فصل: تفسير الآية رقم (25)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بقوله تعالى قوما أو بإرادته عز وجل، والتعبير عنها بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادي والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 22‏]‏ ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات إنشائهما وإن لم يصرح به تعويلاً على ما ذكر في موضع آخر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 10‏]‏ الآية بل قيامهما وبقاؤهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي أشير إليه بقوله تعالى فيما قبل‏:‏ ‏{‏مَّا خَلَقَ الله السموات والارض *وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ولما كان البقاء مستقبلاً باعتبار أواخره وما بعده نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة ‏{‏ءانٍ‏}‏ التي هي علم في الاستقبال‏.‏ والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم‏:‏ ذكرت ‏{‏ءانٍ‏}‏ ههنا دون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4 2‏]‏ لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن العلم في الاستقبال وجعل مصدراً ليدل على الثبوت، وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر اه ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ ‏{‏إِذْ‏}‏ الأولى شرطية والثانية فجائية نائبة مناب الفاء في الجزاء لاشتراكهما في التعقيب‏.‏ والجملة الشرطية قيل‏:‏ معطوفة على ‏{‏أَن تَقُومَ‏}‏ على تأويل مفرد كأنه قيل‏:‏ ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم، «وصاحب الكشف» يقول‏:‏ إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ‏}‏ وذلك على أسلوب ‏{‏مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7 9‏]‏ وفائدته ما سمعته قريباً، وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية‏.‏ واختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وإن المذكور ليس من الآيات قال‏:‏ حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضاً فقيل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ الآية، والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل‏:‏ ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتها بأمره عز وجل إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه‏:‏ أيها الموتى اخرجوا فجأتم الخروج منها، ولعل ما أشار إليه «صاحب الكشف» أدق وأبعد مغزى فتأمل، ‏{‏وَمِنَ الارض‏}‏ متعلق بدعا و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية يكفي في ذلك إذا كان الداعي هو الله تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلى لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر الله جل وعلا بطل نهر معقل‏.‏

نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب ولا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، وقال ابن عطية‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ عندي لانتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه، وقال أبو حيان‏:‏ إنه قول مردود عند أصحابنا، وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور، وقيل‏:‏ المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابه الداعي المطلع على دعائه، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دَعَاكُمْ‏}‏ إلى آخرها، ‏{‏وثم‏}‏ إما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي، والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7 2‏]‏ وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسموات، فاندفع ما قاله ابن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله أرفع درجة أكثري لا كلي كما صرح به الطيبي فلا مانع من اعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة، ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي‏.‏

وقرأ السبعة ما عدا حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بضم التاء وفتح الراء، وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب، أخرج ابن أبي حاتم عن الأزهر بن عبد الله الجرازي قال‏:‏ يقرأ على المصاب إذا أخذ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ وذكر الإمام، وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاماً طويلاً إن احتجته فارجع إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ‏}‏ عز وجل خاصة كل ‏{‏مِنْ السموات والارض‏}‏ من الملائكة والثقلين خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه ‏{‏كُلٌّ لَّهُ‏}‏ لا لغيره جل وعلا ‏{‏قانتون‏}‏ منقادون لفعله لا يمتنعون عليه جل شأنه من شأن من الشؤون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة، وهذا حاصل ما روى عن ابن عباس، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏قانتون‏}‏ قارن بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وقال ابن جبير‏:‏ ‏{‏قانتون‏}‏ مخلصون، وقيل‏:‏ مقرون بالعبودية، وعليهما ليس العموم على ظاهره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ بعد الموت؛ والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه، وكونه راجعاً إلى مصدر مفهوم من ‏{‏يُعِيدُ‏}‏ وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه، و‏{‏أَهْوَنُ‏}‏ للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عز وجل سواء فكأنه قيل‏:‏ وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم‏.‏

وذكر الزمخشري وجهاً آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنع الإحالة، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء اه‏.‏ قال في «التقريب»‏:‏ وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكناً فتساوي الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان‏.‏

وتعقبه في «الكشف» بقوله أقول‏:‏ إنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك‏.‏ نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء، وليس البحث على ذلك التقدير اه‏.‏

والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجباً بالغير، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار‏.‏

وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن ‏{‏أَهْوَنُ‏}‏ ههنا بمعنى هين، وروى ذلك عن ابن عباس‏.‏ والربيع، وكذا هو في مصحف عبد الله، وهذا كما يقال‏:‏ الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل‏.‏ وفي «الكشف» التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة، وإنما قيل بمعنى إلهين لأنه يؤدي مؤداه، وقيل‏:‏ أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً والإعادة لا تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج‏.‏

وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئاً ويفعلوه ثانياً بعدما زاولوا فعله وعرفوه أولاً أسهل من أن يفعلوه أولاً قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق، ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى، ثم إن الجار والمجرور صلة ‏{‏أَهْوَنُ‏}‏ وقدمت الصلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ على هَيّنٌ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9و21‏]‏ وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الاختصاص وهو محزة فقيل ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ وإن كان صعباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما ههنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى، ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ‏}‏ تعالى شأنه خاصة ‏{‏المثل‏}‏ أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال ‏{‏الاعلى‏}‏ الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلاً عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته كل شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شيء بدأ وإعادة وإيجاداً وإعداماً على حد سواء ولا مثل له تعالى ولا ند‏.‏ وعن قتادة‏.‏ ومجاهد أن ‏{‏المثل الاعلى‏}‏ لا إله إلا الله، ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه، والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضاً كأنه قيل‏:‏ ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عز وجل، وقيل‏:‏ مرتبط بما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8 2‏]‏ وقال الزجاج‏:‏ المثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ قد ضربه الله تعالى مثلاً فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن ‏{‏فِي السموات والارض‏}‏ متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وقيل‏:‏ بالأعلى، وقيل‏:‏ بمحذوف هو حال منه أو من ‏{‏المثل‏}‏ أو من ضميره في ‏{‏الاعلى‏}‏ وقيل‏:‏ متعلق بما تعلق به ‏{‏لَهُ‏}‏ أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً‏}‏ يتبين به بطلان الشرك ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ لَّكُمْ‏}‏ إلى رخره تصوير للمثل، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي و‏{‏لَكُمْ‏}‏ خبر مقدم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها؛ والعامل فيها كما في «البحر» هو العامل في الجار والمجرور الواقع خبراً و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض و‏{‏مَا‏}‏ واقعة على النوع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن شُرَكَاء‏}‏ مبتدأ و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي المستفادة من الاستفهام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى مَا رزقناكم‏}‏ متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تتصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والأماء كائنون لكم‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏لَكُمْ‏}‏ متعلقاً بشركاء ويكون ‏{‏فِيمَا رزقناكم‏}‏ في موضع الخبر كما تقول لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته أيمانكم كائنون فيما رزقناكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء‏}‏ جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري ‏{‏وَفِيهِ‏}‏ متعلق بسواء، وفي الكلام محذوف معطوف على ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ أي فانتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه، وقيل‏:‏ لا حذف ‏{‏وَأَنتُمْ‏}‏ شامل للمماليك بطريق التغليب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَخَافُونَهُمْ‏}‏ خبر آخر لأنتم، وقال أبو البقاء‏:‏ حال من ضمير ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ الفاعل في ‏{‏سَوَآء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم، والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جل وعلا حيث تصنعونه بأيدكم ثم تعبدونه‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏أَنفُسَكُمْ‏}‏ بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول ‏{‏وأَنفُسَكُمْ‏}‏ فاعله، قال أبو حيان‏:‏ وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التفصيل الواضح ‏{‏نُفَصّلُ الآيات‏}‏ أي نبينها ونوضحها لا تفصيلاً أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحصوص وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان‏.‏

‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال، وقيل‏:‏ في تدبير الأمور مطلقاً ويدخل في ذلك الأمثال دخولاً أولياً، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها، وذكر العلامة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لأدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر‏.‏

وقرأ عباس عن أبي عمرو ‏{‏يُفَصّلُ‏}‏ بياء الغيبة رعياً لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب‏.‏ وقراءة الجمهور بالنون للحمل على ‏{‏رزقناكم‏}‏ وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل‏:‏ الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 30‏]‏

‏{‏بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ إعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لاستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل‏:‏ لم يعقلوا شيئاً من الآيات المفصلة بل اتبعوا ‏{‏أَهْوَاءهُمْ‏}‏ الزائغة، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي جاهلين يبطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه ‏{‏فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ أي خلق فيه الضلال وجعله كاسباً له باختياره ‏{‏وَمَا لَهُمْ‏}‏ أي لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى ‏{‏مّن ناصرين‏}‏ يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع، ‏{‏وَمِنْ‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي، والكلام مسوق لتسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً‏}‏ قال العلامة الطيبي‏:‏ إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصّلُ الايات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8 2‏]‏ أراد جل شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ‏}‏ وجعل السبب في ذلك أنه عز وجل ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9 2‏]‏ يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن تبعك وأقم وجهك الخ اه، ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ‏}‏ وكذا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ‏}‏ وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم الخ، ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى، ثم إنه يلوح من كلامه احتمال أن يكون الموصول قائماً مقام ضمير ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ فتدبر‏.‏

‏{‏وَأَقِمِ‏}‏ من أقام العدو ويقال قوم العود أيضاً إذا عدله، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفه وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل‏:‏ فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالاً كاملاً غير ملتفت يميناً وشمالاً، وقال بعض الأجلة‏:‏ إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ونصب ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ على الحال من الضمير في ‏{‏أَقِمِ‏}‏ أو من الدين، وجوز أبو حيان كونه حالاً من الوجه، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم ‏{‏عَبْدُ الله‏}‏ نصب على الإغراء أي الزموا فطرة الله تعالى، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل، وقال مكي‏:‏ هو نصب باضمار فعل أي اتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ‏}‏ لأن معناه اتبع الدين، واختاره الطيبي وقال‏:‏ إنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ‏}‏ ولترتب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ عليك بالفاء‏.‏

وجوز أن يكون نصباً بإضمار أعني وأن يكون مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله، ولا يصح عمل فطر المذكر بعد فيه لأنه من صفته، وأن يكون منصوباً بما دل عليه الجملة السابقة على أن مصدر مؤكد لنفسه‏.‏ وأن يكون بدلاً من ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم ‏{‏فَأَقِمْ‏}‏ هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ وجعله حالاً من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل، وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوه وَأَقِيمُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلاَ تَكُونُواْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1 3‏]‏ معطوفاً على ذلك الفعل‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ بعدما اختار تقدير اتبع ورجحه بما سمعت‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ‏}‏ فهو حال من الضمير في ‏{‏أَقِمِ‏}‏ وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل‏:‏ أقيموا وجوهكم منيبين‏.‏

وقال الفراء‏:‏ أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2 11‏]‏ فلذلك قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ‏}‏ وفي المرشد أن ‏{‏مُّنِيبِينَ‏}‏ متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1 3‏]‏ اه‏.‏ ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري، وما ذكر من أن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون ‏{‏مُّنِيبِينَ‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏أَقِمِ‏}‏ وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الاضمار، وإضماره دون إضمار فيما قبل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك، والفطر على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطرة بمعنى الابتداء والاختراع، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيء لادراكه، وقالوا‏:‏ معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الإنس والجن، ووصفها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ لتأكيد وجوب امتثال الأمر، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام‏.‏

وفي الخبر ما يدل عليه، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال‏:‏ سألت قتادة عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِطْرَةَ الله التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ فقال‏:‏ حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى ‏"‏ والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر، ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ‏"‏ والمراد بالناس على التفسرين جميعهم‏.‏

وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء‏.‏ واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر‏.‏ وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافراً بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية، وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ الشقي شقي في بطن أمه ‏"‏ وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعداً لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق، وقيل‏:‏ فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزاً فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 5 2‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولاً ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين، وقيل‏:‏ المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عز وجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأساً ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينتذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإحلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين، وقال الإمام‏:‏ يحتمل أن يقال‏:‏ إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول‏:‏ العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف‏.‏

وقول المشركين‏:‏ إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد الله تعالى، وقول النصارى‏:‏ إن عيسى عليه السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها اه وفيه ما فيه، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، وقيل‏:‏ إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل‏:‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون‏.‏ وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر ‏{‏الدين القيم‏}‏ المستوى الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبىء عنه صيغة المبالغة، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فيصدون عنه صدوداً‏.‏

وقيل‏:‏ أي لا علم لهم أصلاً ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوباً إذا رجع مرة بعد أخرى، ومنه النوب أي النحل سميت بذلك لرجوعها إلى مقرها، وقيل‏:‏ أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الانقطاع ما لا يكون بغيرها‏.‏ وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يائي وهذا واوى، وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه، وزاد عليها في البحر القول بكونه نصباً على الحال من ‏{‏الناس‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَرَ الناس‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى، وتقدم أيضاً ما قيل في عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوه‏}‏ أي من مخالفة أمره تعالى ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين‏}‏ المبدلين لفطرة الله سبحانه تبديلا، والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك بالله عز وجل، والنهي متصل بالأوامر قبله، وقيل‏:‏ باقيموا الصلاة، والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏المشركين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 31‏]‏ بإعادة الجار، وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقيل‏:‏ اختلافهم في اعتقاداتهم مع اتحاد معبودهم، وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏فارقوا‏}‏ أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم ‏{‏دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ من الدين المعوج المؤسس على الرأس الزائغ والزعم الباطل ‏{‏فَرِحُونَ‏}‏ مسرورون ظناً منهم أنه حق، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم كونهم شيعاً، وقيل‏:‏ في موضع نصب على أنها صفة ‏{‏شِيَعاً‏}‏ بتقدير العائد أي كل حزب منهم، وزعم بعضهم كونها حالاً‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏فَرِحُونَ‏}‏ صفة لكل كقول الشماخ‏:‏

وكل خليل غير هاضم نفسه *** لوصل خليل صارم أو معارز

والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ فيكون منقطعاً عما قبله، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله‏:‏

جادت عليه كل عين ترة *** فتركن كل حديقة كالدرهم

وما قيل‏:‏ إنه إذا وصف به ‏{‏كُلٌّ‏}‏ دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ‏}‏ أي شدة ‏{‏دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عز وجل من الأصنام وغيرها ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً‏}‏ خلاصاً من تلك الشدة ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ بِرَبّهِمْ‏}‏ الذي كانوا دعوه منيبين إليه ‏{‏يُشْرِكُونَ‏}‏ أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات؛ وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير ‏{‏ضُرٌّ وَرَحْمَةً‏}‏ للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة، و«ثم» للتراخي الرتبى أو الزماني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له، وقيل‏:‏ للأمر وهور للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَنَمَتَّعُوا‏}‏ فإنه أمر تهديدي، واحتمال كونه ماضياً معطوفاً على «يشركون» لا يخفي حاله، والفاء للسبيية، والتمتع التلذذ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ‏{‏أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وبال تمتعكم‏.‏ وقرأ أبو العالية «فيمتعوا» بالياء التحتية مبنياً للمفعول وهو معطوف على ‏{‏يَكْفُرُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بالياء التحتية أيضاً، وعن أبي العالية أيضاً ‏{‏فيتمتعوا‏}‏ بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على ‏{‏أَن يَكْفُرُواْ‏}‏ أيضاً، وعن ابن مسعود ‏{‏وَلِيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ باللام والياء التحتية وهو عطف على ‏{‏لِيَكْفُرُواْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا‏}‏ التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بالاعراض عنهم وتعديداً لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة، و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة، والسلطان الحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُوَ يَتَكَلَّمُ‏}‏ بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم‏:‏ نطقت الحال من الاحتمالات، ويجوز أن يراد بسلطاناً ذا سلطان أي ملكاً معه برهان فلا مجاز أولاً وآخراً‏.‏

وجملة ‏{‏هُوَ يَتَكَلَّمُ‏}‏ جواب للاستفهام الذي تضمنته ‏{‏أَمْ‏}‏ إذ المعنى بل أأنزلنا عليهما سلطاناً فهو يتكلم ‏{‏بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ أي بإشراكهم بالله عز وجل، وصحته على أن ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن «ما» موصولة وضمير «به» لها والباء سببية، والمراد نفى أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً‏}‏ أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما ‏{‏فَرِحُواْ بِهَا‏}‏ بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمداً وشكراً‏.‏ وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ وقال الإمام‏:‏ المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث أنها مضافة إلى الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ شدة ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بشؤم معاصيهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ أي فاجؤوا القنوط من رحمته عز وجل، والتعبير بإذا أولاً لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْعَمْتَ‏}‏ في الفاتحة، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة على الاستمرار في القنوط، والمراد بالناس أما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وأما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة الغرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 63‏]‏ فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول‏:‏ اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل‏.‏

وقرىء «يقنطون» بكسر النون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا ‏{‏أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يبسطه تعالى له‏:‏ ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه، وهذا اما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أولم يروا ذلك فما لهم لم يشركوا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر ‏{‏لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة والله تعالى در من قال‏:‏

نكدر الاريب وطيب عيش الجاهل *** قد أرشداك إلى حكيم كامل

قال الطيبي‏:‏ كانت الفاصلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ إيذاناً بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغني بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال‏:‏

كم من أريب فهم قلبه *** مستكمل العقل مقل عديم ومن جهول مكثر ماله

ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ من الصلة والصدقة وسائر المبرات ‏{‏والمساكين وابن السبيل‏}‏ ما يستحقانه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على أنه عليه الصلاة والسلام المقصود أصالة وغيره من المؤمنين تبعاً، وقال الحسن هو خطاب لكل سامع، وجوز غير واحد أن يكون لمن بسط له الرزق، ووجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشري أنه تعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك، وحاصله على ما في الكشف أن امتثال أوامره تعالى مجلبة رضاه والحياة الطيبة تتبعه كما أن عصيانه سبحانه مجلبة سخطه والجدب والضيقة من روادفه فإذا استبان ذلك فآت يا محمد ومن تبعه أو فآت يا من بسط له الرزق ذا القربى حقه الخ، وذكر الإمام وجهاً آخر مبنياً على أن الأمر متفرع على حديث البسط والقدر وهو أنه تعالى لما بين أنه سبحانه يبسط ويقدر أمر جل وعلا بالاتفاق إيذاناً بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله تعالى إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق وإذا قدر لا يزداد بالامساك كما قيل‏:‏

إذ جادت الدنيا عليك فجد بها *** على الناس طرا إنها تتقلب

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت *** ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب

قال صاحب الكشف روح الله تعالى روحه‏:‏ إن ما ذكره الزمخشري أوفق لتأليف النظم الجليل فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7 3‏]‏ لتتميم الإنكار على فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئش عند زوالها عنه، والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وابن السبيل، وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة‏.‏ وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة واستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح، وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف، وحكى أن أبا حنيفة استدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكراً كان أو أنثى إذا كان فقيراً أو عاجزاً عن الكسب، ووجه بأن ‏{‏آت‏}‏ أمر للوجوب، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله انه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة، والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا‏:‏ لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه، والمراد بالحق المصرح به في ذي القربي صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وابن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم‏.‏

واعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الآخرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب، ولذا استدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم، وفيه بحث‏.‏

وقال بعض أجلة الشافعية راداً على الاستدلال‏:‏ إنه كيف يتم مع احتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضاً بدليل ما تلاه، ثم إن ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى‏}‏ مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَقَّهُ‏}‏ ثم قال‏:‏ والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحمن من الواجبات المؤكدة انتهى، والحق أحق بالاتباع، ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه‏.‏

وخص بعض الخطاب به صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى الله عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء، وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يا محمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم من الأخماس‏.‏ وروي أبو سعيد الخدري‏.‏ وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا وسلمه إليها، وهو المروى عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله انتهى، وفيه أن هذا ينافي ما اشتهر عند الطائفتين من أنها رضي الله تعالى عنها ادعت فدكا بطريق الارث، وزعم بعضهم أنها ادعت الهبة وأتت على ذلك بعلي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وبام أيمن رضي الله تعالى عنها فلم يقبل منها لمكان الزوجية والبنوة وعدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة في هذا الباب فادعت الارث فكان ما كان وهذا البحث مذكور على أتم وجه في التحفة ان أردته فارجع إليه، وخص بعضهم ‏{‏ابن السبيل‏}‏ بالضيف وحقه بالإحسان إليه إلى أن يرتحل والمشهور أنه المنقطع عن ماله وبين المعنيين عموم من وجه، وقدم ذو القربى اعتناء بشأنه وهو السر في تقديم المفعول الثاني على العطف والعدول عن وآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم، وعبر عن القريب بذي القربى في جميع المواضع ولم يعبر عن المسكين بذي المسكنة لأن القرابة ثابتة لا تتجدد وذو كذا لا يقال في الأغلب إلا في الثابت ألا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأي الصائب فلان ذو رأي ويكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك وكذا نظائر ذلك من قولهم‏:‏ فلان ذو جاه‏.‏ وفلان ذو إقدام، والمسكنة لكونها مما تطرأ وتزول لم يقل في المسكين ذو مسكنة كذا قال الإمام‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإيتاء المفهوم من الأمر ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ في نفسه أو خير من غيره ‏{‏لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ أي ذاته سبحانه أي يقصدونه عز وجل بمعروفهم خالصاً أو جهته تعالى أي يقصدون جهة التقرب إليه سبحانه لا جهة أخرى والمعنيان كما في الكشف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة‏.‏

‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ المتصفون بالايتاء ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ حيث حصلوا بانفاق ما يفنى النعيم المقيم، والحصر إضافي على ما قيل‏:‏ أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئاً‏.‏

وقيل‏:‏ هو حقيقي على أن المتصفين بالايتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى واتقوه عز وجل فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً‏}‏ الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع وإليه ذهب الجبائي وروي ذلك عن الحسن ويشهد له ما روي عن السدى من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يربون وكذا كانت قريش، وعن ابن عباس ومجاهد‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ والضحاك‏.‏ ومحمد بن كعب القرظي‏.‏ وطاوس‏.‏ وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافاة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة، وقيل‏:‏ لأنها فضل لا يجب على المعطى‏.‏

وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن ابن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم، ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا، وأياً ما كان فمن بيان لما لا للتعليل‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏ءاتَيْتُم‏}‏ بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا ‏{‏لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس‏}‏ أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه، وقال ابن الشيخ‏:‏ المعنى على تفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها، وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية، وعن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة وأبي رجاء‏.‏ والشعبي‏.‏ ونافع‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبي يوة ‏{‏لتربوا‏}‏ بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من قبيل يجرح في عراقيبها نصلي أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس، ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس‏.‏ وقرأ أبو مالك ‏{‏لتربوها‏}‏ بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها ‏{‏الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله‏}‏ أي فلا يبارك فيه تقديره تعالى وحكمه عز وجل ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زكواة‏}‏ أي من صدقة ‏{‏تُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ تبتغون به وجهه تعالى خالصاً ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون‏}‏ أي ذوو الاضعاف على أن مضعفا اسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كأقوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة‏.‏ ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي ‏{‏المضعفون‏}‏ اسم مفعول، وكان الظاهر أن يقال‏:‏ فهو يربو عند الله لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذ أثبت غير ما قبله وفي النظم إذا أتي فيما قبل بجملة فعليه وهنا بجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالاسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالاستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتي إلى غير ذلك، والالتفات عن الخطاب حيث قيل‏:‏ فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم السلام وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم، والراجع في الكلام إلى ‏{‏مَا‏}‏ محذوف إن جعلت موصولة وكذلك أن جعلت شرطية على الأصح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتوا على صيغة اسم الفاعل أولئك هم المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك التفات بالمعنى المتعارف، واعتبار الالتفات أولى، وفي الكشاف أن الكلام عليه أملأ بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الالتفات من وجوه‏.‏

احدها الإشارة بأولئك تعظيماً لهم والثاني تقريع الملائكة عليهم السلام بمدحهم‏.‏ والثالث ما في نفس الالتفات من الحسن‏.‏ والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو

فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه *** بخلافه إذا جعل وصفاً للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالأصالة فتأمل، والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ الله الرباا وَيُرْبِى الصدقات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 27‏]‏ سواء بسواء، والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافاة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلى الله عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏ وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطى لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأة بل بمقابلة ما أعطى أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضاً وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولاً لأنها شبكة صيد، ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئاً لتكافئه وتزيده شيئاً فاثبه من هديته وزده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء‏}‏ الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ و‏{‏الذى‏}‏ خبره والاستفهام إنكاري و‏{‏مِن شُرَكَائِكُمْ‏}‏ خبر مقدم و‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ مؤخر و‏{‏مِنْ‏}‏ فيه للتبعيض و‏{‏مّن ذلكم‏}‏ صفة ‏{‏شَىْء‏}‏ قدمت عليه فاعربت حالاً و‏{‏مِنْ‏}‏ فيه للتبعيض أيضاً و‏{‏شَىْء‏}‏ مفعول يفعل و‏{‏مِنْ‏}‏ الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ و‏{‏الذى‏}‏ صفته والخبر ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ‏}‏ الخ والرابط اسم الإشارة المشاربة إلى أفعاله تعالى السابقة فمن ذلكم بمعنى من أفعاله، ووقعت الجملة المذكورة خبراً لأنها خبر منفي معنى وان كانت استفهامية ظاهراً فكأنه قيل‏:‏ الله الخالق الرازق المميت المحيى لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه، وبعضهم جعلها خبراً بتقدير القول فكأنه قيل‏:‏ الله الموصوف بكونه خالقاً ورازقاً ومميتاً ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به‏.‏

وتعقب ذلك أبو حيان بأن اسم الإشارة لا يكون رابطاً إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 23‏]‏ فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير ‏{‏الذين‏}‏ فحصل به الربط‏.‏

وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر، وجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى لبيان من بفعل ومتعلقها محذوف و‏{‏مَن يَفْعَلُ‏}‏ فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائناً من شركائكم، وكذا جوز في ‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية أن تكون لبيان المستغرق، وقيل‏:‏ إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى، والآية على ما قلناه أولاً متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والأمانة والإحياء له عز وجل وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأساً عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكداً بالإنكار، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكاً كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تأتي تلك الأفعال منه، وإن شئت جعلت ‏{‏شُرَكَائِكُمْ‏}‏ شاملاً للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عن شركهم، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للأشعار باستمراره وتجدده منهم، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ الخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ الخ في حكم النتيجة له، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جداً‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ وابن وثاب ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق واخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا‏:‏ إذا انقطع القطر عميت دواب البحر، وقال مجاهد‏:‏ ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصباً، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا، ولعل المراد التمثيل، وكذا يقال في قتل ابن آدم آخاه وكان أول معصية ظهرت في البر؛ قال الضحاك‏:‏ كانت الأرض خضرة مونقة يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذباً وكان لا يفترس الأسد البقرة ولا الذئب الغنم فلما قتل قابيل هابيل أقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً‏.‏

وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الأمرين بالذكر لذلك، وأياً ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار، وقال قتادة‏:‏ البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري والعمود والبحر المدن، والعرب تسمى الأمصار بحاراً لسعتها، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي بن سلول، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ ويؤيد هذا قراءة عكرمة ‏{‏والبحور‏}‏ بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وجوز أيضاً أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما، و‏{‏ءالَ‏}‏ في ‏{‏البر والبحر‏}‏ للجنس وكذا في ‏{‏الفساد‏}‏ أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 0 3‏]‏ وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وسلام‏.‏ وسهل‏.‏ وروح‏.‏ وابن حسان‏.‏ وقنبل من طريق ابن مجاهد‏.‏ وابن الصباح‏.‏ وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو لنذيقهم بالنون، وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم، وقيل‏:‏ كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والاصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا صلى الله عليه وسلم فاقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏.‏

وفسر هذا القائل‏:‏ ‏{‏الناس‏}‏ بكفار قريش، وقيل‏:‏ كان في زامن سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة، ومن هنا قيل‏:‏ من أذنب ذنباً يكون جميع الخلائق من الأنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعاً، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال‏:‏ من أكل الحرام فقد خان جميع الناس، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعى ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعى الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها‏.‏

وقال الإمام‏:‏ في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 0 9‏]‏ وإلى هذا أشار عز وجل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ‏}‏ انتهى، فتأمل وأنصف‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ‏}‏ مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ‏}‏ استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم‏.‏

وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم‏}‏ أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجىء به ولا رد له من جهته عز وجل فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ لمشابهته للمضاف‏.‏

وأجيب بأنه مبني على ما قال ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت» وتفصيله في شرحه، وبعضهم جعله متعلقاً بمحذوف يدل عليه ‏{‏مَرَدَّ‏}‏ أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عز وجل؛ وقيل‏:‏ هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي‏؟‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بمحذوف وقع حالاً من الضمير في الظرف الواقع خبراً للا، وقيل‏:‏ متعلق بالنفي أو بما دل عليه، وقيل‏:‏ متعلق بمحذوف وقع صفة ليوم، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أي يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده‏.‏

وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال‏:‏ هذا الوجه أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة‏.‏ نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذ يأتي ‏{‏يَصَّدَّعُونَ‏}‏ أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صاداً وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل‏:‏ يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 4‏]‏ لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من ‏{‏يَصَّدَّعُونَ‏}‏ إنما تناسب الأول، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذ الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حساً ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضاً عن ابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها، وإفراد الضمير باعتبار لفظ ‏{‏مِنْ‏}‏ وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم، وجمعه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ باعتبار معناها، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى، و‏{‏يَمْهَدُونَ‏}‏ من مهد فراشه وطأه أي يوطؤون لأنفسهم كما يوطىء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطؤه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأول أظهر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال؛ فلأنفسهم يمهدون أن يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك‏.‏ وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل‏:‏ للاهتمام، ومقابلة من ‏{‏كُفِرَ‏}‏ بمن عمل صالحاً لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناءً على أن المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناءً على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحاً المؤمن العامل قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ‏}‏ فإنه علة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلاً للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد علية مبدأ الاشتقاق، وذكر ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ للدلالة على أن الإثابة تفضل محض؛ وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر، وجوز أن يكون ذلك علة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل‏:‏ وليعاقب الكافرين‏.‏ وفي «الكشاف» أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلا المؤمن الصالح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ الخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحاً وإشارة أو مفهوماً ومنطوقاً وذلك كقول ابن هانىء‏:‏

فما جازه جود ولا حل دونه *** ولكن يصير الجود حيث يصير

وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ يدل بمنطوقه على ما قرر على اختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ لتعليل الاختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لأضدادهم موفر فهو جل وعلا محب للمؤمنين، وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 3 4‏]‏ الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 44‏]‏ الآية وارد على الاستئناف منطو على الجواب فكأنه لما قيل‏:‏ أقيموا على الدين القيم قبل مجىء يوم يتفرقون فيه فقيل‏:‏ ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون‏؟‏ فأجيب من كفر فعليه كفره الآية، وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية فينبغي أن يكون تعليلاً للكل ليفصل ما يترتب على ما لهم وعليهم لكن يتعلق بيمهدون وحده لشدة العناية بشأن الإيمان والعمل الصالح وعدم الإعباء بعمل الكافر ولذلك وضع موضعه ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ انتهى فلا تغفل، وفي الآية لطيفة نبه عليها الإمام قدس سره وهي أن الله عز وجل عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبيد قدم الكافر وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ‏}‏ وعيد للمكلف ليمتنع عما يضره لينقذه سبحانه من الشر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 44‏]‏ تحريض له وترغيب في الخير ليوصله إلى الثواب والإنقاذ مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عند الجزاء فابتدأ جل شأنه بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة‏.‏

هذا ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاة ولم يذكر عز وجل أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر ذلك لإحسانه فقال عز من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح‏}‏ الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب، وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة، وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للإمطار والإنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غباراً عاصفاً يقذي العين وهي أقلهن هبوباً، وروى الطبراني‏.‏ والبيهقي في سننه عن ابن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله ويقوله صلى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح‏:‏ «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب، وفي النهاية العرب تقول‏:‏ لا تلقح السحاب إلا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحاً للسحاب ولا تجعلها عذاباً ثم قال‏:‏ وتحقيق ذلك مجىء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحاً صرصراً، وقال بعضهم‏:‏ أن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثراً أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعياً إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحاً فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 18‏]‏ والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه، وقال الحافظ الهيثمي‏:‏ في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ والكسائي‏.‏ والأعمش ‏{‏الريح‏}‏ مفرداً على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مبشرات‏}‏ أي بالمطر ‏{‏وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم، وقيل‏:‏ الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها، ولا وجه للتخصيص، والواو للعطف، والعطف على علة محذوفة دل عليها ‏{‏مبشرات‏}‏ أي ليبشركم وليذيقكم أو على ‏{‏مبشرات‏}‏ باعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيداً مسيئاً أي لإساءته فكأنه قيل‏:‏ لتبشركم وليذيقكم، وكونه من عطف التوهم توهم أو على ‏{‏يُرْسِلُ‏}‏ بإضمار فعل معلل والتقدير ويرسلها ليذيقكم، وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل‏:‏ أو على جملة ومن آياته الخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل، ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود اندراج الإذاقة في الآيات، وقيل‏:‏ الواو زائدة ‏{‏وَلِتَجْرِىَ الفلك‏}‏ في البحر عند هبوبها ‏{‏بِأَمْرِهِ‏}‏ عز وجل وإنما جىء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مواتية فلا بد من انضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب، وقيل‏:‏ للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عز وجل ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ بتجارة البحر ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي ولتشكروا نعمة الله تعالى فيما ذكر‏.‏