فصل: تفسير الآية رقم (50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً‏}‏ بهذه المواضعة ‏{‏وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ يَشْعُرُونَ‏}‏ أي أهلكناهم إهلاكاً غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لا يحتسبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ‏}‏ شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر، والظاهر أن ‏{‏كَيْفَ‏}‏ خبر مقدم لكان و‏{‏عاقبة‏}‏ الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به، والجملة في محل نصب على أنها مفعول انظر وهي معلقة لمكان الاستفهام، والمراد تفكر في ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ في تأويل مصدر وقع بدلاً من ‏{‏عاقبة مَكْرِهِمْ‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة، والجلمة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هو أو هي تدميرنا واهلاكنا إياهم ‏{‏وَقَوْمَهُمْ‏}‏ الذين لم يكونوا منهم في مباشرة التبييت ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ بحيث لم يشذ منهم شاذ أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلاً لما ينبىء عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة‏.‏ وجوز بعضهم كونه بدلاً من ‏{‏كَيْفَ‏}‏، وقال آخرون‏:‏ لا يجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه ءعادة حرفه كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض‏؟‏

وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون ‏{‏كَيْفَ‏}‏ حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكسلام من معنى الفعل، ويجوز أن تكون كان تامة و‏{‏كَيْفَ‏}‏ عليه حال لا غير والاحتمالات الجائزة في ‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ لا تخفى‏.‏

وقرأ الأكثر ‏{‏أَنَاْ‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ فكيف خبر كان و‏{‏عاقبة‏}‏ اسمها جملة ‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ استئناف لتفسير العاقبة، وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف‏.‏ قال الخفاجي‏:‏ الظاهر أنه الشأن أو ضميره لا شيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد‏.‏ ولا يرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فإنه غير مسلم، ويجوز أن تكون ‏{‏كَانَ‏}‏ تامة و‏{‏كَيْفَ‏}‏ حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة ‏{‏إِذَا دمرناهم‏}‏ لعدم الرابط، وقيل‏:‏ يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه إليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إذا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به‏.‏ وغيره من انلحاة يأباه، وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون «كان» زائدة و‏{‏عاقبة‏}‏ مبتدأ و‏{‏كَيْفَ‏}‏ خبر مقدم له‏.‏

وقرأ أبي «أن دمرناهم» بأن التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة ‏{‏أَنَاْ‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ هذا وفي كيفية التدمير خلاف‏.‏ فروي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعل فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحاً ومن معه، وقيل‏:‏ جاؤوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولا يرون رامياً وهلك سائر القوم بالصيحة وقيل‏:‏ إنهم عزموا على تبييته عليه السلام وأهله فاخبر الله تعالى بذلك صالحاً فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ‏}‏ حملة مقررة لما قبلها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٍ‏}‏ أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ أي بسبب ظلمهم المذكور حال من «بيوتهم» والعامل فيها معنى الإشارة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏خَاوِيَةٍ‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها و‏{‏بُيُوتَهُمْ‏}‏ بدل وبيوتهم هذه هي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم لأصحابه عام تبوك ‏"‏ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ‏"‏ الحديث‏.‏ وهي بوادي القرى بين المدينة والشام ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم ‏{‏لآيَةً‏}‏ لعبرة عظيمة ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي ما من شأنه أن يعلم من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم، وقيل‏:‏ لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سبباً لخراب الدور‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية، وفي التوراة ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، قيل وههو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه، ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سبباً لخراب البيوت مما شوهد كثيراً في هذه الأعصار، وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك‏.‏ نعم لا يبعد أن يكون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ صالحاً ومن معه من المؤمنين ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي اتقار مستمراً فلذا خصوا بالنجاة‏.‏ روي أن الذين آمنوا به عليه السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبني المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ منصوب بمضمر معطوف على ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45‏]‏ في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطاً ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ ظرف للارسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال‏.‏ وجوز أن يكون منصوباً باضمار اذكر معطوفاً على ما تقدم عطف قصة على قصة و‏{‏إِذْ‏}‏ بدل منه بدلاشتمال وليس بذاك‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على ‏{‏صالحاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وتعقب بأنه غير مستقيم لأن صالحاً بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو ‏{‏إلى ثمود‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45‏]‏ فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطاً عليه السيلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف ما لو تأخر، وقيل إن تعينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد لكنه خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لا يليق، وجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 53‏]‏ وتعقب بأنه لا يناسب أساليب سرد القصص من عطف احدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لا يخفى ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة، والاستفهام انكاري‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ وَأَنْتُمْ تُبْصرُونَ‏}‏ جملة حالية من فاعل ‏{‏‏}‏ جملة حالية من فاعل ‏{‏تأتون‏}‏ مفيدة لتأكيد الإنكار فإن تعاطى القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع، و‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ من بصر القلب أي افتعلونها والحال أنتم تعلمون علماً يقينياً كونها كذلك‏.‏

ويجوز أن يكون من بصر العين أي وأنتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس، وقيل‏:‏ مفعول ‏{‏تُبْصِرُونَ‏}‏ من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو وأنتم ينظر بعضكم بعضاً لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم أكتراثكم به، ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الإنكار أيضاً ظاهر، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً‏}‏ تثنية للإنكار وبيان لما أتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام، وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال شناعته، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربيته التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم، وتعليل الاتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محله، وفيه إشارة إلى أنهم مخطؤون في محلها فعلاً، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطئون فيه تركاً، ويعلم مما ذكرنا أن ‏{‏شَهْوَةً‏}‏ مفعول له للإتيان، وجوز أن يكون حالاً‏.‏

‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ماجنون كذا في الكشاف، وأيا ما كان فلا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 54‏]‏ ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الاضراب تأباه‏:‏ ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الاشكال تتميماً للإنكار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة وأشار سبحانه إلى ما أشار ثم اضرب عن الكل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ‏}‏ الخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فأولى حرف الاضراب ضمير ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ وجعلهم قوماً جاهلين والتفت في ‏{‏تَجْهَلُونَ‏}‏ موبخاً معيراً اه وفيه نظر‏.‏ والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضاً وهو التفات من الغيبة التي في ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ إلى الخطاب في ‏{‏تَجْهَلُونَ‏}‏ وتعقبه الفاضل السالكوتي بأنه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحداً كما هو شرط الالتفات بل معنى كلي حمل على قوم لوط عليه السلام‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم وهو اسم ظاهر من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ لحمله عليه، وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب، وأورد عليه أن في التغليب تجوزاً ولا تجوز هنا‏.‏ وأجيب بأن نحو ‏{‏تَجْهَلُونَ‏}‏ موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لا يكون فيه تجوز، وقيل قولهم إن في التغليب تجوزاً خارج مخرج الغالب، وقال الفاضل السالكوتي إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ‏}‏ الخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في ‏{‏تَجْهَلُونَ‏}‏ باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بأنتم فلا يرد أن اللفظ لم يتسعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية ولم يسند الفعل إلى غير ما هو له فيكون هناك مجاز فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ‏}‏ أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه، وأياً ما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام فيهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلا‏}‏ الخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان، وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي إسحق ‏{‏جَوَابَ‏}‏ بالرفع فيكون ذاك واقعاً موقع الخبر، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ بإضافة القرية إلى كم تهوين لأمر الإخراج، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذراً وهم متكلفون بإظها رما ليس فيهم، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنه كلام آخر غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة ‏{‏إِلاَّ امرأته قدرناها‏}‏ أي قدرنا كونها ‏{‏مِنَ الغابرين‏}‏ أي الباقين في العذاب، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقرأ أبو بكر ‏{‏قدرناها‏}‏ بتخفيف الدال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ غير معهود ‏{‏فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ أي فبئس مطر المنذرين مطرهم، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبماخصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، وشرح صدره الشريف صلى الله عليه وسلم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

أمر صلى الله عليه وسلم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفاناً لفضلهم وأداءاً لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام، وقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 181‏]‏ وقيل‏:‏ هذا أمر له صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلى الله عليه وسلم، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالاً مما لا خلاف في جوازه، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقاً، وقيل‏:‏ أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته وخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة‏.‏

فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ والبزار‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في ‏{‏وسلام‏}‏ الخ‏:‏ نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالاً كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة متبدأة حيث قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ الخ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده‏.‏ وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتراسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن انتهى، ولعل جعل ذلك تخلصاً من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله عليه وسلم مع المشركين أولى، وأبعد الأقوال القول باتصاله بما قبله، وجعل ذلك أمراً للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال‏:‏ هذه عجمة من الفراء، والظاهر أن ‏{‏سلام‏}‏ مبتدأ وما بعده خبره، والجملة معطوفة على ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ داخلة معه في حيز القول‏.‏

وقرأ أبو السمال ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ بفتح اللام ‏{‏الله‏}‏ بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفاً والأصل أألله‏.‏

‏{‏خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ والظاهر أن ‏{‏مَا‏}‏ موصولة والعائد محذوف أي ‏{‏الله‏}‏ الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام، و‏{‏خَيْرٌ‏}‏ أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض، وقيل‏:‏ خير ‏{‏لَيْسَتِ‏}‏ للتفضيل مثلها في قولك‏:‏ الصلاة خير تعني خيراً من الخيور، والمختار الأول، واستظهره أبو حيان، وقال‏:‏ كثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر، واستظهر أيضاً كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات، وقيل‏:‏ الخيرية فيما يتعلق بها، وفي الكلام حذف في موضعين، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون، وقيل‏:‏ ما ‏{‏مصدرية‏}‏ والحدث في موضع واحد، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك، وأياً ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين، وقيل‏:‏ لأولئك المهلكين وليس بشيء، وقرأ الأكثرون تشركون بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ الخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ تعسف ظاهر من غير داع إليه، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

و ‏{‏أَمْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والارض‏}‏ منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وعاصم‏.‏ وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضاً إلى التصريح به خطاباً على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلاً على ما سبق في الاستفهام الأول خلا أن تشركون المقدر ههنا بتاء الخطاب على القراءتين معاً، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ‏}‏ التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأولى لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم ‏{‏مِنَ السماء مَاء‏}‏ أي نوعاً منه وهو المطر ‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ‏}‏ بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلاً، وقيل‏:‏ أي أنبتنا عنده ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري‏:‏ هي البستان عليه حائط من الأحداث وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب‏:‏ هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في «البحر» وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الإحداق وتنظر إليها ‏{‏ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ‏}‏ أي ما صح وما أمكن لكم ‏{‏أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا‏}‏ فضلاً عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوامح» له‏:‏ ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السموات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏مِن‏}‏ بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مراراً من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع مالها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل، ورشح ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ‏}‏ الخ سواء كان صفة لحدائق أو حالاً أو استئنافاً، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التسكير كقوله تعالى‏:‏

‏{‏أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وكذلك الحال في ضمير شجرها

وقرأ ابن أبي عبلة ذوات بالجمع بهجة بفتح الهاء ‏{‏أَنَّ مَعَ الله‏}‏ أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحداً ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأساً لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل‏:‏ المراد نفي أن يكون معه تعالى إلى آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ بل بإشراكهم به تعالى مايعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل‏:‏ أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكاً له تعالى في العبادة، وقيل‏:‏ المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكاً في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين‏.‏ فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏ والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأساً لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط‏.‏

وقرأ هشام عن ابن عامر آاله بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ أبو عمرو‏.‏ ونافع‏.‏ وابن كثير أإلهاً بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون‏.‏ أو أتدعون‏.‏ أو أتشركون‏.‏

‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏ إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم و‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل‏:‏ من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروى ذلك عن ابن زيد، والأول أنسب بما قبله، وقيل‏:‏ الكلام عليه خال عن الفائدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّن جَعَلَ الارض قَرَاراً‏}‏ أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم فقراراً بمعنى مستقراً لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائد على ذلك أتم، والجعل إن كان تصييرياً فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة، وجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّن جَعَلَ‏}‏ الخ على ما قيل‏:‏ بدل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السموات‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد، وقال بعض الأجلة‏:‏ الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات، وإلى الإبدال ذهب «صاحب الكشاف»، وسننقل إن شاء الله تعالى عن «صاحب الكشاف» ما فيه الكشف عن وجهه ‏{‏وَجَعَلَ خلالها‏}‏ أي أوساطها جمع خلل، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنهارا‏}‏ وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني لجعل و‏{‏لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ هو المفعول الأول، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهاراً جارية تنتفعون بها ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا‏}‏ أي لصلاح أمرها ‏{‏رَوَاسِىَ‏}‏ أي جبالاً ثوابت فإن لها مدخلاً عادياً اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها؛ وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذرك لذكر عقب جعل الأرض قراراً، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها، وذكر ‏{‏لَهَا‏}‏ دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل‏.‏

وإرجاع ضمير ‏{‏لَهَا‏}‏ للأنهار ليكون المعنى وجعل لامدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين‏}‏ أي العذب والملح عن الضحاك أو بحري فارس والروح عن الحسن أو بحري العراق والشام عن السدي أبو بحري السماء والأرض عن مجاهد ‏{‏حَاجِزاً‏}‏ فاصلاً يمنع من الممازجة، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر ‏{‏أَنَّ مَعَ الله‏}‏ في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي شيئاً من الأشياء علماً معتداً به وذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ‏}‏ وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجاء والضراعة إلى الله عز وجل، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له، وقيل‏:‏ المراد بذلك المذنبإذا استغفر، واللام فيه على ما قيل‏:‏ للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لإيجاب‏.‏

وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏ ومع هذا كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الشخص‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت؛ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إنه سبحانه لا مكره له ‏"‏، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا، وقال «صاحب الفرائد»‏:‏ ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وذلك أن الدعاء طلب شيء فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده اه‏.‏

وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة، ولا يخفى أنه إذا فرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سوا ءكان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره، وقال العلامة الطيبي‏:‏ التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء‏}‏ والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم فـ ينوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن‏}‏ قال «صاحب المفتاح»‏:‏ كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يحيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء ‏{‏مَّعَ الله بَلْ‏}‏ فلا يكون المضطر عاماً ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ الآية اه‏.‏

وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحان لايشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية له فافهم ‏{‏وَيَكْشِفُ السوء‏}‏ أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوؤه، وقيل‏:‏ الكشف أعم من الدفع والرفع، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العالم على الخاص، وقيل‏:‏ المعنى ويكشف سوءه أي المضطر، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطراً بسببه وهو كما ترى‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الارض‏}‏ أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم، وقيل‏:‏ المراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرأ الحسن‏.‏ ونجعلكم‏.‏ بنون العظمة ‏{‏أَنَّ مَعَ الله‏}‏ الذي هذه شؤونه ونعمه تعالى‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكراً قليلاً، أو زماناً قليلاً تتذكرون فقليلا نصب على المصدرية، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر، وما مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى، ومفعول ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ محذوف للفاصلة، فقيل‏:‏ التقدير تذكرون نعمه، وقيل‏:‏ تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام، وقيل‏:‏ تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور، ولعل الأولى نعمه المذكورة، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر، وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو عمرو يذكرون بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة تتذكرون بتاءين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر‏}‏ أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر وبالنجوم ونحوها من العلامات، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازاً فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة‏.‏

‏{‏وَمَن يُرْسِلُ الريح *بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ‏}‏ قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة ‏{‏أَنَّ مَعَ الله‏}‏ نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تقرير وتحقيق له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار للاشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدتره ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلهاً وشريكاً له تعالى، أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم، وقرىء ‏{‏عَمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏مِن فِى الخلق‏}‏ أي يوجده مبتدئاً له ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ يكرر إيجاده ويرجعه كما كان، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالاجماع، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين، وتفصيله في محله‏.‏

واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف‏؟‏ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار؛ وقيل‏:‏ إن منهم من اعترف بها، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلاً كما لا يخفى ‏{‏وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض‏}‏ أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين ‏{‏ءإله‏}‏ آخر موجود ‏{‏أَنَّ مَعَ الله‏}‏ حتى يجعل شريكاً له سبحانه في العبادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهاناً عقلياً أو نقلياً يدل على أن معه عز وجل إلهاً، وقيل‏:‏ أي هاتوا برهاناً على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحاً ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهاناً وأنى لهم ذلك، وقيل‏:‏ إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل‏:‏ نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهاناً يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك، مع هذا أنتم عاجزون عن الاتيان به ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي في تلك الدعوى، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان‏.‏

هذا وفي «الكشف» أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى، فأجمل أولاً بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أألله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏ ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السموات والأرض تمهيداً لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى‏:‏

‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لوناً وطعماً ورائحة واسترواح ظل‏.‏

ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو هعادلين به سبحانه من لا يستحق، والأول أظهر، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيراً وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قراراً وما عقبه، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الانبات، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور، وأوسأ منه وأسوأ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو ليق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار، وعم بكشف السوء والمشار، هذا فا يرجع إلى دفعه المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعاً وأهم، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطراداً لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم‏.‏

ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 63‏]‏ ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الأيجاد والإعادة، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها، وعقبه بإجمال يتضمن جميع ما عدده أولاً وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اه‏.‏

وفي «غرة التنزيل» للراغب ما يؤيده، وقد لخصه الطيبي في «شرح الكشاف»، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والارض الغيب إِلاَّ الله‏}‏ بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقب بذكر ما لا ينفك عنه، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعده من أمر البعث، وفي «البحر» قيل‏:‏ سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدوها الرسول صلى الله عليه وسلم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ‏}‏ الآية، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 64‏]‏ أتم مناسبة، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف، والغيب مفعوله، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من ‏{‏مِنْ‏}‏ والاستثناء على ما قيل‏:‏ منقطع تحقيقاً متصل تأويلاً على حدّ ما في قول الراجز‏:‏

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس

بناءاً على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السموات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل‏:‏ إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** وقيل‏:‏ هو منقطع على حد الاستثناء في قوله‏:‏

عشية ما تغني الرماح مكانها *** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو‏.‏ وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وقد ذكرهما سيبويه، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما‏:‏ ما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفى عنه الإتيان والإعانة، ولكن ذكرا توكيداً لقسطهما من النفي دفعاً لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به، فذكر تأكيداً، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السموات والأرض، والبعض الآخر من ليس فيهما، ويكفي في كونه مدلولاً له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عز وجل، وليس في السموات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة، وقال‏:‏ إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميم‏.‏

والحجازي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب العاقل على غيره، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد كما قال ابن خروف لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى اه‏.‏

وكلام الزمخشري يوم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما يتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعاً تحقيقاً متصلاً تأويلاً، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏وبلدة‏}‏ الخ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم‏:‏ ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر، وجوز كونه متصلاً كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السموات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازاً مرسلاً أو استعارة، وأياً مّا كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال، وقيل‏:‏ يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله، ويجوز تعليقه باستقر أيضاً إلا أنه يجعل مسنداً إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعاً، وهذا ما قبله كما ترى، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم، فقد أخرج مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلاً خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله»، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقاً ممنوع، فقد روى البخاري‏.‏

ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي عن أنس قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها، وقد قيل في حديث أنس‏:‏ النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلاً من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر، وجوز أن يعرب من مفعول يعلم‏.‏ والغيب بدل اشتمال منه، والاسم الجليل فاعل ‏{‏لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ويكون استثناءً مفرغاً أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ولا يخفى بعده‏.‏

والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيباً باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز وجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال‏:‏ إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصداً إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته على من قال ذلك قاصداً ما ذكر أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيراً فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء، والظاهر عموم الغيب، وقيل‏:‏ المراد به الساعة، وقيل‏:‏ ما يضمره أهل السموات والأرض في قلوبهم، وقيل‏:‏ المراد جنس الغيب، ويلزم من نفى علم جنسه عن غيره عز وجل نفى علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذٍ على ثبوت علم كل غيب له عز وجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحاً عن المستثنى منه ولا يلزم من ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه، وتعقب بأن الغيب من حيث أنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعاً للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل‏.‏

واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السموات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السموات والأرض من يعلم بعض الغيوب، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك، ويؤيده ما أخرجه الشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وأحمد‏.‏ وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت‏:‏ من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بما يكون في غد وفي بعض الروايات يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والارض *الغيب إِلاَّ الله‏}‏، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له‏:‏ أتعلم الغيب‏؟‏ فقال‏:‏ نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26، 27‏]‏ ما نصه‏:‏ وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ الآية، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئاً، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى‏.‏

ولعل الحق أن يقال‏:‏ إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السموات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتاً وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السموات والأرض إشارة إلى علة الحكم، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال‏:‏ إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعاً، وإنما يقال‏:‏ إنهم أظهروا أو اطلعوا بالبناء للفمعول على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلاف، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال‏:‏ يجوز على هذا أن يقال‏:‏ أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضاً على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف، ومتى جاز هذا جاز أن يقال‏:‏ علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول‏:‏ لا كلام في جواز أعلم بالبناء للمفعول، وإنما الكلام في قولك‏:‏ ومتى جاز هذا جاز أن يقال الخ، فنقول‏:‏ إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعاً استعماله، وإن أريد الجواز شرعاً بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والارض *الغيب إِلاَّ الله‏}‏ وغيرها؛وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمَ الغيب‏}‏ متأولاً له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، وقد شنعوا أيضاً على من قال‏:‏ أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريداً بالحق الموت‏.‏

وبالفتنة المال أو الولد‏.‏ وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى، نعم لا يكفر قائل ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضاً إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عز وجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لا التزم فيه ما التزم فيه، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم‏:‏ إنهم عالمون بالغيب، وقائله إما كافر أو مسلم آثم، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى، والتأهل له قد يكون فطرياً، وقد يكون كسبياً، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصي، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقاً عظيماً عند المحققين، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران‏.‏

والتثليث‏.‏ والتسديس‏.‏ والمقابلة ونحو ذلك، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشىء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراوياً مثلاً علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقداراً معيناً من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيباً فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علماً حقيقياً وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى‏.‏

وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلاً أو بعضاً مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلاً، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب، ويلتزم أن القاعدة أغلبية‏.‏ وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل؛ فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه؛ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم فأيان اسم استفهام عن الزمان، ولذا قيل‏:‏ إن أصلها أيّ آن أي أيّ زمان، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة ليبعثون، والجملة في موضع النصب بيشعرون وعلقت ‏{‏يَشْعُرُونَ‏}‏ لمكان الاستفهام، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاماً لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعاً، وقيل‏:‏ الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم، وفيه بحث‏.‏

وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة‏}‏ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل ‏{‏ادرك‏}‏ تدارك فأدغمت التاء في الدار فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقاً، ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ متعلق بعلمهم والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذٍ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء‏.‏ وابن عطية‏.‏ وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفنى ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعاً مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئاً فشيئاً، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع‏.‏

وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا‏}‏ إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلاً فضلاً عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عمياً قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد ‏{‏عَمُونَ‏}‏ عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولاً أولياً، و‏{‏مِنْهَا‏}‏ متعلق بعمون قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة بمدأ عما هم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفاً على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏ادرك‏}‏ بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحاكم علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس‏:‏ ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولاً‏.‏

وجوز أيضاً أن يكون المراد بالادّراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول؛ والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم‏.‏ وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه‏.‏

وقيل‏:‏ إن في الآخرة متعلق بادّارك وإليه ذهب الزجاج‏.‏ والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عياناً، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع‏.‏

وقيل‏:‏ التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في «النظم الكريم» على هذين الوجهين خفاءاً فتدبر‏.‏

وقرأ أبيّ أم تدارك على الأصل وجعل أم بدل ‏{‏بَلِ‏}‏، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناءاً على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم‏:‏ أثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وطلحة‏.‏ وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام ‏{‏بَلِ‏}‏، وروي ذلك عن ابن عياش‏.‏ وعاصم‏.‏ والأعمش‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وأهل مكة بل أدرك على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية‏.‏ وابن عباس في رواية أبي حيوة‏.‏ وغيره عنه‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن محيصن بل آدّرك بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفاً تخفيفاً كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم‏:‏ لا يجوز الاستفهام بعد ‏{‏بَلِ‏}‏ لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اه‏.‏

وقد أجاز بعض المتأخرين كما قال أبو حيان الاستفهام بعد ‏{‏بَلِ‏}‏ وشبهه بقول القائل‏:‏ أخبزاً أكلت، بل أماءاً شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد أم أدرك جعل أم بدل ‏{‏بَلِ‏}‏ وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضاً ‏{‏بَلِ ادرك‏}‏ بهمزة داخلة على ‏{‏ادرك‏}‏ فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضاً بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضاً‏.‏ والأعرج بل أدرك بهمزة، وإدغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالاً، وقرأ ورش في رواية بل ادّرك بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضاً بلى أدرك بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ بل آأدّارك بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراآت فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم‏:‏ إن كان بلى جواباً لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم‏:‏ بلى إيجاباً لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا‏}‏ بمعنى أم هم في شكل منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ اه، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا‏؟‏ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في «البحر» بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جداً، وقال بعض المحققين‏:‏ ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بْل هُمْ فَى شَكّ‏}‏ الخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل أنهم منها عمون فهو على منوال‏.‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** أورد إنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ‏}‏ كالبيان لجهلهم بالآخرة وعما هم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول، وإذا ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون أي أنخرج إذا كنا تراباً ولا مساغ لأن يكون ظرفاً ‏{‏لَمُخْرَجُونَ‏}‏ لأن كلاً من الهمزة وإن اللام على ما قيل‏:‏ مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت، ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناءاً على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيداً طعامك لآكل، ويكفي حينئذٍ مانعان وأظن أن من قال‏:‏ يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها لا يقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالإخراج الإخراج من القبور، وجوز أن يكون الإخراج من حال الفناء إلى الحياة، والأول هو الظاهر، وتقييد الإخراج بوقت كونهم تراباً ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذٍ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقاً وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له بزعمهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَءابَاؤُنَا‏}‏ عطف على اسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد، وتكرير الهمزة في أئنا للمبالغة والتشديد في الإنكار، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم، فإن تقديم الهمزة لأصالتها في الصدارة، والضمير في أئنا لهم ولآبائهم لأن الكون تراباً قدتنا ولهم وآباءهم، وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو أئذا‏.‏ وأئنا بالجمع بين الاستفهامين، وقلب الثانية ياءاً وفصل بينهما بألف أبو عمرو‏.‏

وقرأ نافع إذا بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر، وآينا بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياءاً وبينهما مدة، وقرأ آخرون أئذا باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هذا‏}‏ أي الإخراج المذكور ‏{‏نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل وعد محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديم الموعود على ‏{‏نَحْنُ‏}‏ هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطرح وعلاوة له كما ينبىء عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكداً مقرراً مكرراً؛ وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل، ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى اتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم، والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ تقرير إثر تقرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله عز وجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار، وفي التعبير عن المكذبين با لمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقاً مبغوض لله عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ لإصرارهم على الكفر والتكذيب ‏{‏وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ‏}‏‏.‏ أي في حرج صدر ‏{‏مّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ أي من مكرهم فإن الله تعالى يعصمك من الناس‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏ضَيْقٍ‏}‏ بكسر الضاد وهو مصدر أيضاً، وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففاً من ضيق، وقد قرىء كذلك أي لا تكن في أمر ضيق، وكره أبو علي كون ذلك مخففاً مما ذكر لأنه يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد، وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ أي العذاب العاجل الموعود وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبون، ويعلم منه وجه للتعبير يقولون وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 67‏]‏ وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الإستهزاء والإنكار، ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ عانين إن كنتم صادقين في إخباركم بإتيانه فبينوا لنا وقته، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك‏.‏