وأصحابه‏.‏ والأعمش ‏{‏رَبّ المشارق والمغارب‏}‏ على الجمع فيهما، ولما سمع العين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجاري في حلبة المحاورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ ضارباً صفحاً عن المقاولة إلى التهديد كما هود يدن المحجوج العنيد‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏ وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له، وفيه أيضاً عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلهاً في ذلك الوقت وأن اتخاذه غيره الهاً بعد مشكوك، وبالغ في الإبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعد عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضاً فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال‏:‏ لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، وكان عليه العنة يطرحهم في هوة عميقة قيل‏:‏ عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا‏.‏

هذا وقال بعضهم‏:‏ السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات، وبهذا ينحل اشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق، ثم ان العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو الله عز وجل أولاً، فقال بعضهم‏:‏ كان يعلم ذلك بدليل ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والارض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف باصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ إنما كان ارهاباً بالقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد ان لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام‏:‏ لما جاءه في مدين ‏{‏لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنه كان جاهلاً بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافياً للصانع سبحانه معتقداً وجوب الوجود بالذات للإفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله وكان رباً لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ الاعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وجوز أن يكون الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقداً حلوله عز وجل فيه ولذلك سمي نفسه إلهاً، وقيل‏:‏ كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏ وهو وكذا ما قبله بعيد، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فاظهر لقومه خلاف علمه فاذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديعيات، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال له‏:‏ لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقداً صدق ذلك الهذيان‏:‏ سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهراً لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيراً من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفاً مما يتوهمونه من البلية، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسداً كزعم الحلول ونحوه، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فوعون في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله‏:‏ ‏{‏مَا رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لابطال ما يدعيه ظاهراً وارشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه، والتعجيب المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 25‏]‏ لزعمه ظاهراً أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه، ولما داخله من خوف اذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏ ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم‏:‏ إنه عليه اللعنة كان دهرياً إلى آخره ما سمعته آنفاً، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ على جهة التلطف به والطمع في إيمانه ‏{‏أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ‏}‏ أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده والتعبير عنها بشيء للتهويل، والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة، ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال، و‏{‏لَوْ‏}‏ للبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بادخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي بشيء مبين وحال مجيئي به، وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون، وجعل بعضهم الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائياً بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا، وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للإنكار على معنى لا تقدر على فعل ذلك مع أنى نبي بالمعجزة، والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه السلام من المسجونين فكأنه قال‏:‏ أتجعلني من المسجونين إن اتخذت إلهاً غيرك ولو جئتك بشيء مبين‏؟‏

وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال‏:‏ يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفاً عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير، والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة‏.‏ و‏{‏لَوْ‏}‏ بمعنى أن عزيز، ويؤيد هذا التأويل ما في الاعراف ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105، 106‏]‏‏.‏

وهو كما ترى‏.‏ وفيه جعل ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ من أبان اللازم بمعنى بان، وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما أشرنا إليه أنسب للمقام، ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه السلام‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ حيث طمع أن يجد موضع معارضة ‏{‏فَأْتِ بِهِ‏}‏ أي بشيء مبين ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي ان كنت من الصادقين فأت به، وقدره الزمخشري أتيت به، والمشهور وتقديره من جنس الدليل‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً، وقد بهت الزمخشري عامله الله تعالى بعدله أهل السنة بما هم منه برآء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجه إليه إن أردته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُلْقِىَ‏}‏ موسى بعد أن قال له فرعون ذلك ‏{‏عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة، والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جرياً متسعاً، وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل، والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعباناً وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعباناً بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعباناً، وقيل‏:‏ إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك، وقد جاء في الأخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز الله تعالى شيء، وقد مر بيان كيفية الحال‏.‏