فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل‏}‏ حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي ههنا غاية لما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 17‏]‏ من السير كأنه قيل‏:‏ فساروا حتى إذا أتوا الخ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل، وقال كعب‏:‏ هو وادي السدير من أرض الطائف، وقيل‏:‏ واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها، وقيل‏:‏ هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه‏.‏

وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدى بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي‏:‏

ولشد ما جاوزت قدرك صاعدا *** ولشد ما قربت عليك الأنجم

لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم‏:‏ أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره‏.‏ ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ‏}‏ جواب إذا‏.‏ والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى ‏{‏نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم، ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو‏.‏ عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن قتادة، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد، وقال ابن بحر‏:‏ إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل‏:‏ وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة‏.‏ والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل‏.‏

وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام لم يسمع صوتاً أصلاً وإنما فهم ما في نفس النملة الهاماً من الله تعالى، وقال الكلبي‏:‏ أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتاً يشير قول جرير‏:‏

لو كنت أوتيت كلام الحكل *** علم سليمان كلام النمل

فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته؛ وقال بعضهم‏:‏ كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولاً له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية‏.‏

وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك‏.‏ ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق‏.‏ وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة‏.‏ وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات‏.‏ وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديماً وحديثاً فلا حاجة بك إلى أن تقول‏:‏ يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك‏.‏ ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن إلهام منه عز وجل وذلك كعلم الضب برسول صلى الله عليه وسلم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام، والظاهر أيضاً أنها كانت كسائر النمل في الجثة، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند‏.‏

وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية، وقيل‏:‏ جرمي، وفي «البحر» اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظاً يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوساً ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدي على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملاً على الحروف المألوفة، والظاهر أن تاء ‏{‏نَمْلَةٌ‏}‏ للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم‏.‏

وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال‏:‏ سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه حاضراً وهو غلام حدث فقال‏:‏ سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى‏؟‏ فسألوه فافحم فقال أبو حينفة‏:‏ كانت أنثى فقيل له‏:‏ من أين عرفت‏؟‏ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ‏}‏ ولو كان ذكراً لقال سبحانه قال نملة، وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم‏:‏ حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكساف، وتعقبه ابن المنير فقال‏:‏ لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس فيقال‏:‏ نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون‏:‏ حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء» كيف أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني صلى الله عليه وسلم الأناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى‏:‏ قلت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء، وكيف يسأل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه، والأشبه ان ذلك لا يصح عنهما اه‏.‏

وقال ابن الحاجب عليه الرحمة‏:‏ التأنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين، ولا فرق بين أن يكون حيواناً أو غيره كدجاجة‏.‏ وحمامة إذا قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ‏}‏ أنثى لورود تاء التأنيث في ‏{‏قَالَتْ‏}‏ وهما لجواز أن يكون مذكراً في الحقيقة، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة‏.‏ وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال لعمر‏:‏ أنه قد تعسف ههنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على إمام أهل الإسلام، واعتراضه بقوله‏:‏ وورود تاء التأنيث كورودها الخ ليش بشيء إذ لو كان جائزاً أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر الحقيقي لكان ينبغي جواز أن يقال‏:‏ جاءتني طلحة مع أنه لا يجوز، وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله‏:‏ وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ خلافاً للكوفيين‏.‏

والسر فيه أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلول آخر فاعتبروا فيها المدلول الثاني، ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتباراً للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لا يقال‏:‏ أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فإن سمي به مذكر فشرطه الزيادة يعني فإن سمي بالمؤنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل، والفاعل ههنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكراً لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة‏.‏

وينصر قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثوراً فإن عنيت به أنثى قلت‏:‏ هذه بقرة اه‏.‏ وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ما سلكه الإمام‏.‏ وفي الكشف إن التاء في نملة للوحدة فهنى في حكم المؤنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل، ولا يشكل بنحو طلحة حيث لم يجز الحالق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافاً للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب، ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب ان سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر‏.‏

وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى هو فيما يرجع إلى المعنى لا فيما يرجع إلى اللفظ، والحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وإما لشبه التأنيث من الوحدة أو الجمعية ونحوها فإذا لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للإلحاق‏.‏ وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظاً أو تقديراً وذلك غير مختلف في المنقول والمنقول عنه، وكفاك دليلاً لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا، وإن ازمام رضي الله تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى‏.‏ وهو كلام متين‏.‏

والحزم القول بعدم صحة هذه الحكاية فأبو جنيفة رضي الله تعالى عنه من عرفت وأن كان إذ ذاك غلاماً حدثاً‏.‏

وقتادة بن دعامة السدوسي بإجماع العارفين بالرجال كان بصيراً بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما والله تعالى أعلم‏.‏

والحطم الكسر والمراد به الإهلاك‏.‏ والنهي في الظاهر لسليمان عليه السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهى على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك‏:‏ لا أرينك ههنا فإنه في الظاهر نهي للمتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهى المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة ‏{‏ادخلوا مساكنكم‏}‏، وقول بعضهم‏:‏ إذا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي انه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين انلهي عن ضده وعلى ما ذكر لا حاجة إليه؛ وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الإبدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله، وجوز الزمخشري كون لا يحطمنكم جواباً للأمر، أعني ادخلوا و‏{‏لا‏}‏ حينئذ نافية وتعقب بأن دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله‏:‏

مهما تشأ منه فزارة تعطه *** ومهما تشأ منه فزارة يمنعا

وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب‏.‏ وأرادت النملة على ما في الكشاف لا يحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ‏.‏ ونحوه قوله‏:‏

عجبت من نفسي ومن إشفاقها *** حيث أراد غجبت من إشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للإجمال والتفصيل‏.‏ وتعقب ذلك في البحر بأن فيه القول بزيادة الأسماء وهي لا تجوز بل الظاهر إسناد الحطم إليه عليه السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما‏.‏

وجوز أن تكون حالاً من الجنود والضمير لهم، وأياً ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده، وليت من طعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب، وروي أن سليمان عليه السلام لما سمع قول النملة‏:‏ ‏{‏على وَادِى النمل‏}‏ الخ قال ائتوني بها فأتوا بها فقال لم حذرت النمل ظلمي‏؟‏ أما علمت اني نبي عدل فلم قلت‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان‏}‏ وجنوده فقالت‏:‏ أما سمعت قولي ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ومع ذلك أني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم الله تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر إليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود‏؟‏ قال‏:‏ لا قالت‏:‏ لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان‏؟‏ قال‏:‏ لا قالت‏:‏ لأنك سليم القلب والصدر‏.‏

ثم قالت‏:‏ أتدرى لم سخر الله تعالى لك الريح‏؟‏ قال لا قالت أخبرك الله تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح‏.‏ وهذا ظاهر الوضع كما لا يخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية والله تعالى أعلم بصحة ما روي من أنها أهدت إليه نبقة وانه عليه السلام دعا للنمل بالبركة‏.‏

وجوز أن تكون جملة ‏{‏هُمْ لاماناتهم يَشْعُرُونَ‏}‏ في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 17‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا أَتَوْا‏}‏ وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لا يشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل أنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عزو جل كأنه قيل‏:‏ فهم سليمان ما قالت والجنود لا يشعرون بذلك‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وطلحة ومعتمرين سليمان‏.‏ وأبو سليمان التيمي نملة بضم الميم كسمرة‏.‏ وكذلك النمل كالرجل والرجل لغتان، وعن أبي سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم‏.‏ وقرأ شهر بن حوشب ‏{‏مساكنكم‏}‏ على الافراد‏.‏ وعن أبي ‏{‏ادخلن مساكنكن لا يحطمنكن‏}‏ مخففة النون التي قبل الكاف‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وقتادة‏.‏ وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي‏.‏ ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشدداً‏.‏ وعن الحسن بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء وأصله يحتطمنكم من الاحتطام‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحق‏.‏ وطلحة‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا أنهم سكنوا نون التأكيد، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم‏.‏ ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوماً في جواب الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا‏}‏ تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل‏.‏ ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سروراً بما الهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجاً بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه‏.‏

وجوز أن يكون ذلك تعجباً من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها‏:‏ والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء‏.‏ وانتصب ‏{‏ضاحكا‏}‏ على الحال أي شارعاً في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم‏.‏ وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر‏.‏ التبسم مبادىء الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة، وكان من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏

سيد ضحكه التبسم والم *** شي الهوينا ونومه الإغفاء

وروي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت‏:‏ ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً أي مقبلاً على الضحك بكليته إنما كان يتبسم، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث ان تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه‏.‏ وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجاً منها وأهل الجنة دخولاً الجنة‏.‏ وقد أخرجه البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وكذا في حديث أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره‏.‏

وأول الزمخشري ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة، ولعله إنما لم يقل سبحانه‏:‏ فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكاً نصباً على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفياً أو إثباتاً، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث اداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذاً في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط‏.‏

وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون‏:‏ تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزىء وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضاحكا‏}‏ لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضباً انتهى‏.‏

ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 29‏]‏ فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وخباب‏.‏ وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 34‏]‏ كما هو الظاهر‏.‏ وإن هرعت إلى التأويل قلنا والواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك منك أولوا الألباب، وفيه أيضاً غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب، وقرأ ابن السميقع ‏{‏ضاحكا‏}‏ على أنه مصدر في موضع الحال، وجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق نحو شكراً في قولك حمد شكراً‏.‏

‏{‏وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ‏}‏ أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي اكفه وارتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل‏:‏ رب اجعلني مداوماً على شكر نعمتك، وهمزة أوزع للتعدية، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين‏.‏ وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أي حرضني‏.‏ وقال أبو عبيدة أي أو لعني‏.‏ وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمن‏.‏ وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك‏.‏ قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر‏.‏ وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك‏.‏ وقرىء ‏{‏أَوْزِعْنِى‏}‏ بفتح الياء ‏{‏التى أَنْعَمْتَ‏}‏ أي أنعمتها، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجروراً بمثل ما جربه الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأساً ‏{‏عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ‏}‏ أدرج ذكر والديه تكثيراً للنعمة فإن الأنعام عليهما انعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميماً لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما، والفرق بين الوجهين ظاهر، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر‏.‏ وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعاً، ورجج الأول بأنه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعلموا ءالَ دَاوُودُ شاكرا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ بعد قوله سبحانه

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ الخ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏ الخ فتدبر فإنه دقيق ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا‏}‏ عطف على ‏{‏أَنِ اشكر‏}‏ فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداوماً على العمل الصالح أيضاً‏.‏ وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميناً له لأن عمل الصالح شكر بالأركان، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولاً شيئاً خاصاً وهو شكر النعمة وثانياً شيئاً عاماً وهو عمل الصالح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترضياه‏}‏ قيل صفة مؤكدة أو مخصصة ان أريد به كمال الرضا، واختير كونه صفة مخصصة‏.‏ والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلاً لا عقلاً ولا شرعاً ‏{‏ترضاه وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ أي في جملتهم‏.‏

والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة‏.‏ وقدر بعضهم الجنة مفعولاً ثانياً لأدخلني، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملاً صالحاً كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلاالعامل عملاً صالحاً، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب ادخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه ادخال الجنة، ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وكأن في ذكر ‏{‏بِرَحْمَتِكَ‏}‏ في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك‏.‏

ولا يأبي ما ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏ لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ لك أن تقول أنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعاً أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال باغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعز له عن منصب النبوة الذي هو منحة الهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني اذكر معهم إذا ذكروا، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين‏.‏ وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام ‏{‏واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏ ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية، وقيل‏:‏ يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز وجل وأراد بالصالح في قوله‏:‏ ‏{‏فِى عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن، قال في الكشاف‏:‏ روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذرعن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطير‏}‏ أي أراد معرفة الموجود منها من غيره، وأصل التفقد معرفة الفقد، والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعاية لا سيما الضعفاء منها؛ قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد، وقيل‏:‏ كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره، وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم ير الهدهد ‏{‏فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد‏}‏ وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار‏.‏ وأبي الربيع‏.‏ وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري، وتصغيره على القياس هديهد، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء الفاء، وأنشدوا‏:‏

كهداهد كسر الرماة جناحه *** ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبه وشويبه‏.‏

والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأن سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول‏:‏ ‏{‏أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين‏}‏ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لا بل أم شاء‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله ‏{‏مَالِيَ‏}‏ ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى‏.‏

وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مثام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان من غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراد، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق‏:‏ لا أجادلك بعدها بشيء ولا مانع من أن يقال‏:‏ يجوز أن يرى الحبة أيضاً إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة‏.‏

ويجوز أيضاً أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمراً سلب من ذوي العقول عقولهم، نعم أن رأيته الماء تحت الأرض وان جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جداً ولا جزم لي بصحة الخبر السابق، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام إن التفقد كان منه عليه السلام عناية بأمور ملكه واهتماماً بضعفاء جنده، وكانه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه إنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكورة له عليه السلام للتفقد‏.‏

وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها، وكون الهدهد قناقنه، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه أن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عاداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا‏:‏ فبأي دين يدين يا نبي الله‏؟‏ فقال‏:‏ بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا‏:‏ كم بيننا وبين خروجه‏؟‏ قال‏:‏ مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان‏.‏

وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من اصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك‏؟‏ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا على ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله تعالى إليه لاتبك فإني سوف أبكيك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبياً في آخر الزمان أحب أنبيائي إلى واجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل، ولا يظهر الجمع بين الخبرين، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جريج‏.‏

والظاهر أن المراد جميع ريشه، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه‏.‏ وزاد بعضهم مع النتف القاره للنمل وآخر تركه في الشمس، وقيل‏:‏ ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص، وقيل بجمعه مع غير جنسه، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه السلام، وقيل بالتفريق بينه وبين الفه، وقيل بالزامه خدمة أقرانه‏.‏ وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب‏.‏ ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كام أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به‏.‏ وفي إلا كليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك‏.‏ وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه‏.‏

وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد‏.‏ وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به اه فلا تغفل ‏{‏أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ‏}‏ كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كاس المنية‏.‏ وقد قيل‏:‏

كل شيء دون المنية سهل *** ‏{‏فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ أي بحجة تبين عذرة في غيبته‏.‏ وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الاتيان ببلقيس وهس سلطان، قم ان هذا الشق وان قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل‏.‏ وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك، ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الاتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولاذبح وإن لم يكن كان أحدهما فأو في الموضعين للترديد‏.‏ وقيل‏:‏ هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح‏.‏ وفي الثاني للترديد بينهما وبين الاتيان بالسلطان وهو كما ترى‏.‏

وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم، وجوز أن تكون الآمور الثلاثة مقسماً عليها حقيقة، وصح قسمه عليه السلام على الاتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع‏.‏

وتعقب بأن قوله‏:‏ ‏{‏سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 27‏]‏ ينافي حصول العلم وما حاكاه له‏.‏ ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله‏:‏ ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ يأباه‏.‏ وبالجملة الوجه ما ذك أولاً فتأمل‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏ليأتين‏}‏ بنون مشددة مفتوحة بغير ياء، وكتب في الإمام ‏{‏لا‏}‏ بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كاكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف، وقيل‏:‏ هو التنبيه على أن الذبح لم يقع‏.‏

وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه‏:‏ إن اكلتابة العربية كانت في غاية الاتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الاتقان والجودة وإلى التوسط لمكان الغرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم املخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخطر وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في ‏{‏لا‏}‏ من قبلة الاجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك‏.‏ وتوجيه بعض المغلفين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح‏.‏ والداعي له إذا ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش‏.‏ وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أمياً وكان ذلك كما لا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام‏.‏ ومثل الأمية تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلى الله عليه وسلم منقطع إلى ربه عز وجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى ملخصاً‏.‏

وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في ‏{‏لا‏}‏ لقلة اجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في ‏{‏لا‏}‏ لأن التعذيب لم يقع أيضاً‏.‏ وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يسحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء، وإن أراد به أن الاتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل مايفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيآات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة‏.‏

والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب‏.‏ وما يقتضي أن يوصل‏.‏ وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة؛ ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال‏:‏ قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف‏.‏ واللام‏.‏ والنون‏؟‏ قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ وممن أخذتموه‏؟‏ قال‏:‏ من حرب بن أمية قلت‏:‏ وممن أخذه حرب‏؟‏ قال‏:‏ من عبد الله بن جدعان قلت‏:‏ وممن أخذه عبد الله بن جدعان‏؟‏ قال‏:‏ من أهل الأنبار قلت‏:‏ وممن أخذه أهل الأنبار‏؟‏ قال‏:‏ من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت‏:‏ وممن أخذ ذلك الطارىء‏؟‏ قال‏:‏ من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول‏:‏

في كل عام سنة تحدثونها *** ورأى على غير الطريق يعبر

وللموت خير من حياة تسبنا *** بها جرهم فيمن يسب وحمير

انتهى، وفي كتاب «محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر» أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر‏.‏ وعمر‏.‏ وعثمان‏.‏ وعلي‏.‏ وأبي بن كعب‏.‏ وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لأصابتهم فيها‏.‏ والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وانصاف‏.‏

ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وأما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصوراً، وهذا قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة، ثم أن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضاً في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ الظاهر أن الضمير للهدهد و‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل‏:‏ ما مضى من غيبته بعد التهديد‏؟‏ فقيل‏:‏ مكث غير بعيد أي مكث زماناً غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، وقيل‏:‏ الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل‏:‏ ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهداً واسمه فيما قيل عفير واقعاً فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب‏:‏ على به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال‏:‏ بحق الله الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتني فتركته وقالت‏:‏ ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال‏:‏ وما استثنى‏؟‏ بلى قال‏:‏ ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏ فقال‏:‏ نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعاً له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال‏:‏ يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه، وعن عكرمة أنه إنما عفا لأنه كان باراً بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما، ثم سأله‏:‏

‏{‏فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‏}‏ أي علماً ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإضغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبىء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏ حيث فسر ابهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري‏:‏ إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفاً له في ترك الاعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها إلا على جرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنه ما حكى من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهي تنبيهه عليه السلام على تركه واعترض بأن قوله‏:‏ ‏{‏أَحَطتُ‏}‏ الخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو ما يناسب دعاؤه السابق بقوله‏:‏

‏{‏رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولاً‏.‏ و‏{‏سَبَإٍ‏}‏ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏

وفي حديث فروة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة حمير‏.‏ وكندة‏.‏ والأزد‏.‏ واشعر‏.‏ وخثعم، والأربعة لخم‏.‏ وجذام وعاملة‏.‏ وغسان؛ وقيل‏:‏ سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان اسمه عبد شمس، وقيل‏:‏ عامر، ولقب بذلك لأنه أول من سبى‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏مِن سَبَإٍ‏}‏ بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به ما رب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة، وأشندوا على صرفه قوله‏:‏

الواردون وتيم في ذري سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الول مجرى الوقف، وقال مكي؛ الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، وقرأ الأعمش ‏{‏مِن سَبَإٍ‏}‏ بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه‏.‏ وابن عطية، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسماً للقبية أو للمدينة وهو كما ترى، وقرأ ابن كثير في رواية ‏{‏مِنْ‏}‏ بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصوراً مصروفاً، وذكر أبو معاذ أنه قرأ ‏{‏مِنْ‏}‏ بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلي فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم‏.‏

وروى ابن حبيب عن اليزيدي ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ‏}‏ بألف ساكنة كما في قولهم‏:‏ ‏{‏تَفَرَّقُواْ أَيْدِىَ سَبَإٍ‏}‏، وقرأ فرقة ‏{‏بِنَبَإٍ‏}‏ بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبأ بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة والتنوين، وفي التحرير أن مثل ‏{‏مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ‏}‏ يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 75‏]‏ وحديث ‏"‏ الخيل معقود بنواصيها الخير ‏"‏

وقال الزمخشري‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ‏}‏ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنى ألا ترى لو وضع مكان ‏{‏بِنَبَإٍ‏}‏ بخبر لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال اه‏.‏ وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن، وكون النبأ بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين‏.‏ والظاهر أنه معنى وضعي له‏.‏ وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء، وقول المحدثين‏:‏ أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فَمَكَثَ‏}‏ بضم الكاف، والفتح قراءة عاصم‏.‏ وأبي عمرو في رواية الجعفي‏.‏ وسهل‏.‏ وروح‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏فَمَكَثَ ثُمَّ قَالَ‏}‏‏.‏ وعبد الله ‏{‏فَمَكَثَ فَقَالَ‏}‏، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في «البحر» تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف‏.‏ وقرىء في السبعة ‏{‏أَحَطتُ‏}‏ بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي‏.‏

وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي‏.‏ واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق أن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعاً قاله الطيبي‏.‏ وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الاطباق وعدمه‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ كل كلام عربي كذا «الحواشي الشهابية» فتأمل‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَحَطتُ‏}‏ الخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة‏:‏ إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالماً على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضراً الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال‏:‏ لا أدري فقال السائل‏:‏ ليس مكانك هذا مكان من يقول‏:‏ لا أدري فقال الإمام كرم الله تعالى وجهه‏.‏

بلى والله هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له يعني به الله عز وجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالماً بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكناً من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهداً‏.‏ وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ‏}‏ أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ‏.‏ وتفصيل له إثر إجمال وعني بهذه المرأة بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، ويقال‏:‏ من نسل تبع الحميري‏.‏

وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور، وقيل‏:‏ اسم أبيها السرح بن الهداهد‏.‏

ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أباً ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة‏.‏ وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم جرلاً يقال‏:‏ إنه ابن عمها وكان خبيثاً فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال‏:‏ ما منعني أن ابتدئك بالخطبة إلا إلياس منك قالت‏:‏ لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا‏:‏ لا نراها تفعل فقال‏:‏ بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت‏:‏ نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمه وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم، وقالت‏:‏ أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلاً، وقالت‏:‏ اختاروا رجلاً تملكوه عليكم فقالوا‏:‏ لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكراً وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية‏.‏

وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر عن مجاهد‏.‏ والحكيم الترمذي‏.‏ وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا‏.‏ وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية‏.‏ وفي «التفسير الخازني» أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف‏:‏ ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً فخطب ابنته فزوجه إياها‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خرج متصيداً فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفرداً فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال‏:‏ لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال‏:‏ لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى، وأخرج ابن جرير‏.‏

وأبو الشيخ في العظمة‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وابن عساكر عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبوي بلقيس كان جنياً» والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر، وفي «البحر» قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الأنس والجنس الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجعله أن لا يكون توالد بينهما، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته‏:‏ إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال‏:‏ لا يتوالدون أي أن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس‏.‏ نعم روى عن مالك ما يقتضي صحة ذلك‏.‏

ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال‏:‏ كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا‏:‏ إن ههنا رجلاً من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال‏:‏ ما أرى بأساً في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك‏؟‏ قالت‏:‏ من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفاً مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى، وإيثار ‏{‏وَجَدتُّ‏}‏ على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان لكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام، وقيل‏:‏ للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولاً لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال، وضمير ‏{‏تَمْلِكُهُمْ‏}‏ لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها‏.‏ وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب‏.‏

وفي «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال‏:‏ ‏{‏لَنْ يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَوْ أَمَرَهُمْ امرأت‏}‏ ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه وفي الأشباه لا ينبغي أن تولي القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا على أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء‏}‏ أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة ‏{‏تَمْلِكُهُمْ‏}‏، وقد يقال‏:‏ ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت‏.‏

والجملة تحتمل أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏تَمْلِكُهُمْ‏}‏ وأن تكون حالاً من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن، وروى عنه أيضاً أنه كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعاً أيضاً، وقيل‏:‏ كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعاً في عرض أربعين ذراعاً، وقيل‏:‏ كان من ذهب مكللاً بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، وقيل‏:‏ غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير، وقال أبو مسلم المراد به الملك ولا داعي إليه‏.‏ واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته‏.‏ وأياً ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولاً من ترغيبه عليه السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قوامها حيث قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله‏}‏ أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى‏.‏ قال الحسن كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وقيل‏:‏ كانوا زنادقة‏.‏

والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ قال «صاحب المرشد» ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس‏.‏ وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس فـ يالكلام ما يدل عليه، وفي «الكشاف» من نوكي القصاص من وقف على ‏{‏عَرْشَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، والجملة تحتمل العطف على جملة ‏{‏يَسْجُدُونَ‏}‏ والحالية من الضمير على نحو ما مر آنفاً ‏{‏فَصَدَّهُمْ‏}‏ أي الشيطان، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان ‏{‏عَنِ السبيل‏}‏ أي سبيل الحق والصواب ‏{‏فَهُمُ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ إليه

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله تعالى ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ‏}‏ أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين‏.‏ والفاء في ‏{‏فَصَدَّهُمْ‏}‏ لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله عز وجل أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له تعالى، وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلاً من أعمالهم وما بينهما اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود لله تعالى، وتعقب بأنه ظاهر في عد عدم السجود من الأعمال وهو بعيد، وجوز أن يكون ذلك بدلاً من السبيل و‏{‏لا‏}‏ زائدة مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ كأنه قيل فصدهم عن السجود لله تعالى، وجوز أن يكون بتقدير إلى و‏{‏لا‏}‏ زائدة أيضاً والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لا يهتدون إلى السجود له عز وجل، وأنت تعلمأن زيادة لا وإن وقعت في الفصيح خلاف الظاهر، وجوز أن لا يكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود، وقيل‏:‏ التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفاً، وقرأ ابن عباس‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والزهري‏.‏ والسلمي‏.‏ والحسن‏.‏ وحميد‏.‏ والكسائي ‏{‏إِلا‏}‏ بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله‏:‏

ألا يا أسلمى ذات الدمالج والعقد *** ونظائره الكثيرة‏.‏ وسقطت ألف يا وألف الوصل في ‏{‏اسجدوا‏}‏ كتبت الياء متصلة بالسين على خلاف القياس‏.‏ ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار، وفي «البحر» الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادي وإذا لم نحذفه كان دليلاً على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة‏.‏ فــ يا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ‏{‏إِلا‏}‏ التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد‏.‏ وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله‏:‏

فأصبحن لا يسألنني عن بما به *** والمتفقي اللفظ العاملين أيضاً في قوله‏:‏

فلا والله لا يلفي لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء

وجاز ذلك وإن عدوه ضرورة أو قليلاً فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزاً‏.‏

وليس يا في قوله‏:‏

يا لعنة الله والأقوام كلهم *** حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدا وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى، وللبحث فيه مجال‏.‏ وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافاً من كلام الهدهد أما خطاباً لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين‏.‏ ويحتمل أن يكون استئنافاً من جهة الله عز وجل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول‏.‏

ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافاً من جهته عز وجل وخاطب سبحانه به هذه الأمة‏.‏ والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على ‏{‏يَهْتَدُونَ‏}‏ استحساناً ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض، وقيل‏:‏ لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل‏.‏ والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذماً على ترك السجود وفيها على الثانية أمراً بالسجود‏.‏ وأياً ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏إِلا‏}‏ على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين، وفي حرف عبد الله ‏{‏إِلا هَلُ‏}‏ بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية‏.‏ وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية‏.‏ وفي «الكشاف» ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو الله عز وجل

‏{‏الَّذِى يُخْرِجُ الخبء فِى السموات والارض‏}‏ أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائناً ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول‏.‏ وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات، وروى ذلك عن ابن زيد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روى ذلك جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

‏{‏وَفِى السموات‏}‏ متعلق بالخبء، وعن الفراء أن ‏{‏فِى‏}‏ بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم‏.‏ واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به‏.‏ وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز وجل، وقيل‏:‏ إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثارها التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض‏.‏ وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه، وأيضاً التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ‏}‏ بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافاً من جهته عز وجل أو من جهة سليمان عليه السلام‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وعيسى ‏{‏الخب‏}‏ بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة‏.‏ وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم‏.‏ وبني أسد‏.‏

وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله‏.‏ ومالك بن دينار‏.‏ وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف‏.‏ وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأه المراة والكماة بإبدال الهمزة ألفاً وفتح ما قبلها‏.‏ وذكر أن هذا الإبدال لغة‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏يُخْرِجُ الخبء‏}‏ من ذلك ومنعه الزمخشري مدعياً أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة‏.‏ وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه‏.‏ وتعقبه في «الكشف» فقال‏:‏ تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وأجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك‏.‏ وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى‏.‏ وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلاً وهو من قصور العلم‏.‏ قال المبرد‏:‏ كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه‏.‏ وأشير بعطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ على ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل‏.‏ ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عز وجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر‏.‏ وقدم ‏{‏مَا تُخْفُونَ‏}‏ لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء، وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السموات لأنه أشد ملاءمة للمقام، والخطاب على ما قيل أما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس‏.‏ وفي الكلام التفات‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ والجمهور ‏{‏مَا يخافون وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ بياء الغيبة، وفي «الكشاف» عن أبي أنه قرأ ‏{‏إِلا لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏ في معنى التعليل لوصفه عز وجل بكمال القدرة وكمال العلم‏.‏ و‏{‏العظام‏}‏ بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كرى خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسراً من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك‏.‏ وأياً ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم‏.‏

وقرأ ابن محيصن‏.‏ وجماعة ‏{‏العظيم‏}‏ بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى‏.‏ واحتمل أن يكون صفة للرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ‏{‏سَنَنظُرُ‏}‏ أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة ‏{‏أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين‏}‏ جملة معلق عنها الفعل للاستفهام‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلاً لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلاً، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ‏}‏ استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعدما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده‏.‏ فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلاً، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام‏.‏ وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى‏.‏ وقيصر‏.‏ وغيرهما من ملوك العرب، وقرىء في السبعة ‏{‏فَأَلْقِهْ‏}‏ بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ أي تنح‏.‏ وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله‏:‏ ‏{‏فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد‏.‏ وأبو علي وهو غير مناسب‏.‏ وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب‏.‏

والنظر بمعنى التأمل والتفكر و‏{‏مَاذَا‏}‏ إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ خبره‏.‏ وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ صلة الموصول والعائد محذوف‏.‏ وأياً ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض، وقيل‏:‏ النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ فلا تعليق بل كلمة ‏{‏مَاذَا‏}‏ موصول في موضع المفعول كذا قيل، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول‏.‏ وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه‏.‏ وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ‏}‏ أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به، وإنما طوى ذكره إيذاناً بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعاراً بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره‏.‏

روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقعدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية، وفي رواية بين ثدييها، وقيل‏:‏ نقرها فانتبهت فزعة، وقيل‏:‏ أتاه والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت، وقيل‏:‏ كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك‏.‏

واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربياً، ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب‏.‏ ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق‏.‏ ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنياف وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت‏:‏ ‏{‏قَالَتْ ياأيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ الخ، وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد‏.‏

وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد ‏{‏جِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 22، 23‏]‏ فإنه عليه السلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوماً ففي الحديث «كرم الكتاب ختمه»، وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقال ابن المنقع‏:‏ من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به، وقد فسر ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ وزهير بن محمد ‏{‏الكريم‏}‏ هنا بالمختوم، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوماً باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو لبداءته باسم الله عز وجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد، وقيل‏:‏ أن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء‏.‏ وبناء ‏{‏ألقى‏}‏ للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل، وقيل‏:‏ لجهلها به أو لكونه حقيراً‏.‏ وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الفصوص‏:‏ من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالاً إلى أمور لا يعلمون طريقها‏.‏ وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى‏.‏ وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم، وأما التأكيد في قوله تعالى‏:‏