فصل: تفسير الآية رقم (208)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏208‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ من القرى المهلكة ‏{‏إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ‏}‏ قد أنذروا أهلها إلزاماً للحجة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً و‏{‏مُنذِرُونَ‏}‏ مبتدأ، والجملة في موضع الحال من ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ قاله أبو حيان ثم قال‏:‏ الأعراب أن يكون ‏{‏لَهَا‏}‏ في موضع الحال وارتفع ‏{‏مُنذِرُونَ‏}‏ بالجار والمجرور أي إلا كائناً لها منذرون فيكون من مجىء الحال مفرداً لا جملة، ومجىء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائماً فصيح انتهى، وفي الوجهين مجىء الحال من النكرة‏.‏ وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغاً لمجىء الحال قياساً على جعلهم إياه مسوغاً للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة‏.‏ وذهب الزمخشري إلى أن ‏{‏لَهَا مُنذِرُونَ‏}‏ جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال‏:‏ مذهب الجمهور إنه لا تجىء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب‏.‏ ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول‏:‏ ما مررت بأحد إلا قائماً ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر‏.‏ وأياً ما كان فضمير ‏{‏لَهَا‏}‏ للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏209‏]‏

‏{‏ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏‏}‏

‏{‏ذِكْرِى‏}‏ منصوب على الحال من الضمير في ‏{‏مُنذِرُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 208‏]‏ عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتباراً للمبالغة‏.‏ وعلى المصدر فالعامل ‏{‏مُنذِرُونَ‏}‏ لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل‏:‏ مذكرون ذكرى أي تذكرة‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولاً له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة‏.‏ وأن يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها، وجوز أيضاً أن يكون متعلقاً بأهلكنا على أنه مفعول له‏.‏ والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال‏:‏ وهذا هو الوجه المعول عليه‏.‏ وبين ذلك في «الكشف» بقوله‏:‏ لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالاً وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذٍ يتلائم الكلام انتهى، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعاً له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا‏.‏ ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي‏.‏ والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى ‏{‏وَمَا كُنَّا ظالمين‏}‏ أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من غيرنا بأن نهلك أحداً قبل إنذاره أو بأن نعاقب من لم يظلم‏.‏ ولإرادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا‏}‏ دون وما نظلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192‏]‏ الخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعاً من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه إليه عليه الصلاة والسلام‏.‏ والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي، وقرأ الحسن‏.‏ وابن السميقع ‏{‏الشياطون‏}‏ فقال أبو حاتم‏:‏ هو غلط من الحسن أو عليه، وقال النحاس‏:‏ هو غلط عند جميع النحويين‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ هو غير جائز في العربية، وقال الفراء‏:‏ غلط الشيخ ظن أنها النون التي على هجائين، وقال النضر بن شميل‏:‏ إن جاز أن يحتج بقول العجاج‏.‏ ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلا وقد سمعا فيه، وقال يونس بن حبيب‏.‏ سمعت أعرابياً يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون فقلت‏:‏ ما أشبه هذا بقراءة الحسن انتهى‏.‏ ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كرخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبرون وفلسطون أجرى فيه نحو ما أجرى فيهما فقيل الشياطون‏.‏

وحقه على هذا على ما في «الكشاف» أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك، وفي «البحر» نقلاً عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه‏.‏ قيل‏:‏ ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روي عنهما التشديد وقرأ به غيرهما، وقال بعض‏:‏ إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطاً كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى، وقال صاحب الكشف‏.‏ لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة‏.‏ وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال‏:‏ وعلى كل حال فالشياطون غلط‏.‏ وأبو حيان لا يرضى بكونه غلطاً ويقول‏:‏ قرأ به الحسن‏.‏ وابن السميقع‏.‏ والأعمش ولا يمكن أن يقال‏:‏ غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان والله تعالى أعلم‏.‏ والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الأجلة لزم توجيهها فإنهم لا يقرؤون إلا عن رواية كغيرهم من القراء في جميع ما يقرؤونه عندنا، وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏‏}‏

‏{‏الشياطين وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ‏}‏ أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك ‏{‏وَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أي وما يقدرون على ذلك أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏‏}‏

‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ أي الشياطين ‏{‏عَنِ السمع‏}‏ لما يتكلم به الملائكة عليهم السلام في السماء ‏{‏لَمَعْزُولُونَ‏}‏ أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8، 9‏]‏ والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره الله عز وجل لمن شاء في سمائه من باب أولى، وقيل‏:‏ المعنى أنهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم السلام، وتعقب بأنه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام مطلقاً مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفون الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب‏.‏ وأيضاً لو كان ما ذكر شرطاً للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم‏.‏

وأيضاً لو صح ما ذكر لم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم السلام سواء كان مشتملاً على الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله‏:‏ والقرآن مشتمل الخ إلى غير ذلك‏.‏ وإن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام إذا كان وحياً منزلاً على الأنبياء عليهم السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضاً كيف وقد ثبت أن جبريل عليه السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظاً للوحي من الشيطان وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26 28‏]‏ وأيضاً ظاهر العزل عن السمع يقتضي أنهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطاً للسمع، فإن ادعى أن الشرط كان موجوداً إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على إبليس عليه اللعنة مما لا يخفى حاله فتدبر‏.‏

وبالجملة الذي أميل إليه في معنى الآية ما ذكرته أولاف‏.‏ وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، وجوز كون ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ للمشركين‏.‏ والمراد أنهم لا يصغون للحق لعنادهم، وفي الآية شمة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ وهو بعيد جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين‏}‏ خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة والسلام تهييجاً وحثاً لازدياد الإخلاص فهو كناية عن أخلص في التوحيد حتى لا ترى معه عز وجل سواه‏.‏ وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهى عنه من لم يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه‏.‏ وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع الله إلهاً آخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرِ‏}‏ العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي ‏{‏عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قرباً إليك من غيرهم‏.‏

والعشيرة على ما قال الجوهري‏:‏ رهط الرجل الأدنون‏.‏ وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة‏.‏ واشتهر أن طبقات الأنساب ست، الأولى‏:‏ الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان، الثانية‏:‏ القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر‏.‏ الثالثة‏:‏ العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة‏.‏ الرابعة‏:‏ البطن وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم‏.‏ الخامسة‏:‏ الفخذ وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم‏.‏ وبني أمية‏.‏ السادسة‏:‏ الفصيلة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس‏.‏ وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده‏.‏

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة، وفي «البحر» أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة، والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول‏.‏

وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه‏:‏ وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة‏.‏ ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتحدت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات، وأنت تعلم أن الأقربية إذا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور‏.‏

وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بأمر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة‏.‏ ومضر، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش‏.‏ وكنانة، ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف‏.‏ وبني مخزوم، ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم‏.‏ وبني أمية، ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس‏.‏ وبني أبي طالب‏.‏ والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم انتهى‏.‏

ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة‏.‏ ووجه تخصيص عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام دفع توهم المحاباة وأن الاهتمام بشأنهم أهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏ وفي كيفية الإنذار أخبار كثيرة، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهو يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال‏:‏ أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1، 2‏]‏» ومنها ما أخرجه أحمد‏.‏ وجماعة عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وعم وخص فقال‏:‏ ‏"‏ يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً يا معشر بني كعب ابن لؤي انقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً يا معشر بني قصي انقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً يا معشر بني عبد مناف انقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً يا معشر بني عبد المطلب انقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضراً ولا نفعاً إلا أن لكم رحماً وسأبلها ببلالها ‏"‏

وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة والسلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم أطلع عليهم فأنذرهم، وجاء في بعض آخر منها أنه عليه الصلاة والسلام أمر علياً كرم الله تعالى وجهه أن يصنع طعاماً ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذٍ أربعون رجلاً فبعد أن أكلوا أراد صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لبه إلى الكلام فقال‏:‏ لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم من الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال‏:‏ يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجىء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار‏.‏

ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ورهطك منهم المخلصين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏‏}‏

‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم بالتواضع على سبيل الاستعارة التبعية أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر‏:‏

وأنت الشهير بخفض الجناح *** فلا تك في رفعه أجدلاً و‏{‏مِنْ‏}‏ قيل‏:‏ بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن اتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك، وقيل‏:‏ للتبعيض بناءً على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقاً ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى، وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن‏.‏ ولا شك أيضاً أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان من اتبعك شائعاً في من آمن حقيقة‏.‏ ومن آمن مجازاً فبين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ أن المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفاً، وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا آمنا وهم صنفان‏.‏ صنف صدق واتبع‏.‏ وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل‏:‏ من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة‏.‏ وعلى هذا يكون الذين أمر صلى الله عليه وسلم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة والسلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض‏.‏ وقال بعض الأجلة الاتباع والإيمان توأمان إذ المتبادر من أتباعه عليه الصلاة والسلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الإيمان الإيمان الحقيقي، وذكر ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ لإفادة التعميم كذكر ‏{‏يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ بعد طائر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من آمن من عشيرته صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الإجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وأن الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين‏.‏ واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل إلى المؤمنين ليعم ويؤذن أن صفة الإيمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون من بيانية وأن عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه‏.‏ وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ بدأ صلى الله عليه وسلم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ الظاهر أن الضمير المرفوع في ‏{‏عَصَوْكَ‏}‏ عائد على من أنذر صلى الله عليه وسلم بإنذارهم وهم العشيرة أي فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم فقل‏:‏ إني برىء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع الله تعالى إلهاً آخر، وجوز أن يكون عائداً على الكفار المفهوم من السياق، وقيل‏:‏ هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل‏:‏ إني برىء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم‏.‏ وذكر على هذا أنه صلى الله عليه وسلم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعاً للعصاة يوم القيامة، والآية على غير هذا القول منسوخة‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال‏:‏ أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم، وفي «البحر» هذه موادعة نسختها آية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم‏}‏ فهو سبحانه يقهر من يعصيك منهم ومن غيرهم بعزته وينصرك برحمته، وتقديم وصف العزة قيل لأنه أوفق بمقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليه صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون ذلك لأن العزة كالعلة المصححة للتوكل والرحمة كالعلة الداعية إليه، وفسره غير واحد بتفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على أن ينفعه ويضره‏.‏ وقالوا‏:‏ المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى، وذكر بعضهم أن هذا من أحط مراتب التوكل وأدناها، ونقل عن بعض العارفين أنه فيما بين الناس على ثلاث درجات‏.‏ الأولى‏:‏ التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى، والثانية‏:‏ التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهاداً في تصحيح التوكل وقمع تشرف النفس تفرغاً إلى حفظ الواجبات‏.‏ والثالثة‏:‏ التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل‏.‏ وذلك أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمراً مهملاً بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها وشأنه سبحانه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمتوكل من أراح نفسه من كد النظر والمطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين وهو أن يعلم أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يمنع ومتى طالع بتوكله عوضاً كان توكله مدخولاً وقصده معلولاً وإذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله تعالى كفاه الله تعالى كل مهم‏.‏ وبين العلامة الطيبي أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ‏}‏ الخ إشارة إلى المراتب الثلاث بما فيه خفاء‏.‏

وفي مصاحف أهل المدينة‏.‏ والشام «فتوكل» بالفاء‏.‏ وبه قرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وخرج على الإبدال من جواب الشرط‏.‏ وجعل في الكشاف الفاء للعطف وما بعده معطوفاً على ‏{‏فَقُلْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 216‏]‏ أو ‏{‏فَلاَ تَدْعُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 213‏]‏ وما ذكر أولاً أظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏‏}‏

‏{‏الذى يُرِيكُمُ حِينَ تَقُومُ‏}‏ أي إلى الصلاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَقَلُّبَكَ‏}‏ أي ويرى سبحانه تغيرك من حال كالجلوس والسجود إلى آخر كالقيام ‏{‏فِى الساجدين‏}‏ أي فيما بين المصلين إذا أممتهم، وعبر عنهم بالساجدين لأن السجود حالة مزيد قرب العبد من ربه عز وجل وهو أفضل الأركان على ما نص عليه جمع من الأئمة، وتفسير هذه الجملة بما ذكر مروى عن ابن عباس‏.‏ وجماعة من المفسرين إلا أن منهم من قال‏:‏ المراد حين تقوم إلى الصلاة بالناس جماعة، وقيل‏:‏ المعنى يراك حين تقوم للتهجد ويرى تقلبك أي ذهابك ومجيئك فيما بين المتهجدين لتتصفح أحوالهم وتطلع عليهم من حيث لا يشعرون وتستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى والتلاوة‏.‏ وعن مجاهد أن المراد بقوله سبحانه‏:‏ «وتقلبك في الساجدين» تقلب بصره عليه الصلاة والسلام فيمن يصلى خلفه فإنه صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه، ففي «صحيح البخاري» عن أنس قال‏:‏ أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال‏:‏ ‏"‏ أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ‏"‏

وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏ استووا استووا استووا والذي نفسي بيده إني لاراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي ‏"‏ ولا يخفى بعد حمل ما في الآية ما ذكر‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالساجدين المؤمنون، والمعنى يراك حين تقوم لأداء الرسالة ويرى تقلبك وترددك فيما بين المؤمنين أو معهم فيما فيه إعلان أمر الله تعالى وإعلاء كلمته سبحانه، وتفسير الساجدين بالمؤمنين مروى عن ابن عباس‏.‏ وقتادة إلا أن كون المعنى ما ذكر لا يخلو عن خفاء‏.‏

وعن ابن جبير أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام، والمعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم السلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه وهو كما ترى، وتفسير الساجدين بالأنبياء رواه جماعة منهم الطبراني‏.‏ والبزار‏.‏ وأبو نعم عن ابن عباس أيضاً إلا أنه رضي الله تعالى عنه فسر التقلب فيهم بالتنقل في أصلابهم حتى ولدته أمه عليه الصلاة والسلام، وجوز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يراد بالساجدين المؤمنون، واستدل بالآية على إيمان أبويه صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه كثير من أجلة أهل السنة، وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله تعالى عنهما على رغم أنف على القارىء واضرابه بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية الآية على هذا المطلب، ورؤية الله تعالى انكشاف لائق بشأنه عز شأنه غير الانكشاف العلمي ويتعلق بالموجود والمعدوم الخارجي عند العارفين، وقالوا‏:‏ إن رؤية الله تعالى للمعدوم نظير رؤية الشخص القيامة ونحوها في المنام وكثير من المتكلمين انكروا تعلقها بالمعدوم، ومنهم من أرجعها إلى صفة العلم وتحقيق ذلك في محله، وفي وصفه تعالى برأيته حاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بما تقدم تحقيق للتوكل وتوطين لقلبه الشريف عليه الصلاة والسلام عليه‏.‏

وقرأ جناح بن حبيش ‏{‏ويقلبك‏}‏ مضارع قلب مشدداً‏.‏ وخرج ذلك أبو حيان على العطف على ‏{‏يراك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 218‏]‏ وجوز العطف على ‏{‏تَقُومُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 218‏]‏‏.‏ وفي الكلام على هذه القراءة إشارة إلى وقوع تقلبه صلى الله عليه وسلم في الساجدين على وجه الكمال وكمال التقلب في الصلاة كونه بخشوع يغفل معه عما سوى الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ بكل ما يصح تعلق السمع به ويندرج فيه ما يقوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏العليم‏}‏ بكل ما يصح تعلق العلم به ويندرج فيه ما يعمله أو ينويه عليه الصلاة والسلام، وفي الجملة الإسمية إشارة إلى أنه سبحانه متصف بما ذكر أزلاً وأبداً ولا توقف لذلك على وجود المسموعات والمعلومات في الخارج، والحصر فيها حقيقي أي هو تعالى كذلك لا غيره سبحانه وتعالى‏.‏

وكأن الجملة متعلقة بالجملتين الواقعتين في حيز الجزاء جيء بها للتحريض على القول السابق والتوكل، وجوز أن تكون متعلقة بما في حيز الصلة المراد منها التحريض على إيقاع الأقوال والأفعال التي في الصلاة على أكمل وجه فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين‏}‏ الخ مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن، وهذه الجملة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210‏]‏ الخ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 12‏]‏ الخ اخوات وفرق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع إلى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت عناية الله تعالى بها، ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه، والاستفهام للتقرير و‏{‏على مَنِ‏}‏ متعلق بتنزل قدم عليه لصدارة المجرور وتقديم الجار لا يضر كما بين في النحو، وقال الزمخشري في ذلك‏:‏ آن من متضمنة معنى الاستفهام وليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا معنى الاسم ومعنى الحرف وإنما معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من أهل والأصل أهل كما قال‏:‏

سائل فوارس يربوع بشدتنا *** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فإذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول‏:‏ أعلى من تنزل الشياطين كقولك‏:‏ أعلى زيد مررت اه‏.‏ وتعقبه صاحب الفرائد بقوله‏:‏ يشكل ما ذكر بقولهم‏:‏ من أين أنت ومن أين جئت وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏ وقوله فيم‏:‏ وبم ومم وحتام ونحوها‏.‏ وأجاب صاحب الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت‏؟‏ لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه لا يحتاج على ما حققه النحاة إلى جميع ذلك، وجملة ‏{‏على مَن تَنَزَّلُ‏}‏ الخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني أن قدرت الفعل متعدياً لاثنين ومسد مفعولين إن قدرته متعدياً لثلاثة، والمراد هل أعلمكم جواب هذا الاستفهام أعني على من تنزل الشياطين وأصل تنزل تتنزل فحذفت أحدى التاءين‏.‏ والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل‏:‏ قل يا محمد هل أنبئكم على من تنزل الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏222‏]‏

‏{‏تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏‏}‏

‏{‏تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ‏}‏ أي كثير الافك وهو الكذب ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ كثير الاثم، و‏{‏كُلٌّ‏}‏ للتكثير وجوز أن تكون للإحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الإفك والإثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير‏.‏ وسطيح بن ربيعة بن عدى‏.‏ والمراد بواسطة التخصيص في مرعض البيان أو السياق أو مفهوم املخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏223‏]‏

‏{‏يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

‏(‏ يلقون‏)‏‏}‏ أي الافاكون ‏{‏السَّمْعَ‏}‏ أي سمعهم إلى الشياطين، والقاء السمع مجاز عن شدة الاصغاء للتلقي فكأنه قيل‏:‏ يضغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ‏}‏ أي الأفاكين ‏{‏كاذبون‏}‏ فيما يقولونه من الأقاويل، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الاطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل‏.‏

وليس معنى الأفك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادراً في بعض الأحايين، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع والقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقى الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جداوه على ما قيل‏.‏ واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل‏:‏ هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنوناً وإمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم ومع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضمنهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوحون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تحطفه الشياطين عند استراقهم السمه من الملائكة ويلقونه إليهم‏.‏

فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال‏:‏ إنهم ليسوا بشيء فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً قال تلك الكلمة من الحق يحفظها الجنى فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» وقيل‏:‏ هو قبل البعثة وبعدها كثرة خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبرالمذكور، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق‏.‏

وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية‏:‏ كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذباً كثيراً فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقاً وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذباً، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير ‏{‏يُلْقُون‏}‏ في الآية راجعاً إلى الشياطين، والمعنى يلقى الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم، وقيل‏:‏ المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم السلام على وجهه، وجملة ‏{‏يُلْقُون‏}‏ على تقدير كون الضمير للأفاكين صفة ‏{‏لّكُلّ أَفَّاكٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 222‏]‏ لأنه في معنى الجمع سواء أريد بالقاء السمع الاصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس، وجوز أن تكون استئنافاً أخباراً بحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل، واستظهر تقدير المبتدأ على هذا، وأن تكون استئنافاً مبنياً على السؤال كأنه قيل‏:‏ ما يفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم‏؟‏ فقيل‏:‏ يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس، وجوز أن تكون حالاً منتظرة على التقديرين أيضاً‏.‏

وهي على تقدير كون الضمير للشياطين، والمعنى ما سمعت أولاً قيل‏:‏ تحتمل أن تكون استئنافاً مبيناً للغرض من التنزل مبنياً على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم‏؟‏ فقيل‏:‏ يلقون إليهم ما سمعوه، وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إليهم؛ وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانياً قيل‏:‏ لا يجوز أن تكون استئنافاً نظير ما ذكر آنفاً ولا أن تكون حالاً أيضاً لأن القاء السماع بمعنى الانصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضاً منه أو حالاً مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافاً للأخبار بحالهم‏.‏

وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل، ومن هنا قيل‏:‏ أن جعل الضمير للشياطين وحمل إلقاء السمع على انصاتهم وتسمعهم إلى الملأ الأعلى مما لا سبيل إليه وفيه نظر، وجملة ‏{‏هُمْ كَذَّبُونِ‏}‏ استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية، هذا واعلم أن ههنا اشكالاً وارداً على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد أن الشياطين يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين‏:‏ وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏‏.‏ وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما ههنا السمع في الجملة ويراد به الخطفة المذكورة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة‏}‏ ‏[‏الصفات‏:‏ 10‏]‏ والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين‏.‏ وابن مردويه السابق آنفا‏.‏ واعترض بأن من خطف لا يبقى حياً إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 01‏]‏ فإن ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه‏.‏

وأجيب بأن نفي بقائه حياً غير مسلم‏.‏ ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الاهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حياً فإن الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك‏.‏ وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطىء أبداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولاً يضل الناس في البراري، وقيل‏:‏ إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها، وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه التي لم ينسج على منوالها وان كان للطعن فيها مجال قال‏:‏ إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك، بل ربما يقال‏:‏ إن في كلامه بعد إشعاراً ما بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط لا قبل ذلك ولا بعده‏.‏

ولا يخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقاً إلى يوم القيامة، بل قد يدعى أن في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وان خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضاً قبل ولادته صلى الله عليه وسلم من خبر السماء، ويشكل هذا على ظاهر العزل إلا أن يدعى أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل املنع شديداً بالنسبة إليه‏.‏ وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا فلا يتوصلون إلى الأنثى ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى‏.‏

قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضاً‏.‏ فقد نقل النووي عنه في «شرح صحيح مسلم» أنه قال‏:‏ كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضر، أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما قال‏:‏ وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول‏:‏

بعث الله عند مبعثه الشه *** بـ حراساً وضاق عنها الفضاء

تطرد الجن عن مقاعد للسم *** ع كما يطرد الذئب الرعاء

فمحت آية الكهانة آيا *** ت من الوحى ما لهن انمحاء

وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاءهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديداً‏.‏ والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان، وقد صح إنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره‏:‏ يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتحنه فاضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد‏:‏ هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخسأ فلن تعدو قدرك»‏.‏

وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضاً‏:‏ أصح إلا قول أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة والسلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخسأ فلن تعدو قدرك» أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لا يبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب، وقد يقال في دفع هذا الإشكال‏:‏ إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد، والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافاً للمعتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب، وكذا الضرب السابق آنفاً، وأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه وسلم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة والسلام، وكلا القولين الأخيرين حكاهما الداودين بعض العلماء كما في «شرح صحيح مسلم»‏.‏

وأياً ما كان يكون ابن الصياد قد أخبر بأمر طارىء تطلع عليه الشياطين بدون اشتراق السمع من السماء وليس ذلك من الاطلاع على ما في القلب في شيء، ومع ذلك لم يخبر به تاماً بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص‏.‏

ولعل مراد القاضي بقوله‏:‏ إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلى الله عليه وسلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف الخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحال من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لاشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولاً كما لا يخفى، وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضاً إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة، وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه السهاب ثم أن من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك، وقيل‏:‏ إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملاائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُلْقُونَ السمع‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 322‏]‏ وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام في السماء وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ واستدل لذلك بما أخرجه البخاري‏.‏ وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الأرض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ‏"‏ ولا يخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لا نفياً ولا إثباتاً، وقد يختارالقول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة، وأما سمع ما لا يعتقد به فقد يقع لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الذكب ما يخلطون، فيحث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك، ويقال‏:‏ إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام، نعم قوله صلى الله عليه وسلم «خبأت» ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت‏.‏

ويمكن أن يقال على بعد‏:‏ إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقاً بالشهب المحرقة لهم، وارجاع ضمير ‏{‏يُلْقُون‏}‏ إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ بمعنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود‏.‏ والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من المائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظناً وتخميناً وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه‏.‏ والأمر في تسميته مسموعاً هين وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة، ويقال‏:‏ إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحداً يرتضيه، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إِليه‏.‏ وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلى الله عليه وسلم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو الأضرب من ضروب الكهانة‏.‏

وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعداداً للإنسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الاتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن ههنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفظور على أن تتحرك قوته العقلية حركته الفكرية بالإرادة عندما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحليلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعيناً به في ذلك الإنسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مستغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيراً ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائماً ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة لشتغل به عن الحواس ويقوى في الجملة على ذلك الإنسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهاً على السائلين، ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة والسلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مسيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقاً في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن الصياد حين سأله كاشفاً عن حاله بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«كيف يأتيك هذا الأمر‏؟‏ فقال‏:‏ يأتيني صادق وكاذب‏:‏ خلط عليك الأمر» يريد عليه الصلاة والسلام نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال، وإنما قيل‏:‏ أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الإنسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخاً غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة‏.‏

ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فانهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته ون لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لامية ابن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يكون نبياً وكذا وقع لابن الصياد‏.‏

ومسيلمة‏.‏ وغيرهما، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي‏.‏ وقارب بن الأسود وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان، وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهاناً أو غيرهم للأخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاماً طويلاً، حاصله أن النفس الإنسانية ذات روحانية ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علماف، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به انتهى، ولا يخفى أن فيه ذهاباً إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيراً ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أقول ولا ينكره إلا جهول‏:‏ لله عز وجل خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا يبعد بعد انقطاع خبر السماء عن السياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الإنسانية خاصية التكلم بما يصدق كلا أو بعضاً مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بأن ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع‏.‏

وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمسن سنين وذلك أني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الأطفال فنهتني والدتي رحمها الله تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لاستيقظ صباحاً فاذهب إلى الكتاب فقلت لها‏:‏ غداً يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لا يكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنا متني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر إليها كلاماً لم أسمعه فتغير حالها ومنعتي عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فأردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضاً فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحداً يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلت منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت إليها مسرعاً مسروراً بصدق كلامي وكنت قد أنسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك‏.‏

وفي «اليواقيت والجواهر» للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرقة بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن ربما توافق وربما تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا والله تعالى أعلم‏.‏

والظاهر على ما قيل أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبّئُكُمْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221‏]‏ الخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة، وفي «البحر» ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم الخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏‏}‏

‏{‏والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون‏}‏ مسوق لتنزيهه عليه الصلاة والسلام أيضاً عن أن يكون وحاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر‏.‏ والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين‏:‏ إنهم رموه عليه الصلاة والسلام بكونه آتياً بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزوناً بأدنى تصرف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ ويكون بهذا الاعتبار شطراً من الطويل وكقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ ويكون من المديد، وكقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ ويكون من البسيط، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 60‏]‏ ويكون من الوافر، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور، وقد استخرجوا منه ما يشبه البيت التام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وتعقب ذلك بأنهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلى الله عليه وسلم إذ لا يخفى على الأغبياء من العجم فضلاً عن بلغاء العرب أن القرآن الذي جاء به صلى الله عليه وسلم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة والسلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم‏.‏ ولو اعتبر في كون الكلام شعراً إمكان استخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم‏.‏ وول اعتبر في كون الكلام شعراً إمكان استخراج كلام منظوم منه لكان كثير من الأطفال شعراء فإن كثيراً من كلامهم يمكن فيه ذلك، والظاهر أنهم إنما قصدوا رميه صلى الله عليه وسلم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لا حقيقة له، ولما كان ذلك غالباً في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة والسلام بشاعر وعما جاء بالشعر، ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون ومايذرون ولا يستمرو على وتيرة واحدة في الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه، والحصر مستفاد من بناء ‏{‏يَتَّبِعُهُمُ‏}‏ الخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَسْتَهْزِىء بِهِم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله يُقَدّرُ اليل والنهار‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ ومن لا يرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغواية جعلت علة للاتباع فإذا انتفت انتفى وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏225‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ‏}‏ استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له‏.‏ والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء‏.‏ وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شهاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والنسيبة بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏226‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ‏}‏ من الأفاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة واتصف بمحاست الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات السنية الإنسية مستقراً على أقوم منهاج مستمراً على صراط مستقيم لا يرى له العقل السليم من هاج ناطقاً بكل أمر رشيد داعياً إلى صراط الله تعالى العزيز الحميد مؤيداً بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الباهرة مستقلة بنظم رائق وأسلوب فائق أعجز كل منطيق ماهر كل مفلق ساحر، هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء‏:‏ إن اتباع الشعراء الغاوون واتباعه عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك‏.‏ وتعقب بأنه لا ريب في أن تعليل عدم كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون اتباعه عليه الصلاة والسلام غير غاوين مما لا يليق بشأنه العالي، وقيل‏:‏ ضمير الجمع للغاوين، وتعقب بأن المحدث عنهم الشعراء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغاوين هم الرواية الذين يحفظون شعر الشعراء ويروونه عنهم مبتهجين به‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أنهم الذين يستحسنون أشعارهم وإن لم يحفظوها، وعن مجاهد‏.‏ وقتادة أنهم الشياطين‏.‏

وروى عن ابن عباس أيضاً أن الآية نزلت في شعراء المشركين عبد الله بن الزبعري‏.‏ وهبيرة بن وهب المخزومي‏.‏ ومسافع بن عبد مناف‏.‏ وأبو عزة الجمحي‏.‏ وأمية بن أبي الصلت قالوا‏:‏ نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وهم الغاوون الذين يتبعونهم‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عنه أيضاً أنه قال‏:‏ تهاجي رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله تعالى ‏{‏والشعراء‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 224‏]‏ الآيات وفي القلب من صحة الخبر شيء، والظاهر من السياق أنها نزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا‏.‏

وقرأ عيسى بن عمرو ‏{‏الشعراء‏}‏ بالنصب على اشتغال‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏والشعراء يَتَّبِعُهُمُ‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعبد الوارث عن أبي عمرو ‏{‏يَتَّبِعُهُمُ‏}‏ بالتشديد وتسكين العين تخفيفاً وقد قالوا‏:‏ عضد بسكون الضاد فغيروا الضمة واقعة بعد الفتحة فلأن يغيروها واقعة بعد الكسرة أولى، وروى هرون فتح العين عن بعضهم، واستشكله أبو حيان، وقيل‏:‏ إنه للتخفيف أيضاً، واختياره على السكون لحصول الغرض به مع أن فيه مراعاة الأصل في الجملة لما بين الحركتين من المشاركة الجنسية ولا كذلك ما بين الضم والسكون وهو غريب كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏227‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله عز وجل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله سبحانه وتعالى والحث على الطاعة والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترهيب عن الركون إليها والاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية والترغيب فيما عند الله تعالى ونشر محاسن رسوله صلى الله عليه وسلم ومدحه وذكر معجزاته ليتغلغل حبه في سويداء قلوب السامعين وتزداد رغباتهم في اتباعه ونشر مدائح آله وأصحابه وصلحاء أمته لنحو ذلك ولو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من غير اعتداء ولا زيادة كما يشير إليه قراءة بعضهم ‏{‏وانتصروا بِمِثْلِ مَا ظَلَمُواْ‏}‏، وقيل‏:‏ المراد بالمستثنين شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة المشركين، واستدل لذلك بما أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة إن هذه الآية نزلت في رهط من الأنصار هاجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة‏.‏ وحسان بن ثابت‏.‏ وعن السدي نحوه، وبما أخرج جماعة عن أبي حسن سالم البراد أنه قال‏:‏ لمانزلت ‏{‏والشعراء‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 224‏]‏ الآية جاء عبد الله بن رواحة‏.‏ وحسان بن ثابت‏.‏ وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا‏:‏ يا رسول الله لقد أزل الله تعالى هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء هلكنا فأنزل الله تعالى ‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الخ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليهم‏.‏

وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وأخرج ابن مردويه‏:‏ وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ إلى آخر الصفات فقال‏:‏ هم أبو بكر‏.‏ وعمر وعلي‏.‏ وعبد الله بن رواحة ولعله من باب الاقتصار على بعض ما يدل عليه اللفظ فقد جاء عنه في بعض الروايات ما يشعر بالعموم، هذا واستدل بالآية على ذم الشعر والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم انتصاراً كذا قيل، واعلم أن الشعر باب من الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وفي الحديث‏:‏ «إن من الشعر لحكمة» وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر وأجاز عليه وقال عليه الصلاة والسلام لحسان رضي الله تعالى عنه‏:‏ -اهجهم يعني المشركين فإن روح القدس سيعينك وفي رواية‏:‏ «اهجهم وجبريل معك» وأخرج ابن سعد عن ابن بريدة أن جبريل عليه السلام أعان حساناً على مدحته النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين بيتاً، وأخرج أحمد‏.‏

والبخاري في التاريخ‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه‏؟‏ فقال‏:‏ إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل، وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وهم في سفر أين حسان بن ثابت فقال‏:‏ لبيك يا رسول الله وسعديك قال‏:‏ خذ فجعل ينشده ويصغي إليه حتى فرغ من نشيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لهذا أشد عليهم من وقع النبل، ويروى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت منبراً في المسجد ينشد عليه الشعر‏.‏ وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا شعراً يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار، وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين الشعر، وكذا كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فمن شعر أبي بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏

أمن طيف سلمى بالبطائح الدمائث *** أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى من لؤى فرقة لا يصدها *** عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا *** عليه وقالوا لست فينا بماكث

ولما دعوناهم إلى الحق أدبروا *** وهروا هرير المجحرات اللواهث

فكم قد مثلنا فيهم بقرابة *** وترك التقي شيء لهم غير كارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم *** فما طيبات الحل مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم *** فليس عذاب الله عنهم بلابث

ونحن أناس من ذؤابة غالب *** لنا العز منها في الفروع الأثائث

فأولى برب الراقصات عشية *** حراجيج تخدي في السريح الرثائث

كأدم ظباء حول مكة عكف *** يردن حياض البئر ذات النبائث

لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم *** ولست إذا ءاليت يوماً بحانث

لتبتدرنهم غارة ذات مصدق *** تحرم أطهار النساء الطوامث

تغادر قتلى يعصب الطير حولهم *** ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث

فابلغ بني سهم لديك رسالة *** وكل كفور يبتغي الشر باحث

فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم *** فإني من أعراضكم غير شاعث

ومن شعر عمر رضي الله تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة‏:‏

توعدني كعب ثلاثاً يعدها *** ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بي خوف الموت إني لميت *** ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب

وقوله يروى للأعور الثنى‏:‏

هون عليك فإن الأمور *** بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيها *** ولا قاصر عنك مأمورها

ومنه وقد لبس برداً جديداً فنظر الناس إليه، ويروى لورقة بن نوفل من أبيات‏:‏

لا شي مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد حاوله عاد فما خلدوا

ولا سلميان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجن فيما بينها ترد

حوض هنا لك مورود بلا كذب *** لا بد من ورده يوماً كما وردوا

ومن شعر عثمان رضي الله تعالى عنه‏:‏

غنى النفس يغني النفس حتى يكفها *** وإن عضها حتى يضر بها الفقر

ومن شعر علي كرم الله تعالى وجهه وكان مجوداً حتى قيل‏:‏ إنه أشعر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين‏:‏

ولما رأيت الخيل تزحم بالقنا *** نواصيها حمر النحور دوامي

وأعرض نقع في السماء كأنه *** عجاجة دجن ملبس بقتام

ونادى ابن هند في الكلاع وحمير *** وكندة في لخم وحي جذام

تيممت همدان الذين هم هم *** إذا ناب دهر جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة

فوارس من همدان غير لئام فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها *** وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام

فلو كنت بواباً على باب جنة *** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وقد جمعوا ما نسب إليه رضي الله تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصحح منه إلا اليسير، ومن شعر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما وقد خرج على أصحابه مختضباً‏:‏

نسود أعلاها وتأبى أصولها *** فليت الذي يسود منها هو الأصل

ومن شعر الحسين رضي الله تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي الله تعالى عنه في امرأته‏:‏

لعمرك إنني لأحب دارا *** تحل بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي *** وليس للأئمي عند عتاب

ومن شعر فاطمة رضي الله تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام‏:‏

ماذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت على مصائب لو أنها *** صبت على الأيام صرن لياليا

ومن شعر العباس رضي الله تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي *** بوادي حنين والأسنة تشرع

وقولي إذا ما النفس جاشت لها قرى *** وهام تدهدي والسواعد تقطع

وكيف رددت الخيل وهي مغيرة *** بزوراء تعطي باليدين وتمنع

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة *** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

ومن شعر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما‏:‏

إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى *** وأعمل فكر الليل والليل عاجر

وباكرني في حاجة لم يجد لها *** سواي ولا من نكبة الدهر ناصر

فرجت بمالي همه من مقامه *** وزايله هم طروق مسامر

وكان له فضل علي بظنه *** بي الخير أني للذي ظن شاكر

وهلم جرا إلى حيث شئت، وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالاً ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة والسلام، ولأجلة التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وفقهاء المسلمين شعر كثير أيضاً، ومن ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏

ومتعب العيس مرتاح إلى بلد *** والموت يطلبه في ذلك البلد

وضاحك والمنايا فوق هامته *** لو كان يعلم غيباً مات من كمد

من كان لم يؤت علماً في بقاء غد *** فما يفكر في رزق لبعد غد

والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية، وقد مدحه أيضاً غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه الشعر ميزان العقول‏.‏

وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول‏:‏ إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وما أخرجه أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلىء شعراً ‏"‏ حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش، وروى نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيمتلىء جوف أحدكم» الحديث فقالت‏:‏ رحم الله تعالى أبا هريرة إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً ‏"‏ من الشعر الذي هجيبت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلاً عن كتاب بستان الزاهدين، ولا يخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتلىء فإن الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم سواء، وما أحسن قول الماوردي‏:‏ الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطراراً لم يكن جرحاً أو اختياراً جرح، وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضاً، ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي‏.‏

وإثم الحاكي على ما قال الرافعي دون إثم المنشد، وقال الأذرعي‏:‏ ليس هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فاثمه أشد بلا شك، واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو لكافر فإن فيه تفصيلاً‏.‏

وفصل بعضهم ما فيه الهحجو لمسلم أيضاً وذلك أن كثيراً من العلماء أطلقوا جواز هجو الكافر استلالاً بأمر صلى الله عليه وسلم حساناً ونحوه بهجو المشركين، وقال بعضهم‏:‏ محل ذلك الكفار على العموم وكذا المعين الحربي ميتاً كان أو حياً حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به، وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي‏.‏ وابن العماد‏.‏ وغيرهما؛ وقالوا‏:‏ إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي، وعلى التنزل فهو ذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون عن القرب فضلاً عن المبحات، وألحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من حجهته، وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن، وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بمال تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط‏.‏

وقال البلقيني‏:‏ الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم‏.‏ ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير محترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه‏.‏

نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبة المسلم أو الذمي أو بعد موته إذا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد، وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضاً ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامأرة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وإنشاده، واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم‏.‏

قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جداً، وقال أيضاً‏:‏ يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئاً من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءاً‏.‏

وفي الأحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والإصداغ وسائر أوصاف النساء نظر، والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت، وعلى المستمع أن ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع، وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم إنشاؤه قد لا تحرم روايته فإن المغازي روى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر ذلك أحد، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم إذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر‏.‏ وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية انتهى، قال الأذرعي‏:‏ ولا شك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه، وقد ذم العلماء جريراً‏.‏ والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم اللسان، ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حراماً إذ ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الأحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوي الأموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق إلا اللعب بالأعراض، وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه‏.‏

وقال آخر‏:‏ إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره، والحق إن ذلك أن تضمن غرضاً شرعياً فلا بأس به، وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه، وحمل الأكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء، والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لا يتسع لغيره ولا يلتفت إليه‏.‏ وليس في الخبر ذم إنشائه ولا إنشاده لحاجة شرعية وإلا لوقع التعارض بينه وبين الأخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وأبعد من أن تقبل التأويل كما لا يخفى‏.‏

وما روى عن الإمام الشافعي من قوله‏:‏

ولولا الشعر بالعلماء يزري *** لكنت اليوم أشعر من لبيد

محمول على نحو ما حمل الأكثرون الخبر عليه وإلا فما قاله شعر، وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده الله تعالى برحمته مخاطباً خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات‏.‏

ولو لداعيه يرضي الشعر منقبة *** لقمت ما بين منشيه ومنشده

هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام يتعلق بهذا البحث أيضاً عند الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى له‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 69‏]‏ له ومن اللطائف أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق‏:‏

فبتن بجانبي مصرعات *** وبت أفض أغلاق الختام

فقال له قد وجب عليك الحد فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ قد درأ الله تعالى عني الحد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 226‏]‏ ‏{‏وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ تهديد شديد ووعيد أكيد لما في ‏{‏سيعلم‏}‏ من تهويل متعلقه وفي ‏{‏يَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ من الإطلاق والتعميم، وقد كان السلف الصالح يتواعظون بها، وختم بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصيته حين عهد لعمر رضي الله تعالى عنه وذلك أنه أمر عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب في مرض موته حينئذ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وأن يجر ويبدل فلا عغلم فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب ‏{‏وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَيَ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏، وتفسير الظلم بالكفر وإن كان شائعاً في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أن الأنسب على ما قيل هنا الإطلاق لمكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ وقال الطيبي‏:‏ سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقى منهم من الشدائد كما مر من أول السورة يؤيد تفير الظلم بالكفر‏.‏

وروى محيي السنة الذين ظلموا أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن أرقم عن الحسن ‏{‏أَيُّ‏}‏ بالفاء والتاء والتاء الفوقية من الانفلات بعنى النجاة، والمعنى إن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ‏{‏مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ‏}‏ هنا معلقة وأي استفهام مضاف إلى ‏{‏مُنقَلَبٍ‏}‏ والناصب له ‏{‏يَنقَلِبُونَ‏}‏، والجملة سادة مسد المفعولين كذا في «البحر»‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف والعامل ‏{‏يَنقَلِبُونَ‏}‏ أي ينقلبون انقلاباً أي منقلب ولا يعمل فيه يعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله‏:‏ وتعقب بأنه تخليط لأن أياً إذا وصف بها لم تكن استفهاماً‏.‏ وقد صرحوا بأن الموصوف بها قسيم الاستفهامية، وتحقيق انقسام أي يطلب من كتب النحو والله تعالى أعلم‏.‏

ومما قيل في بعض الآيات من باب الإشارة‏:‏

‏{‏طسم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 1‏]‏ قال الجنيد‏:‏ الطاء طرب التائبين في ميدان الرحمة‏.‏ والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة‏.‏ والميم مقام المحبين في ميدان القربة، وقيل‏:‏ الطاء طهارة القدم من الحدثان والسين سناء صفاته تعالى التي تكشف في مرايا البرهان‏.‏ والميم مجده سبحانه الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان‏.‏ وقيل‏:‏ الطاء طهارة قلب نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلقات الكونين‏.‏ والسين سيادته صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام‏.‏ والميم مشاهدته عليه الصلاة والسلام جمال رب العالمين، وقيل‏:‏ الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك ‏{‏لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ الخ فيه إشارة إلى كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وأن الحرص على إيمان الكافر لا يمنع سوابق الحكم ‏{‏وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى أَنِ ائت القوم الظالمين قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10، 11‏]‏ إلى آخر القصة فيه إشارة إلى حسن التعاضد في المصالح الدينية والتلطف بالضال في إلزامه بالحجج القطعية وأنه لا ينبغي عدم الاحتفال بمن ربيته صغيراً ثم رأيته وقد منحه الله تعالى ما منحه من فضله كبيراً، وقال بعضهم‏:‏ إن فيه إشارة إلى ما في الأنفس وجعل موسى إشارة إلى موسى القلب وفرعون إشارة إلى فرعون النفس وقومه إشارة إلى الصفات النفسانية وبني إسرائيل إشارة إلى الصفات الروحانية والفعلة إشارة إلى قتل قبطي الشهوة والعصا إشارة إلى عصا الذكر أعني لا إله إلا الله واليد إشارة إلى يد القدرة وكونها بيضاء إشارة إلى كونها مؤيدة بالتأييد الإلهي والناظرين إشارة إلى أرباب الكشف الذين ينظرون بنور الله تعالى والسحرة إشارة إلى الأوصاف البشرية والأخلاق الردية والناس إشارة إلى الصفات الناسوتية والأجر إشارة إلى الحظوظ الحيوانية والحبال إشارة إلى حبال الحيل والعصي إشارة إلى عصي التمويهات والمخيلات والمدائن إشارة إلى أطوار النفس وهكذا‏.‏

وعلى هذا الطريق سلكوا في الإشارة في سائر القصص‏.‏ فجعلوا إبراهيم إشارة إلى القلب وأباه وقومه إشارة إلى الروح وما يتولد منها والأصنام إشارة إلى ما يلائم الطباع من العلويات والسفليات وهكذا مما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذه القصص كلام عجيب من أراده فليطلبه في كتبه وهو قدس سره ممن ذهب إلى أن خطيئة إبراهيم عليه السلام التي أرادها بقوله‏:‏ ‏{‏والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏ كانت إضافة المرض إلى نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ وقد ذكر قدس سره إنه اجتمع مع إبراهيم عليه السلام فسأله عن مراده بها فأجابه بما ذكر‏.‏ وقال في باب أسرار الزكاة من الفتوحات إن قول الرسول ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏

‏[‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏ لا يقدح في كمال عبوديته فإن قوله‏:‏ ذلك لأن يعلم أن كل عمل خالص يطلب الأجر بذاته وذلك لا يخرج العبد عن أوصاف العبودية فإن العبد في صورة الأجير وليس بأجير حقيقة إذ لا يستأجر السيد عبده بل يستأجر الأجنبي وإنما العمل نفسه يقتضي الأجرة وهو لا يأخذها وإنما يأخذها العامل وهو العبد فهو قابض الأجرة من الله تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وخالفه بالاستئجار اه‏.‏

وحقق أيضاً ذلك في الباب السادس عشر والثلاثمائة من الفتوحات، وذكر في الباب السابع عشر والأربعمائة منها أن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210 212‏]‏ فيه إشارة إلى أنه ليس للشيطان قوة حمل القرآن لأنه خلق من نار وليس لها قوة حمل النور ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمن عليها وتقول‏:‏ جزء يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ولنحو ذلك ليس له قوة على سمعه، وهذا بالنسبة إلى أول مراتب ظهوره فلا يرد أنه يلزم على ما ذكر أن الشياطين لا يسمعون آيات القرآن إذا تلوناها ولا يحفظونها وليس كذلك‏.‏

نعم ذكر أنهم لا يقدرون أن يسمعوا آية الكرسي‏.‏ وآخر البقرة وذلك لخاصية فيهما ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ فيه إشارة إلى أن النسب إذا لم ينضم إليه الإيمان لا ينفع شيئاً، ولما كان حجاب القرابة كثيفاً أمر صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏ هم أهل النسب المعنوي الذي هو أقرب من النسب الصوري كما أشار إليه ابن الفارض قدس سره بقوله‏:‏

نسب أقرب في شرع الهوى *** بيننا من نسب من أبوي

وأنا أحمد الله تعالى كما هو أهله على أن جعلني من الفائزين بالنسبين حيث وهب لي الإيمان وجعلني من ذرية سيد الكونين صلى الله عليه وسلم فها أنا من جهة أم أبي من ذرية الحسن ومن جهة أبي من ولد الحسين رضي الله تعالى عنهما‏.‏

نسب كأن عليه من شمس الضحى *** نوراً ومن فلق الصباح عموداً

والله عز وجل هو ولي الإحسان المتفضل بصنوف النعم على نوع الإنسان والصلاة والسلام على سيد العالمين وآله وصحبه أجمعين‏.‏