فصل: تفسير الآية رقم (33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ من جيبه ‏{‏فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضاً نورانياً‏.‏ روي أنه لما أبصر أمر العصا قال‏:‏ هل لك غيرها‏؟‏ فأخرج عليه السلام يده فقال‏:‏ ما هذه قال‏:‏ يدي فأدخلها في أبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسد الأفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلإِ‏}‏ أشراف قومه ‏{‏حَوْلَهُ‏}‏ منصوب لفظاً على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالاً أي مستقر ين حوله‏.‏

وجوز أن يكون في موضع الصفة للملأ على حد‏.‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** والأول أسهل وأنسب‏.‏

ومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول و«حوله» متعلق بمحذوف وقع صلة له كأنه قيل‏:‏ قال للذين استقروا حوله ‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ فائق في علم السحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم‏}‏ قسرا ‏{‏مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ التي نشأتم فيها وتوطنتموها ‏{‏بِسِحْرِهِ‏}‏ وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لا سيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ أي أي أمر تأمرون فمحل ‏{‏مَاذَا‏}‏ النصب على المصدرية و‏{‏تَأْمُرُونَ‏}‏ من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجرة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعاء الخوف من استيلائه عليه السلام على ملكه‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏مَاذَا‏}‏ في محل النصب على المفعولية وأن يكون «تأمرون» من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رأيه ولعل ما تقدم أولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 - 37‏]‏

‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏ أي آخر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون‏:‏ لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة‏.‏

وقرأ أهل المدينة‏.‏ والكسائي‏.‏ وخلف ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ بكسر الهاء، وعاصم‏.‏ وحمزة ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ بغير همز وسكون الهاء، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم العاء، وقال أبو علي‏:‏ لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال‏:‏ أرجهي كما يقال مررت بهي، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحو هاء ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ أعني هاء الإضمار، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي‏:‏ وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطىء‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقيل‏:‏ المعنى أحبسه، ولعله قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلداً ومداهنة لفرعون وإلا فيكف يمكنه أن يحبسه مع ما شاهد منه من الآيات ‏{‏وابعث فِى المدائن حاشرين‏}‏ شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك ‏{‏يَأْتُوكَ‏}‏ مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك ‏{‏بِكُلّ سَحَّارٍ‏}‏ كثير العمل بالسحر ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ فائق في علمه، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه، وقرأ الأعمش‏.‏ وعاصم في رواية ‏{‏بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ‏}‏ ‏{‏فَجُمِعَ السحرة‏}‏ أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي، وقال الفاضل المحقق‏:‏ إن المعهود قد يكون عاماً مستغرقاً كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ‏}‏ استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه ‏{‏هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ‏}‏ في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا‏:‏

هل أنت باعث دينار لحاجتنا *** أو عبد رب أخا عون بن مخراق

فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعاً ولا تبطىء به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة‏}‏ أي في دينهم ‏{‏إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين‏}‏ لا موسى عليه السلام، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريدفرعون من الدين‏.‏

والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعى الإلهية السحرة، وجوزه أخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إِنَّ لَنَا لاجْرًا‏}‏ أي لأجراً عظيماً ‏{‏إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏ لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع غي كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون لهم ‏{‏نِعْمَ‏}‏ لكم ذلك ‏{‏وَإِنَّكُمْ‏}‏ مع ذلك ‏{‏إِذاً لَّمِنَ المقربين‏}‏ عندي، قيل‏:‏ قال لهم‏:‏ تكونون أول من يدخل على وآخر من يخرج عني‏.‏ و‏{‏أَذِنَ‏}‏ عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من ‏{‏إِذَا‏}‏ التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع‏.‏ وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي‏.‏ والقاضي تقي الدين بن رزين‏.‏ وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعني لها‏.‏ والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم العالبين لمن المقربين‏.‏ وقرىء ‏{‏نِعْمَ‏}‏ بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في ‏{‏نِعْمَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى‏}‏ أي بعد ما قال له السحرة‏:‏ ‏{‏إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفراً فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بالهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال‏:‏ ‏{‏مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ ليتوصل بذلك إلى إبطاله‏.‏

وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع، وما اشتهر من قولهم‏:‏ الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ‏}‏ أي وقد قالوا عند الالقاء ‏{‏بِعِزَّةِ فِرْعَونَ‏}‏ أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم‏.‏ أرض عزاز أي صلبة ‏{‏إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ لا موسى عليه السلام، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر‏.‏ وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم ‏{‏بِعِزَّةِ فِرْعَونَ‏}‏ تعظيماً له، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من أيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه حفينئذ يستوثق منه، ولهم أشياء يعظونها ويحلفون بها غير ذلك، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذباً أقل إثماً من الحلف بها صدقاً وهذا مما عمت به البلوى ولا حوال ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم‏:‏ والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول‏:‏ إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ‏}‏ أي تبتلع بسرعة، وأصل التلقف الأخذ بسرعة‏.‏ وقرأ أكثر السبعة ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين‏.‏ والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ‏{‏مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى‏.‏ فما موصولة حذف عائدها للفاصلة، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين‏}‏ أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه، وعبر عن الخرور بالالقاء لأنه ذكر مع الالقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضاً مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة، وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الالقاء فلا حاجة إلى التجوز‏.‏

وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال‏:‏ ولك أن لا تقدر فاعلاً لأن ‏{‏ألقى‏}‏ بمعنى خروا وسقطوا‏.‏ وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأن فاعل الالقاء ألا ترى إنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح‏.‏ والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي‏.‏

وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب‏.‏ وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يريد عليه ما أورده أبو حيان، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل‏.‏ والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك‏.‏

وقول القزويني‏:‏ إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبداً لا يخلو عن مجازفة، واستدل بذلك أيضاً على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر‏.‏

وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئياً كما لا يخفى، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثراً، وقالوا‏:‏ لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا؛ ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانطاع تعلق الإرادة بوجودها‏.‏ وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات‏:‏ إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات من الحبال والعصى وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏ وهو لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصاً فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

بدل اشتمال من ‏{‏ألقى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 46‏]‏ لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه، ويحتمل أن يكون استئنافاً بيانياً كأنه قيل‏:‏ فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ موسى وهارون‏}‏ عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللاشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة‏.‏ ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما‏.‏

وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 28‏]‏ فكأنهم قالوا‏:‏ ءامنا برب العالمين الذي وصفه موسى هارون، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون للسحرة ‏{‏ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ إلا أن الاذن منه ممكن أو متوقع ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 123‏]‏ الخ أو علمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق‏.‏

وقرأ الكسائي‏.‏ وحمزة‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وروح «أآمنتم» بهمزتين ‏{‏فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وبال ما فعلتم‏.‏ واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلانتم سوف تعلمون‏.‏ وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة‏.‏ وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وأن تأخر لداع، وقيل‏:‏ هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 158‏]‏ وقال أبو علي‏:‏ هي اللام التي في لاقو من ونابت سوف عن احدى نوني التأكيد فكأنه قيل‏:‏ فلتعلمن، وقوله تعالى حكاية عنه‏:‏ ‏{‏لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بيان لمفعول ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏ المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر، وقد مر معنى ‏{‏مّنْ خلاف‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي السحرة ‏{‏لاَ ضَيْرَ‏}‏ أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه، والضمير مصدر ضار وجاء مصدره أيضاً ضوراً، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا إلى رَبّنَا‏}‏ أي الذي آمنا به ‏{‏مُنقَلِبُونَ‏}‏ تعليل لنفي الضمير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه الله تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عز وجل‏:‏

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

وحاصله نفى المبالاة بالقتل معللا بأنه لا بد من الموت، ونظير ذلك قول علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت على، أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك، وفي معنى ذلك قوله‏:‏

إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم

ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا‏}‏ أي لأن كنا ‏{‏أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف إيذانا بأنه مما يستقل بالعلية، وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلاً للعلة والأول أظهر أي لا ضير علينا في ذلك إنا نظمع أن يغفر بنا بنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين، والطمع أما على بابه كما استظهره أبو يحان لعدم الوجوب على الله عز وجل، وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من اتباع فرعون أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم، ولعل الأخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل، وقيل‏:‏ أرادوا أول من أظهر الإيمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن من آل فرعون‏.‏ وآسية، وكذا لا يرد بن إسرائيل لأنهم كما في البحر كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الإيمان بالله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل‏.‏

وقرأ أبان بن تغلب‏.‏ وأبو معاذ ‏{‏أَن كُنَّا‏}‏ بكسر همزة ‏{‏ءانٍ‏}‏ وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وجعل صاحب اللوامح الجواب ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ‏}‏ المتقدم وقال‏:‏ جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين‏.‏ وأبي زيد‏.‏ والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين، وقيل‏:‏ كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحاً وتضرعاً لله تعالى، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع ‏{‏نَطْمَعُ‏}‏ على ما هو الظاهر فيه، وجوز أبو حيان أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث‏:‏ «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل»، وقال الشاعر‏:‏

ونحن أباة الضيم من آل مالك *** وإن مالك كانت كرام المعادن

وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم‏.‏ واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولاً والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران والملكوت السموات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون، وظواهر الآيات تكذيب أمر الموت في السجود، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى‏}‏ وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتواً وعناداً حسبما فصل في سورة الأعراف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ الآيات‏.‏ وقرىء ‏{‏أَنْ أَسْرِ‏}‏ بكسر النون ووصل الألف من سرى‏.‏ وقرأ اليماني ‏{‏ءانٍ‏}‏ أمراً من سار يسير ‏{‏بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ‏}‏ تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلاً بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ‏}‏ الفاء فصيحة أي فأسري بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل ‏{‏فِى المدائن‏}‏ أي مدائن مصر ‏{‏حاشرين‏}‏ جامعين للعساكر ليتبعوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلآء‏}‏ يريد بني إسرائيل والكلام على إدارة القول، والظاهر أنه حال أي قائلاً إن هؤلاء ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ‏}‏ أي طائفة من الناس، وقيل‏:‏ هي السفلة منهم، وقيل‏:‏ بقية كل شيء خسيس، ومنه ثوب شرذام وشرذامة أي خلق مقطع، قال الراجز‏:‏

جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** شراذم يضحك منه التواق

وقرىء ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ‏}‏ بإضافة شر مقابل خير إلى ذمة، قال أبو حاتم‏:‏ وهي قراءة من لا يئخذ منه ولم يروها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَلِيلُونَ‏}‏ صفة شرذمة، وكان الظاهر قليلة إلا أنه جمع باعتبار أن الشرذمة مشتملة على اسباط كل سبط منهم قليل، وقد بالغ اللعين في قلتهم حيث ذكرهم أولاً باسم دال على القلة وهو شرذمة ثم وصفهم بالقلة ثم جمع القليل للإشارة إلى قلة كل حزب منهم وأتى بجمع السلامة وقد ذكر أنه دال على القلة، واستقلهم بالنسبة إلى جنوده‏.‏

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفاً لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، وقيل‏:‏ أرسل فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وهم كانوا على ما روى عن ابن عباس ستمائة ألف وسبعين ألفاً، وأنا أقول‏:‏ إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين، والاخبار في ذلك لا تكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة‏.‏ والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم‏.‏

وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم، وقيل‏:‏ الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس، و‏{‏قَلِيلُونَ‏}‏ إما صفة لها أو خبر بعد خبر لأن، والظاهر ما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة، فقد روى أن الله تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به، وتقديم ‏{‏لَنَا‏}‏ للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنوزيل المتعدي منزلة اللازم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون‏}‏ أي إنا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثاً عليه أو اعتذاراً بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به عليه العلنة ما يكسر سلطانه‏.‏

وقرأ جمع من السبعة‏.‏ وغيرهم ‏{‏حاذرون‏}‏ بغير ألف، وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بأن الأول اسم فاعل يفيد التجد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات، وقريب منه ما روى عن الفراء‏.‏ والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه، وقال أبو عبيدة‏:‏ هما بمعنى واحد، وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينصب المفعول به، وأنشد‏:‏

حذر أموراً لا تضير وآمن *** ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو‏.‏ وعن ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ والضحاك‏.‏ وغيرهم أن الحاذر التام السلاح‏.‏ وفسروا ما في الآية بذلك، وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي آلة الحرب سميت بذلك مجازاً، وحمل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقرأ سميط بن عجلان‏.‏ وابن أبي عمار‏.‏ وابن السميقع ‏{‏حادرون‏}‏ بالألف والدال المهملة من قولهم‏:‏ عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ الحادر السمين القوي الشديد‏.‏ والمعنى أقوياء أشداء‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أحب الصبي السوء من أجل أمه *** وأبغضه من بغضها وهو حادر

وقيل‏:‏ المعنى تامو السلاح على هذه القراءة أيضاً أخذاً من الجدارة بمعنى الجسامة والقوة فإن تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه، و‏{‏لَّمَّا جَمِيعٌ‏}‏ على جميع القراآت والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا إليه ولو كانت هي المؤكدة لنصبت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فأخرجناهم‏}‏ أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم ‏{‏مّن جنات وَعُيُونٍ‏}‏ كانت لهم بحافتي النيل كما روى عن ابن عمر‏.‏ وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُنُوزٍ‏}‏ أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض‏.‏ وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فإخراجهم عنها معلوم بالضرورة‏.‏ وقيل‏:‏ لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير‏.‏

وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والاخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة‏.‏ وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنات فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضاً فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة‏.‏ وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالاً كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذاب، وقال ابن جبير‏:‏ المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار‏.‏

‏{‏وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ هي المساكن الحسان كما قال النقاش، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالقيوم من أرض مصر، وقيل‏:‏ مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع، وقيل‏:‏ الأسرة في الكلل، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل، وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك أنها المنابر للخطباء‏.‏ وقرأ قتادة‏.‏ والأعرج ‏{‏وَمَقَامٍ‏}‏ بضم الميم من أقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجاً مثل ذلك الإخراج أخرجنا، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه‏.‏ واختار هذا الطيبي فقال‏:‏ هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثناها بَنِى إسراءيل‏}‏ أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفاً عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 57‏]‏ والمعطوف وهو قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُم‏}‏ لأن الاتباع عقب الإخراج لا إلا يرث‏.‏

قال الواحدي‏:‏ إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن، وعلى غير هذا الوجه يكون ‏{‏أَوْرَثْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏ عطف على ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ ولا بد من تقدير نحو فاردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى، ويفهم من كلام بعض أن جملة ‏{‏أورثناها‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏ الخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه، وما ذكر عن الواحدي من أن الله رد بني إسرائيل إلى مصدر بعدما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة‏.‏

وأظهر منه في هذا ما روى عن الحسن قال‏:‏ كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم؛ ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين، وقيل‏:‏ إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم، ومعنى ‏{‏والذين اتبعوهم‏}‏ لحقوهم يقال‏:‏ تبعت القوم فاتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعدما كنت تابعاً لهم مبالغة في اللحوق، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏فَأَتْبَعُوهُم‏}‏ بوصل الهمزة وشد التاء ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق، والجمهور على الأول، وعن السدي أن الله تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضاً، والوصف حال من الفاعل، وقيل‏:‏ هو حال من المفعول‏.‏

ومعنى ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ في ضياء بناء على ما روى أن بني إسرائيل كانوا في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان‏}‏ أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهاراً عمود من غمام وليلاً عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جداً ولاموا موسى عليه السلام في الخروج وقالوا له‏:‏ أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك‏:‏ دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى‏:‏ لا تخافوا وانظروا إغاثة الله تعالى لكم ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصحح أمر الحالية المذكورة فتأمل‏.‏

وقرأ الأعمش‏.‏ وابن وثاب ‏{‏تراً‏}‏ بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لا يكون أبداً قاله أبو الفضل الرازي، وقال ابن عطية‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏تريئي‏}‏ بكسر الراء وبمد ثم بهمز، وروى مثله عن عاصم وروى عنه أيضاً ‏{‏تراىء‏}‏ بالفتح والمد، وقال أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري في كتابه الإقناع ‏{‏التقى الجمعان‏}‏ في الشعراء إذا وقف عليها حمزة‏.‏ والكسائي أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاً ووقفاً كإمالة الألف المنقلبة‏.‏

وقرىء ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ‏}‏ الفئتان ‏{‏قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ أي لملحقون جاؤا بالجملة الاسمية مؤكدة بحر في التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجيزهما، وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلباً للتدبير‏.‏ وقرأ الأعرج‏.‏ وعبيد بن عمير ‏{‏لَمُدْرَكُونَ‏}‏ بفتح الدال مشددة وكسر الراء من الإدراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال‏:‏ أدرك الشيء إذا فنى تتابعاً وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفنى شيئاً فشيئاً حتى يذهب جميعه، وقد جاء التتابع بهذا المعنى في قول الحماسي‏:‏

أبعد بني أمي الذين تتابعوا *** أرجى حياة أم من الموت أجزع

والمعنى أنا لها لكون على أيديهم شيئاً فشيئاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام ردعاً لهم عن ذلك وإرشاداً إلى أن تدبير الله عز وجل يغني عن تدبيره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ لن يدركوكم ‏{‏إِنَّ مَعِىَ رَبّى‏}‏ بالحفظ والنصرة ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ قريباً إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم، ولم يشركهم عليه السلام في المعية والهداية إخراجاً للكلام على حسب ما أشاروا إليه في قولهم ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61‏]‏ من طلب التدبير منه عليه السلام، وقيل‏:‏ لما كان عليه السلام هو الأصل وغيره تبع له محفوظون منصورون بواسطته وشرفه وكرامته قال‏:‏ ‏{‏مَعِىَ‏}‏ دون معنا وكذا قال‏:‏ ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ دون سيهدينا، وقيل‏:‏ قال ذلك جزاء لهم على غفلتهم عن قوله تعالى له علي السلام ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ حتى خافوا فقالوا ما قالوا فإن الظاهر أنهم سمعوا ذلك من موسى عليه السلام في مدة بقائهم معه في مصر أو غفلتهم عن عناية الله تعالى بهم حين كانوا مع القبط في مصر حيث لم يصبهم ما أصابهم من الدم ونحوه من الآيات المقتضية بواسطة حسن الظن أنجاهم منهم حين أمروا بالخروج فلحقوهم وكان تأديبه لهم على ذلك بمجرد عدم إشراكهم فيما ذكر لا أنه نفاه عنهم كما يتوهم من تقديم الخبر فإن تقديمه لأجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة، وقيل‏:‏ للحصر لكن بالنسبة إلى فرعون وجمعه، وقيل‏:‏ على القول الثاني في توجيه عدم إشراكهم‏:‏ إنه للحصر بالنسبة إليهم أيضاً على معنى إن معي أولاً وبالذات ربي لا معكم كذلك، وقيل‏:‏ قدم المعية هنا وأخرت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ لأن المخاطب هنا بنو إسرائيل وهم أغبياء يعرفون الله عز وجل بعد النظر والسماع من موسى عليه السلام والمخاطب هناك الصديق رضي الله تعالى عنه وهو ممن يرى الله تعالى قبل كل شيء، ولاختلاف المقام نظم نبينا صلى الله عليه وسلم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعاً وزجراً وخاطبه على نحو مخاطبة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام عند تسليته بما صورته النهي عن الحزن، وأتى بالاسم الجامع وهو لفظ الله دون اسم مشعر بصفة واحدة مثلاً ولم يكن كلام موسى عليه السلام ومخاطبته لقومه على هذا الطرز وسبحان من فصل بعض العالمين على بعض‏.‏

وزعم بعضهم أن في الكلام حذفاً والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال‏:‏ ‏{‏مَعِىَ‏}‏ دون معنا وفيه مافيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر‏}‏ هو القلزم على الصحيح، وقيل‏:‏ بحر من وراء مصر يقال له أساف، وقيل‏:‏ النيل، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأموراً بالضرب يوم الأمر بالإسراء، فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون‏:‏ يا نبي الله أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال‏:‏ أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لا يدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر‏.‏

وأخرج أيضاً من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء، وقال أصحاب موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61‏]‏ فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه؛ وقيل‏:‏ له اضرب بعصاك البحر؛ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطلع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال‏:‏ يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجاً فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر‏.‏

وروى أنه عليه السلام قال‏:‏ اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفي «الدر المنثور» من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً ما يدل على أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق ‏{‏فانفلق‏}‏ أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام، وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاماً لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز وجل لفلقه بدون ضربه بالعصا، ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد‏:‏ وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك، وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له‏:‏ انفلق أبا خالد فقال‏:‏ لن أنفق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقاً فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، وفي رواية ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى إليه قال‏:‏ انفرق فقال له‏:‏ لقد الستكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعاً أنه عليه السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثاً، وقيل‏:‏ ضربه مرة واحدة فانفلق، وقيل‏:‏ ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال‏:‏ كان البحر ساكناً لا ستحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر ولا أظن لهذا صحة، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة، وإلا سلم الاقتصار على ما قص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏ أي كالجبل المنيف الثابت في مقره، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل، وقال في «الصحاح» الطود الجبل العظيم‏.‏

والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة، وحينئذ لا إشكال في قول من قال‏:‏ إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ماقيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكاً بعدد الأسباط، وقيل‏:‏ إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكون منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يميزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقاً بل أقل، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر بجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهما من البحر بين كل منهما وبينه مسلك، ويقال‏:‏ إن كل سبط من الأسباط الإثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه السلام من القبط انتهى‏.‏

وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى لك فعليه البيان، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لا سيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر‏.‏

فقد روى أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً، نعم قيل عليه‏:‏ إن في بعض الآثار ما يأباه، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحق السراج في «تاريخه»‏.‏ وابن عبد البر في «التمهيد» من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال‏:‏ وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقبباً كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال‏.‏

وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطياً وإنما يتأتى على كونه قوسياً ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاماً ظاهره الاختلال، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة مع أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقاً أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعاً ومنضماً إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقاً واحداً متصلاً طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء‏.‏ وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معاً أو متعاقباً في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور، وأضاً يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظاً من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه، وأيضاً يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعاً بمعنى ذاهباً ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر‏.‏

ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء‏.‏

ويحتم أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحراً من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطول الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جداً وطول زمان قطعه، فالظاهر وقوع احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه‏.‏

ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكاً فلا بأس به، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسياً أيضاً، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسياً لأنه لو كان خطياً يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعاً في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الإثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليمن ما غشيهم لا يخفى مافيه، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطياً يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر‏.‏

والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسياً سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام‏.‏

وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسياً أن يكون دخول عيسى عليه السلاموقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولاً رجع موسى عليه السلام وقومه القهقري حتى إذا خرجوا جميعاً أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أوحتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولاً وبأن لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقهري حتى إذا خرجوا جميعاً وقد كمل جمع فرعون دخولاً أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليمن ما غشيه وهو كما ترى‏.‏

والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطياً وأن المسالك اثني عشر مسلكاً لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الاخبار ما يشهد بصحة بعضه، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ باللام بدل الراء، قال الراغب‏:‏ الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتباراً بالانشقاق والفرق يقال اعتباراً بالانفصال، ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏العظيم وَأَزْلَفْنَا‏}‏ عطف على ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏، وقيل‏:‏ على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فأدخلنا بني إسرائيل فيما انفلق من البحر وأزلفنا ‏{‏ثُمَّ‏}‏ أي هنالك ‏{‏الاخرين‏}‏ أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه السلام حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم، وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد‏.‏

أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال‏:‏ كان جبريل عليه السلام بين الناس بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لبني إسرائيل‏:‏ ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل آل فرعون فيقول‏:‏ رويدكم ليلحقكم آخركم فقال بنو إسرائيل‏:‏ ما رأينا سائقاً أحسن سياقاً من هذا وقال آل فرعون‏:‏ ما رأينا وازعاً أحسن زعة من هذا، وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ‏{‏وزلفنا‏}‏ بدون همزة، وقرأ أبي وابن عباس‏.‏ وعبد الله بن الحرث ‏{‏العظيم وَأَزْلَفْنَا‏}‏ بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم، والمعنى اذهبنا عزهم كقوله‏:‏

تداركتما عبساً وقد ثل عرشها *** وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

ويحتمل أن يجعل الله تعالى طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه‏.‏

هذا وقال صاحب اللوامح‏:‏ قيل من قرأ بالقاف أراد بالآخرين فرعون وقومه ومن قرأ بالفاء أراد بهم موسى عليه السلام وأصحابه أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة‏.‏ ولا يخفى أنه يبعد إرادة موسى عليه السلام وأصحابه من الآخرين قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر، وقيل‏:‏ ‏{‏وَمَن مَّعَهُ‏}‏ للإشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه السلام ومتابعته، وقيل‏:‏ لينتظم من آمن به عليه السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين‏}‏ فرعون وجنوده بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه السلام ومن معه وكان له وجبة‏.‏ روي عن ابن عباس أن بني إسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال موسى عليه السلام‏:‏ غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل، والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير، والظاهر أن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الزماني، ولعل الأولى حملها على التراخي المعنوي لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من القصة، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه؛ وقيل‏:‏ لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة ‏{‏لآيَةً‏}‏ أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى عليه السلام وتصديقه بما جاء به، وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعباناً وخروج يده عليه السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وأفرادت للاتحاد المدلول‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون‏.‏ وآسية امرأة فرعون، وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا‏.‏ والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليهما السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه، وقيل‏:‏ المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه السلام ومن معه وإغراق الآخرين، وضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني إسرائيل، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلاً أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقاً يقينياً جازماً لا يقبل الزوال فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقاً وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ إيمان من ذكر كان في ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني إسرائيل كما جاء في حديث أخرجه الفريابي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعاً بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه السلام فهي بنت أخي يوسف عليه السلام فتكون أقرب من موسى عليه السلام إلى إسرائيل‏.‏

وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء بل يقول‏:‏ المراد بها المعجزات من العصا‏.‏ واليد‏.‏ وانفلاق البحر ويقول‏:‏ إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين فإنهم لم يستمروا عليه‏.‏

فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلى الله عليه وسلم يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاؤوا موسى عليه السلام فقالوا‏:‏ قد حضرنا العدو فماذا أمرت قال‏:‏ إن أنزل ههنا فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنباً ولا أسرع توبة منهم‏.‏

ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير على بني إسرائيل خاصة فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه‏.‏ وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء، وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكاً تفرد في سلوكه فيما أظن فقال‏:‏ إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية أية وآية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله ويطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعاً، ومعنى ‏{‏مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ما أكثرهم مؤمنين على إن ‏{‏كَانَ‏}‏ زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريراً لما مر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5، 6‏]‏ الخ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه‏.‏

ويجوز أن تجعل ‏{‏كَانَ‏}‏ بمعنى صار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاءً بيناً‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما ما قيل من أن ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام‏.‏ وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولاً وإخراجهم منها آخراً مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلاً مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله‏.‏ ورجوع ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ في قصة إبراهيم عليه السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضاً أصلاً لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغياناً وكفراً حتى اجترؤا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام فتدبر اه‏.‏

وتعقب بأن فيها محذوراً من عدة أوجه‏.‏ أما أولاً‏:‏ فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح‏.‏ وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين‏.‏

وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعاً لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق‏.‏ وهذا أيضاً مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب‏.‏ أما ثانياً‏:‏ فلأن إرجاع ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ إلى قوم نبينا صلى الله عليه وسلم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظاً سيما في القصص الآتية المصدرة بـ ‏{‏كذبت‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وأما ثالثاً‏:‏ فلأن قوله‏:‏ لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام الخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلاً منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقاً‏.‏ وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما‏.‏ وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس‏.‏ وأما رابعاً‏:‏ فلأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ الخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن‏.‏ ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم‏.‏ وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال‏:‏ إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول‏.‏ وأما الطريق الثاني ففيه أيضاً عدة محذورات‏.‏

أما أولاً وثانياً‏:‏ فلما ذكر أولاً وثانياً‏.‏ وأما ثالثاً‏:‏ فلأن كلاً من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلاً في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال‏:‏ وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناءً على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى الله عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعاً محل تردد، وأما رابعاً‏:‏ فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنجَيْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 66‏]‏ وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 170‏]‏ ‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 172‏]‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 173‏]‏ فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها‏.‏ وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضاً لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 111‏]‏ وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 114‏]‏ فيكون ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ راجعاً إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك‏.‏ ومثله كثير في الكلام؛ ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحداً أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن لو لوط عليه السلام فتأمل انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين‏.‏

وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلى الله عليه وسلم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحاً وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاءً لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظاً ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى‏.‏

واختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم‏.‏ وكذا الكلام في ‏{‏كَانَ‏}‏ وما يتعلق بالجملة‏.‏

‏[‏بم والكلام في قوله تعالى‏:‏