فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ‏}‏ عطف على مقدر تقديره فإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وإن تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث ‏{‏فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ‏}‏ وهذا تعليل للجواب في الحقيقة، والأصل فلا تضرونني بتكذيبكم فإنه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث‏.‏ وإدريس‏.‏ ونوح‏.‏ وهود‏.‏ وصالح عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئاً وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلاً‏.‏

وهذه الآية أعني ‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ‏}‏ الخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 24‏]‏ وجوز أن يكون ذلك اعتراضاً بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، قالوا‏:‏ وفي ‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ‏}‏ اعتراضية، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله عليه وسلم على معنى وقل لقريش ‏{‏ءانٍ تُكَذّبُواْ‏}‏ الخ‏.‏

وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءانٍ تُكَذّبُواْ‏}‏ الخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق‏}‏ الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداءً من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو بكر بخلاف عنه ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ‏}‏ بتاء الخطاب، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول، ومن لم يجعل ذلك كلاماً مستأنفاً مسوقاً من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال‏:‏ إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ‏}‏‏.‏

ووجه ذلك بأنه جعل ضمير ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏ فيجعل في قراءة الخطاب له أيضاً ليتحد معنى القراءتين، وحينئذٍ يحتاج لتقدير القول ليحكى خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏ لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 20‏]‏ الخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولاً، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل له العلم بكيفية الخلق، والقول بأن الأول دليل أنفسي، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه اه فتدبر، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين‏.‏

وقرأ الزبيري‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو عمرو بخلاف عنه ‏{‏كَيْفَ يَبْدَأُ‏}‏ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفاً كما ذكره الهمداني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ عطف على ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ لا على يبدىء لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوماً لهم كان تحصيلاً للحاصل‏.‏

وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الإعادة، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض‏}‏ أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام، ومن جعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 24‏]‏ اعتراضاً جعل هذا أمراً لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لقريش‏.‏

وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمراً للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر‏.‏ وأياً ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير، والسير كما قال الراغب‏:‏ المضي في الأرض، وعليه يكون في الآية تجريد، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم، وجوز أن يراد به إجالة الفكر‏.‏ وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب، والمعنى على ما قلنا أولاً امضوا في الأرض وسيحوا فيها‏.‏

‏{‏فانظروا كَيْفَ بَدَأَ‏}‏ الله تعالى ‏{‏الخلق‏}‏ أي كيف خلقهم ابتداءً على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال‏.‏ ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني ‏{‏يَبْدَأُ‏}‏ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة، وأنت إذا لاحظت أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقاً ذاتياً وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور‏.‏ وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الأفعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا‏:‏ أنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع ‏{‏يُعِيدُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 19‏]‏، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا يَسْرِ‏}‏

‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ من أن ذلك لأن الليل يسري فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق‏.‏

وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناءً على المعنى الثاني في الآية‏.‏ وقال بعضهم في تغاير الدليلين‏:‏ إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏كَيْفَ بَدَأَ الخلق‏}‏ بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً ثم حذفها في الوصل‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وهو تخفيف غير قياسي كما قال‏:‏

فارعي فزارة لا هناك المرتع ***، وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ‏{‏ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الاخرة‏}‏ أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسماً من حيث أن كلاً منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل‏.‏

والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم الكلية ثم يعاد خلقاً جديداً لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض، والأدلة متعارضة، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية‏.‏ وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما تقولون أتعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعاً أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض‏؟‏ قلنا‏:‏ كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء، وقد يقال‏:‏ إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعاً محضاً وإخراجاً من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدماً محضاً بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره‏.‏ نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدراً في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وحينئذٍ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعاً محضاً وإخراجاً من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل، والجملة معطوفة على جملة ‏{‏سِيرُواْ فِى الارض‏}‏ داخلة معها في حيز القول، ولا يضر تخالفهما خبراً وإنشاءاً فإنه جائز بعد القول وماله محل من الإعراب، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعاً للنظ أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكير في الدليل لا في النتيجة، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه، وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم، وقرأ أبو عمرو‏.‏

وابن كثير ‏{‏النشاءة‏}‏ بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشىء فينشأون النشأة الآخرة نحو ‏{‏أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعدما أخبر به، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة، ومنهم من يقول باستحالته عقلاً فلا يصلح متعلقاً للقدرة، وهؤلاء هم القائلون باستحالة إعادة المعدوم، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها ‏{‏وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء‏}‏ رحمته وهم المقرون بها ‏{‏وَإِلَيْهِ‏}‏ سبحانه لا إلى غيره ‏{‏تُقْلَبُونَ‏}‏ أي تردون، والجملة تقرير للإعادة وتوطئة لما بعد، وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم ‏{‏فِي الارض وَلاَ فِى السماء‏}‏ أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض *فانفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏ أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل، وهو خلاف الظاهر، وقال ابن زيد‏.‏ والفراء‏:‏ إن ‏{‏فِى السماء‏}‏ صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر؛ والتقدير ولا من في السماء بمعجز، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان‏:‏

أمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

على ما هو الظاهر فيه، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت، وبأن فيه حذف الخبر أيضاً مع عدم الحاجة إليه، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفاً على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال‏:‏ التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز وجل، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى‏.‏

وقيل ليس في الآية حذف أصلاً، والسماء هي المظلة إلا أن ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ‏}‏ يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ يدفعه عنكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بآيات الله‏}‏ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولاً أولياً، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام ‏{‏وَلِقَائِهِ‏}‏ الذي تنطق به تلك الآيات ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز وجل ‏{‏يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى‏}‏ أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاءً ولا خوفاً؛ إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم، وأن يكون الكلام على الاستعارة‏.‏

شبهوا بالآيسين من الرحمة وهم الذين ماتوا على الكفر لأنه ما دامت الحياة لا يتحقق اليأس من الرحمة لرجاء الإيمان، أو من قدر آيساً من الرحمة على الفرض دلالة على توغلهم في الكفر وعدم ارعوائهم‏.‏ وقرأ الذماري‏:‏ وأبو جعفر، ‏{‏ييسوا‏}‏ بغير همز بل بياء بدل الهمزة ‏{‏رَّحْمَتِى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في تكرير اسم الإشارة وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على فظاعة حالهم ما لا يخفى‏.‏ لكن قال الإمام‏:‏ إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه عز وجل دون العذاب ليؤذن بأن رحمته جل وعلا سبقت غضبه سبحانه، وأنت تعلم أن في الآية على هذا دلالة على سوء حالهم أيضاً لإفادتها أنهم حرموا تلك الرحمة العظيمة بما ارتكبوه من العظائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ‏}‏‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وسالم الأفطس بالرفع على العكس، وقد مر ما فيه في نظائره، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم‏:‏ اقتلوه فتستريحوا منه عاجلاً أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، وأياً ما كان ففيه إسناد للبعض إلى الكل، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم، بل ءن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى ‏{‏فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار‏}‏ الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه برداً وسلاماً حسبما بين في مواضع أخر، وقد مر بيان كيفية القائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرهى وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي في إنجائه عليه السلام منها ‏{‏لايات‏}‏ بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها‏.‏

وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به، ولولا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون الفحص عنها، والتأمل فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ إبراهيم عليه السلام مخاطباً لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار‏.‏

‏{‏إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا‏}‏ أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج، أو المعنى إن المودة بعضكم بعضاً هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئاً فيفعله مودّة له، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولاً له في الخارج، والمراد نفي أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمراً موهوماً لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسبباً حاملاً لمن له أدنى عقل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناساً مخصوصين، والقائلون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ أناساً غيرهم، وقيل‏:‏ إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصورا حجاراً بصورهم حباً لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلاً فجيلاً حتى عبدت، فالآية إشارة إلى ذلك، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثاناً الخ، ومثله في القرآن الكريم كثير، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف تقديره آلهة‏.‏

وقال مكي‏:‏ يجوز أن يكون اتخذ متعدياً إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏ ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضاً، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب، وقد يستغني عن التقدير بتأويل مودة بمودودة، أو بجعلها نفس المودة مبالغة، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر‏.‏ وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفاً وإنما تفيد تخفيفاً في اللفظ، كذا قيل‏:‏ وهو كما ترى‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو بكر ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له، وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والكسائي‏.‏ ورويس ‏{‏مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ‏}‏ برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين الإضافة، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة؛ والجملة صفة أوثاناً، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية، أي إن اتخاذكم، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودة بينكم، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وأبو عمرو في رواية الأصمعي‏.‏ والأعشى عن أبي بكر ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بالرفع والتنوين ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ بالنصب، ووجه كل معلوم مما مر‏.‏ وروي عن عاصم ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بالرفع من غير تنوين و‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ بفتح النون، جعله مبنياً لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه، ولذا سقط التنوين منها‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي الحياة الدنيا‏}‏ على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء‏.‏ الأول‏:‏ أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر‏.‏ الثاني‏:‏ أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناءً على أن الصدر إذا وصف لا يعمل مطلقاً، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف‏.‏ الثالث‏:‏ أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم‏.‏ الرابع‏:‏ أن يجعل حالاً من بينكم لتعرفه بالإضافة‏.‏ وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان‏.‏ الخامس‏:‏ أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها، وأجاز ذلك مكي‏.‏ وأبو حيان أيضاً‏.‏ السادس‏:‏ أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفاً متعلقاً بها أيضاً، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما‏.‏ السابع‏:‏ أن يجعل حالاً من الضمير في بينكم إذا جعل وصفاً لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك‏.‏ وقال مكي‏:‏ لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة‏.‏ وعن ابن مسعود أنه قرأ ‏{‏إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا إِنَّمَا *مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا‏}‏ بزيادة ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ بعد أوثاناً ورفع ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة‏}‏ يتبدل الحال حيث ‏{‏يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ‏}‏ وهم العبدة ‏{‏بِبَعْضِ‏}‏ وهم الأوثان ‏{‏وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏ أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان‏.‏

‏{‏مِنَ النار‏}‏ أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبداً‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين‏}‏ يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ‏}‏ أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل، فإنه عليه السلام كان متنزهاً عن الكفر، وما قيل‏:‏ إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يرادب الإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد، ولوط على ما في «جامع الأصول» ابن أخيه هاران بن تارح، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية ‏{‏وَقَالَ‏}‏ إبراهيم عليه السلام‏:‏ كما ذهب إليه قتادة‏.‏ والنخعي، وقيل‏:‏ الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك، والجملة استئناف بياني كأنهق يل‏:‏ فماذا كان منه عليه السلام‏؟‏ فقيل‏:‏ قال ‏{‏إِنّى مُهَاجِرٌ‏}‏ أي من قومي ‏{‏إلى رَبّى‏}‏ أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، وقيل‏:‏ إلى حيث لا أمنع عبادة ربي، وقيل‏:‏ المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقرباً إلى ربي ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ عز وجل ‏{‏هُوَ العزيز‏}‏ الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي‏.‏

روي أنه عليه السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطاً وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام، وكان عمره إذ ذاك على ما في «الكشاف» و«البحر» خمساً وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ ولداً ونافلة حين أيس من عجوز عاقر، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه السلام، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل، وقيل لأنه لا يناسب ذكره ههنا لأنه ابتلى بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس، وقال الزمخشري‏:‏ إنه عليه السلام ذكر ضمناً وتلويحاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب‏}‏ ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ‏}‏ على ما عمل لنا ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ بأنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه‏.‏

وقد يضم إلى ذلك أيضاً استمرار النبوة في ذريته، وقال السادي‏:‏ إن ذلك إراءته عليه السلام مكانه من الجنة، وقال بعضهم‏:‏ هو التوفيق لعمل الآخرة، وقيل‏:‏ هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر، وقال الماوردي‏:‏ هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيببة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏ أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص، كأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه‏:‏ وجمعنا له ما ذكر خير الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ عطف على ‏{‏إبراهيم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16‏]‏ أو على ‏{‏نوحاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ والكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ كالذي في القصة السابقة‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ الفعلة البالغة في القبح، وقرأ الجمهور ‏{‏أَئِنَّكُمْ‏}‏ على الاستفهام الإنكاري‏:‏

‏{‏سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ استئناف مقرر لكمال قبحها، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة، وجوز أبو حيان كون الجملة حالاً من ضمير تأتون، كأنه قيل‏:‏ إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال‏}‏ أي تنكحونهم ‏{‏وَتَقْطَعُونَ السبيل‏}‏ أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرهاً أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث، وقيل‏:‏ تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال، وقيل‏:‏ تقطعونه بقبح الأحدوثة ‏{‏وَتَأْتُونَ‏}‏ أي تفعلون ‏{‏فِى نَادِيكُمُ‏}‏ أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة، ولا يسمى نادياً إلا إذا كان فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يطلق عليه ناد ‏{‏المنكر‏}‏ أخرج أحمد‏.‏ والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه‏.‏ والطبراني‏.‏ والبيهقي في الشعب‏.‏ وغيرهم عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت‏:‏ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى ‏{‏وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر‏}‏ فقال‏:‏ كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم، وعن مجاهد‏.‏ ومنصور والقاسم بن محمد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد‏.‏ هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً، وعن مجاهد أيضاً هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وأما إبراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عز وجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في «البحر»‏.‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في «الكشف» وغيره، وهذا ظاهر في أنه عليه السلام كان أوعدهم بالعذاب، وقيل‏:‏ أي دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري، وقيل‏:‏ أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك‏.‏ وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه السلام، وما في سورة الأعراف المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏ الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏ الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود‏.‏

وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف‏.‏ وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر، وذلك أن ‏{‏ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات و‏{‏أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏ ونحوه من باب التعذيب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر، وقيل في دفع المنافاة بين الحصرين‏:‏ إن ما هنا جواب قومه عليه السلام له إذ نصحهم، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره، وقيل‏:‏ إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم والآخر صدر عن غيرهم، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه عليه السلام في متابعته فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى‏}‏ أي بإنزال العذاب الموعود ‏{‏عَلَى القوم المفسدين‏}‏ بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى‏}‏ أي بالبشارة بالولد والنافلة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام ‏{‏أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية‏}‏ أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولاً على ما قيل، ولذا خصت بالذكر، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محمل إبراهيم عليه السلام وإضافة ‏{‏مهلكوا‏}‏ إلى ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ‏}‏ لفظية لأن المعنى على الاستقبال، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة ‏{‏إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين‏}‏ تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَهْلَهَا‏}‏ دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصاً على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي‏.‏

وقال بعض المدققين‏:‏ إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطاً عليه السلام، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليه السلام كما هو ظاهر قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون عليه السلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه، وقيل‏:‏ أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهركون، وكأنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا‏}‏ دون إن منهم إشارة إلى ذلك، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ اعتراض على الرسل عليهم السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطاً بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلاً في الأهل، ويؤيد ذلك تأييداً ما قول قومه ‏{‏أخرجوا آل لوط من قريتكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏ وفهم إبراهيم عليه السلام ما أرادواه وعلم أن لوطاً ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه‏.‏

ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعضروا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى‏}‏ وجل قصده إن لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولاً بمزيد علمهم به وأفادوه ثانياً بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالانثى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ وأكدوا الوعد بالتنيجة إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في حقه، وتحمل النجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فإنها بهذا المعنى الفرد الأكمل، ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين، ثانيهما ما روى عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل، فكلام الله تعالى ذو وحوه، وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليه السلام المؤمنين، وجملة ‏{‏كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا‏}‏ المذكورون بعد مفارقتهم إبراهيم عليه السلام ‏{‏لُوطاً سِىء بِهِمْ‏}‏ أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء، وقد جاءوا إليه عليه السلام بصور حسنة إنسانية‏.‏

وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏بِهِمُ‏}‏ للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم، وكذا ضمير ‏{‏بِهِمُ‏}‏ الآتي وليس بشيء، و‏{‏ءانٍ‏}‏ مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل‏:‏ لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث‏.‏

‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم‏:‏ ضاقت يده، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً له قادراً عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ عطف على سيء، وجوز أن يكون عطفاً على مقدر أي قالوا‏:‏ إنا رسل ربك وقالوا الخ، وأياً ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر، وعلهي فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به‏.‏

وقال الطبرسي‏:‏ المعنى لا تخف علينا وعليك وتحزن بما نفعله بقومك‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ‏}‏ فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ إنها ‏{‏كَانَتْ‏}‏ في علم الله تعالى ‏{‏مِنَ الغابرين‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏{‏لَنُنَجّيَنَّهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏ بالتخفيف من الإنجاء، ووافقهم ابن كثير في الثاني‏.‏

وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد، وفرقة بتخفيفها وأياً ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالإضافة، ولذا حذفت النون عند سيبويه و‏{‏مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك، وذهب الأخفش‏.‏ وهشام إلى أن الكاف في محل النصب وأهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للإضافة، قال بعض الأجلة‏:‏ لا مانع من أن يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها بالاعتبارين، وقرأ نافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ والكسائي ‏{‏سِىء‏}‏ باشمام السين الضم، وقرأ عيسى‏.‏ وطلحة ‏{‏سُوء‏}‏ بضمها وهي لغة بني هذيل‏.‏ وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله‏:‏

حوكت على نولين إذ تحاك *** تحتبط الشوك ولا تشاك

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء‏}‏ استئناف مسوق لبيان ما أشير إليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم، والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم‏:‏ ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرأ ابن عامر ‏{‏مُنزِلُونَ‏}‏ بالتشديد‏.‏ وابن محيصن ‏{‏رِجْزًا‏}‏ بضم الراء ‏{‏بِمَا يَفْسُقُونَ‏}‏ أي بسبب فسقهم المعهود المستمر، وقرأ أبو حيوة‏.‏ والأعمش بكسر السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ‏}‏ متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين ‏{‏أخاهم شُعَيْباً فَقَالَ‏}‏ لهم ‏{‏ياقوم اعبدوا الله‏}‏ وحده ‏{‏وارجوا اليوم الاخر‏}‏ أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة للمسبب مقام السبب، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، وجوز أن لا يقدر مضاف، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه، وقيل‏:‏ الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدون ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ حال مؤكدة لأن العثو الفساد ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان، وقيل‏:‏ من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا‏}‏ أي من القرية على ما عليه الأكثر ‏{‏ءايَةً بَيّنَةً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي آثار ديارها الخربة، وقال مجاهد‏:‏ هي الماء الأسود على وجه الأرض، وقال قتادة‏:‏ هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقد أدركتها أوائل هذه الأمة، وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن؛ وأنكر ذوو الأبصار ذلك، وقال الفراء‏:‏ المعنى تركناها آية كما يقال‏:‏ إن في السماء آية ويراد أنها آية‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه إلا على زيادة ‏{‏مِنْ‏}‏ في الواجب نحو قوله‏:‏

أمهرت منها جبة وتيساً *** يريد أمهرتها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن ذلك نظير قولك‏:‏ رأيت منه أسداً، وقيل‏:‏ الآية حكايتها العجيبة الشائعة، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏مِنْهَا‏}‏ للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر‏.‏

ولا يخفى معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ على هذه الأقوال ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، فالفعل منزل منزلة اللازم و‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ متعلق بتركنا أو ببينة، واستظهر الثاني هذا، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى، فهي كبيرة بالاجماع، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا وفي «شرح المشارق» للأكمل أنها محرمة عقلاً وشرعاً وطبعاً، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها، وقال بعض العلماء‏:‏ إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف، ففي الفتح قيل‏:‏ إن كانت حرمتها عقلاً وسمعاً لا تكون في الجنة وإن كانت سمعاً فقط جاز أن تكون فيها، والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ العالمين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28‏]‏ وسماها خبيثة فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 74‏]‏ والجنة منزهة عنها‏.‏ وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثاً في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة، وفيه بحث، لأن حبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة‏.‏ وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلاً للقاذورات، وعليه فعدم وجودها في اجلنة ظاهر، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سراً أو علناً، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه، وهذا وإن لم يكن قطعياً في عدم وقوع اللواطة مطلقاً في اجلنة إلى أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ‏}‏ بسبب تكذيبهم إياه ‏{‏الرجفة‏}‏ أي الزلزلة الشديدة وفي سورة هود ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94‏]‏ أي صيحة جبريل عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض، وفسر مجاهد الرجفة هنا بالصيحة، فقيل‏:‏ لذلك؛ وقيل‏:‏ لأنها رجفت منها القلوب ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ‏}‏ أي بلدهم فإن الدار تطلق على البلد، ولذا قيل‏:‏ للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة، ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحد‏.‏

‏{‏جاثمين‏}‏ أي باركين على الركب، والمراد ميتين على ما روى عن قتادة‏.‏

وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم‏:‏ جثم الطائر إذا قعد ولطىء بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَاداً وَثَمُودَ‏}‏ منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 37‏]‏ أي وأهلكنا عاداً وثمود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم‏}‏ عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها‏.‏ وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهباً إلى الشام وإياباً منه، وجوز كون ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، وقيل‏:‏ هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عاداً وثمود‏.‏

والمراد ذكر قصتهما أو باضمار اذكر خطاباً له صلى الله عليه وسلم، وجملة ‏{‏قَد تَّبَيَّنَ‏}‏ حيالية، وقيل‏:‏ هي بتقدير القول أي وقل‏:‏ قد تبين، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عاداً وثمود قائلاً قر مررتم على مساكنهم وقد تبين لكمن الخ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة في الواجب، ويؤيده قراءة الأعمش ‏{‏مساكنهم‏}‏ بالرفع من غير من، وكون ‏{‏مِنْ‏}‏ هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله‏.‏

وقيل‏:‏ هما منصوبان بالعطف على الضمير في ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 37‏]‏ والمعنى يأباه، وقال الكسائي‏:‏ منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 3‏]‏ وهو كما ترى، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولاً وهو الذي ينبغي أن يعول عليه‏.‏ وقرأ أكثر السبعة ‏{‏وَثَمُودَاْ‏}‏ بالتنوين بتأويل الحي، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة، وقرأ ابن وثاب ‏{‏وَعَادٌ وَثَمُودُ‏}‏ بالخفض فيهما والتنوين عطفاً على ‏{‏مدين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 36‏]‏ على ما في «البحر» أي وأرسلنا إلى عاد وثمود ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان‏}‏ بوسوسته وإغوائه ‏{‏أعمالهم‏}‏ القبيحة من الكفر والمعاصي ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق، وحمله على الاستغراق حصراً له في الموصل إلى النجاة تكلف ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم‏.‏

‏{‏مُسْتَبْصِرِينَ‏}‏ أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل‏:‏ عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عناداً وجحوداً، وقيل‏:‏ متبينين أن العذاب لاحق بهم بأخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا‏.‏

وعن قتادة‏.‏ والكلبي‏.‏ كما في «مجمع البيان» أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنهم على هدى‏.‏ وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال‏:‏ أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر، وهو مروي كما في «البحر» عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان‏}‏ معطوف على ‏{‏عاداً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 38‏]‏، وتقدم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له، وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي، أو لأن حاله أوفق بحال عاد أو ثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئاً كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئاً، أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع، أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لايمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام، ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئاً ولا ينقذ من غضب الله تعالى على الكفر ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا‏}‏ عن الأيمان والطاعة ‏{‏فِى الارض‏}‏ إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُواْ سابقين‏}‏ أي فائتين أمر الله تعالى، من قولهم‏:‏ سبق طالبه أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك، وقال أبو حيان‏:‏ المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الفكر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام، وليس بذاك وأياً ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا القارون وفرعون‏.‏ وهامان، وقيل‏:‏ الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقاً وضمير كانوا لجميع المهلكين، وفيه تبر للنظم الجليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ‏}‏ هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه، وقال أبو السعود‏:‏ هذا تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ، وفي القلب منه شيء‏.‏ وكأنه اعتبر رجوع ضمير ‏{‏كانوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 39‏]‏ إلى المهلكين، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق، وقال الفاضل‏:‏ المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضاً دون بعض، وبحث فيه بأن كلاً متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضاً إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالاً وجواباً لا يخفى على من أحاط علماً بما قيل في قولهم‏:‏ كل رجل وضيعته‏.‏ وقولهم‏:‏ الترتيب جعل كل شيء في مرتبته، وهو شهير بين الطلبة ‏{‏فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً‏}‏ أي ريحاً عاصفاً فيها حصباء، وقيل‏:‏ ملكاً رماهم بالحصباء وهم قوم لوط‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة‏}‏ هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ‏}‏ دفعاً لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض‏}‏ وهو قارون ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا‏}‏ وهو فرعون ومن معه، وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضاً‏.‏ واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة، ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها، وقوم نوح وإن ذكروا أولاً لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة صوم إبراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلاًّ‏}‏ الخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الآربعة فجعل ما منه تركيبهم سبباً لعدمهم وما منه بقاؤهم سبباً لفنائهم، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ أي ما كان سبحانه مريداً لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة‏.‏

وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز وجل، ويفيد أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلماً لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام‏.‏ وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم، وقال مولانا اليخ إبراهيم الكوراني ما حاصله‏:‏ إن ظلم الكفرة أنفسهم إنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الأمر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سبباً لظهور شقائهم اه، والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله، وتقديم المعمول لرعاية رؤوس الآي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء‏}‏ استئناف متضمن تقبيح حال أولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير الله عز وجل، وفيه إشارة إلى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون الله عز وجل الأوثان‏.‏

وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلاً ومعتمداً آلهة كان ذلك أو غيرها، ولذا عدل إلى أولياء من آهلة أي صفتهم أو شبههم ‏{‏كَمَثَلِ العنكبوت‏}‏ أي كصفتها أو شبهها‏.‏

‏{‏اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت‏}‏ بيانا لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك ‏{‏وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت‏}‏ الخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال، والجملة من تتمة الوصف‏.‏ واللام في البيوت للاستغراق، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتاً والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم، وإن شئت فقل‏:‏ إنها اتخذت بيتاً في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلاً في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالاً من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة ‏{‏العنكبوت‏}‏ أي الت ياتخذت، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه، وعليه لا يوقف على العنكبوت، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر‏.‏ والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتاً بالإضافة إلى رجل بني بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبارة الأوثان، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وادماج توطيد الآخر، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت‏}‏ جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي‏.‏

وقال «صاحب الكشف»‏:‏ كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله‏:‏ وكما أن أوهن البيوت الخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من «تفسيره»، وهذه مجازفة على «صاحب الكشاف» كما لا يخفى، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمداً ومتكلاً في دينهم وتولوه من دون الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتاً، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه، وكذلك في الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذا بالأسر، والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها، ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتماد، وعلى هذا يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءانٍ أَوْهَنَ البيوت‏}‏ تذييلاً يقرر الغرض من التشبيه‏.‏

وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها، فكأنه قيل‏:‏ وإن أوعن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان، وهي تعقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها، ونظير ذلك قولك‏:‏ زيد في الكلام بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعاراً للكريم، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه، ولأن هذا إنما يتميز عن الإلغاز بعد سبق التشبيه‏.‏

وجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين‏}‏ الخ كالمقدمة الأولى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت‏}‏ كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك، لا لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها ‏"‏ فإنه كما ذكر الدميري ضعيف‏.‏

وقيل‏:‏ لا يسن قتلها فقد أخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ‏"‏ ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور، والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها، وفي هذا بعد‏.‏ وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة، وذكر أنه بحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسند الثعلبي‏.‏ وابن عطية وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإنه تركه في البيوت يورث الفقر» وهذا إن صح عن الإمام كرم الله تعالى وجهه فذاك، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها‏.‏ والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومن استعماله مذكراً قوله‏:‏

على هطالهم منهم بيوت *** كأن العنكبوت هو ابتناها

واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد، وذهب إلى تأنيثه أيضاً فذكر أنه اختير هنا تأنيثه لأنه المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه، وقال مولانا الخفاجي معرضاً به‏:‏ الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ وأما افراد البيت فلأن المراد الجنس، ولذلك أنث ‏{‏اتخذت‏}‏ لا لأن المراد المؤنث، وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباة والعكنباة والعنكبوة والعنكباء، والذكر عنكب وهي عنكبة، وجمعه عنكبوتات وعناكب، والعكاب‏.‏ والعكب والأعكب أسماء الجموع، وتعقب بأن عد ما عدا ما ذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن أعكب لا يصح فيه ذلك، وذكروا في جمعه أيضاً عناكيب، واختلف في نونه فقيل أصلية، وقيل‏:‏ زائدة كالتاء، وجمعه على عكاب يدل على ذلك‏.‏ وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع‏:‏ وزنه فناعل وفي آخر فعالل، فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلظ اه المراد منه، ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقاً من الكعب بالفتج بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند فراره أطلق عليه اسم العنكبوت ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لو كانوا يعلمون شيئاً من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، وقيل‏:‏ أي لو كانوا يعلمون وهن الأوثان لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى، وفي الكشف أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرناها فيما مر من الايغال، جعلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلاً أنهم لا يعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة، و‏{‏لَوْ‏}‏ شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا إليه، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء‏}‏ على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله الخ، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى إضماره لجوز أن يكون ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ من باب الالتفات للإيذان بالغضب، وفيه بحث‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏.‏ وسلام ‏{‏يَعْلَمُ مَا‏}‏ بالادغام‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وعاصم بخلاف ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بياء الغيبة حملاً على ما قبله، و‏{‏مَا‏}‏ استفهامية منصوبة بتدعون و‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية للتبيين، وجوز كونها للتبعيض، ويحوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون، أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئاً، كأن ما يدعونه من دونه عز وجل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئاً، وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية، أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين و‏{‏شَىْء‏}‏ بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير، أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة، وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية‏.‏

وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده، ولا يخفى ما فيه، والكلام على الوجهين الأولين في ‏{‏مَا‏}‏ تجهيل للكفرة المتخذين من دون الله تعالى أولياء لما فيهما من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا؛ والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار، وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف، وعلى الوجهين الأخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه، وترك العطف فيه لأنه استئناف، ويجوز أرادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ في موضع الحال ويفهم منه التعليل على المعنيين، فإن من فرط الغباوة اشراك ما لا يعد شيئاً بمن هذا شأنه، وإن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم واتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدم والبحت، وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم‏.‏