فصل: تفسير الآية رقم (76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ قارون‏}‏، اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة ‏{‏كَانَ مِن قَوْمِ موسى‏}‏‏.‏ أي من بني إسرائيل كما هو الظاهر، وحكى ابن عطية الإجماع عليه، واختلف في جهة قرابته من موسى عليه السلام فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وابن جريج‏.‏ وقتادة‏.‏ وإبراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاوى بالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث الخ‏.‏

وفي «مجمع البيان» عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه‏.‏

وحكي عن محمد بن إسحاق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال‏:‏ إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري؛ وقال‏:‏ إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فمالي‏؟‏ وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأساً فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هارون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال والله تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون‏:‏ ما هو بأعجب مما تصنع من السحر ‏{‏فبغى عَلَيْهِمْ‏}‏ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبراً أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل‏:‏ وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل‏.‏

وقيل‏:‏ حسدهم وطلب زوال نعمهم، وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام، والفاء فصيحة أي ضل فبغى، وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيراً ما تدعو إلى البغي ‏{‏وَءاتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز‏}‏ أي الأموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصاً به، وحكى في «البحر» أنه سميت أمواله كنوزاً لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته إياه، وقيل‏:‏ الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره الله تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام ‏{‏مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ‏}‏ أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف أو الإضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به‏.‏

وقال السدي‏:‏ أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، والحسن وقياس واحده على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان، ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش مفاتحيه بياء جمع مفتاح و‏{‏مَا‏}‏ موصولة ثاني مفعولي آتي ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ قارون أُوْلِى القوة‏}‏ خبرها والجملة صلة ما والعائد الضمير المجرور، ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بأن صلة للموصول، قال النحاس‏:‏ سمعت علي بن سليمان يعني الأخفش الصغير يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى، ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك و‏{‏مَا‏}‏ في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون الجملة صلة يمنع كونها صفة فتدبر، و‏{‏تنوء‏}‏ من ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية كما في ذهبت به، والعصبة الجماعة الكثيرة من غير تعيين لعدد خاص على ما ذكره الراغب، ومن أهل اللغة من عين لها مقداراً واختلفوا فيه فقيل من عشرة إلى خمسة عشر وهو مروى هنا عن مجاهد، وقيل‏:‏ ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين وروي ذلك عن الكلبي، وقيل‏:‏ ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل‏:‏ من عشرة إلى أربعين وروي هذا عن قتادة وقيل‏:‏ أربعون، وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ سبعون، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانىء وقال الخفاجي‏:‏ قد يقال إن أصل معناها الجماعة مطلقاً كما هو مقتضى الاشتقاق ثم أن العرف خصها بعدد واختلف فيه أو اختلف بحسب موارده، وقال أبو زيد‏:‏ تنوء من نؤت بالحمل إذا نهضت به قال الشاعر‏:‏

تنوء بأخراها فلأيا قيامها *** وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

وفي الآية على هذا قلب عند أبي عبيدة ومن تبعه والأصل تنوء العصبة بها أي تنهض، وقيل‏:‏ يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها، والأولى ما قدمناه أولاً وهو منقول عن الخليل‏.‏ وسيبويه‏.‏ والفراء‏.‏ واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس‏.‏ وأبي صالح‏.‏ والسدي، وقرأ بديل بن ميسرة ‏{‏لينوء‏}‏ بالباء التحتية، وخرج ذلك أبو حيان على تقدير مضاف مذكر يرجع إليه الضمير أي ما إن حمل مفاتحه أو مقدارها أو نحو ذلك، وقال ابن جني‏:‏ ذهب بالتذكير إلى ذلك القدر والمبلغ فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه ونحوه، قول الراجز‏:‏

مثل الفراخ نتفت حواصله *** أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا، وقال الزمخشري‏:‏ وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى، وإنما فسر المفاتحب الخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فإن اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذٍ يكتسي التذكير من المضاف إليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره، وما تقدم عن غيره أولى‏.‏ قال في «الكشف» لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جداً لفوات المبالغة، وقيل‏:‏ إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت إلى ما ذكر من هذا وكلام الكشف، وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ ‏{‏مَا إِنَّ‏}‏ على الإفراد فلا تحتاج قراءته ‏{‏لينوء‏}‏ بالياء إلى تأويل، وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلاً أغر محجلاً ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز، وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغر محجلاً‏.‏

وفي «البحر» ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه، ومما لا مبالغة فيه ما روي عن ابن عباس من أن المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه، ولعل الآية تشير إلى ما أوتيه فوق ذلك، ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة، وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال‏:‏ المراد من المفاتح العلم والإحاطة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ‏}‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ هو متعلق بتنوء وضعف بأن أثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه، وقال ابن عطية‏:‏ ببغى، وضعف بنحو ذلك، وقال أبو البقاء‏:‏ بآتينا، ويجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الكلام أي بغى عليهم إذ قال، وفي كل منهما ما سبق، وقال الحوفي منصوب باذكر محذوفاً، وجوز كونه متعلقاً بما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ والجملة مقررة لبغيه ورجح تعلقه بمحذوف والتقدير أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه ‏{‏لاَ تَفْرَحْ‏}‏ لا تبطر والفرح بالدنيا لذاتها مذموم لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتماً كما قال أبو الطيب‏:‏

أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا

وقال ابن شمس الخلافة‏:‏

وإذا نظرت فإن بؤساً زائلا *** للمرء خير من نعيم زائل

ولذلك قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏ والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير قال الشاعر‏:‏

ولست بمفراح إذ الدهر سرني *** ولا جازع من صرفه المتقلب

وقال آخر‏:‏

إن تلاق منفساً لا تلقنا *** فرح الخير ولانكبو لضر

وعلل سبحانه النهي ههنا بكون الفرح مانعاً من محبته عز وجل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين‏}‏ فهو دليل إني على كون الفرح بالدنيا مذموماً شرعاً، وإنما قلنا‏:‏ إن الفرح بها لذاتها مذموم لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم، ومحبه الله تعالى عنه كثير صفة فعل أي أنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا ينعم جل شأنه عليهم ولا يقربهم عز وجل، والمراد أنه تعالى يبغضهم ويهينهم ويبعدهم عن حضرته سبحانه، وقال بعضهم‏:‏ إن في نفي محبته تعالى إياهم تنبيهاً على أن عدم محبته تعالى كاف في الزجر عما نهى عنه فما بالك بالبغض والعقاب وهو حسن، وحكى عيسى بن سليمان الحجازي أنه قرىء ‏{‏الفارحين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏الفرحين وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله‏}‏ من الكنوز والغنى ‏{‏الدار الاخرة‏}‏ أي ثوابها أي ثواب الله تعالى فيها بصرف ذلك إلى ما يكون وسيلة إليه و‏{‏فِى‏}‏ إما ظرفية على معنى ابتغ متقلباً ومتصرفاً فيه أو سببية على معنى ابتغ بصرف ما أتاك الله تعالى ذلك وقرىء ‏{‏أَتَّبِعُ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَ‏}‏ أي ولا تترك ترك المنسي ‏{‏نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا‏}‏ أي حظك منها وهو كما أخرج الفريابي‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك، وروي ذلك عن مجاهد‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحل الله تعالى لك، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن منصور قال‏:‏ ليس هو عرض من عرض الدنيا ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك، وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن أنه قال في الآية‏:‏ قدم الفضل وأمسك ما يبلغك، وقال مالك‏:‏ هو الأكل والشرب بلا سرف، وقيل‏:‏ أرادوا بنصيبه من الدنيا الكفن كما قال الشاعر‏:‏

نصيبك مما تجعل الدهر كله *** رداءان تلوى فيهما وحنوط

وفي نهيهم إياه عن نسيان ذلك حض عظيم له على التزود من ماله للآخرة فإن من يكون نصيبه من دنياه وجميع ما يملكه الكفن لا ينبغي له ترك التزوّد من ماله وتقديم ما ينفعه في آخرته عباد الله عز وجل ‏{‏كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ أي مثل إحسانه تعالى إليك فيما أنعم به عليك، والتشبيه في مطلق الإحسان أو لأجل إحسانه سبحانه إليه على أن الكاف للتعليل‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى وأحسن بالشكر والطاعة كما أحسن الله تعالى عليك بالإنعام، والكاف عليه أيضاً تحتمل التشبيه والتعليل ‏{‏عَنِ الفساد فِى الارض‏}‏ نهى عن الاستمرار على ما هو عليه من الظلم والبغي‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ الكلام فيه كالكلام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ وهذه الموعظة بأسرها كانت من مؤمنين قومه كما هو ظاهر الآية، وقيل‏:‏ إنها كانت من موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ مجيباً لمن نصحه ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى‏}‏ كأنه يريد الرد على قولهم‏:‏ ‏{‏كما أحسن الله إليك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله، وحاصله دعوى استحقاقه لما أويته لما هو عليه من العلم، وقوله‏:‏ ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ عند أكثر المعربين في موضع الحال من مرفوع أوتيته قيد به العامل إشارة إلى علة الإيتاء ووجه استحقاقه له أي إنما أوتيته كائناً على علم، وجوز كون على تعليلية والجار والمجرور متعلق بأوتيت على أنه ظرف لغو كأنه قيل أوتيته لأجل علم، و‏{‏عِندِى‏}‏ في موضع الصفة لعلم والمراد لعلم مختص بي دونكم، وجوز كونه متعلقاً بأوتيت، ومعناه في ظني ورأيي كما في قولك‏:‏ حكم كذا الحل عند أبي حنيفة عليه الرحمة، وفي «الكشاف» ما هو ظاهر في أن عندي إذا كان بمعنى في ظني ورأيي كان خبر مبتدأ محذوف أي هو في ظني ورأيي هذا، والجملة عليه مستأنفة تقرر أن ما ذكره رأي مستقر هو عليه، قال في «الكشف»‏:‏ وهذا هو الوجه، والمراد بهذا العلم قيل علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها، وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ علم التجارة ووجوه المكاسب، وقال ابن المسيب‏:‏ علم الكيمياء، وكان موسى عليه السلام يعلم ذلك فأفاد يوشع بن نون ثلثه وكالب بن يوفنا ثلثه وقارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً، وقيل‏:‏ علم الله تعالى موسى عليه السلام علم الكيمياء فعلمه موسى أخته فعلمته أخته قارون، وروى عن ابن عباس تخصيصه بعلم صنعة الذهب، وقيل‏:‏ علم استخراج الكنوز والدفائن، وعن ابن زيد أن المراد بالعلم علم الله تعالى وأن المعنى أوتيته على علم من الله تعالى وتخصيص من لدنه سبحانه قصدني به، و‏{‏عِندِى‏}‏ عليه بمعنى في ظني ورأيي، وقيل‏:‏ العلم بمعنى المعلوم مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ وإلى ذلك يشير ما روى عن مقاتل أنه قال أي على خير علمه الله تعالى عندي وتفسيره بعلم الكيمياء شائع فيما بين أهلها، وفي «مجمع البيان» حكايته عن الكلبي أيضاً، وأنكره الزجاج وقال‏:‏ إنه لا يصح لأن علم الكيمياء باطل لا حقيقة له، وتعقبه الطيبي بأنه لعله كان من قبيل المعجز، وتعقب بأنه ليس بسديد وإلا لما تمكن قارون منه، وإنكار الكيمياء وهو لفظ يوناني معناه الحيلة أن عبراني وأصله كيم يه بمعنى أنه من الله تعالى أو فارسي وأصله كي ميا بمعنى متى يجيء على سبيل الاستبعاد غلب على تصحيل النقدين بطريق مخصوص مما لم يختص بالزجاج بل أنكرها جماعة أجلة وقالوا بعدم إمكانها، وذهب آخرون إلى خلاف ذلك‏.‏

وإذا أردت نبذة من الكلام في ذلك فاستمع لما يتلى عليك‏.‏ ذكر بعض المحققين أن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقزدير والنحاس والحديد والخارصيني هل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعاً غير النوع الآخر أو هي مختلفات بالخواص والكيفيات فقط فتكون كلها أصنافاً لنوع واحد فالذي ذهب إليه المعلم أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان نحو الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبنى على ذلك إمكان انقلاب بعضها إلى بعض بتبدل الأعراض بفعل الطبيعة أو بالصنعة‏.‏ وقد حكى أبو بكر بن الصغائغ المعروف بابن باجه في بعض تصانيفه عن المعلم المذكور أنه قال‏:‏ قد بين أرسطو في كتبه في المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن يتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولاً على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عداته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيراً بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب، الأولى‏:‏ أن الفلزات وحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية، والثانية‏:‏ أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتياً عسر الانتقال وإن كان مفارقاً سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيراً جداً اه، والذي ذهب إليه الشيخ أبو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبني على ذلك إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل، وهذا ما ححكاه ابن خلدون عنه، وقال الإمام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها‏:‏ الشيخ سلم إمكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص، فأما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسي، قال‏:‏ فلم يظهر لي إمكانه بعد، إذ هذه الأمور المحسوسة تشبه أن لا تكون الفصول التي بها تصير هذه الأجساد أنوعاً بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولاً كيف يمكن قصد إيجاده وإفنائه اه‏.‏

وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبول خاصة والفصل يأتي من بعض الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيد شبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، وإذا كنا قد عثرنا على تغليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن، والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعاذن وهذا كله بالصناعة وهي إنما موضوعها المادة فيعدها التدبير والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر، فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبور صورة الذهب والفضة ثم نحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلهما اه بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر، وقال الإمام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ‏:‏ هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثاراً وأفعالاً مخصوصة فأما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الأفعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضاً أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكن للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد إزالتهما واتخاذهما فبصل ما قاله الشيخ‏.‏

وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لا شك بأنا لا نعقل من تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الأفعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فأما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الإيجاد والإبطال أو لا يكفي فإن لم يكف وجب أن لا يمكننا اتخاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضاً حاصل لأنا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة، ويجاب أن بأنا وإن كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فإنا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها، أما الإبطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور‏:‏ أولها‏:‏ أن الطبيعة إنما تعمل هذ الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضاً ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندن، ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد، وثانيها‏:‏ أن الجوهر الصابغ إما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوع أصبر أو يتساويان فإن كان الصابغ أصبر وجب أن يفنى المصبوغ ويبقى الصابغ بعد فنائه وإن كان المصبوغ أصبر وجب أن يبقى بعد فناء الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس، وثالثها‏:‏ أنه لو كان بالصناعة مثلاً لما كانبالطبيعة لكن التالي باطل، أما أولاً‏:‏ فلأنا لم نجد له شبيهاً، وأما الثاني‏:‏ فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير بالطبيعة، ولما ثبت امتناع المقدم، ورابعها‏:‏ أن لهذه الأجسام أماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الأرحام للحويان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الأرحام‏.‏

وأجاب الإمام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب‏.‏

وعن الثاني‏:‏ بأنه لا يلزم من استواء الصابغ والمصبوع في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات، وعن الثالث‏:‏ بأنه قد يوجد بالصناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح، والنوشادر قد يتخذ من الشعير وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا نجد له مثالاً لا يلزم الجز بنفيه ولا يلزم من إمكان حصول الأمر الطبيعي بالصناعة إمكان عكسه بالأمر فيه موقوف على الدليل‏.‏

وعن الرابع‏:‏ بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض، فإن النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللاً وأمراضاً وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع، على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن لتكونه بالصناعة، وفيه وقع النزاع، وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال‏:‏ لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين، وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهباً أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمانه كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة، وذلك هو الأكسير، واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل، ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لا بد من اختلاف أطواره وانقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته، وانظر شأن الإنسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر، وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر، فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم، ومن شرط الصناعة مطلقاً تصور ما يقصد إليه بها، فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعدة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها‏.‏

وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز وجل، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك، وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الإنسان من المني ونحن إذا سلمنا الإحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علماً محصلاً لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأني له ذلك‏.‏ والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها وحاذاتها، وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها، فقصد تصيير النحاس ذهباً كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات، وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها، وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، ولذلك وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته وهو أن حكمه الله تعالى في الحجرين وندرتهما أنهما عمدتا مكاسب الناس ومتمولاتهم فلو حصل عليها بالصنعة لبطلت حكمة الله تعالى في ذلك إذ يكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء، وآخر أيضاً وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون صحته وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً صحيحاً لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في تكوين الذهب والفضة وتخليصهما، وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والحية وتخليقهما فأمر صحيح في ذلك أدى عليه العثور كما زعم، وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه ولده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرها، وأما قولهم‏:‏ إن الأكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما حصل فيه ويقلبه إلى ذاته فليس بشيء، لأن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأير شيء من الأفعال والطبائع، والمطلوب من الأكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الأكسير على الخميرة، ثم قال‏:‏ وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما يزعم الحكماء المتكلمون فيها فليس من باب الصنائع الطبيعية ولا يتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق، وقد ذكر مسلمة المجريطي في كتابة الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى، وكذا كلام جابر في رسائله‏.‏

وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشي على الماء وتلخيق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحراً، ولهذا كان كلام الحكماء فيها ألغازاً لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة، وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها اه‏.‏ وإلى إمكانها ذهب الإمام الرازي فقال الحق أمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك، وما به الاختلاف لا يكون لازماً لما به الاشتراك، فإذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب، والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله الله تعالى لها واختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الأحلام، وأصله من الوحي الإلهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلاً للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من الله تعالى به عليه، وقال ارس‏:‏ وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحياً الله تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة الله تعالى فيمن ظفر به بكتمه الأعلى من شاء الله تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل‏:‏ إن الله تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق بكتمانه وصيانته والاحتراض من إذاعته وإضاعته ولذا ترى الحكماء قد ألغزوه نهاية الألغاز وأغمضوه غاية الإغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة الله تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعته فيما مر‏.‏

وقد نص جابر بن حيان وهو إمام في هذه الصنعة وإنكار أنه كان موجوداً حمق في كتابه سر الأسرار على ما قلنا حيث قال‏:‏ كل حكيم وضع رمزه وكتابه على معنى مبهم من وضع الحل والإصعاد والغسل على أربع طبائع وسماها الأجساد الثقال ووصف التدابير على لفظ ومعنى مشتبه، فهو عند الحكيم مفتوح، وعند الجهلة مغلق، وربما تعدوا إلى أخذ تلك الأجساد بعينها واختبروها ولم ينتفعوا بها، وشتموا الحكماء على كتمانهم هذا العمل وإنما عمارة الدنيا بالدراهم والدنانير وأن الناس الصناع والمقاتلة لا يعملون إلا لرغبة أو رهبة فعلموا أنهم إن أفشوا هذا السر حتى يعلمه كل أحد لم يتم أمر الدنيا وخربت، ولم يعمل أحد لأحد فخرجوا من ذلك وكتموه اه‏.‏ ثم لا يخفى أن ما ذكره ابن خلدون أولاً من أن الاستحالة لعدم الإحاطة إذا ثبت أنها كانت عن وحي ليس بشيء على أن فيه ما فيه وإن لم يثبت ذلك، ومثل ذلك ما ذكره من أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد، لأنا نقول ما يحصل من الطبائع أيضاً، فيكون لها طريقان بعيد اقتضت الحكمة أن تسلكه غالباً وقريب اقتضت الحكمة أيضاف أن تسلكه نادراً بواسطة من شاء الله تعالى من عباده، وكون المنتحلين لم يزالوا يخبطون خبط عشواء إن أراد بهم أئمة هذه الصناعة كهرمس وسقراط وإفلاطون وإغاريمون وفيثاغورس، وهرقل، وفرفريوس، ومارية، وذو سيموس وارس، وذومقراط، وسفيدوس، وبليناس، ومهراريس، وجابر بن حيان، والمجريطي، وأبو بكر بن وحشية، ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهم مما لا يحصون كثرة فهم لم يخبطوا، ودون إثبات خبطهم خرط القتاد، وألغازهم لنكتة صرحوا بها لا يدل على خبطهم، وإن أراد بهم من يتعاطاها من المشاقين في عصره وفي هذه الأعصار؛ فما ذكر مسلم في أكثرهم وهو لا يطعن في إمكانها‏.‏

وقد ذم الطغرائي هذا الصنف من الناس فقال في كتابه «تراكيب الأنوار»‏:‏ إن المعلم الناصح موجود في كل صنعة إلا في هذا الفن، وكيف يرجى النصح عند قوم يسمعون فيما بينهم بالحسدة وتحالفوا فيما بينهم أن لا يوضحوا هذه السرائر أبداً لا سيما في هذا الزمان الذي قد باد فيه هذا العلم جملة وصار المتعرض له والباحث عنه عند الناس مسخرة وقد عنيت برهة من الزمان أبحث عن كل من يظن أن عنده طرفاً من هذا العلم فما وجدت أحداً شم له رائحة ولا عرف منه شطر كلمة، ووجدت منتحلي هذه الصنعة الشريفة بين خادع يبيع دينه ومروءته بعرض من الدنيا قليل ويتلف أموال الناس بالتجارب الصادرة عن الجهل، وبين مخدوع مأخوذ عن رشده بالأمر الخائب والطمع الكاذب والتشاغل بالباطل عن طلب المعاش الجميل والتعويل على الأماني والأكاذيب‏.‏ قصارى أحدهم أن ينظر في كتب جابر وأضرابه فيأخذ بظواهر كلامهم، ويغتر بجلايا دعاويهم دون حقائق معانيهم وهم وجميع من مضى من حكماء هذه الصنعة يحذرون الناس من الاغترار بظواهر كتبهم، وينادون على أنفسهم بأنهم يرمزون ويلغزون ولا يلتفت إلى قولهم ولا يصدقون إلى آخر ما قال‏.‏ وقد تفاقم الأمر في زماننا إلى ما لا تتسع العبارة لشرحه، وكون الكيمياء من تأثيرات النفوس وخوارق العادات فلا تكون إلا معجزة أو كرامة أو سحراً ليس بشيء بل هي بأسباب عادية لكنها خفية على أكثر الناس لا دخل لتأثير النفوس فيها أصلاً‏.‏ نعم قد يكون من النبي أو الولي ما يكون من الكيماوي من غير معاطاة تلك الأسباب فيكون ذلك كرامة أو معجزة، وكون منحى كلام بعض الحكماء فيها منحى كلامهم في الأمور السحرية لا يدل على أنها من أنواع السحر أو توابعه فإن ذلك من ألغازهم لأمرها، وقد تفننوا في الألغاز لها وسلكوا في ذلك كل مسلك، فوضع بليناس كتابه فيها على الأفلاك والكواكب، ومنهم من تكلم عليها بالأمثال ومنهم من تكلم عليها بالحكايات التي هي أشبه شيء بالخرافات إلى غير ذلك‏.‏ وبالجملة هي صنعة قل من يعرفها جداً، وأعد الاشتغال بها والتصدي لمعرفتها من كتبها من غير حكيم عارف برموزها كما يفعله المنتحلين لها اليوم محض جنون، وكون أصلها الوحي الإلهي أو نحو ذلك هو الذي يغلب على الظن، وقد أورد الطغرائي في كتبه كجامع الأسرار وغيره ما يدل على ذلك، فذكر أنه روى عن هرمس أنه قال‏:‏ إن الله عز وجل أوحى إلى شيث بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة، وقالت مارية‏:‏ إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي، ولكني أقول لكم ما أمر الله تعالى به نبيه موسى عليه السلام وأعلمه أن الحجر النسطريس هو الذي يمسك البصغ وقال بنسبتها إلى موسى عليه السلام ذوسيموس وارس، وذكر ارس أن العمل بها كان طوع اليهود بمصر، وكان يوسف عليه السلام وهو أول من دخل مصر من بني إسرائيل يعرف ذلك فأكرمه فرعون لحكمته التي آتاه الله تعالى إياها، وذكر أيضاً فصلاً مرموزاً فيها نسبه إلى سليمان عليه السلام‏.‏

وقال الطرسوسي في كتابه‏:‏ إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه، وانتقل من قوم إلى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول، وقال أيضاً‏:‏ حدثونا عن محمد بن جرير الطبري بإسناد له متصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الأبيض والأحمر»

وإذا أردت نبذة من الكلام في ذلك فاستمع لما يتلى عليك‏.‏ ذكر بعض المحققين أن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقزدير والنحاس والحديد والخارصيني هل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعاً غير النوع الآخر أو هي مختلفات بالخواص والكيفيات فقط فتكون كلها أصنافاً لنوع واحد فالذي ذهب إليه المعلم أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان نحو الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبنى على ذلك إمكان انقلاب بعضها إلى بعض بتبدل الأعراض بفعل الطبيعة أو بالصنعة‏.‏ وقد حكى أبو بكر بن الصغائغ المعروف بابن باجه في بعض تصانيفه عن المعلم المذكور أنه قال‏:‏ قد بين أرسطو في كتبه في المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن يتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولاً على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عداته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيراً بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب، الأولى‏:‏ أن الفلزات وحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية، والثانية‏:‏ أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتياً عسر الانتقال وإن كان مفارقاً سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيراً جداً اه، والذي ذهب إليه الشيخ أبو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبني على ذلك إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل، وهذا ما ححكاه ابن خلدون عنه، وقال الإمام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها‏:‏ الشيخ سلم إمكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص، فأما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسي، قال‏:‏ فلم يظهر لي إمكانه بعد، إذ هذه الأمور المحسوسة تشبه أن لا تكون الفصول التي بها تصير هذه الأجساد أنوعاً بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولاً كيف يمكن قصد إيجاده وإفنائه اه‏.‏

وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبول خاصة والفصل يأتي من بعض الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيد شبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، وإذا كنا قد عثرنا على تغليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن، والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعاذن وهذا كله بالصناعة وهي إنما موضوعها المادة فيعدها التدبير والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر، فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبور صورة الذهب والفضة ثم نحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلهما اه بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر، وقال الإمام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ‏:‏ هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثاراً وأفعالاً مخصوصة فأما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الأفعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضاً أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكن للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد إزالتهما واتخاذهما فبصل ما قاله الشيخ‏.‏ وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لا شك بأنا لا نعقل من تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الأفعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فأما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الإيجاد والإبطال أو لا يكفي فإن لم يكف وجب أن لا يمكننا اتخاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضاً حاصل لأنا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة، ويجاب أن بأنا وإن كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فإنا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها، أما الإبطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور‏:‏ أولها‏:‏ أن الطبيعة إنما تعمل هذ الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضاً ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندن، ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد، وثانيها‏:‏ أن الجوهر الصابغ إما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوع أصبر أو يتساويان فإن كان الصابغ أصبر وجب أن يفنى المصبوغ ويبقى الصابغ بعد فنائه وإن كان المصبوغ أصبر وجب أن يبقى بعد فناء الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس، وثالثها‏:‏ أنه لو كان بالصناعة مثلاً لما كانبالطبيعة لكن التالي باطل، أما أولاً‏:‏ فلأنا لم نجد له شبيهاً، وأما الثاني‏:‏ فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير بالطبيعة، ولما ثبت امتناع المقدم، ورابعها‏:‏ أن لهذه الأجسام أماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الأرحام للحويان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الأرحام‏.‏

وأجاب الإمام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب‏.‏

وعن الثاني‏:‏ بأنه لا يلزم من استواء الصابغ والمصبوع في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات، وعن الثالث‏:‏ بأنه قد يوجد بالصناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح، والنوشادر قد يتخذ من الشعير وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا نجد له مثالاً لا يلزم الجز بنفيه ولا يلزم من إمكان حصول الأمر الطبيعي بالصناعة إمكان عكسه بالأمر فيه موقوف على الدليل‏.‏

وعن الرابع‏:‏ بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض، فإن النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللاً وأمراضاً وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع، على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن لتكونه بالصناعة، وفيه وقع النزاع، وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال‏:‏ لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين، وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهباً أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمانه كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة، وذلك هو الأكسير، واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل، ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لا بد من اختلاف أطواره وانقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته، وانظر شأن الإنسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر، وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر، فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم، ومن شرط الصناعة مطلقاً تصور ما يقصد إليه بها، فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعدة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها‏.‏

وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز وجل، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك، وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الإنسان من المني ونحن إذا سلمنا الإحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علماً محصلاً لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأني له ذلك‏.‏

والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها وحاذاتها، وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها، فقصد تصيير النحاس ذهباً كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات، وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها، وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، ولذلك وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته وهو أن حكمه الله تعالى في الحجرين وندرتهما أنهما عمدتا مكاسب الناس ومتمولاتهم فلو حصل عليها بالصنعة لبطلت حكمة الله تعالى في ذلك إذ يكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء، وآخر أيضاً وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون صحته وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً صحيحاً لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في تكوين الذهب والفضة وتخليصهما، وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والحية وتخليقهما فأمر صحيح في ذلك أدى عليه العثور كما زعم، وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه ولده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرها، وأما قولهم‏:‏ إن الأكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما حصل فيه ويقلبه إلى ذاته فليس بشيء، لأن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأير شيء من الأفعال والطبائع، والمطلوب من الأكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الأكسير على الخميرة، ثم قال‏:‏ وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما يزعم الحكماء المتكلمون فيها فليس من باب الصنائع الطبيعية ولا يتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق، وقد ذكر مسلمة المجريطي في كتابة الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى، وكذا كلام جابر في رسائله‏.‏

وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشي على الماء وتلخيق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحراً، ولهذا كان كلام الحكماء فيها ألغازاً لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة، وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها اه‏.‏

وإلى إمكانها ذهب الإمام الرازي فقال الحق أمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك، وما به الاختلاف لا يكون لازماً لما به الاشتراك، فإذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب، والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله الله تعالى لها واختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الأحلام، وأصله من الوحي الإلهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلاً للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من الله تعالى به عليه، وقال ارس‏:‏ وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحياً الله تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة الله تعالى فيمن ظفر به بكتمه الأعلى من شاء الله تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل‏:‏ إن الله تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق بكتمانه وصيانته والاحتراض من إذاعته وإضاعته ولذا ترى الحكماء قد ألغزوه نهاية الألغاز وأغمضوه غاية الإغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة الله تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعته فيما مر‏.‏

وقد نص جابر بن حيان وهو إمام في هذه الصنعة وإنكار أنه كان موجوداً حمق في كتابه سر الأسرار على ما قلنا حيث قال‏:‏ كل حكيم وضع رمزه وكتابه على معنى مبهم من وضع الحل والإصعاد والغسل على أربع طبائع وسماها الأجساد الثقال ووصف التدابير على لفظ ومعنى مشتبه، فهو عند الحكيم مفتوح، وعند الجهلة مغلق، وربما تعدوا إلى أخذ تلك الأجساد بعينها واختبروها ولم ينتفعوا بها، وشتموا الحكماء على كتمانهم هذا العمل وإنما عمارة الدنيا بالدراهم والدنانير وأن الناس الصناع والمقاتلة لا يعملون إلا لرغبة أو رهبة فعلموا أنهم إن أفشوا هذا السر حتى يعلمه كل أحد لم يتم أمر الدنيا وخربت، ولم يعمل أحد لأحد فخرجوا من ذلك وكتموه اه‏.‏ ثم لا يخفى أن ما ذكره ابن خلدون أولاً من أن الاستحالة لعدم الإحاطة إذا ثبت أنها كانت عن وحي ليس بشيء على أن فيه ما فيه وإن لم يثبت ذلك، ومثل ذلك ما ذكره من أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد، لأنا نقول ما يحصل من الطبائع أيضاً، فيكون لها طريقان بعيد اقتضت الحكمة أن تسلكه غالباً وقريب اقتضت الحكمة أيضاف أن تسلكه نادراً بواسطة من شاء الله تعالى من عباده، وكون المنتحلين لم يزالوا يخبطون خبط عشواء إن أراد بهم أئمة هذه الصناعة كهرمس وسقراط وإفلاطون وإغاريمون وفيثاغورس، وهرقل، وفرفريوس، ومارية، وذو سيموس وارس، وذومقراط، وسفيدوس، وبليناس، ومهراريس، وجابر بن حيان، والمجريطي، وأبو بكر بن وحشية، ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهم مما لا يحصون كثرة فهم لم يخبطوا، ودون إثبات خبطهم خرط القتاد، وألغازهم لنكتة صرحوا بها لا يدل على خبطهم، وإن أراد بهم من يتعاطاها من المشاقين في عصره وفي هذه الأعصار؛ فما ذكر مسلم في أكثرهم وهو لا يطعن في إمكانها‏.‏

وقد ذم الطغرائي هذا الصنف من الناس فقال في كتابه «تراكيب الأنوار»‏:‏ إن المعلم الناصح موجود في كل صنعة إلا في هذا الفن، وكيف يرجى النصح عند قوم يسمعون فيما بينهم بالحسدة وتحالفوا فيما بينهم أن لا يوضحوا هذه السرائر أبداً لا سيما في هذا الزمان الذي قد باد فيه هذا العلم جملة وصار المتعرض له والباحث عنه عند الناس مسخرة وقد عنيت برهة من الزمان أبحث عن كل من يظن أن عنده طرفاً من هذا العلم فما وجدت أحداً شم له رائحة ولا عرف منه شطر كلمة، ووجدت منتحلي هذه الصنعة الشريفة بين خادع يبيع دينه ومروءته بعرض من الدنيا قليل ويتلف أموال الناس بالتجارب الصادرة عن الجهل، وبين مخدوع مأخوذ عن رشده بالأمر الخائب والطمع الكاذب والتشاغل بالباطل عن طلب المعاش الجميل والتعويل على الأماني والأكاذيب‏.‏ قصارى أحدهم أن ينظر في كتب جابر وأضرابه فيأخذ بظواهر كلامهم، ويغتر بجلايا دعاويهم دون حقائق معانيهم وهم وجميع من مضى من حكماء هذه الصنعة يحذرون الناس من الاغترار بظواهر كتبهم، وينادون على أنفسهم بأنهم يرمزون ويلغزون ولا يلتفت إلى قولهم ولا يصدقون إلى آخر ما قال‏.‏ وقد تفاقم الأمر في زماننا إلى ما لا تتسع العبارة لشرحه، وكون الكيمياء من تأثيرات النفوس وخوارق العادات فلا تكون إلا معجزة أو كرامة أو سحراً ليس بشيء بل هي بأسباب عادية لكنها خفية على أكثر الناس لا دخل لتأثير النفوس فيها أصلاً‏.‏ نعم قد يكون من النبي أو الولي ما يكون من الكيماوي من غير معاطاة تلك الأسباب فيكون ذلك كرامة أو معجزة، وكون منحى كلام بعض الحكماء فيها منحى كلامهم في الأمور السحرية لا يدل على أنها من أنواع السحر أو توابعه فإن ذلك من ألغازهم لأمرها، وقد تفننوا في الألغاز لها وسلكوا في ذلك كل مسلك، فوضع بليناس كتابه فيها على الأفلاك والكواكب، ومنهم من تكلم عليها بالأمثال ومنهم من تكلم عليها بالحكايات التي هي أشبه شيء بالخرافات إلى غير ذلك‏.‏

وبالجملة هي صنعة قل من يعرفها جداً، وأعد الاشتغال بها والتصدي لمعرفتها من كتبها من غير حكيم عارف برموزها كما يفعله المنتحلين لها اليوم محض جنون، وكون أصلها الوحي الإلهي أو نحو ذلك هو الذي يغلب على الظن، وقد أورد الطغرائي في كتبه كجامع الأسرار وغيره ما يدل على ذلك، فذكر أنه روى عن هرمس أنه قال‏:‏ إن الله عز وجل أوحى إلى شيث بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة، وقالت مارية‏:‏ إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي، ولكني أقول لكم ما أمر الله تعالى به نبيه موسى عليه السلام وأعلمه أن الحجر النسطريس هو الذي يمسك البصغ وقال بنسبتها إلى موسى عليه السلام ذوسيموس وارس، وذكر ارس أن العمل بها كان طوع اليهود بمصر، وكان يوسف عليه السلام وهو أول من دخل مصر من بني إسرائيل يعرف ذلك فأكرمه فرعون لحكمته التي آتاه الله تعالى إياها، وذكر أيضاً فصلاً مرموزاً فيها نسبه إلى سليمان عليه السلام‏.‏

وقال الطرسوسي في كتابه‏:‏ إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه، وانتقل من قوم إلى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول، وقال أيضاً‏:‏ حدثونا عن محمد بن جرير الطبري بإسناد له متصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الأبيض والأحمر»

وروى جابر عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في ذلك روايات كثيرة حتى أنه أسند إليه عدة من كتبه ولا أحقق قوله ولا أكذبه وأجله لموضعه من العلم عن الافتراء على الأئمة، وروى عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل فقيل‏:‏ له ما تقول فيما خاض الناس فيه من علم الكيمياء‏؟‏ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه ثم قال‏:‏ سألتموني عن أخت النبوة وتوأم المروة لقد كان وأنه لكائن وما من شجرة ولا مدرة ولا شيء إلا وفيه أصل وفرع أو أصل أو فرع قيل‏:‏ يا أمير المؤمنين أما تعلمه‏؟‏ قال‏:‏ والله تعالى أنا أعلم به من العالمين له لأنهم يتكلمون بالعلم على ظاهره دون باطنه وأنا أعلم العلم ظاهره وباطنه، قيل‏:‏ فاذكر لنا منه شيئاً نأخذه منك، قال‏:‏ والله تعالى لولا أن النفس أمارة بالسوء لقلت، قيل‏:‏ فما كان تقول‏؟‏ قال‏:‏ إني أعلم أن في الزئبق الرجراج والذهب الوهاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لكنوزاً لا يؤتى على آخرها يلقح بعضها ببعض فتفتر عن ذهب كامن، قيل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما نعلم هذا، قال‏:‏ هو ماء جامد وهواء راكد ونار حائلة وأرض سائلة قالوا ما نفقه هذا، قال‏:‏ لو حل للمؤمنين من أهل الحكمة أن يكلموا الناس على غير هذا لعلمه الصبيان في المكاتب اه كلام الطغرائي باختصار‏.‏

وذكر في كتابه مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة عن ستين نبياً وحكيماً أنهم قالوا بحقية هذا العلم، وفي القلب من صحة هذه الأخبار شيء، والأغلب على الظن أنه لو كان في الكيمياء خبر مقبول عند المحدثين لشاع ولما أنكرها من هو من أجلتهم كشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فإنه كان ينكر ثبوتها وألف رسالة في إنكارها، ولعل رد الشيخ نجم الدين ابن أبي الذر البغدادي وتزييفه ما قاله فيها كما زعم الصفدي إنما كان فيما هو من باب الاستدلالات العقلية فإن الرجل في باب النقليات مما لا يجاريه نجم الدين المذكور وأمثاله وهو في باب العقليات وإن كان جليلاً أيضاً إلا أنه دونه في النقليات، والمطلب دقيق حتى أن بعض من تعقد عليه الخناصر اضطرب في أمرها فأنكرها تارة وأقربها أخرى، فهذا شيخ الحكماء ورئيسهم أبو علي بن سينا سمعت ما نقل عنه أولاً، وحكى عنه الرجوع عنه، وعلى جودة ذهبنه وعلو كعبه في الحكمة بأقسامها لم يقف على حقيقة عملها حتى قال الطغرائي في تراكيب الأنوار ما ينقض عجبي من أبي علي بن سينا كيف استجاز وضع رسالة في هذا الفن فضح بها نفسه وخالف الأصول التي عنده وقصر فيها عن كثير من الحشوية الطغام المظلمة الأذهان الكليلة الأفهام‏.‏

وقال في «جامع الأسرار»‏:‏ إن الشيخ أبا علي بن سينا لفرط شغفه بهذا العلم وحدسه القوي بأنه حق صنف رسالة فيه فأحسن فيما يتعلق بأصول الطبيعيات ولخفاء طريق القوم واستعمائها دونه لم يذكر في التدابير المختصة بعلمنا لفظة صحيحة ولا أشار إلى ذكر المزاج الحق والأوزان والتراكيب المكتومة والنيران وطبقاتها والآلة التي لا يتم العمل إلابها وهي أحد الشرائط العشرة، ولم يتجاوز ما عند الحشوية من تدابير الزوابق والكباريت والدفن في زبل الخيل والتشاغل بهذه القاذورات ولولا آفة الإعجاب وحسن ظن الإنسان بعلمه وحرصه على أن لا يشذ عنه شيء من المعارف لكان من الواجب على مثله مع غزارة علمه وعلو طبقته في الأبحاث الحقيقية أن يكتفي بما عنده، ولا يتعرض لما لا يعلمه، وقد تأدى إلينا من تدابيره عن أصحابه الذين شاهدوها أنه لم يكن يعرف حقيقة علمنا، وقد رأينا بخطه من التعاريق الملتقطة من كلان جابر بن حيان، وخالد بن يزيد ما يدل أيضاً على ذلك اه ملخصاً، والكلام في هذا المطلب طويل وفيما ذكرنا كفاية لمن أحب الاطلاع على شيء مما قيل في ذلك، والله تعالى الموفق، ثم إن القول بأن المراد بالعلم في الآية علم استخراج الكنوز والدفائن يستدعي ثبوت هذا العلم، وأهل علم الحرف وعلم الطلسمات يقولون به ولهم في ذلك كلام طويل والعقل يجوز ثبوته، والله تعالى أعلم بثبوته في نفس الأمر‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً‏}‏ تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصاص، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال، والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل الله تعالى بمن هو أشد منه قوة حساً أو معنى وأكثر مالاً أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لا يغتر بما اغتر به، ويحتمل أن تكون الهمزة للانكار داخلة على مقدر، وجملة ولم يعلم حالية مقررة للإنكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك‏:‏ أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة، والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين، وقيل‏:‏ إن ‏{‏لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ عطف على ذلك المقدور نفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون‏}‏ الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للجرمين، وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام، والمراد بالسؤال المنفى هنا، وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏ على ما قيل‏:‏ سؤال الاستعلام، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92‏]‏ سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضاً، والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم، ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما عدد قارون بذكر اهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع واشنع من عذاب الآخرة فإن عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالإيقاع به لا محالة، وجعل الزمخشري الجملة تذييلاً لما قبلها، وقيل‏:‏ إن ذلك في الدنيا‏.‏

والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز وجل إلى مسألتهم عنها، وقيل‏:‏ إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون، والإفراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى، والمعنى ولا يسأل عن ذنوب أولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم، ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوب المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وكلا القولين كما ترى، وربما يختلج في ذهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالاً من فاعل أهلك أو من مفعوله؛ لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك‏.‏

وقرأ أبو جعفر في رواية ‏{‏وَلاَ تُسْئَلُ‏}‏ بتاء الخطاب والجزم ‏{‏المجرمين‏}‏ بالنصب، وقرأ أبو العالية‏.‏ وابن سيرين ‏{‏وَلاَ تُسْئَلُ‏}‏ كذلك ولم ندر أنصبا المجرمين كأبي جعفر أم رفعاه كما هو في قراءة الجمهور، والظاهر الأول، وجوز صاحب اللوامح الثاني، وذكر له وجهين‏:‏ الأول أن يكون ضمير ذنوبهم للمهلكين من القرون وارتفاع المجرمين باضمار المبتدأ أي هم المجرمون‏.‏ والثاني أن يكون المجرمون بدلاً من ضمير ذنوبهم باعتبار أن أصله الرفع لأن إضافة ذنوب إليه بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل وأورد على هذا أن ذنوب جمع فإن كان جمع مصدر ففي إعماله خلاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَرَجَ على قَوْمِهِ‏}‏ عطف على ‏{‏قال‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وما بينهما اعتراض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى زِينَتِهِ‏}‏ إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائناً في زينته‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان‏.‏ وقال السدى‏:‏ خرج في جوار بيض على سروح من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلى ذهب، وقيل‏:‏ خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلثمائة غلام وعلى يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والديباج‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم في الأرض رؤيت المعصفرات فيه، وقيل غير ذلك من الكيفيات، وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت ‏{‏قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون‏}‏ قيل كانوا جماعة من المؤمنين، وقالوا ذلك جرياً على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار‏.‏ وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبيل الخير، ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فإن إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين، وقيل‏:‏ كانوا كفاراً ومنافقين، وتمنيهم مثل ما أوتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور، وقيل‏:‏ ضرره دون ضرر الحسد «فقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل يضر الغبط‏؟‏ فقال‏:‏ لا إلا كما يضر العضاة الحبط» وفي الكشاف الظاهر أنه نفي للضرر على أبلغ وجه فإن الشجر ربما ينتفع بالخبظ فضلاً عن التضرر، وفيه أنه قد يفضي إلى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي، وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه ‏{‏إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ أي درجة عظيمة، وقيل نصيب كثير من الدنيا، والحظ البخت والسعد، ويقال‏:‏ فلأن ذو حظ وحظيظ ومحظوظ، والجملة تعليل لتمنيهم وتأكيد له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام، وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيهاً على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الأعراض عن الأولى والإقبال على الأخرى حتماً، وأن تمنى المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما يمنبغي‏.‏

وقيل المراد بالعلم‏:‏ معرفة الثواب والعقاب، وقيل‏:‏ معرفة التوكل، وقيل‏:‏ معرفة الأخبار، وما تقدم أولى ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الرجز عما لا يرتضى، والمراد به هنا الزجر عنالتمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه ‏{‏ثَوَابُ الله‏}‏ في الآخرة ‏{‏ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز وجل، هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك، وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه، ويجوز أن يقدر عاماً ويدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً أي خير من الدنيا وما فيها ‏{‏وَلاَ يُلَقَّاهَا‏}‏ أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء، والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب، والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب، وقيل‏:‏ الإيمان والعمل الصالح، والتأنيث والإفراد باعتبار أنهما بمعنى السيرة أو الطريقة، ومعنى تلقيها إما فهمها أو التوفيق للعمل بها ‏{‏إِلاَّ الصابرون‏}‏ على الطاعات وعن المعاصي والشهوات، ولعل المراد بالصابرين على القول الأخير في مرجع الضمير المتصفون بالصبر في علم الله تعالى فتدبر

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض‏}‏‏.‏

روى ابن أبي شيبة في المصنف‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححه‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علماً فلم يزل في ذلك حتى بغي على موسى عليه السلام وحسده، فقال موسى‏:‏ إن الله تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال‏:‏ إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم، قالوا‏:‏ لا نحتمل فما ترى‏؟‏ فقال لهم‏:‏ أرى أن أرسل إلا بغي من بغا يابني إسرائيل فنزرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها‏:‏ نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك‏.‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال‏:‏ اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك‏.‏ قال‏:‏ نعم فجمعهم فقالوا له‏:‏ بما أمرك ربك‏؟‏ قال‏:‏ أمرني أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم‏.‏ قالوا‏:‏ وإن كنت أنت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ فإنك قد زنيت‏.‏ قال‏:‏ أنا فأرسلوا إلى المرأة فجاءت‏.‏ فقالوا‏:‏ ما تشهدين على موسى عليه السلام‏؟‏ فقال لها موسى عليه السلام‏:‏ أنشدك بالله تعالى إلا ما صدقت‏.‏ فقالت‏:‏ أما إذ أنشدتني بالله تعالى فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله فخر موسى عليه السلام ساجداً يبكي فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك‏؟‏ قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال‏:‏ خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون‏:‏ يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال‏:‏ خذيهم فغيبتهم فأوحى الله تعالى يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغي ألف دينار، وقيل‏:‏ طستا من ذهب مملوءة ذهباً، وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده‏:‏ يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال‏:‏ يا بني إسرائيل إن الله تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين‏.‏ ثم قال‏:‏ يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلا الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى الله تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترجمهم أما وعزتي لو أياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً، وفي رواية أن الله سبحانه أوحى إليه ما أشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته، فقال عليه السلام‏:‏ رب غضبا لك فعلت‏.‏

ثم إن بني إسرائيل قالوا‏:‏ إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله‏.‏ وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد، وكانت داره فيما قيل‏:‏ من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم بصحة ذلك، بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلاً، وأما الخسف فلا شك في إمكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله ‏{‏فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ‏}‏ أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته، وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض؛ وهو محذوف اللام ووزنه فعة، وقال الراغب‏:‏ إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض و‏{‏مِنْ‏}‏ صلة أي فما كان له فئة ‏{‏يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله‏}‏ بدفع العذاب عنه ‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ أي بنفسه ‏{‏مِنَ المنتصرين‏}‏ أي الممتنعين عن عذابه عز وجل، يقال؛ نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع، ويحتمل أن يكون المعنى وما كان منّ المنتصرين بأعوانه فذكر ذلك للتأكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ‏}‏ أي مثل مكانه ومنزلته لما تقدم من قولهم ‏{‏مثل ما أوتي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 79‏]‏، وجوز كون هذا على ظاهره و‏{‏مَثَلُ‏}‏ هناك مقحمة وليس بذاك ‏{‏بالامس‏}‏ منذ زمان قريب وهو مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة والجار والمجرور متعلق بتمنوا أو بمكانه، قيل‏:‏ والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في ‏{‏فَخَسَفْنَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 81‏]‏ يدل عليه‏.‏

وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلاً وهو أفظه العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون، وقال بعضهم‏:‏ هي بمعنى صار أي صار المتمنون‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ‏}‏ أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق، ووى عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضاً كما صرحوا به، وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم ‏{‏وى‏}‏ وكل من ندم وأراد اظهار ندمه قال ‏{‏وى‏}‏، ولعل الأظهر إرادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أو لا مما وقع وقالوا ثانياً كأن الخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله‏:‏

وأصبح بطن مكة مقشعرا *** كأن الأرض ليس بها هشام

وأنشد أبو علي‏:‏

كانني حين أمسى لا تكلمني *** متيم يشتهي ما ليس موجوداً

وقيل‏:‏ هي غير عارية عن ذلك، والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها إشارة إلى أنه لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن ‏{‏وى‏}‏ للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن الله تعالى يبسط الخ، وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد، وأياً ما كان فالوقف كما في البحر على ‏{‏وى‏}‏ والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

وى كأن من يكن له نشب يح *** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر

وقال الأخفش‏:‏ الكاف متصلة بها وهي اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب كما قالوا في ذلك ونحوه، والوقف على ويك، وعلى ذلك جاء قول عنترة‏:‏

ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها *** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم و‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن الله الخ، وذهب الكسائي‏.‏ ويونس‏.‏ وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك، وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لا يرضى، وقال أبو حيان‏:‏ هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله‏:‏

ألاويك المضرة لا تدوم *** ولا يبقى على البؤس النعيم

والكاف على هذا في موضع جر بالإضافة، والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك، وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير، وقال الفراء‏:‏ ويك في كلام العرب كقول الرجل‏:‏ ألا ترى إلى صنع الله تعالى شأنه، وقال أبو زيد وفرقة معه‏:‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر‏.‏

‏{‏لَوْلا أَن مَّنَّ عَلَيْنَا‏}‏ بعدم اعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون ‏{‏لَخَسَفَ بِنَا‏}‏ أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏لَوْلاَ مِنْ‏}‏ بحذف ‏{‏ءانٍ‏}‏ وهي مرادة، وروي عنه من الله برفع من والإضافة‏.‏

وقرأ الأكثر ‏{‏لَخَسَفَ بِنَا‏}‏ على البناء للمفعول و‏{‏بِنَا‏}‏ هو القائم مقام الفاعل، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا، وقرأ ابن مسعود‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏لا نَخْسِفْ بِنَا‏}‏ على البناء للمفعول أيضاً و‏{‏بِنَا‏}‏ أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل، وعنه أيضاً ‏{‏لتخسف‏}‏ بتاء وشد السين مبنياً للمفعول ‏{‏بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة، والكلام في ويكأن هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلاً لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا، وضمير ويكأنه للشأن‏.‏

هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏ عليه السلام، وقيل‏:‏ هي متصلة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 60‏]‏، وقيل‏:‏ لما تقدم خزى الكفاء وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم ‏{‏ثَوَابُ الله خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 80‏]‏ ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الدار الاخرة‏}‏ مشيراً إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل‏:‏ تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، و‏{‏الدار‏}‏ صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، و‏{‏الاخرة‏}‏ صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً وَفِى الارض‏}‏ أي غلبة وتسلطاً ‏{‏وَلاَ فَسَاداً‏}‏ أي ظلماً وعدواناً على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس المصوول مخصوصاً بهما، وفي إعادة ‏{‏لا‏}‏ إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك ءرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال‏:‏ العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنلزة عند سلاطينها وملوكتها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه‏.‏

وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي، وأخرج ابن مردويه‏.‏ وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏تِلْكَ الدار الاخرة‏}‏ الخ، في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً فأسلم رضي الله تعالى عنه، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال‏:‏ ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض، وأخرج ابن أبي سيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية‏.‏

ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا فقد روي أبو داود عن أبي هريرة أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جميلاً فقال‏:‏ يا رسول الله إني رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك لعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك‏؟‏ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس‏.‏

وروي مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً قال‏:‏ إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس» واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظهار في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون‏.‏ ورد بأن التذييل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين‏.‏

وأجيب بأن المتقي ههنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعاً به لا سيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعاً بها وليس معنى المتقي إلا ذلك‏.‏ وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي‏:‏ إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علواً وفساداً‏:‏ إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيأ منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك‏:‏ جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل‏:‏ إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم؛ ويقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ نحو ما مر آنفاً عن الخفاجي‏.‏ بقي في الآية كلام آخر، وهوان بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معني ‏{‏نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ‏}‏ الخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعدياً إلى مفعولين ثانيهما ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ‏}‏ الخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى ‏{‏نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ‏}‏ الخ نمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏ فلا يمكن أن تكون نفس اجلنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتميكن من التمكن وإن كان لازماً لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك‏:‏ جعلت الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكناً فيها بالفعل فتدبر ذلك كله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ‏}‏ بمقابلتها ‏{‏خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ ذاتاً ووصفاً وقدراً على ما قيل، وجوز كون ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ واحد الخيور وليس بأفعل التفضيل و‏{‏مِنْ‏}‏ سببية أي فله خير بسبب فعلها وهو خلاف الظاهر، وقد تقدم الكلام في ذلك ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يَجْزِى الذين عَمِلُواْ السيئات‏}‏ وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حال المسيئين بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفي جمع السيئات دون الحسنة قيل إشارة إلى قلة المحسنين وكثرة المسيئين، وقد يقال‏:‏ إنه إشارة إلى أن ضم السيئة إلى السيئة لا يزيد جزاءها بل جزائها إذا انفردت مثل جزائها إذا انضم إليها غيرها وأن عدم ضم الحسنة إلى الحسنة لا يؤثر في مقابلتها بما هو خير منها، ولعل قلة المحسنين يفهم من عدم اعتبار الجمعية في ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ وكثرة المسيئين تفهم من اعتبار الجمعية فيها إذ الموصول قائم مقام ضميرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يَجْزِى الذين عَمِلُواْ السيئات‏}‏ ‏{‏إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماقلة، وهذا لطف منه عز وجل إذ ضاعف الحسنة ولم يرض بزيادة جزاء السيئة مقدار ذرة، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى اعتبار المضاف فإن أعمالهم أنفسها تظهر يوم القيامة في صورة ما يعذبون به، ولا يخفى ما فيه، وفي ذكر عملوا ثانياً دون جاؤوا إشارة إلى أن ما يجزون عليه ما كان عن قصد لأن العمل يخصه كما قال الراغب، وفي التفسير الكبير للإمام الرازي في أثناء الكلام على تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ الآية أن في التعبير بجاء دون عمل بأن يقال‏:‏ من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة الخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقابمستفاد من الخاتمة لا من أول العمل، ويؤكد ذلك أنه لو مضي عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد، ولا يخلو عن حسن، ولعل نكتة التعبير بعملوا ثانياً تتأتى عليه أيضاً‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَجْزِى‏}‏ الخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب، ولله تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره، واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد، وأين هو من كفر ساعة‏؟‏ وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للأفعال، وقصارى ما نعلم أن الله تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز وجل أنه مماثل له، وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه، وكذا يقال في الذنوب التي شرع الله تعالى لها حدوداً في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها فإنا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة، وأجاب الإمام عن مسألة الكفر وعذاب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازماً أنه لو عاش إلا الأبد لبقي على ذلك الكفر، وقيل‏:‏ في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسبل تفاوت عظمة المعصى فكلما كان المعصى أعظم كان الجزاء أعظم، فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهي عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناع، وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلاً منه تعالى شأنه لمكان الإيمان، وقيل أيضاً‏:‏ إن كل كفر قولاً كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص إليه عز وجل المانفي لوجوب الوجود المقتضى لوجوده سبحانه أزلا وأبداً وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزماً نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر‏.‏