فصل: تفسير الآية رقم (68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ كالكلام فيما تقدم أيضاً، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزله من الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ عطف على المضمر العامل في ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10‏]‏ الخ أي أذكر ذلك لقومك واتل عليهم ‏{‏نَبَأَ إبراهيم‏}‏ أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم‏.‏ وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله ‏{‏لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ‏}‏ أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من ‏{‏نبأ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي أتل عليهم وقت قوله لهم‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ على أن المتلوما قاله عليه السلام لهم في ذلك الوقت‏.‏ وضمير ‏{‏قَوْمِهِ‏}‏ عائد على إبراهيم، وقيل‏:‏ عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ ويلزم عليه التفكيك‏.‏

وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين‏}‏ لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناماً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر قَالَ *العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ إلى غير ذلك بل أطنبوا فيه بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم مع أنه لم يسأل عنه قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك‏.‏ وهو على ما في «الكشف» من الأسلوب الأحمق، والمراد بالظلول الدوام كما في قولهم‏:‏ لو ظل الظلم هلك الناس‏.‏ وتكون ظل على هذا تامة‏.‏ وقد قال بمجيئها كذلك ابن مالك وأنكره بعض النحاة، وقيل‏:‏ فعل الشيء نهاراً فقد كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل فتكون ظل على هذا ناقصة دالة على ثبوت خبرها لاسمها في النهار‏.‏

واختار بعض الأجلة لتبادر الدوام وكونه أبلغ مناسباً لمقام الابتهاج والافتخار، واختار الزمخشري الثاني لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضاً لأنه يدل على إعلانهم الفعل لافتخارهم به‏.‏ و‏{‏عاكفين‏}‏ على الأول حال وعلى الثاني خبر والجار متعلق به‏.‏ وإيراد اللام دون على لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا نظل لأجلها مقبلين على عبادتها أو مستديرين حولها‏.‏ وهذا أيضاً على ما قيل من جملة إطنابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم ‏{‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ‏}‏ دخل فعل السماع على غير مسموع، ومذهب الفارسي أنه حينئذٍ يتعدى إلى اثنين ولا بد أن يكون الثاني مما يدل على صوت فالكاف هنا عنده مفعول أول والمفعول الثاني محذوف والتقدير هل يسمعونكم تدعون وحذف لدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ عليه‏.‏ ومذهب غيره أنه حينئذٍ متعد إلى واحد، وإذا وقعت بعده جملة ملفوظة أو مقدرة فهي في موضع الحال منه إن كان معرفة وفي موضع الصفة له إن كان نكرة‏.‏

وجوز فيها البدلية أيضاً‏.‏ وإذا دخل على مسموع تعدى إلى واحد اتفاقاً، ويجوز أن يكون ما هنا داخلاً على ذلك على أن التقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف لدلالة ‏{‏إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ أيضاً عليه، وقيل‏:‏ السماع هنا بمعنى الإجابة كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 38‏]‏ أي هل يجيبونكم وحينئذٍ لا نزاع في أنه متعد لواحد ولا يحتاج إلى تقدير مضاف‏.‏ والأولى إبقاؤه على ظاهر معناه فإنه أنسب بالمقام، نعم ربما يقال‏:‏ إن ما قيل أوفق بقراءة قتادة‏.‏ ويحيى بن يعرم ‏{‏يَسْمَعُونَكُمْ‏}‏ بضم الياء وكسر الميم من أسمع والمفعول الثاني محذوف تقديره الجواب‏.‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف لما مضى‏.‏ وجىء بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وحكايتها‏.‏ وإما كون هل تخلص المضارع للاستقبال فلا يضر هنا لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم وهو هنا كذلك لأن السماع بعد الدعاء، وقال أبو حيان‏:‏ لا بد من التجوز في ‏{‏إِذْ‏}‏ بأن تجعل بمعنى إذا أو التجوز في المضارع بأن يجعل بمعنى الماضي‏.‏ واعتبار الاستحضار أبلغ في التبكيت‏.‏ وقرىء بإدغام ذال ‏{‏إِذْ‏}‏ في تاء ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ وذلك بقلبها تاء وإدغامها في التاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يَنفَعُونَكُمْ‏}‏ بسبب عبادتكم لهم ‏{‏أَوْ يَضُرُّونَ‏}‏ أي يضرونكم بترككم لعبادتهم إذ لا بد للعبادة لا سيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر‏.‏ وترك المفعول للفاصلة‏.‏ ويدل عليه ما قبله، وقيل‏:‏ المراد أو يضرون من أعرض عن عبادتهم كائناً من كان وهو خلاف الظاهر الذي يقتضيه العطف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضر اعترافاً بما لا سبيل لهم إلى إنكاره واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد فكأنهم قالوا‏:‏ لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم‏.‏ وتقديم المفعول المطلق للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏}‏ أي أنظرتم فأبصرتم أو تأملتم فعلمتم أي شيء استدمتم على عبادته أو أي شيء تعبدونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الاقدمون‏}‏ والكلام إنكار وتوبيخ يتضمن بطلان آلهتهم وعبادتها وأن عبادتها ضلال قديم لا فائدة في قدمه إلا ظهور بطلانه كما يؤذن بهذا وصف آبائهم بالأقدمين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى‏}‏ قيل‏:‏ تعليل لما يفهم من ذلك من إني لا أعبدهم أو لا تصح عبادتهم؛ وقيل‏:‏ خبر لـ ‏{‏ما كنتم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏]‏ إذ المعنى أفأخبركم وأعلمكم بمضمون هذا‏.‏ واختار بعض الأجلة أنه بيان وتفسير لحال ما يعبدونه التي لو أحاطوا بها علماً لما عبدوه أي فاعلموا أنهم أعداء لعابديهم الذين يحبونهم كحب الله تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم تضرر الرجل من جهة عدوه فإطلاق العدو عليهم من باب التشبيه البليغ‏.‏

وجوز أن يكون من باب المجاز العقلي بإطلاق وصف السبب على المسبب من حيث أن المغري والحامل على عبادتهم هو الشيطان الذي هو عدو مبين للإنسان والأول أظهر‏.‏ والداعي للتأويل أن الأصنام لكونها جمادات لا تصلح للعداوة‏.‏ وما قيل‏:‏ إن الكلام على القلب والأصل فإني عدو لهم ليس بشيء‏.‏

وقال النسفي‏:‏ العدو اسم للمعادي والمعادي جميعاً فلا يحتاج إلى تأويل ويكون كقوله‏:‏ ‏{‏وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ وصور الأمر في نفسه تعريضاً لهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏ ليكون أبلغ في النصح وادعى للقبول‏.‏ ومن هنا استعمل الأكابر التعريض في النصح‏.‏ ومنه ما يحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن رجلاً واجهه بشيء فقال‏:‏ لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب‏.‏ وسمع رجل ناساً يتحدثون في الحجر فقال‏:‏ ما هو بيتي ولا بيتكم‏.‏ وضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ عائد على ‏{‏مَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏]‏ وجمع مراعاة لمعناها‏.‏ وإفراد العدو مع أنه خبر عن الجمع إما لأنه مصدر في الأصل فيطلق على الواحد المذكر وغيره أو لاتحاد الكل في معنى العداوة أو لأن الكلام بتقدير فإن كلاً منهم أو لأنه بمعنى النسب أي ذو كذا فيستوي فيه الواحد وغيره كما قيل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ رَبَّ العالمين‏}‏ استثناء منقطع من ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ عند جماعة منهم الفراء‏.‏ واختاره الزمخشري أي لكن رب العالمين ليس كذلك فإنه جل وعلا ولي من عبده في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل عليه بالمنافع‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هو استثناء متصل من ذلك الضمير العائد على ‏{‏مَا ‏[‏كنتم‏]‏ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏]‏ ويعتبر شموله لله عز وجل وفي آبائهم الأقدمين من عبد الله جل وعلا من غير شك أو يقال‏:‏ إن المخاطبين كانوا مشركين وهم يعبدون الله تعالى والأصنام‏.‏ وتخصيص الأصنام هنا بالذكر للرد لا لأن عبادتهم مقصورة عليها ولو سلم أنه لذلك فهو باعتبار دوام العكوف وذلك لا ينافي عبادتهم إياه عز وجل أحياناً، وقال الجرجاني‏:‏ إن الاستثناء من ‏{‏مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏}‏ و‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى دون وسوى وفي الآية تقديم وتأخير والأصل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين أي دون رب العالمين فإنهم عدو لي ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏الذى خَلَقَنِى‏}‏ صفة لرب العالمين‏.‏ ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين زيادة في الإيضاح في مقام الإرشاد، وقيل‏:‏ تصريحاً بالنعم الخاصة به عليه السلام وتفصيلاً لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى‏.‏

‏{‏فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ عطف على الصلة أي فهو يهديني وحده حل شأنه إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور المعاش والمعاد هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح متجددة على الاستمرار كما ينبىء عنه الفاء وصيغة المضارع فإنه تعالى يهدي كل ما خلقه لما خلق له هداية متدرجة من مبتدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعاً وإما اختياراً مبدؤهاب النسبة إلى الإنسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث في المشهور ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم، وجوز الحوفي‏.‏ وغيره كون الموصول متبدأ وجملة ‏{‏هُوَ يَهْدِيَنِى‏}‏ خبره ودخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم‏.‏

وتعبه أبو حيان بأن الفاء إنما يؤتى بما في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط إذا كان عاماً وهنا لا يتخيل فيه العموم فليس ما نحن فيه نظير المثال‏.‏ وأيضاً الفعل الذي هو خلق مما لا يمكن فيه تجدد بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام فلعل ذلك على مذهب الأخفش من جواز زيادة الفاء في الخبر مطلقاً نحو زيد فاضربه، وأجيب بأن اشتراط العموم غير مسلم كما فصله الرضي وإنما هو أغلبي‏.‏ وبأن مطلق الخلق مما يمكن فيه التجدد وهو ممكن الإرادة وإن ظهر في صورة المخصوص وتسبب الخلق للهداية بمقتضى الحكمة، وقيل‏:‏ إنه سبب للإخبار بها لتحققها وليس بشيء ويلزم على الإعراب المذكور أن يكون الموصول في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ‏}‏ مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده‏.‏ ولا يخفى ما في ذلك لفظاً ومعنى فاللائق بجزالة التنزيل الإعراب الأول وعليه يكون الموصول عطفاً على الموصول الأول‏.‏ وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما في حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيق بأن تجري عليه عز وجل بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها، والظاهر أن المراد إطعام الطعام المعروف وسقى الشراب المعهود وجىء بهو هنا دون الخلق لشيوع إسناد الإطعام والسقي إلى غيره عز وجل بخلاف الخلق وعلى هذا القياس فيما جىء فيه بهو وما ترك مما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

وعن أبي بكر الوراق أن المعنى يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب كما جاء «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» وهو مشرب صوفي‏.‏ وأتى بهذين الصفتين بعدما تقدم لما أن دوام الحياة وبقاء نظام خلق الإنسانب الغذاء والشراب ما سلك فيهما مسلك العدل وهو أشد احتياجاً إليهما منه إلى غيرهما ألا ترى أن أهل النار وهم في النار لم يشغلهم ما هم فيه من العذاب عن طلبهما فقالوا‏:‏ ‏{‏أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ عطف على ‏{‏يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 19‏]‏ نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالباً‏:‏

فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب

وقالت الحكماء‏:‏ لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا‏:‏ التخم ونسبة المرض الذي هو نقمة إلى نفسه والشفاء الذي هو نعمة إلى الله جل شأنه لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏ ولا يرد إسناده الإماتة وهي أشد من المرض إليه عز وجل في قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ لا مكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله عز وجل على سائر البشر وحكم عام لا يخص ولا كذلك المرض فكم من معافي منه إلى أن يبغته الموت فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة فيسوغ الأدب نسبته إليه تعالى‏.‏ وأما المرض فلما كان يخص به بعض البشر دون بعض كان نقمة محققة فاقتضى العلو في الأدب أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار السبب الذي لا يخلو منه‏.‏

ويؤيد ذلك أن كل ما ذكر مع غير المرض أخبر عن وقوعه بتاً وجزماً لأنه أمر لا بد منه وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا أورده مقروناً بشرط إذا فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ وكان يمكنه أن يقول‏:‏ والذي أمرض فيشفيني كما قال في غيره فما عدل عن المطابقة والمجانسة المأثورة إلا لذلك كذا قاله ابن المنير‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إنما قال‏:‏ مرضت دون أمرضني لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك وكأنه إنما عدل في التعليل عن حسن الأدب لما رأى أنه عليه السلام أضاف الإماتة إليه عز وجل وهي أشد من المرض ولم يخطر له الفرق بما مر أو نحوه وغفل عن أن المعنى الذي أبداه في المرض ينكسر بالموت أيضاً فإن المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في المطعم وغيره كذلك الموت الناشىء عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضاف عليه السلام الإماتة مطلقاً إليه عز شأنه‏.‏

وقال بعض الأجلة بعد التعليل بحسن الأدب في وجه إسناد الإماتة إليه تعالى‏:‏ إنها حيث كانت معظم خصائصه عز وجل كالأحياء بدءاً وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعاً بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله‏:‏ ‏{‏والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ على أن الموت لكونه ذريعة إلى نيله عليه السلام للحياة الأبدية بمعزل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه السلام انتهى، وأولى من هذه العلاوة ما قيل‏:‏ إن الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب الأبدية التي يستحقر دونها الحياة الدنيوية‏.‏ وفيه تخليص العاصي من اكتساب المعاصي، ثم إن حمل المرض والشفاء على ما هو الظاهر منهما هو الذي ذهب إليه المفسرون‏.‏ وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن المعنى وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة ولعله لا يصح وإن صح فهو من باب الإشارة لا العبارة، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ للتراخي الزماني لأن المراد بالإحياء للبعث وهو متراخ عن الإماتة في الزمان في نفس الأمر وإن كان كل آت قريب، وأثبت ابن أبي إسحق ياء المتكلم في ‏{‏يَهْدِيَنِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ ومابعده وهي رواية عن نافع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين‏}‏ استعظم عليه السلام ما عسى يندر منه من فعل خلاف الأولى حتى سماه خطيئة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بها قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏، وقوله لسارة هي أختي، ويدل على أنه عليه السلام عدها من الخطايا ما ورد في حديث الشفاعة من امتناعه عليه السلام من أن يشفع حياء من الله عز وجل لصدور ذلك عنه‏.‏ وفيه أنه وإن صح عدها من الخطايا بالنظر إليه عليه السلام لما قالوا‏:‏ إن حسنات الأبرار سيئات المقربين إلا أنه لا يصح إرادتها هنا لما أنها إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه‏.‏ أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه السلام إلى الشام؛ وأما الأوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام، ومن البين أن جريان هذه المقالات فيما بينهم كان في مبادي الأمر، وهذا أولى مما قيل‏:‏ إنها من المعاريض وهي لكونها في صورة الكذب يمتنع لها من تصدر عنه من الشفاعة ولكونها ليست كذباً حقيقة لا تفتقر إلى الاستغفار، وقيل‏:‏ أراد بها ما صدر عنه عند رؤية الكوكب والقمر والشمس من قوله‏:‏ ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ وكان ذلك قبل هذه المقاولة كما لا يخفي، وقد تقدم أن ذلك ليس من الخطيئة في شيء، وقيل‏:‏ أراد بها ما عسى يندر منه من الصغائر وهو قريب مما تقمد، وقيل‏:‏ أراد بها خطيئة من يؤمن به عليه السلام كما قيل نحوه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، وهو كما ترى والطمع على ظاهره ولم يجزم عليه السلام لعلمه أن لا وجوب على الله عز وجل‏.‏ وعن الحسن أن المراد به اليقين وليس بذاك‏.‏ والظرفان متعلقان بيغفر‏.‏

والاتيان بالأول للإشارة إلى أن نفع مغفرته تعالى إنما يعود إليه عليه السلام‏.‏ وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يتبين يومئذ ولأن في ذلك تهويلاً لذلك اليوم‏.‏ وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر‏.‏ وفي هذه الجملة من التلطف بأبيه وقومه في الدعوة إلى الايمان ما فيها وقرأ الحسن ‏{‏خطاياي‏}‏ على الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏الدين رَبّ هَبْ لِى حُكْماً‏}‏ لما ذكر لهم من صفاته عز وجل مما يدل على كمال لطفه تعالى به ما ذكر حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد‏.‏ والمراد بالحكم على ما اختاره الإمام الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى أن يفسر بكمال العلم المتعلق بالذات والصفات وسائر شؤنه عز وجل وأحكامه التي يتعبد بها‏.‏ وقيل‏:‏ هي النبوة‏.‏ ورد بأنها كانت حاصلة له عليه السلام‏.‏ فالمطلوب إما عين الحاصل وهو محال ضرورة امتناع تحصيل الحاصل أو غيره وهو محال أيضاً لأن الشخص الواحد لا يكون نبياً مرتين‏.‏ وأجيب بمنع كونها حاصلة وقت الدعاء سلمنا ذلك إلا أنه لا محذور لجواز أن يكون المراد طلب كما لها ويكون بمزيد القرب والوقوف على الأسرار الإلهية والأنبياء عليهم السلام متفاوتون في ذلك‏.‏ وجوز أن يكون المراد طلب الثبات ولا يجب على الله تعالى شيء‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏}‏ طلب كمال القوة العملية بأن يكون موفقاً لأعمال ترشحه للانتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذوب وصغائرها‏.‏ وقدم الدعاء الأول على الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكن أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير ممكن‏.‏ ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِى‏}‏ الح طلب الكمال في العمل‏.‏ وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث أنه النتيجة والثمرة للعلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحكم رياسة الخلق وبالإلحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهذا الجمع بينه عليه السلام وبين الصالحين في الجنة‏.‏ وأنت تعلم أنه لا يحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم‏.‏ والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عز وجل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ ما لم يقبلا لا يلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم‏.‏ وكأنه لذلك عدل عن قول‏:‏ رب هب لي حكماً وصلاحاً أو رب هب لي حكماً واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين‏}‏ أي اجعل لنفعي ذكراً صادقاً في جميع الأمم إلى يوم القيامة‏.‏ وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون‏.‏ فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل، وتعريف ‏{‏الاخرين‏}‏ للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه السلام في زمانه ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا‏.‏

ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلماً لهم أن ذلك ملة إبراهيم عليه السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبياً محمد صلى الله عليه وسلم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله‏:‏ ‏{‏وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏ الخ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنا دعوة إبراهيم عليه السلام ‏"‏

وقيل إذا أريد ذلك فلا بد من تقدير مضاف في كلامه عليه السلام أي اجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازاً عن الداعي بإطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال‏:‏ اجعل لي داعياً إلى الحق صادقاً في الآخرين، ولا يخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله‏.‏ وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشيء من قلة إمعان النظر فلا تغتر به‏.‏

واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً، وفائدة ذلك بعد الموت على ما قال بعض الأجلة انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله تعالى زلفى وأنه قد يصير سبباً لاكتساب المثنى أو غير نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏واجعلنى‏}‏ في الآخرة ‏{‏مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم‏}‏ قد مر معني وراثة الجنة فتذكر‏.‏ واستدل بدعائه عليه السلام بهذا بعدما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند الله عز وجل وإلا لاستغنى عليه السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك، وأنت تعلم أنه تحسن الإطالة في مقام الابتهال ولا يستغنى بملزوم عن لازم في المقال فالأولى الاستدلال على ذلك بغير ما ذكر وهو كثير مشتهر، هذا وفي بعض الآثار ما يدل على مزيد فضل هذه الأدعية‏.‏

أخرج ابن أبي الدنيا في الذكر‏.‏ وابن مردويه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فاسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج بسم الله الذي خلقني فهو يهدي هداه الله تعالى للصواب ولفظ ابن مردويه لصواب الأعمال والذي هو يطعمني ويسقين أطعمه الله تعالى من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة وإذا مرضت فهو يشفين شفاه الله تعالى وجعل مرضه كفارة لذنوبه والذي يميتني ثم يحيين أحياه الله تعالى حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء والذي أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين غفر الله تعالى له خطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين وهب الله تعالى له حكماً وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقى واجعل لي لسان صدق في الآخرين كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ثم يوفقه الله تعالى بعد ذلك للصدق واجعلني من ورثة جنة النعيم جعل الله تعالى له القصور والمنازل في الجنة» وكان الحسن رضي الله تعالى عنه يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيراً وكأنه أخذ من قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏واغفر لاِبِى‏}‏ قال ابن عباس كما أخرج عنه ابن أبي حاتم أي أمنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك، وحاصله وفقه للايمان كما يلوح به تعليله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين‏}‏ وهذا ظاهر إذا كان هذا الدعاء قبل موته وإن كان بعد الموت فالدعاء بالمغفرة على ظاهره وجاز الدعاء بها لمشرك والله تعالى لا يغفر أن يشرك به لأنه لم يوح إليه عليه السلام بذلك إذ ذاك والعقل لا يحكم بالامتناع، وفي «شرح مسلم» للنووي إن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصوص بهذه الأمة وكان قبلهم قد يغفر وفيه بحث، وقيل‏:‏ لأنه كان يخفي الايمان تقية من نمروذ ولذلك وعده بالاستغفار فلما تبين عداوته للايمان في الدنيا بالوحي أو في الآخرة تبرأ منه‏.‏

وقوله على هذا‏:‏ ‏{‏مِنَ الضالين‏}‏ بناء على ما ظهر لغيره من حاله أو معناه من الضالين في كتم إيمانه وعدم اعترافه بلسانه تقية من نمروذ، والكلام في هذا المقام طويل وقد تقدم شيء منه فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنِى‏}‏ بتعذيب أبي أو ببعثه في عداد الضالين بعدم توفيقه للايمان أو بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي‏.‏

وحيث كانت العاقبة مجهولة وتعذيب من لا ذنب له جائز عقلاً صح هذا الطلب منه عليه السلام، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ذلك تعليماً لغيره وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بفتح الخاء بمعنى الحياء ‏{‏يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي الناس كافة، والإضمار وإن لم يسبق ذكرهم لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه، وقيل‏:‏ الضمير للضالين والكلام من تتمة الدعاء لأبيه كأنه قال‏:‏ لا تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم، ولا يخفى أنه يجوز على الأول أن يكون من تتمة الدعاء لأبيه أيضاً، واستظهر ذلك لأن الفصل بالدعاء لأبيه بين الدعوات لنفسه خلاف الظاهر، وعلى ما ذكر يكون قد دعا لأشد الناس التصاقاً به بعد أن فرغ من الدعاء لنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 87‏]‏ جىء به تأكيداً لتهويل ذلك اليوم وتمهيداً لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 103‏]‏ بدل من ‏{‏يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ جيء به تأكيداً لتهويل ذلك اليوم وتمهيداً لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ الخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وابن عطية بعد أن أعرب الظرف بدلاً من الظرف الأول قال‏:‏ إن هذه الآيات عندي منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي أخبار من الله عز وجل تتعلق بصفة ذلك اليوم الذي طلب إبراهيم أن لا يخزيه الله تعالى فيه، ولا يخفى عدم صحة ذلك مع البدلية، والمراد بالبنون معناه المتبادر، وقيل‏:‏ المراد بهم جميع الأعوان، وقيل‏:‏ المعنى يوم لا ينفع شيء من محاسن الدنيا وزينتها، واقتصر على ذكر المال والبنين لأنهما معظم المحاسن والزينة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ استثناء من أعم المفاعيل، و‏{‏مِنْ‏}‏ محل نصب أي يوم لا ينفع مال وإن كان مصروفاً في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحداً إلا من أتى بقلب سليم عن مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالايمان، وفي هذا تأييد لكون استغفاره عليه السلام لأبيه طلباً لهدايته إلى الايمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافراً مع علمه عليه السلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة، وقيل‏:‏ هو استثناء من فاعل ‏{‏ينفَعُ‏}‏ ومن في محل رفع بدل منه والكلام على تقدير مضاف إلى من أي لا ينفع مال ولا بنون الأمال وبنو من أتى الله بقلب سليم حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباداً لله تعالى مطيعين شفعاء له يوم القيامة، وقيل‏:‏ هو استثناء مما دل عليه المال والبنون دلالة الخاص على العام أعني مطلق الغني والكلام بتقدير مضاف أيضاً كأنه قيل‏:‏ يوم لا ينفع غني إلا غني من أتى الله بقلب سليم وغناه سلامة قلبه وهو من الغنى الديني وقد أشير إليه في بعض الأخبار‏.‏

أخرج أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه عن ثوبان قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ الآية قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو علمنا أي المال خير اتخذناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه ‏"‏ وقيل‏:‏ هو استثناء منقطع من ‏{‏مَّالِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88‏]‏ والكلام أيضاً على تقدير مضاف أي لا ينفع مال ولا بنون إلا حال من أتى الله بقلب سليم، والمراد بحاله سلامة قلبه، قال الزمخشري‏:‏ ولا بد من تقدير المضاف ولو لم يقدر لم يحصل للاستثناء معنى، ومنع ذلك أبو حيان بأنه لو قدر مثلاً لكن من أتى الله بقلب سليم يسلم أو ينتفع يستقيم المعنى‏.‏ وأجاب عنه في «الكشف» بأن المراد أنه على طريق الاستثناء من مال لا يتحصل المعنى بدون تقدير المضاف، وما ذكره المانع استدراك من مجموع الجملة إلى جملة أخرى وليس من المبحث في شيء، ولما لم يكن هذا مناسباً للمقام جعله الزمخشري مفروغاً عنه فلم يلم عليه بوجه، وقد جوز اتصال الاستثناء بتقدير الحال على جعل الكلام من باب‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ومثاله أن يقال‏:‏ هل لزيد مال وبنون فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب بدلاً عن ذلك، هذا وكون المراد من القلب السليم القلب السليم عن مرض الكفر والنفاق هو المأثور عن ابن عباس‏.‏

ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن سيرين‏.‏ وغيرهم، وقال الإمام‏:‏ هو الخالي عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها ويتبع ذلك الأعمال الصالحات إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح‏.‏

وقال سفيان‏:‏ هو الذي ليس فيه غير الله عز وجل، وقال الجنيد قدس سره‏:‏ هو اللديغ من خشية الله تعالى القلق المنزعج من مخافة القطيعة وشاع إطلاق السليم في لسان العرب على اللديغ، وقيل‏:‏ هو الذي سلم من الشرك والمعاصي وسلم نفسه لحكم الله تعالى وسالم أولياءه وحارب أعداءه وأسلم حيث نظر فعرف واستسلم وانقاد لله تعالى وأذعن لعبادته سبحانه، والأنسب بالمقام المعنى المأثور وما ذكر من تأويلات الصوفية، وقال في «الكشاف» فيما نقل عن الجنيد قدس سره وما بعده‏:‏ إنه من بدع التفاسير وصدقه أبو حيان بذلك في شأن الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ عطف على ‏{‏لاَّ ينفَعُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88‏]‏ وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على الاستمرار وهو متوجه إلى النفع فيدل الكلام على استمرار انتفاء النفع واستمراره حسبما يقتضيه مقام التهويل أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر، وقيل‏:‏ عنه وعن سائر المعاصي بحيث يشاهدونه من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشرون إليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ‏}‏ الضالين عن طريق الحق وهو التقوى والايمان أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، وفي اختلاف الفعلين على ماذكره بعض المحققين ترجيح لجانب الوعد لأن التعبير بالأزلاف وهو غاية التقريب يشير إلى قرب الدخول وتحققه ولذا قدم لسبق رحمته تعالى بخلاف الإبراز وهو الإراءة ولو من بعد فإنه مطمع في النجاة كما قيل من العمود إلى العمود فرج، وقال ابن كمال‏:‏ في اختلاف الفعلين دلالة على أن أرض الحشر قريبة من الجحيم، وحاصله أن الجنة بعيدة من أرض المحشر بعداً مكانياً والنار قريبة منها قرباً مكانياً فلذا أسند الازلاف أي التقريب إلى الجنة دون الجحيم، قيل‏:‏ ولعله مبني على أن الجنة في السماء وأن النار تحت الأرض وأن تبديل الأرض يوم القيامة بمدها واذهاب كريتها إذ حينئذ يظهر أمر البعد والقرب لكن لا يخفى أن كون الجنة في السماء مما يعتقده أهل السنة وليس في ذلك خلاف بينهم يعتد به وأما كون النار تحت الأرض ففيه توقف، وقال الجلال السيوطي في «إتمام الدراية»‏:‏ نعتقد أن الجنة في السماء ونقف عن النار ونقول‏:‏ محلها حيث لا يعلمه إلا الله تعالى فلم يثبت عندي حديث اعتمده في ذلك، وقيل‏:‏ تحت الأرض انتهى، وكون تبديل الأرض بمدها وإذهاب كريتها قول لبعضهم، واختار الإمام القرطبي بعد أن نقل في التذكرة أحاديث كثيرة أن تبديل الأرض بمعنى أن الله سبحانه يخلق أرضاً أخرى بيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى فيها ظلم قط، والأولى أن يقال في بعد الجنة وقرب النار من أرض المحشر‏:‏ إن الوصول إلى الجنة بالعبور على الصراط وهو منصوب على متن جهنم كما نطقت به الأخبار فالوصول إلى جهنم أولاً وإلى الجنة آخراً بواسطة العبور وهو ظاهر في القرب والبعد، ثم أن ظاهر الآية يقتضي أن الجنة تنقل عن مكانها اليوم يوم القيامة إذ التقريب يستدعي النقل وليس في الأحاديث على ما نعلم ما يدل على ذلك نعم جاء فيها ما يدل على نقل النار‏.‏

ففي «التذكرة» أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ‏"‏، والظاهر أن معنى يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه وقد صرح بذلك في التذكرة، وقال أبو بكر الرازي في أسئلته فإن قيل‏:‏ قال الله تعالى ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 90‏]‏ أي قربت والجنة لا تنتقل عن مكانها ولا تحول قلنا‏:‏ معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة وهذا كما يقال الحاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا، وقيل‏:‏ معناه أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينها وبينهم كان ذلك تقريباً انتهى، ويرد على الأخير أنه يمكن أن يقال مثله في الجحيم وحينئذ يسئل عن وجه اختلاف الفعلين‏.‏

ويرد على القول بأن الجنة لا تنتقل عن مكانها أنه خلاف ظاهر الآية ولا يلزم لصحة القول به نقل حديث يدل على نقلها يومئذ فلا مانع من القول به وتفويض الكيفية إلى علم من لا يعجزه شيء وهو بكل شيء عليم وإذا أريد التأويل فليكن ذلك يحمل التقريب على التقريب بحسب الرؤية وإن لم يكن هناك نقل فقد يرى الشيء قريباً وإن كان في نفس الأمر في غاية البعد كما يشاهد ذلك في النجوم، وقد يقرب البعيد في الرؤية بواسطة المناطر والآلات الموضوعة لذلك وقد ينعكس الحال بواسطتها أيضاً فيرى القريب بعيداً ومتى جاز وقوع ذلك بواسطة الآلات في هذه النشأة جاز أن يقع في النشأة الأخرى بما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير فتأمل والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏فبرزت‏}‏ بالفاء، وقرأ مالك بن دينار ‏{‏لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ‏}‏ بالفتح والتخفيف ‏{‏والجحيم‏}‏ بالرفع على الفاعلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ تستمرون على عبادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف ‏{‏هَلْ يَنصُرُونَكُمْ‏}‏ بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب ‏{‏أَوْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ بدفع ذلك عن أنفسهم، وهذا سؤال تقريع لا يتوقع له جواب ولذلك قيل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُبْكِبُواْ فِيهَا‏}‏ أي ألقوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها فالكبكبة تكرير الكب وهو مما ضوعف فيه الفاء كما قال الزجاج‏.‏ وجمهور البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني فاصل كبكب عندهم كبب فأبدل من الباء الثانية كاف وضمير الجمع لما يعبودن من دون الله وهم الأصنام وأكد بالضمير المنفصل أعني ‏{‏هُمْ‏}‏ وكلا الضميرين للعقلاء واستعملا في الأصنام تهكماً أو بناء على إعطائها الفهم والنطق أي كبكب فيها الأصنام ‏{‏والغاوون‏}‏ الذين عبدوها‏.‏

والتعبير عنهم بهذا العنوان دون العابدون للتسجيل عليهم بوصف الغواية، وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالهم فينقطع رجاؤهم قبل دخول الجحيم‏.‏

وعن السدي أن ضمير ‏{‏كبكبوا‏}‏ ومؤكده لمشركي العرب والغاوون سائر المشركين وقيل‏:‏ الضمير للمشركين مطلقاً ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون، وقيل‏:‏ الضمير لمشركين الإنس مطلقاً ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون، وقيل‏:‏ الضمير لمشركين الإنس مطلقاً و‏{‏يَتَّبِعُهُمُ الغاوون‏}‏ الشياطين والكل كما ترى ويبعد الأخير قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَجُنُودُ إِبْلِيسَ‏}‏ فإن الظاهر أن المراد منه الشياطين وإنه عطف على ما قبله والعطف يقتضي المغايرة بالذات في الأغلب ولا حاجة إلى تخريجه على الأقل وجعله من باب‏:‏

إلى الملك الندب وابن الهمام *** وقيل‏:‏ المراد بجنود إبليس متبعوه من عصاة الثقلين، واختار بعض الأجلة الأولى وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الأصنام، ولا يخفى أن للتعيم وجهاً أيضاً من حيث أن فيه مزيد تهويل لذلك اليوم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ تأكيد للضمير وما عطف عليه‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ الخ استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون إليها قيل‏:‏ فما وقع‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا أي العبدة الغاوون ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الغاوون ‏{‏فِيهَا يَخْتَصِمُونَ‏}‏ أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، والجملة في موضع الحال، والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها الله تعالى أهلاً للخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة من المثقلة واسمها على ما قيل ضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية كما ذهب إليه البصريون أي إنه أي الشأن كنا في ضلال مبين، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال واضح لا خفاء فيه، ووصفهم له بالوضوح للمبالغة في إظهار ندمهم وتحسرهم وبيان خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبىء عنه تصديرهم قسمهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب على ما قيل‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين‏}‏ ظرف لكونهم في ضلال مبين، وقيل‏:‏ لمحذوف دل عليه الكلام أي ضللنا، وقيل‏:‏ للضلال المذكور وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث أن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف، ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفاً، وقيل‏:‏ ظرف لمبين، وجوز أن تكون ‏{‏إِذْ‏}‏ تعليلية كما قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أو لأنا سويناكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون‏}‏ الظاهر بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين ليكون ذلك من الاختصام معهم وإن لم يورد على وجه الخطاب كما أن ما تقدم من الاختصام مع الأصنام، وكون المراد بهم ذلك مروي عن مقاتل، وفي «إرشاد العقل السليم» أنه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم، والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وعن السدي هم الأولون الذين اقتدوا بهم، وقيل‏:‏ من دعاهم إلى عبادة اوصنام من الجن والإنس‏.‏ وعن ابن جريح أنهم إبليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل والمعاصي، والقصر قيل بالنسبة إلى الأصنام، ولعلهم أرادوا بنفي الإضلال عنها إهانتها بأنها لا قدرة لها؛ وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين، ولعل الأولى كونه قصراً حقيقياً بإدعاء أنهم الأحديون في سببية الإضلال حتى أن سببية غيرهم له كلا سببية، وهذا واضح في الشياطين لأن إضلال غيرهم من الكبراء ونحوهم بواسطة إضلالهم لأنهم الذين يزينون الباطل للمتبوع والتابع، ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك إذا أريد بالمجرمين غيرهم، ثم إن المشركين لا يزالون في حيرة يوم القيامة لا يدرون بم يتشبثون فلا يضر إسنادهم الإضلال تارة إلى شيء وأخرى إلى غيره على أن الإسناد إلى كل باعتبار هذا‏.‏

وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض، والخطاب في ‏{‏نُسَوّيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 98‏]‏ للأصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلاً له بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر، وفيه مبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر‏:‏ أنت مبدأ ضلالي ولولا أنت لكنت مؤمناً اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه، وجوز أيضاً أن يكون من الأصنام ينطقهم الله تعالى فيخاصمون العبدة فضمير ‏{‏هُمْ‏}‏ عائد عليهم، والمعنى قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه‏:‏ ‏{‏إن كنا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 97‏]‏ الخ والحال إن الأصنام يخاصمونهم قائلين‏:‏ نحن جمادات متبرئون عن جميع المعاصي وأنتم اتخذتمونا آلهة فالقيتمونا في هذه الورطة‏.‏ وهذا كله على تقدير كون جملة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 96‏]‏ مستأنفة كما هو الظاهر‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏جُنُودُ إِبْلِيسَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 95‏]‏ مبتدأ وجملة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ الخ خبره وضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ وكذا ما بعده عائد عليه‏.‏

وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لا يتسنى على تقدير أن يراد بجنود إبليس الياطين لما أن المقول المذكور لا يصح أن يكون منهم وإذا أريد بهم متبعوه من عصاة الثقلين عبدة الأصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة فإسناده إلى الجميع خلاف الظاهر؛ ويبعد كل البعد بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة، نعم لو أريد بجنود إبليس على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر إليه الغاوون بعينهم وتكون الإضافة للعهد، والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم بالعنوان السابق لتذليلهم لم يبعد جداً‏.‏

ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين وفسر الجنود بالعصاة مطلقاً‏.‏ وجعل ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للغاوون وضمير ‏{‏هُمْ - و- يختصمون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 96‏]‏ للجنود أو للأصنام وفيه مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام ما لا يخفى على ذوي الأفهام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100 - 101‏]‏

‏{‏فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏المجرمون فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ مرتب على ما اعترفوا به من عظم الجناية وظهور الضلالة‏.‏ والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف حيث نفوا أولاً أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ونفوا ثانياً أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشف عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم وأتى بالشافع في سياق النفي جمعاً وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الإثبات من الجمع‏.‏

وقال في «الكشاف»‏:‏ جمع الشافعي لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده رحمة له وحسبة إن لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الأنوق، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فإنه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع‏.‏ وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجهاً آخر أيضاً، وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفى به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل‏:‏

الناس ألف منهمو كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

وقال بعض الكملة‏:‏ إن إيراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة، وأما إيراد الصديق مفرداً فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى، وقال سعد أفندي‏:‏ لا يبعد أن يكون جمع الأول وإفراد الثاني إشارة إلى أنه لا فرق بين الاستغراقين، وفيه أن إيثار صيغة لإفادة مسألة عربية ليس من دأب القرآن المجيد، والذي أميل إليه أن الإفراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سسن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للأصنام‏.‏ والكبراء‏.‏ والملائكة‏.‏ والأنبياء عليهم السلام كما هو المتبادر إلى الفهم، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جرير أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض‏.‏

وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم‏:‏ ‏{‏مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 99‏]‏ فكأنهم قالوا‏:‏ سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا، وفي «الكشاف» فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فإنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى‏:‏

‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الانس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى‏.‏

والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لا ينفع فيه أحد ولو أدنى نفع وهو وجه وجيه، والوجه الأول لا يكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لا يجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين فما لنا من شافعين يخصلونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاء الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال‏:‏ المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة يجوزون بعض أصنافها كالشافعة في زيادة الدرجات في الجنة لكن لا يخلو عن بعد والله تعالى أعلم، و‏{‏لَوْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ مستعملة في التمني بدليل نصب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ في جوابها وأصلها لو الامتناعية وحيث أن التمني يكون لما يمتنع أريد بها ذلك مجازاً مرسلاً أو استعارة تبعية ثم شاع حتى صارت كالحقيقة في ذلك، وقيل‏:‏ هي حقيقة فيما ذكر؛ وقيل‏:‏ أصلها المصدرية وليس بشيء‏.‏

والمعنى فليت لنا رجعة إلى الدنيا فإن نكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لا ينفع فيه أحد، وجوز كون لو شرطية وجوابها محذوف والتقدير لفعلنا من الخيرات كيت وكيت أو لخلصنا من العذاب أو لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو ما أضلنا المجرمون، والتقدير الأول أجزل، ويقدر المحذوف بعد ‏{‏فَنَكُونَ‏}‏ الخ لأن المصدر المتحصل منه معطوف على ‏{‏كَرَّةٌ‏}‏ أي فلو أن لنا كرة فنكونا من المؤمنين لفعلنا الخ‏.‏

وتعقب شيخ الإسلام ذلك بأنه إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معاً من غير دلالة على استلزام الكرة للإيمان أصلاً مع أنه المقصود حتماً، وفي قوله‏:‏ من غير دلالة الخ بحث على ماق يل حيث يمكن أن يقال‏:‏ حاصل الآية إن تيسر لنا الرجعة والإيمان المتعقب إياها لفعلنا من عبادات أهل الإيمان ما يقصر عنه العبارة، والتزام ثمرات الإيمان التزام للإيمان أولاً، ومقصودهم بيان استلزام الرجعة لفعل الخيرات كلها، وأما نفس الإيمان بعد هذه المشاهدة فلا يحتاج إلى البيان‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ إن قولهم ‏{‏فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ بمعنى فنكون من المقبول إيمانهم وقبول الله تعالى إيمانهم لا يترتب على رجعتهم البتة بل يجوز أن يتخلف فلا بد أن يكون مرادهم إن تيسر لنا الرجعة وإن قبل إيماننا لفعلنا الخ فليس المقصود الدلالة على استلزام الكرة للإيمان كما زعم شيخ الإسلام، ونوقش فيه بأن تيسر الرجعة إنما يكون لرحمة الله تعالى وعفوه وهي تستلزم قبول إيمانهم، والحق أنه لا ينبغي الالتفات إلى احتمال شرطية لو والتكلف له مع جزالة المعنى الظاهر المتبادر، والكلام في قوله تعالى‏.‏