فصل: تفسير الآية رقم (72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ أصل معنى ‏{‏رَدِفَ‏}‏ تبع والمراد به هنا لحق، ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح‏.‏

وقيل‏:‏ اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، وقيل‏:‏ إن اللام لتضمين ‏{‏رَدِفَ‏}‏ معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدى بمن في قوله‏:‏

فلما ردفنا من عمير وصحبه *** تولوا سراعاً والمنية تعنق

وقيل‏:‏ اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي ‏{‏رَدِفَ‏}‏ الخلق لأجلكم ولا يخفى ضعفه، وقيل‏:‏ إن الكلام تم عند ‏{‏رَدِفَ‏}‏ على أن فاعله ضمير يعود على الوعد، ثم استأنف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ على أن ‏{‏بَعْضُ‏}‏ مبتدأ، و‏{‏لَكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع خبراً له، ولا يخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي، والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتاً فوقتاً، والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر، وقيل‏:‏ عذاب القبر وليس بذاك، ونسبة استعجال ذلك إليهم بناءاً على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة، والترجي المفهوم من عسى قيل‏:‏ راجع إلى العباد‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إن عسى‏.‏ ولعل‏.‏ وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الإغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله تعالى ووعيده سبحانه انتهى‏.‏

وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك، وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال‏:‏ عسى أن يردفكم الخ لكونه أدل على تحقق الوعد، وقرأ ابن هرمز ‏{‏رَدِفَ‏}‏ بفتح الدال وهو لغة فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس، ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي لا يشكرون جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء، وقيل‏:‏ لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيراً عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ‏}‏ أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكى عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه، أو فيجازيهم على ذلك، وفعل القلب إذا كان مثل الحب‏.‏ والبغض‏.‏ والتصديق‏.‏ والتكذيب‏.‏ والعزم المصمم على طاعة‏.‏ أو معصية فهو مما يجازي عليه، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكى عنهم، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال‏:‏ وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون‏.‏

وقرأ ابن محيصن‏.‏ وحميد‏.‏ وابن السميقع ‏{‏تَكُنْ‏}‏ بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والارض‏}‏ أي من شيء خفي ثابت الخفاء فهيما؛ على أن ‏{‏غَائِبَةٍ‏}‏ صفة غلبت في هذا المعنى فكثير عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الإسمية كمؤمن وكافر، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوي للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة، ويجوزأن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة، والفرق بين المغلب والمنقول على ما قال الخفاجي إن الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني‏.‏

والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت ‏{‏أَلا فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ أي بين، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ، واشتماله على ذلك إن كان متناهياً لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأذلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة، وقيل‏:‏ حكمه سبحانه الأذلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به القرإن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه، وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام الله تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين‏.‏

وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه، وقال الحسن‏:‏ الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها، وقال «صاحب الغنيان»‏:‏ الحوادث والنوازل، وقيل‏:‏ أعمال العباد، وقيل‏:‏ ما غاب من عذاب السماء والأرض، والعموم أولى، وروى ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ في الآية يقول سبحانه‏:‏ ما من شيء في السماء والأرض سراً وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به‏.‏

وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاءاً بالآخر وكلامه رضي الله تعالى عنه محتل لذلك، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص، فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد بغائبة في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدأ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل، والمراد بهم كما روى عن قتادة اليهود‏.‏ والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إلاسمهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السلام، فمن قائل‏:‏ هو الله تعالى، ومن قائل‏:‏ ابن الله سبحانه، ومن قائل‏:‏ ثالث ثلاثة، ومن قائل‏:‏ هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم السلام، ومن قائل‏:‏ هو وحاشاه كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه، وأمر النبي المبشر به في التوراة، فمن قائل‏:‏ هو يوشع عليه السلام، ومن قائل‏:‏ هو عيسى عليه السلام، ومن قائل‏:‏ إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان‏.‏

ووما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود‏:‏ بحرمة أكله، وقالت النصارى‏:‏ بحله إلى غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ‏}‏ على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم‏}‏ أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس ‏{‏يحُكْمه‏}‏ قيل‏:‏ أي بحكمته جل شأنه، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى، وقيل‏:‏ المراد بالحكم المحكوم به إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري، والداعي لذلك أن يقضي بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك‏:‏ زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلاً، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر، وقيل عليه‏:‏ ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في ‏{‏سعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكماً غير معروف بملابسة الحق، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم، وأيضاً الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر، والأولى إبقاؤه على المصدرية، وجل الإضافة للعهد، وكون المعنى كما قال المورد‏:‏ يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام؛ وأياً ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن على أن المعنى يحكم بالحكم الذي تضمنه القرآن واشتمل عليه من إثابة المحق وتعذيب المبطل وحينئذ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال لا يخفى ما في من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال ‏{‏يَشَاء وَهُوَ العزيز‏}‏ فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله ‏{‏العليم‏}‏ بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به، والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ لترتيب الأمر على ما ذكر من شؤونه عز وجل فإنها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به؛ وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فإنه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه جل وعلا، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّكَ عَلَى الحق المبين‏}‏ تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين‏.‏ أو الفاصل بينه وبين الباطل‏.‏ أو بين المحق والمبطل فإنه كونه صلى الله عليه وسلم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ الخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه، وقد علل أولاً بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى، وثانياً بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلى الله عليه وسلم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق، ثم علل ثالثاً بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى، فإن كونهم كالموتى‏.‏ والصم‏.‏ والعمى موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى، وهو المعنى بالتوكل عليه جل شأنه، وجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ‏}‏ الخ استئنافاً بيانياً وقع جواباً لسؤال نشأ مما قبله، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل‏:‏ ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ الخ‏.‏

وتعقيب بأنه يأباه السياق، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأرهم بما يتلى عليهم من القوارع، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، وقيل‏:‏ لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 971‏]‏ وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمى مزيد مزية وكأنه لهذا في «البحر»‏:‏ أي موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم‏.‏

وتعقب بأن ماذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع، وما ذكر أولاً من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر، ووجهه أن على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل‏:‏ كيف تسمعهم الأرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضاً لأنهم صم، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه، ثم إنا لو أسمعناهم أيضاً فهم عمى لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون، وهذا خاتمة أمرهم، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف‏.‏ وجوز أن يكون التشبهي لطوائف على مراتبهم في الضلال، فمنهم من هو كالميت‏.‏ ومن هو كالأصم‏.‏ ومن هو كالأعمى، وهو وإن كان وجهاً خفيف المؤنة إلا أنه خلاف الظاهر أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ الخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه، وقد علل أولاً بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى، وثانياً بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلى الله عليه وسلم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق، ثم علل ثالثاً بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى، فإن كونهم كالموتى‏.‏ والصم‏.‏ والعمى موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى، وهو المعنى بالتوكل عليه جل شأنه، وجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ‏}‏ الخ استئنافاً بيانياً وقع جواباً لسؤال نشأ مما قبله، أعني ‏{‏إنك على الحق المبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 79‏]‏ كأنه قيل‏:‏ ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ الخ‏.‏

وتعقيب بأنه يأباه السياق، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأرهم بما يتلى عليهم من القوارع، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، وقيل‏:‏ لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمى مزيد مزية وكأنه لهذا في «البحر»‏:‏ أي موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم‏.‏

وتعقب بأن ماذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع، وما ذكر أولاً من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر، ووجهه أن على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل‏:‏ كيف تسمعهم الأرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضاً لأنهم صم، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه، ثم إنا لو أسمعناهم أيضاً فهم عمى لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون، وهذا خاتمة أمرهم، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف‏.‏

وجوز أن يكون التشبهي لطوائف على مراتبهم في الضلال، فمنهم من هو كالميت‏.‏ ومن هو كالأصم‏.‏ ومن هو كالأعمى، وهو وإن كان وجهاً خفيف المؤنة إلا أنه خلاف الظاهر أيضاً‏.‏

‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء‏}‏ أي الدعوة إلى أمر من الأمور، وتقييد النفي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ لتتميم التشبيه وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريباً منه، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه، ومثله في التتميم قول امرىء القيس‏:‏

حملت ردينيا كأن سنانه *** سنا لهب لم يتصل بدخان

وقرأ ابن كثير لا يسمع الصم الدعاء بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الصوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم‏}‏ أي وما أنت بصارف العمى عن ضلالتهم هادياً لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر، و‏{‏عَنْ‏}‏ متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية‏.‏

وقرأ يحيى بن الحرث‏.‏ وأبو حيوة بهاد بالتنوين ‏{‏العمى‏}‏ بالنصب، وقرأ الأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وابن يعمر‏.‏ وحمزة تهدي مضارع هدي ‏{‏العمى‏}‏ بالنصب، وقرأ ابن مسعود وما أن تهتدي بزيادة أن بعدما كما في قول امرىء القيس‏:‏

حلفت لها بالله حلفة فاجر *** لناموا فما أن من حديث ولا صال وتهتدي مضارع اهتدى، و‏{‏العمى‏}‏ بالرفع ‏{‏إِن تُسْمِعُ‏}‏ أي ما تسمع إسماعاً يجدي السامع نفعاً‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بئاياتنا‏}‏ أي من شأنهم الايمان بها وهو الذين ليسوا موتى‏.‏ ولا صماً‏.‏ ولا عمياً‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلى الله عليه وسلم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعاً، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معاً أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضاً فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالاً كما يشمل من يؤمن استقبالاً فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية، نعم قيل‏:‏ إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحال على طرف الثمام لظهور الفرق بين الأسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لا يخفى، وجوز أن يراد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والايمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالأسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كأن الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فهي شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء، وفي «إرشاد العقل السليم» أن إيراد الأسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال‏:‏ إن تهدي إلا من يؤمن الخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ قيل‏:‏ تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل‏:‏ فإنهم منقادون للحق في كل وقت‏.‏

وقيل‏:‏ مخلصون لله تالى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، وقيل‏:‏ هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعاً نافعاً لهم، وفي توحيد الضمير تارة‏.‏ وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها‏.‏

واستدل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقاً، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ بيان لما أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعها قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها، وإسناد إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث أنها مصداق للقول الناطق بمجيئها، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه‏.‏

‏{‏أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الارض‏}‏ وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً، وهو‏.‏ وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفاً «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابم مسعود قال‏:‏ «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع، قيل‏:‏ وكيف يرفع ما في صدور الرجال‏؟‏ قال‏:‏ يسري عليهم ليلاً فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم»، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهمم السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون‏.‏

وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال‏:‏ أول الآيات الروم‏.‏ والثانية الدجال‏.‏ والثالثة يأجوج ومأجوج‏.‏ والرابعة عيسى‏.‏ والخامسة الدخان‏.‏ والسادسة الدابة، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما أخرج أحمد‏.‏ والطيالسي‏.‏ ونعم بن حماد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مروديه‏.‏ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تخريج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمن عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتخطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن الكافر ‏"‏ وقد اختلفت الروايات فيها اختلافاً كثيراً، فحكى أبو حيان في البحر‏.‏ والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة، وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور الباين ما لا يخفى، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضاً فقيل‏:‏ هي من الإنس واستؤنس له بما روى محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال‏:‏ أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية، وفي «الميزان» للذهبي عن جابر الجعفي وهو كذاب قال أبو حنيفة‏:‏ ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول‏:‏ هي من الإنس وانها علي نفسه كرم الله تعالى وجهه؛ وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات‏:‏ منها ما رواه علي بن إبراهيم في «تفسيره» عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رجل لعمار بن ياسر‏:‏ يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي، قال عمار‏:‏ وأية آية هي‏؟‏ا فقال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ الآية فأية دابة هذه‏؟‏ قال عمار‏:‏ والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجال إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمراً وزبداً فقال‏:‏ يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل‏:‏ سبحان الله حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار‏:‏ قد أريتكها إن كنت تعقل، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر أيضاً وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل‏.‏

وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال‏:‏ قيل لعلي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ إن ناساً يزعمون أنك دابة الأرض، فقال‏:‏ والله إن لدابة الأرض لريشا وزغباً ومالي ريش ولا رغب وأن لها لحافراً ومالي من حافر وأنها لتخرج من حفز الفرس الجواد ثلاثاً وما خرج ثلثها، والمشهور وهو الحق أنها دابة ليست من نوع الإنسان، فقيل‏:‏ هي الثعبان الذي كان في جوف الكعب واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس، والأكثرون على أنها غيرها‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال‏:‏ رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين إثنا عشر ذراعاً زاد ابن جرير بذراع آدم عليه السلام‏.‏

ونقل السفاريني عن كعب أنه قال‏:‏ صوتها صوت حمار، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين، وعن أبي هريرة أنه قال‏:‏ فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقاً مشرفاً يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعاً، واختلف في محل خروجها فقيل‏:‏ المسجد الحرام لما أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏

‏"‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال حذيفة‏:‏ يا رسول الله من أين تخرج‏؟‏ قال؛ من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر‏:‏ أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن‏.‏ وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر ‏"‏

وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال‏:‏ تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريف والناس بمنى، وأخرج ابن مردويه‏.‏ والبيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم ‏"‏

وأخرج البخاري في «تاريخه»‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن مردويه عن ريدة رضي الله تعالى عنها قال‏:‏ ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر ‏"‏

وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية، وفي بعض من مدينة قوم لوط، وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر‏:‏ تخرج في أول خرجة فى أقصى اليمن منتشراً ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية، ثم بنيما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفض الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله تعالى فتنتفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية، واختلف أيضاً في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن‏؟‏ فقيل‏:‏ إنها تخلق يوم تخرج، وقيل‏:‏ إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج‏.‏

واستدل بما روى عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال‏:‏ إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعليه من يقول‏:‏ إنها الثعبان، ومن يقول‏:‏ إنها الجساسة التي تجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن العاص، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، فقد أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن الحسن «أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظراً فظيعاً فقال‏:‏ يا رب ردها فردها، وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن‏.‏ والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة وهو ساجد وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها وتحقق هلاكه عنده، والأخبار في هذه الدابة كثيرة‏.‏

وفي «البحر» أنهم اختلفوا في ماهيتها‏.‏ وشكلها‏.‏ ومحل خروجها‏.‏ وعدد خروجها‏.‏ ومقدار ما يخرج منها‏.‏ وما تفعل بالناس‏.‏ وما الذي تخرج به اختلافاً مضطرباً معارضاً بعضه بعضاً فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعاً لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقاً كان أو كذباً، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاهرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء‏.‏

ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلاً يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنَ الارض‏}‏ نوع إشارة على ما قيل‏:‏ إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات‏.‏

وقيل‏:‏ إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياءاً كاملة خلقتهم، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق ‏{‏مّنَ الارض‏}‏ بـ ‏{‏أَخْرَجْنَا‏}‏ وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقاً بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض‏.‏

‏{‏تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات، وقيل‏:‏ بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها‏.‏

وقيل‏:‏ لأنها حكاية منها لقول الله عز وجل؛ وقيل‏:‏ لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا، وإنما الخيل والبلاد لمولاه، وقيل‏:‏ هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا‏.‏

والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقاً لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم، وتكليمها إياهم وهم موتى بعيد أو غير معقول، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها‏.‏ ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة، ومثله ضميراً عليهم‏.‏ ولهم والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقاً لا مشركو أهل مكة فقط، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التذكيب وإنكار البعث، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الأخبار على حاله‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث، والمراد بالأخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالأخبار ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلاً عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع، وكان بين يدي الساعة ليردفه بل كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعاً مع تشنيع الدابة، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يوقنون وقيل‏:‏ ضميراً عليهم‏.‏ ولهم لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق، ومعنى ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لذمهم أو نحوه، وضمير ‏{‏تُكَلّمُهُمْ‏}‏ للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون، وقيل‏:‏ غير ذلك، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأول والأظهر في الآية من الأقوال، وأياً مّا كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر، ويؤيده قراءة أبي تبنؤهم وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم‏.‏

وقيل‏:‏ هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس‏.‏ ومجاه‏.‏ وابن جبير‏.‏ وأبي زرعة‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبي حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏تكلمنهم‏}‏ بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم تجرحهم وأبي حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏الارض تُكَلّمُهُمْ‏}‏ بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم تجرحهم مكان تكلمهم، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائء عليه ءلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الناس‏}‏ الخ بتقدير بأن الناس، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام، ويراد بالناس فيه أولئك المسنع عليهم، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس، والنكتة فيه على ما قيل‏:‏ الإيماء إلى كثرتهم‏.‏

وقيل‏:‏ الرمز إلى مزيد قيح عدم الإيقان منهم، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن أنهم إلى ‏{‏إِنَّ الناس‏}‏ وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس الخ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة، وجوز أن تقدر الباب على أنها سببية‏.‏

وجوز أيضاً أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم، فقد روي أنها تسم جبهة الكافر، وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما في حديث أخرجه نعيم بن حماد‏.‏ وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم‏.‏ أو تكلمهم‏؟‏ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح، والوسم راجعة ءلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون، وقرأ ابن مسعود بأن وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح، وقرأ بعض السبعة إن بكسر الهمزة، وخرج على إضمار القول‏.‏ أو إجراء التكليم من الكلام مجراه، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا‏}‏ بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم أي اذكر يوم، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مراراً، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحسر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ إلى آخره، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسي بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان ‏{‏فَوْجاً‏}‏، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس أبو جهل‏.‏ والوليد بن المغيرة‏.‏ وشعبة بن ربيعة يشاقون بين يدي أهل مكة‏.‏ وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم ءلى انلار؛ وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة‏.‏

قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان‏:‏ واستدل بهذه الآية على صحة الجرعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال‏:‏ إن دخول ‏{‏مِنْ‏}‏ في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه ‏{‏وحشرناهم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوماً ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته‏.‏

ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك من الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ «سيكون من أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعمل بالنعمل والقذة حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتموه»، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافى التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجىء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعباناً وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرم الله تعالى وجهه أيضاً لكن لم يوقتها بوقت، ولما أتى القرن الثالث ثرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكاراً شديداً، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضاً تعارض روايات الإمامية، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحداً منهم يزعم دلالتها على ذلك، بل قصارى ما يقول‏:‏ إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها، وفي كلام الطبري ما يشير إلى هذا‏.‏

وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لافادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضاً وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة، وربما يقال أيضاً‏:‏ مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضاً كيف تصح إرادة الرجعة منها، وفي الآيات ما يأبي ذلك، منه قوله تعالى‏:‏

‏{‏قَالَ رَبّ ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقاً وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماعي الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسنى هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعاً يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلى الله عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السنى مثله في إجماعهم، وما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سيكون في أمتي» الحديث لا تعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة قالوا لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك‏.‏

وبالجملة القول بالرجعة تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علماً بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءوا‏}‏ إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله عز وجل موبخاً لهم على التكذيب لا سائلاً سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز وجل، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وان كان ممكناً على ما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏ على أحد التفسيرين، والالتفات لتربية المهابة ‏{‏أَكَذَّبْتُم‏}‏ الناطقة بلقاء يومكم هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئاياتى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً‏}‏ جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قيحه، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادي الرأي غير ناظرين فيها نظراً يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتماً، وهذا على ما قيل‏:‏ ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علماً مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية، وقيل‏:‏ هو معطوف على كذبتم والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل‏:‏ أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها‏.‏

‏{‏أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وقرره في الكشف بأن ‏{‏أَمْ‏}‏ متصلة، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيهاً على انتفائه كأنه قيل‏:‏ أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مردداً فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ يشمل التكذيب المذكور أولاً وعديله الحقيقي، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلاٌ بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتّاً بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعاراً بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا، ثم قال‏:‏ وهذا وجه لائح، وإنما جاز دخول ‏{‏أَمْ‏}‏ على ‏{‏مَا‏}‏ الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من غير ذلك، وقرره في الكشف أيضاً بأن ‏{‏أَمْ‏}‏ على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولاً والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيرهر، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل، ثم قال‏:‏ وهذا وجه وجيه بالغ، ومنه ظهر أن دخول ‏{‏أَمْ‏}‏ على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضاً منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ اه‏.‏

واختار أبو حيان كون ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام، وما تقدم أبعد مغزى، و‏{‏مَاذَا‏}‏ تحتمل أن تكون بجملتها استفهاماً منصوب المحل بخبر كان وهو ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ أو مرفوعه على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه، وتحتمل أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ فيها استفهاماً، و‏{‏ذَا‏}‏ اسم موصول بمعنى الذي، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف‏.‏

وقرأ أبو حيوة أما ذا بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام، وقد سمعت وجهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم، وقيل‏:‏ يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا‏.‏

وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون من موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الاظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم، قال بعض الرجاز‏:‏

النوم راحة القوى الحسية *** من حركات والقوى النفسية

‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الأبصار الذي هو حال الناس حالاله ووصفاً من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الأبصار، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلماً ليسكنوا فيه والنهار مبصراً لينتشروا فيه ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للأشعار ببعد درجته في الفضل ‏{‏لايات‏}‏ عظيمة ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحد قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل مالحاكية للموت بضياء النهار المضاهى للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباع الذي هو مثل الحياة قضي بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاءاً متقناً وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجاً له ودليلاً يستدل به على تحققه، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهاناً عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى اه‏.‏

ولعل الأول أولى لا سيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ إما معطوف على ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 83‏]‏ منصوب بناصبه، أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب، والصور على ما في التذكرة قرن من نور، وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق‏.‏

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ «جار أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ ما الصور‏؟‏ قال‏:‏ قرن ينفخ فيه ‏"‏، والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام‏.‏

وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم، فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ‏؟‏ا فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله‏:‏ صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم‏.‏ قولوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل ‏"‏ وروي أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً ‏"‏ ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعداً بحذاء العرش مخافة أن يأمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان ‏"‏

وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع ‏"‏ إن عظم دائرة فيه كعرض السموات والأرض ‏"‏ وهذا مما يؤمن به وتفرض كيفيته إلا علام الغيوب، وقيل‏:‏ إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة وعليه أبو عبيدة والكلام في الوجهين على حقيقته، وقيل‏:‏ في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إذا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل عين لهم، والأول قول الأكثرين وعليه المعول لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا لقال سبحانه‏:‏ فيها بدل فيه، وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح، وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره‏:‏ من أنكر أن يكون الصور قرناً فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات، وهذا النفخ قيل‏:‏ المراد به النفحة الثانية، وإليه ذهب صاحب الغنيان، واختاره العلامة أبو السعود وقال‏:‏ الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسباقه ذلك، وأن المراد بالفزع في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض‏}‏ ما يعتري الكل عند البعث والنشور من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين بمشاهدة الأمور الهائلّ الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، ثم قال‏:‏ وقيل‏:‏ المراد بالنفخ هي النفخة الأولى، وبالفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ فيختص أثرها بمن كان حياً عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم‏.‏

وقيل‏:‏ إن المراد بهذه النفخة نفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق التي أريدت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَنظُرُونَ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 15‏]‏ وشنع على كلا القولين بما هو مذكور في تفسيره‏.‏

وقال العلامة الطيبي الحق أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَفَزِعَ‏}‏ هو النفخة الأولى، وقوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ الخ إشارة إلى النفخة الثانية، واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخة فقيل‏:‏ ثلاث‏:‏ نفخة الصعق المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، ونفخة البعث المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ ونفخة الفزع المذكورة في الآية المذكورة ههنا، وهو اختيار ابن العربي‏.‏

وقيل‏:‏ اثنتان، ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين‏:‏ الفزع بمعنى الخوف‏.‏ والصعق بمعنى الموت لا زمان لها، قال القرطبي‏:‏ والسنة كحديث مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو طويل منه مع حذف ثم ينفخ في الصور فأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏.‏ تدل على أن النفخ مرتين لا ثلاثة وهو الصحيح‏.‏ ونفخ الفزع هو نفخ الصعق بعينه لا تحاد الاسنثناء في آيتيهما‏.‏ وتعقب في الرسالة المسماة بشرح العشر في معشر الحشر المنسوبة لابن الكمال بأنه لا دلالة في الحديث على عدم النفخة الثالثة، غايته أنه وسائر الأحاديث الواردة على نسقه ساكت عنها، ولا يلزم من ذلك عدمها، وكذا لا دلالة في اتحاد الاستثناء في الآيتين أن يكون المذكور فيهام نفخة واحدة، وهذا ظاهر، ثم قال‏:‏ والصحيح عندي ما في القول الأول، من أن نفخة الفزع غير نفخة الصعق‏.‏ فإن حديث الصحيحين لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور‏:‏ صريح في أن الصعق يوم القيامة، وأن لا موت فيه فهو فزع بلا موت، فمن قال‏:‏ هي ثلاث نفخات‏:‏ نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق وهو الموت، ثم نفخة البعثة فقد أصاب في التفرقة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق‏.‏ إلا أنه لم يصب في زعمه أن نفخة الفزع قبل نفخة الصعق‏.‏ كيف وقد دل حديث الصحيحين المذكور على عموم حكم نفخة الفزع للأنبياء عليهم السلام الذين ماتوا قبل نفخة الصعق أي الموت، قال القاضي عياض‏:‏ إن نفخة الفزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرض، فظهر أن النفخات ثلاث بل أربع‏:‏ نفخة يميت الله تعالى جميع الخلق بها كما جاء في الحديث وعند ذلك ينادي سبحانه‏:‏

‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وينادي على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ونفخة البعث كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ ونفخة الصعق وهي نفخة الفزع بعينها وقد سمعت آيتيهما، ونفخة للإفاقة كما قال تعالى بعد ذكر نفخة الصعق ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ وقد عرفت ما في زعم أن نفخة الصعق هي نفخة الفزع يعينها فتدبر انتهى، وتعقبه بعضهم بأنه يلزم حينئذ على القول بالمغايرة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق أن تكون النفخات خمساً ولم نسمع متنفساً يقول بذلك، وأيضاً فيه القول بأن نفخة الصعق بعد نفخة البعث، ويأباه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم كان بمن استثنى الله تعالى ‏"‏ فإن انشقاق الأرض عنه صلى الله عليه وسلم بعد نفخة البعث لا محالة فإذا عقبه رفع رأسه عليه الصلاة والسلام ومفاجأة كون موسى عليه السلام متعلقاً بقائمة من قوائم العرش فأين نفخة الصعق‏.‏ ولا يخفى أن كون النفخات خمساً لم يسمع هو الغالب على الظن ويتوقف قبول ما ذكره ثانياً على صحة ما ذكره من الخبر، ولعل القائل بما تقدم من وراء المنع، وقيل‏:‏ الأظهر أن النفخات ثلاث‏:‏ الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت كما هو أحد معنييه المدلول عليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، والثانية نفخة البعث المدلول عليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ والثالثة نفخة الفزع المدلول عليها بما هنا وهي على ما سمعت عن القاضي عياض بعد النشر حين تنشق السموات والأرض‏.‏

وأصله كما قال الراغب انقباض ونفار يعترى الشخص من الشيء المخيف والمراد به الرعب الشديد، ولعل الصعق المذكور في حديث الصحيحين هو غشى يترتب عليه بلا واسطة وعلى النفخ بواسطته وقد نص في الأساس على هذا المعنى له قال يقال صعق الرجل إذا غشى عليه م هدة أو صوت شديد يسمعه ويدل على أنه بمعنى الغشى قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فأكون أول من يفيق» لأن الإفاقة إنما تكون من الغشى دون الموت ولم يعبر هنا بالصعق مرداً به الغشى المذكور في الحديث لئلا يتوهم إرادة معنى الموت منه لخلوه هنا عن القرينة التي في الحديث واقترانه بما يلائم ذلك‏.‏

وقد يختار ما هو المشهور من أن انلفخة اثنتان ويجلب عما يشعر بالزيادة فالنفخة الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت بحال هائلة فبها يموت من في السموات والأرض من الأحياء قبيل ذلك إلا من شاء الله تعالى، ويدل عليها آية ‏{‏ونفخ في الصورفصعق‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ الخ، والنفخة الثانية نفخة البعث المدلول عليها بآية ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ وبينهما في المشهور أربعون سنة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً «أربعون» بدون ذكر التمييز فقيل أربعون يوماً فقال أبو هريرة أبيت فقيل أربعون شهراً فقال أبيت فقيل أربعون سنة فقال أبيت، ونفخة الفزع بمعنى الرعب والخوف هي هذه النفخة بعينها ووجه ذلك أنه ينفخ في الصور للبعث فيبعث الخلق وينشرون فإذا تحققوا يوم القيامة وشاهدوا آثار عظمة الله تعالى فزعوا ورعبوا إلا من شاء الله تعالى وترتب الفزع على النفخ بالفاء للإشارة إلى قلة الزمان الفاصل لسرعة تحققهم ومشاهدتهم ما كذر، والإضافة في قولنا نفخة البعث وقولنا نفخة الفزع من إشافة السبب إلى المسبب إلا أن سببية النفخ للبعث بلا واسطة وسببيته للفزع بواسطة، وحديث الصحيحين ‏"‏ لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ‏"‏ الخ ليس فيه سوى إثبات الصعق بمعنى الغشى كما يرشد إليه ذكر الإفاقة للناس يوم القيامة ولا تعرض له لنفخ يترتب عليه ذلك، نعم التعبير بالصعق على ما ذكروا في معناه يقتضي أن يكون هناك هدة أو صوت شديد يسمعه من يسمعه فيغشى عليه إلا أنه لا يعين النفخ لجواز أن يكون ذلك من صوت حادث من انشقاق السموات الكائن بعد البعث والفزع من يوم القيامة وما شاهدوا من أهواله‏.‏

ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ، وقيل‏:‏ هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء الله تعالى، وحديث الصحيحين مما لا يأبى ذلك واحتياج الإفاقة لنفخة أخرى في حيز المنع؛ وقيل‏:‏ في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الإجابة والإسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات بإسراع الناس عند البعث فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏ ولا يخفى بعده واحتياج توجيه الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالأولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل، وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعاً للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ بعد قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ ووجه تأخير بيان الأحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لا يفزع، والمراد بذلك على ما قيل‏:‏ من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَفَزِعَ‏}‏ الخ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق أي الموت في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وذوي ذلك عن مقاتل والسدي‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش‏.‏ وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السموات والأرض لأن السموات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضاً فكيف يكون حملته في السموات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السموات ودون العرش على ما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سقف الجنة عرش الرحمن» فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السموات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السموات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السموات، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسموات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام، وقد شاع استعمال من في السموات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول‏.‏

وقيل‏:‏ لا مانع من حمل السموات على السموات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعاً ولا يخفى ما فيه، وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا، على أن عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك‏.‏

وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلد والسيوف حول العرش وكذا ذهب إليه الحليمي وقال‏:‏ هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال‏.‏

وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء الله في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر‏.‏

‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة ‏{‏أَتَوْهُ‏}‏ أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب، وقيل‏:‏ أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا‏.‏ وضمير الجمع باعتبار معنى ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وقرأ قتادة أتاه فعلاً ماضياً مسنداً لضمير ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على لفظها‏.‏

وقرأ أكثر السبعة آتوه اسم فاعل ‏{‏داخرين‏}‏ أي أذلاء، وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش دخرين بغير ألف وهو على القراءتين نصب على الحال من ضمير ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏