فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ اعتراض لتسليته صلى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه، وفي ذلك أيضاً تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر‏.‏

والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك ‏{‏فَجَاءوهُمْ بالبينات‏}‏ أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك ‏{‏فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا، وقيل‏:‏ أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف، وجوز أن تكون تفصيلاً للعموم بأن فيهم مجرماً مقهوراً ومؤمناً منصوراً ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجوز تحصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهدياً، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ‏"‏ وفي هذا إشعار بأن ‏{‏حَقّاً‏}‏ خبر كان ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ الاسم كما هو الظاهر، وإنما أخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في «البحر»‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ووقف بعض القراء على ‏{‏حَقّاً‏}‏ على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقاً وعدلاً لا ظلماً، ورجوعه إليه على حد ‏{‏اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ و‏{‏عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى يُرْسِلُ الرياح‏}‏ استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سيق من أحوال الرياح ‏{‏فَتُثِيرُ سحابا‏}‏ تحركه وتنشره ‏{‏فَيَبْسُطُهُ‏}‏ بسطاً تاماً متصلاً تارة ‏{‏فِى السماء‏}‏ في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر ‏{‏كَيْفَ يَشَاء‏}‏ سائراً وواقفاً مطبقاً وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك فالجملة الإنشائية حال بالتأويل ‏{‏وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً‏}‏ أي قطعاً تارة أخرى‏.‏

وقرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كسف ‏{‏فَتَرَى‏}‏ يا من يصح منه الرؤية ‏{‏الودق‏}‏ أي المطر ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ أي فرجه جمع خلل في التارتين الاتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، وجوز على قراءة ‏{‏كِسَفًا‏}‏ بالسكون أن يكون له، وليس بشيء‏.‏

‏{‏فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ بلادهم وأراضيهم، والباء في ‏{‏بِهِ‏}‏ للتعدية ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ فاجؤا الاستبشار بمجىء الخصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ الودق ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي التنزيل ‏{‏لَمُبْلِسِينَ‏}‏ أي آيسين، والتكرير للتأكيد، وأفاد كما قال ابن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ يحتمل الفسحة في الزمان فجاء ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال، وقال الزمخشري‏:‏ أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته‏.‏ وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال‏:‏ ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط، وقال قطرب‏:‏ ضمير ‏{‏قَبْلِهِ‏}‏ للمطر فلا تأكيد‏.‏ وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلاً عن القرآن، وقيل‏:‏ الضمير للزرع الدال عليه المطر أي من قبل تنزيل المطر من قبل أن يزرعوا، وفيه أن ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ‏}‏ متعلق بمبلسين ولا يمكن تعلق ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ به أيضاً لأن حرفي جر بمعنى لا يتعلقان بعامل واحد إلا أن يكون بوساطة حرف العطف أو على جهة البدل ولا عاطف هنا ولا يصح البدل ظاهراً، وجوز بعضهم فيه بدل الاشتمال مكتفياً فيه بكون الزرع ناشئاً عن التنزيل فكان التنزيل مشتملاً عليه وهو كما ترى‏.‏

وقال المبرد‏:‏ الضمير للسحاب لأنهم لما رأوا السحاب كانوا راجين المطر، والمراد من قبل رؤية السحاب، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين، وقال علي بن عيسى‏:‏ الضمير للإرسال، وقال الكرماني‏:‏ للاستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به، وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياساً خلاف‏.‏

واختار بعضهم كونه للاستبشار على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بينزل و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى متعلقة بملبسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل، و‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة، ولا ضمير شأن مقدراً لإن لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في «المغني»‏:‏، وبعض الأجلة قال بالتقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فانظر إلى ءاثار رَحْمَتَ الله‏}‏ المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار، والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو بكر ‏{‏أَثَرِ‏}‏ بالإفراد وفتح الهمزة والثاء‏.‏ وقرأ سلام ‏{‏أَثَرِ‏}‏ بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يُحْىِ‏}‏ أي الله تعالى ‏{‏الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ في حيز النصب بنزع الخافض و‏{‏كَيْفَ‏}‏ معلق لأنظر أي فانظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها، وقال ابن جني‏:‏ على الحالية بالتأويل أي محيياً، وأياً ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه على عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عز وجل مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ وابن السميقع‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏تُحْىِ‏}‏ بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة، وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه، وليس بشيء كما لا يخفى ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ العظيم الشأن ‏{‏فانظر إلى‏}‏ لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء نباتية تفتت وتبددت واختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالإحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط، وهو احتمال واهي القوى بعيد، ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ تذييل مقرر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياؤهم لما أن نسبة قدرته عز وجل إلى الكل سواء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً‏}‏ أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بل على ما قاله بعضهم، والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمي به ما ينبت، وقال ابن عيسى‏:‏ الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، وقيل‏:‏ للريح وهي تذكر وتؤنث، وكلا القولين ضعيفان كما في «البحر»‏.‏

وقرأ جناح بن حبيش ‏{‏مصفاراً‏}‏ بألف بعد الفاء، واللام في ‏{‏الله لَئِنْ‏}‏ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، والفاء ‏{‏فِى فَرَأَوْهُ‏}‏ فصيحة، واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّظَلُّواْ‏}‏ لام جواب القسم الساد مسد الجوابين؛ والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء‏.‏ ومكي‏.‏ وأبو حيان‏.‏ وغيرهم، وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ وهو لا يكون إلا مستقبلاً، وقال الفاضل اليمني‏:‏ إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث أن الماضي إذا كان متمكناً متصرفاً ووقع جواباً للقسم فلا بد فيه من قد واللام معاً فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر، وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وبالله تعالى لئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفراً بعد خضرته ونضارته ليطلن ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد الإرسال أو من بعد اصفرار زرعهم، وقيل‏:‏ من بعد كونهم راجين مستبشرين ‏{‏يَكْفُرُونَ‏}‏ من غير تلعثم نعمة الله تعالى، وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط ما لا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله سبحانه في كل حال ويلجؤا إليه عز وجل بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وإن يصبروا على بلائه تعالى إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه جل شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم، ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ لا تحزن لعدم اهتدائهم بتذكيرك فإنك الخ، وفي «الكشف» اعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذى يُرْسِلُ الرياح‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 84‏]‏ كلام سيق مقرراً لما فهم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏ الآية لدلالته على أنه عز وجل ينتقم من المكذبين برسول الله صلى الله عليه وسلم وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة واختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏ ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 53‏]‏ وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين والله تعالى أعلم اه، فتأمله مع ما ذكرنا‏.‏

وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل ‏(‏80‏)‏‏}‏ وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى عَن ضلالتهم إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ وَمَا أَنتَ بِهَادِى‏}‏ بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن الله تعالى التوفيق‏:‏ نقل عن العلامة ابن الهمام أنه قال‏:‏ أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ ونحوها يعني من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ ولذا لم يقولوا بتلقين القبر وقالوا‏:‏ لو حلف لا يكلم فلاناً فكلمه ميتاً لا يحنث، وحكى السفاريني في «البحور الزاخرة» أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى ووافقها طائفة من العلماء على ذلك، ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا يعني الحنابلة في كتابه «الجامع الكبير» واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ ونحوه، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير والطبري وكذا ذكر ابن قتيبة‏.‏ وغيره، واحتجوا بما في «الصحيحين» عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «لما كان يوم بدر وظهر عليهم يعني مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلاً وفي رواية وعشرين رجلاً من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام‏.‏ يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني قد وجدت ما وعد ربي حقاً‏؟‏ فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال‏:‏ والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم زاد في رواية لمسلم عن أنس «ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال‏:‏ «كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ما هذا القبر‏؟‏ فقالوا‏:‏ أم محجن قال‏:‏ التي كانت تقم المسجد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم فصف الناس فصلى عليها فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي العمل وجدت أفضل‏؟‏ قالوا يا رسول الله أتسمع‏؟‏ قال‏:‏ ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد» وبما رواه البيهقي‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال‏:‏ ‏"‏ أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة ‏"‏

وبما أخرج ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعاً ‏"‏ ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه ‏"‏ وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ «الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له‏:‏ أتسمع ما يقال لك‏؟‏ فإذا بلغ حفرته دفنه معه» وبما في «الصحيحين» من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم ‏"‏ وأجابوا عن الآية فقال السهيلي‏:‏ إنها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 0 4‏]‏ أي إن الله تعالى هو الذي يسمع ويهدي‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن معناها لا تسمعهم إلا أن يشاء الله تعالى أو لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، وقد ينفي الشيء لانتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 9 17‏]‏ الآية، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ ويكون نكتة العدول عن فإنك لا تسمع الموتى ولا الصم إلى ما في «النظم الجليل» العناية بنفي الاسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن ‏{‏لاَ تُسْمِعُ‏}‏ في كل من الجملتين بمعنى‏.‏

وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم‏:‏ الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون فقال بعضهم‏:‏ إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي الله عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى الله عليه وسلم، وهو مراد من قال‏:‏ إنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهي خوارق العادة، والكلام في موافقها وهو الذي نفي في آية ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ ونحوها وفي قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ‏"‏ دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك، وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الاستدلال به معروف، على أن احتمال الخصوصية قائم فيه أيضاً؛ وفي «صحيح البخاري» قال قتادة‏:‏ أحياهم الله تعالى يعني أهل الطوى حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً، ويؤيد ما أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قيل بدر فقال‏:‏ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً‏؟‏ ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنهم الآن يسمعون ما أقول ‏"‏

حيث قيد صلى الله عليه وسلم سماعهم بالآن، وإذا قلنا، بأن الميت يسئل سبعة أيام في قبره مؤمناً كان أو منافقاً أو كافراً وأنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول‏:‏ يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم، ويحتمل أن يكون خطابه صلى الله عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها، وعليه لا يكون سماعهم من المتانازع فيه لأنهم حين سمعوا إحياء لا موتى، ويرد على هذا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ ما تكلم من أجساد لا أرواح لها‏.‏ ولم ينكر ذلك عليه صلى الله عليه وسلم بل قال عليه الصلاة والسلام له‏:‏ ‏"‏ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ‏"‏ ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه‏:‏ ليس الأمر كما تقول إن الله عز وجل أحياهم لي أو نحو ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما استدل به على المقصود، ففي «صحيح البخاري» عن هشام عن أبيه قال‏:‏ ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ‏"‏، فقالت‏:‏ وهل ابن عمر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ‏"‏ قالت‏:‏ وذلك مثل قوله‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال‏:‏ ‏"‏ إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ‏"‏ ثم قرأت ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ وتعقب ذلك السهيلي فقال‏:‏ عائشة رضي الله تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة والسلام، وقد قالوا له‏:‏ يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا‏؟‏ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قالوا‏:‏ وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين اه وهو كلام قومي، ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك قادحاً في روايتها لقدح في رواية ابن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضاً، ولا مانع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين جميعاً فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما، وقال بعضهم فيما رواه البيهقي، والحاكم وصححه، وغيرهما‏:‏ إنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار، وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عز وجل، وقيل في حديث ابن عبد البر‏:‏ إن عبد الحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال‏:‏ إنه ضعيف بل منكر وفي حديث ابن أبي الدنيا أنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه السلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت، وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وانصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب، فمذهب ابن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكاً بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم، وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما قيل على الأول، ومذهب ابن حزم وابن ميسرة أنه على الروح فقط، ومذهب أبي الهذيل وأتباعه أن الميت لا يشعر بشيء أصلاً إلا بين النفختين، والحق أن الموتى يسمعون في الجملة وهذا على أحد وجهين، أولهما أن يخلق الله عز وجل في بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء الله تعالى السلام ونحوه مما يشاء الله سبحانه سماعه أياه ولا يمنع من ذلك كونه تحت أطباق الثرى وقد انحلت منه هاتيك البنية وانفصمت العرى ولا يكاد يتوقف في قبول ذلك من يجوز أن يرى أعمى الصين بقة أندلس، وثانيهما أن يكون ذلك السماع للروح بلا وساطة قوة في البدن ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقاً بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوي فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله عز وجل بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى الله سبحانه عادته بتمكينها من اسمع وخلقه لها عند زيارة القبر وكذا عند حمل البدن إليه وعند الغسل مثلاً ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوه فيها نفسها أن تسمع كل مسموع لما أن السماع مطلقاً وكذا سائر الإحساسات ليس إلا تابعاً للمشيئة فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه من السلام ونحوه، وهذا الوجه هو الذي يترجح عندي ولا يلزم عليه التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقاً في أفنية القبور لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى والتعلق الذي لا يعلم كيفيته وحقيقته إلا هو عز وجل فلتكن الروح حيث شاءت أو لا تكن في مكان كما هو رأي من يقول بتجردها‏.‏

ويؤخذ من كلام ذكره العارف ابن مرجان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفساً مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحاً أوجدها الله تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء الله تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو ولذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى قائماً يصلي في قبره وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعودة عليه الصلاة والسلام إلى السماء ولقيهما عليهما السلام بعد الصعود في السموات العلا فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ بالله تعالى، وبين الحقيقتين اتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عز وجل يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقاً فالميت يسمع الله تعالى روحه السلام عليه من زائرة في أي وقت كان ويقدره سبحانه على رد السلام كما صرح به في بعض الآثار‏.‏

وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي استطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الأحياء، وقيل‏:‏ رد السلام وعدمه مما يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره الله تعالى على الرد ولا يثاب عليه لانقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عز وجل، وعندي إن التعلق أيضاً مما يتفاوت قوة وضعفاً بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضاً وبذلك يجمع بين الأخبار والآثار المختلفة‏.‏

وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ‏}‏ مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8 2‏]‏ فمن ابتدائية وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي الله تعالى الذي ابتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 8‏]‏ وهذا التفسير وإن كان مأثوراً عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ‏}‏ وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً‏}‏ إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏شيبة‏}‏ للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم، وفتح عاصم‏.‏ وحمزة ضاد ‏{‏لأذقناك ضِعْفَ‏}‏ في الجمع وهي قراءة عبد الله‏:‏ وأبي رجاء‏.‏

وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش، ولذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم قراءة الضم كما ورد في حديث رواه أبو داود‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وأحمد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والطبراني‏.‏ والدارقطني‏.‏ وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ‏}‏ أي بالفتح فقال‏:‏ ‏{‏مّن ضَعْفٍ‏}‏ يا بني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى الله عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضاً كالقراءة التي اختارها، وروى عن عاصم الضم أيضاً، وعنه أيضاً الضم في الأولين والفتح في الأخير، وروى عن أبي عبد الرحمن‏.‏ والجحدري، والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد‏.‏

وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضاً فيه‏.‏ وحكى عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل، والظاهر أنه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل، والمراد بضعف الثاني عين الأول، ونكر لمشاكلة ‏{‏قُوَّةَ‏}‏ وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ‏{‏ضعافا‏}‏ وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقا أما بمعنى خلق أسبابها أو محالها وأما إيجادها أنفسه وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف ‏{‏وَهُوَ العليم القدير‏}‏ المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علماً لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة، والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها ‏{‏يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ‏}‏ أي ما أقاموا في القبور كما روى عن الكلبي‏.‏ ومقاتل، والمراد به ما أقاموا بعد الموت ‏{‏غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ أي قطعة من الزمان قليلة، وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا عير ساعة، ورجح الأول بأنه الأظهر لأن لبثهم مغياً بيوم البعث كما سيأتي إن شاء الله تعالى وليس لبثهم في الدنيا كذلك، وقيل‏:‏ يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوماً يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهراً قال أبيت قيل أربعون سنة قال‏:‏ أبيت» وعني بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت‏:‏ امتنعت من بيان ذلك لكم أو أبتي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة‏.‏ وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى اتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاماً، وأنا أقول‏:‏ الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الاتفاق لم يقم عندي دليل عليها‏.‏

وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه واستقلوا مدة لبثهم كذباً على ما روى عن الكلبي أو نسياناً لما عراهم من هول المطلع على ما قيل، وجوز أن يكون استقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار، وجوز أن يكونوا عدواً مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم، وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك اختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة، وكذا لا يضر اتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرفة فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علماً على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضاً كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الاشتقاق، وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذ التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حماراً ولقيت حماراً معهمماً تعني رجلاً بليداً واشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر عليه الرحمة موضعاً آخر وهو قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالابصار يُقَلّبُ الله اليل والنهار إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لاِوْلِى الابصار‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3 4و 44‏]‏ لأن الأبصار الأول جمع بصر والأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة، وتعقب بأنه وإن كان الإبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والاستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر، فقد قال علماء العربية‏:‏ إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ، وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدة كسحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم امرأة وسعائد فاستعيرت الأبصار للبصائر يجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز‏.‏

وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الإفك ‏{‏كَانُواْ‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي يصرفون عن الصدق والتحقيق، والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من اغترارهم بلامع السراب والغرض أن يحقر عندهم مافيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكأنه‏:‏ قيل مثل ذلك الإفك العجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا اغتراراً بما عدده ساعة استقصاراً والصارف لهم هو الله تعالى أو الشيطان أو الهوى، وأياً ما كان فليس ذاك إلا لسوء اختيارهم وخباثة استعدادهم، وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة‏.‏

واستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر، وليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان‏}‏ في الدنيا من الملائكة أو الانس أو منهما جميعاً ‏{‏لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله‏}‏ أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 00 1‏]‏ وأياً ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده‏.‏

وأخرج عبد بن حمي‏.‏ د وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم وفيه من البعد ما فيه أن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والايمان في كتاب الله لقد لبثتم ‏{‏إلى يَوْمِ البعث‏}‏ والكلام رد لما قالوه مؤكد باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل ‏{‏فهذا يَوْمُ البعث‏}‏ الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل‏:‏ إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاري وجوز أن تكون عاطفة والتعقيب ذكرى أو تعليلية ‏{‏إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ إنه حق لتفريطكم في النظر فتستعجلون به استهزاء، وقيل‏:‏ لا تعلمون البعث ولا تعترفون به فلذا صار مصيركم إلى النار‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏البعث‏}‏ بفتح العين فيهما، وقرىء بكسرهما وهو اسم والمفتوح مصدر، وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولى العلم لهم ‏{‏لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ أي عذرهم‏.‏

وقرأ الأكثر ‏{‏تَنفَعُ‏}‏ بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ الاستعتاب طلب العتبى وهي الاسم من الاعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والاستعطاء أي لا يطلب منهم آزالة عتب الله تعالى، والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب، وإن شئت قلت‏:‏ أي لا يقال لهم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا، وقيل‏:‏ أي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهى الرضا و‏{‏يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى انتهى، فجعل استفعل بمعنى فعل‏.‏

وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الاهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب، وقيل‏:‏ المعنى عليه هم لا يعاتبون على سياتهم بل يعاقبون، وما ذكرناه أولاً هو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويا ليت شعري أين ما ادعاه ابن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ أي وبالله تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، فضرب المثل اتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن‏.‏

والمثل مجاز عن الصفة الغريبة، والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية وجوزت الزيادة، وقيل‏:‏ المعنى وبالله تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبؤهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فضرب بمعنى بين والمثل على أصله، وقيل‏:‏ الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع ‏{‏وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ‏}‏ أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته ‏{‏لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ أي مزورون، وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها ليقولن الذين كفروا الخ، والاتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور، وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة وغيرهم فوجه الإظهار ظاهر، وتوحيد الخطاب في ‏{‏جِئْتَهُمْ‏}‏ على ما يقتضيه الظاهر، وأما جمعه في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ‏}‏ فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين، وقال الإمام‏:‏ في توحيد الخطاب في ‏{‏جِئْتَهُمْ‏}‏ وجمعه في ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ لطيفة وهي أن الله تعالى قال‏:‏ إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا‏:‏ أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن وألطف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الطبع الفظيع، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول ‏{‏يَطْبَعُ‏}‏ أي يختم ‏{‏الله‏}‏ الذي جلت عظمته وعظمت قدرته ‏{‏على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق، ومن هنا قالوا‏:‏ هو شر من الجهل البسيط، وما ألطف ما قيل‏:‏

قال حمار الحكيم توما *** لو أنصفوني لكنت أركب لأنني جاهل بسيط

وصاحبي جاهل مركب *** وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة وقيل‏:‏ المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولى العلم، وليس بذاك، والمراد من ‏{‏الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم للنعي بما في حيز العلة، ويحتمل أن يكون عاماً ويدخل فيه أولئك دخولاً أولياً‏.‏

وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عز وجل على القلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فاصبر‏}‏ أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ وقد وعدك عز وجل بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة ‏{‏وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ‏}‏ لا يحملنك على الخفة والقلق ‏{‏الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباصيلهم التي من جملتها قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8 5‏]‏ فإنهم شاكون ضالو ولا يستبدع أمثال ذلك منهم، وقيل‏:‏ أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى، والحمل وإن كان لغيره صلى الله عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك ههنا وقد مر تحقيقه فكأنه قيل‏:‏ لا تخف لهم جزعاً، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحق‏.‏ ويعقوب ‏{‏وَلاَ‏}‏ بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحداً استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله عليه وسلم لمكان العصمة، وقد تقدم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها‏.‏

وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة‏.‏ ويعقوب، ومن لطيف ما يروى ما أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي في «سننه» عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلاً من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5 6‏]‏ فأجابه كرم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة ‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الارض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1 3‏]‏ إلى آخره، قيل‏:‏ الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه، والروم إشارة إلى اقلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بعض سنين من أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري‏:‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلا له ظاهر وهو ما تدكره الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما تدركه العقل بإحدى طريق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدراً من حصوله بها، فقول من يقول‏:‏ إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 5 1‏]‏ أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2 17‏]‏ واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشباه المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم‏.‏ وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريباً ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب ‏{‏فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7 1‏]‏ الخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر إن حلق الذكر رياض الجنة ‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9 1‏]‏ فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله‏.‏

إنما الورد من الشوك ولا *** ينبت النرجس إلا من بصل

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1 2‏]‏ فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الألفة‏.‏

إن الطيور على أشباهها تقع *** ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 2 3‏]‏ فيه إشارة إلى أنه عز وجل لم يكره أحداً على ما هو عليه إن حقاً وإن باطلاً، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه حلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا سر الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح‏.‏

تعلق روحي روحها قبل خلقنا *** ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا *** وليس إذا متنا بمنفصم

العقد ولكنه باق على كل حادث *** وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الناس‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏ الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإدا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشؤمة ‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1 4‏]‏ الخ فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة ‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 60‏]‏ فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يوقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

‏[‏سورة لقمان‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ أي ذي الحكمة، ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة، واستظهر الطيبي أنه على ذلك من الاستعارة المكنية‏.‏ والحق أنه من باب ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 2‏]‏ على حد لابن وتامر‏.‏

نعم يجوز أن يكون هناك استعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي، ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عز وجل ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بداً، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى‏:‏

وغريبة تأتي الملوك حكيمة *** قد قلتها ليقال من ذا قالها

وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً ثم استكن في الصفة المشبهة‏.‏ وأن يكون ‏{‏الحكيم‏}‏ فعيلاً بمعنى مفعل كما قالوا‏:‏ عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل، وقيل‏:‏ هو بمعنى حاكم، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ بالنصب على الحالية من ‏{‏ءايات‏}‏ والعامل فيهما معنى الإشارة على ما ذكره غير واحد وبحث فيه‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والأعمش‏.‏ والزعفراني‏.‏ وطلحة‏.‏ وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي‏.‏ ونظيف بالرفع على الخبر بعد الخبر لتلك على مذهب الجمهور أو الخبر المحذوف أي هي أو هو هدى ورحمة عظيمة ‏{‏لّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي العاملين الحسنات، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة للمتعاطفين، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ إما مجرور على أنه صفة كاشفة أو بدل أو بيان لما قبله، وإما منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل فهو تفسير للمحسنين على طريقة قول أوس بن حجر‏:‏

الألمعي الذي يظن بك الظن *** كأن قد رأى وقد سمعا

فقد حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه، وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين، وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا باعتبار جعل المذكورات بمنزلة الجميع من باب كل الصيد في جوف الفرا، وقيل‏:‏ إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ استئنافاً، وإذا أريد بها جميع ما يحسن من الأعمال وكان تخصيص المذكورات بالذكر لفضل اعتداد بها يكون الموصول مبتدأ وجملة ‏{‏أولئك على هُدًى‏}‏ الخ خبره والكلام استئناف بذكر الصفة الموجبة للاستئهال‏.‏

وقيل‏:‏ إن الموصول على التقديرين صفة إلا أنه على التقدير الأول كاشفة وعلى التقدير الثاني صفة مادحة للوصف لا للموصوف، وبناء ‏{‏يُوقِنُونَ‏}‏ على ‏{‏هُمْ‏}‏ للتقوي، وأعيد الضمير للتأكيد ولدفع توهم كون ‏{‏بالاخرة‏}‏ خبراً وجبراً للفصل بين المبتدأ وخبره ولم يؤخر الفاصل للفاصلة‏.‏

وذكر بعض أجلة المفسرين في قوله تعالى أول سورة ‏[‏النمل‏:‏ 3‏]‏‏:‏ ‏{‏وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ إن بناء ‏{‏يُوقِنُونَ‏}‏ على ‏{‏هُمْ‏}‏ يدل على أن مقابليهم ليسوا من اليقين في ظل ولا فىء وإن تقديم ‏{‏فِى الاخرة‏}‏ يدل على أن ما عليه مقابلوهم ليس من الآخرة في شيء وذلك لإفادة تقديم الفاعل المعنوي وتقديم الجار على متعلقه الاختصاص فانظر هل يتسنى نحو ذلك هنا، وقد مر أول سورة البقرة ما يعلم منه وجه اختيار اسم الإشارة ووجه تكراره، وفي الآية كلام بعد لا يخفى على من راجع ما ذكروه من الكلام على ماي شبهها هناك وتأمل فراجع وتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ أي بعض من الناس أو بعض الناس ‏{‏مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ أي الذي أو فريق يشتري على أن مناط الإفادة والمقصود بالأصالة هو اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين، والجملة عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل‏:‏ من الناس هاد مهدي ومنهم ضال مضل أو عطف قصة على قصة، وقيل‏:‏ إنها حال من فاعل الإشارة أي أشير إلى آيات الكتاب حال كونها هدى ورحمة والحال من الناس من يشتري الخ، و‏{‏لَهْوَ الحديث‏}‏ على ما روي عن الحسن كل ما شغلك عن عبادة الله تعالى وذكره من السمر والأضاحيك والخرافات والغناء ونحوها، والإضافة بمعنى من أن أريد بالحديث المنكر كما في حديث ‏"‏ الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ‏"‏ بناءً على أنها بيانية وتبعيضية إن أريد به ما هو أعم منه بناءً على مذهب بعض النحاة كابن كيسان‏.‏ والسيرافي قالوا‏:‏ إضافة ما هو جزء من المضاف إليه بمعنى من التبعيضية كما يدل عليه وقوع الفصل بها في كلامهم، والذي عليه أكثر المتأخرين وذهب إليه ابن السراج‏.‏ والفارسي وهو الأصح أنها على معنى اللام كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل وذكر شارح اللمع‏.‏

وعن الضحاك أن ‏{‏لَهْوَ الحديث‏}‏ الشرك، وقيل‏:‏ السحر، وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن أبي الدنيا‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء قال‏:‏ سألت عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ قال‏:‏ هو والله الغناء وبه فسر كثير، والأحسن تفسيره بما يعم كل ذلك كما ذكرناه عن الحسن، وهو الذي يقتضيه ما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»‏.‏ وابن أبي الدنيا‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏لَهْوَ الحديث‏}‏ هو الغناء وأشباهه، وعلى جميع ذلك يكون الاشتراء استعارة لاختياره على القرآن واستبداله به، وأخرج ابن عساكر عن مكحول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ قال الجواري الضاربات‏.‏

وأخرج آدم‏.‏ وابن جرير‏.‏ والبيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال فيه‏:‏ هو اشتراؤه المغني والمغنية والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وفي رواية ذكرها البيهقي في السنن عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ في الآية هو رجل يشتري جارية تغنيه ليلاً أو نهاراً واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحرث، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه ويقول‏:‏ هذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه فنزلت‏.‏

وفي أسباب النزول للواحدي عن الكلبي‏.‏ ومقاتل أنه كان يخرج تاجراً إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشاً ويقول لهم‏:‏ إن محمداً عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد‏.‏ وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم‏.‏ واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت، وقيل‏:‏ إنها نزلت في ابن خطل اشترى جارية تغني بالسب، ولا يأبى نزولها فيمن ذكر الجمع في قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ لَهُمْ‏}‏ كما لا يخفى على الفطن، والاشتراء على أكثر هذه الروايات على حقيقته ويحتاج في بعضها إلى عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى على من دقق النظر، وجعل المغنية ونحوها نفس لهو الحديث مبالغة كما جعل ‏{‏النساء‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4 1‏]‏ نفس الزينة‏.‏

وفي «البحر» إن أريد بلهو الحديث ما يقع عليه الشراء كالجواري المغنيات وككتب الأعاجم فالاشتراء حقيقة ويكون الكلام على حذف مضاف أي من يشتري ذات لهو الحديث‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ عليه الرحمة لا حاجة إلى تقدير ذات لأنه لما اشتريت المغنية لغنائها فكأن المشتري هو الغناء نفسه فتدبره، وفي الآية عند الأكثرين ذم للغناء بأعلى صوت وقد تضافرت الآثار وكلمات كثير من العلماء الأخيار على ذمه مطلقاً لا في مقام دون مقام، فأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ والبيهقي في شعبه عن ابن مسعود قال‏:‏ إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان فقال‏:‏ تغنه فإن كان لا يحسن قال‏:‏ تمنه، واخرجا أيضاً عن الشعبي قال‏:‏ عن القاسم بن محمد أنه سئل عن الغناء فقال للسائل‏:‏ أنهاك عنه وأكرهه لك فقال السائل‏:‏ أحرام هو‏؟‏ قال‏:‏ انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، واخرجا عنه أيضاً أنه قال‏:‏ ‏"‏ لعن الله تعالى المغني والمغنى له ‏"‏، وفي «السنن» عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ‏"‏، وأخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا ورواه عن أبي هريرة‏.‏ والديلمي عنه وعن أنس وضعفه ابن القطان، وقال النووي لا يصح، وقال العراقي‏:‏ رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم وفيه إشارة إلى أن وقفه على ابن مسعود صحيح وهو في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي، وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ‏"‏

وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال‏:‏ قال يزيد بن الوليد الناقص‏:‏ يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا، وقال الضحاك‏:‏ الغناء منفدة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب، وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وأحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن جرير وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ إلى لآخر الآية ‏"‏ وفي رواية ابن أبي الدنيا‏.‏ وابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ ‏"‏ ويعود هذا ونحوه إلى ذم الغناء‏.‏

وقيل‏:‏ الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول يتغلغل في سويداء القلوب ويطلع على سرائر اوفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم كلامه حكمة وسكوته عبرة فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مروءته وبهاؤه فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ويبدي من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزاز كأنه جان وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك، واختلف العلماء في حكمه فحكى تحريمه عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه القاضي أبو الطيب‏.‏ والقرطبي‏.‏ والماوردي‏.‏ والقاضي عياض‏.‏

وفي التاتارخانية اعلم أن التغني حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وحكى عن ظهير الدين المرغيناني‏:‏ أنه قال من قال لمقري زماننا أحسنت عند قراءته كفر، وصاحبا الهداية والذخيرة سمياه كبيرة‏.‏ هذا في التغني للناس في غير الأعياد والأعراس ويدخل فيه تغني صوفية زماننا في المساجد والدعوات بالأشعار والأذكار مع اختلاط أهل الأهواء والمرد بل هذا أشد من كل تغن لأنه مع اعتقاد العبادة وأما التغني وحده بالأشعار لدفع الوحشة أو في الأعياد والأعراس فاختلفوا فيه والصواب منعه مطلقاً في هذا الزمان انتهى‏.‏

وفي «الدر المختار» التغني لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة على ما في العناية وصححه العيني وغيره قال ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقاً ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقاً ومنهم من كرهه مطلقاً انتهى‏.‏

وفي «البحر» والمذهب حرمته مطلقاً فانقطع الاختلاف بل ظاهر الهداية أنه كبيرة ولو لنفسه وأقره المنصف وقال‏:‏ ولا تقبل شهادة من يسمع الغناء أو يجلس مجلسه انتهى كلام الدر‏.‏

وذكر الإمام أبو بكر الطرسوسي في كتابه في تحريم السماع أن الإمام أبا حنيفة يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان‏.‏ وحماد‏.‏ وإبراهيم‏.‏ والشعبي‏.‏ وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافاً بين أهل البصرة في كراهة ذلك والمنع منه انتهى وكأن مراده بالكراهة الحرمة، والمتقدمون كثيراً ما يريدون بالمكروه الحوام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8 3‏]‏ ونقل عليه الرحمة فيه أيضاً عن الإمام مالك أنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال‏:‏ إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يرد بالعيب وأنه سئل ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال‏:‏ إنما يفعله عندنا الفساق‏؟‏ ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع وغيره، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب البلغة أن أكثر أصحابهم على التحريم وعن عبد الله ابن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ سألت أبي عن الغناء فقال ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك‏:‏ إنما يفعله عندنا الفساق، وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء الغناء حرام كالميتة، ونقل الطرسوسي أيضاً عن كتاب أدب القضاء أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وفيه أنه صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب‏.‏ والطبري‏.‏ والشيخ أبي إسحاق في التنبيه وذكر بعض تلامذة البغوي في كتابه الذي سماه التقريب أن الغناء حرام فعله وسماعه، وقال ابن الصلاح في فتاواه بعد كلام طويل‏:‏ فإذن هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين انتهى‏.‏

والذي رأيته في «الشرح الكبير للجامع الصغير» للفاضل المناوي أن مذهب الشافعي أنه مكروه تنزيهاً عند أمن الفتنة، وفي «المنهاج» يكره الغناء بلا آلة قال العلامة ابن حجر لما صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وذكر الحديث السابق الموقوف عليه وأنه جاء مرفوعاً من طرق كثيرة بينها في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ثم قال‏:‏ وزعم أنه لا دلالة فيه على كراهته لأن بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه يرد بأنا لا نسلم أن هذا ينبت نفاقاً أصلاً، ولئن سلمناه فالنفاق مختلف فالنفاق الذي ينبته الغناء من التخنث وما يترتب عليه أقبح وأشنع كما لا يخفى ثم قال‏:‏ وقد جزم الشيخان يعني النووي‏.‏

والرافعي في موضع بأنه معصية وينبغي حمله على ما فيه وصف نحو خمر أو تشبب بأمرد أو أجنبية ونحو ذلك مما يحمل غالباً على معصية، قال الأذرعي‏:‏ أما ما اعتيد عند محاولة عمل وحمل ثقيل كحداء الأعراب لإبلهم والنساء لتسكين صغارهن فلا شك في جوازه بل ربما يندب إذا نشط على سير أو رغب في خير كالحداء في الحج والغزو، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض الصحابة انتهى، وقضية قولهم بلا آلة حرمته مع الآلة، قال الزركشي لكن القياس تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على الكراهة انتهى‏.‏

ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه وفي رواية لمسلم تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشياطن عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد ‏"‏ الحديث‏.‏ ووجه الاستدلال أن هناك غناءً أو سماعاً وقد أنكر عليه الصلاة والسلام إنكا أبي بكر رضي الله تعالى عنه بل فيه دليل أيضاً على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة والسلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد استمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج‏.‏ وإنكار أبي بكر على ابنته رضي الله تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة والسلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائماً‏.‏ وفي «فتح الباري» استدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة‏.‏

ويكفي في رد ذلك ما رواه البخاري أيضاً بعيده عن عائشة أيضاً قالت‏:‏ «دخل على أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت‏:‏ وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر‏:‏ أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا» فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنياً وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح‏.‏

قال القرطبي‏:‏ قولها «ليستا بمغنيتين» أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان انتهى كلام القرطبي، وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله‏:‏ وإنما يسمى بذلك من ينشد الخ لا يخلو عن شيء بناءً على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك، وقال بعض الأجلة‏:‏ ليس في الخبر الإباحة مطلقاً بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه، وأيضاً إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر، وبإنكاره عليه الصلاة والسلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم‏.‏ وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى الله عليه وسلم الحال مقروناً ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، ومع هذا أشار صلى الله عليه وسلم بالتفافه بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى، وسماع صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلاً على جوازه‏.‏

واستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان يتغنى؛ ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور، ونحوه التغني في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ‏"‏ وسفيان بن عيينة‏.‏ وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالاستغناء فكأنه قيل‏:‏ ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره، وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره، ومثله ما روي عن عبد الله بن عوف قال‏:‏ أتيت باب عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني‏.‏

فكيف ثوائي بالمدينة بعدما *** قضى وطراً منها جميل بن معمر

أراد به جميلاً الجمحي وكان خاصاً به فلما استأذنت عليه قال لي‏:‏ أسمعت ما قلت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم‏.‏ وحرم جماعة السماع مطلقاً، وقال الغزالي‏:‏ السماع إما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالاً من المكاشفات والملاطفات، وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى، وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم‏.‏

وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال‏:‏ الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء، وأما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب، وقال أيضاً‏:‏ السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم إما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات نحو حزن وبكاء وتغير لون، وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد، ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات، فإن كان رجاؤه للإنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني، ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام، أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب، ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد، ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله، وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الولي أشد تأثيراً من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيراً منه ومن ولي، ومن الرب عز وجل أشد تأثيراً من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيراً في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيراً في المحب من كلام غيره، ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم جل شأنه، ومن يغلب عليه هوى مباح كمن يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به، ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأما من لم يجد في نفسه شيئاً من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها، ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها ويراؤن الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب، وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إيهام كونهم من الصالحين، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الإنس فيبكي أحدهم ويوم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم، ثم قال‏:‏ اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية، ولكل صفة من الصفات حال مختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم، وعلى هذا القياس، وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه انتهى، وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي‏.‏

ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال‏:‏ الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم، وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي‏.‏

واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي‏.‏ ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال‏:‏ هو ضلال للمبتدىء والمنتهي لا يحتاج إليه، وفيه مخالفة لما سمعت‏.‏

وقال القشيري رحمه الله تعالى‏:‏ إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع، ثم قال‏:‏ فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة، وأطال بما يطول ذكره، قيل‏:‏ وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لفقد شروط القيام بأدائه‏.‏ ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يوماً فجلس بينهم، وقال عليه الصلاة والتحية‏:‏ هل فيكم من ينشدنا أبياتاً‏؟‏ فقال واحد‏:‏

لسعت حية الهوى كبدي *** ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به

فعنده رقيتي وترياقي *** فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة، وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة، فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم ويتلوه هو أيضاً ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم، وأنا أقول‏:‏ قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم أنهم قبحهم الله تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون‏:‏ نعني بالخمر المحبة الالهية وبالسكر غلبتها وبمية‏.‏ وليلى‏.‏ وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عز وجل، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 0 18‏]‏ وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر لأن الخمر أم الخبائث فلا شبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات، ولقد كره لبعضهم قوله‏:‏ فأنت السمع والبصر لأنه شبه من لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال‏:‏ أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أر عن أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان العناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم يفعل شيئاً من ذلك، وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين‏.‏ احداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال‏.‏

والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء‏.‏ وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنما التصفيق للنساء» ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الاله وأدرك شيئاً من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدران إلا من جاهل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقالئق بالأهواء؛ وقد قال تعالى ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9 8‏]‏ ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئاً من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جل وعلا، وفاعله إن كان ممن يقتدي به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لا يهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات‏.‏ وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء، فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فاثم الفاعل من جهتين‏.‏ احداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما‏.‏ والثانية تصنعه ورياؤه، وإن كان عن مقتض أثم اثم رياء لا غير‏.‏ وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس اه كلامه، ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه الله تعالى أنه كان يرقص في السماع، والعلامة ابن حجر قال‏:‏ يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله، ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي‏:‏ موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق، ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدي بهم فيما قالوا اه، وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء، فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس بمحرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولأنه عليه الصلاة والسلام، أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد، وعند آخرين مكروه، وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المروءة إن كان باختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا بمكلفين، واستوضحه بعض الأجلة وقال‏:‏ يجب اطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه ان صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به، والذي يظهر لي أن غناء الرجل بمثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من امرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير اسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في الله ايلاه وفي محمد مو حامد، هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها ازدرى به لذلك أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال‏:‏ وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر، وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سبباً للازدراء به وهتك مروءته ولا لاحتماع الرجال والنساء على وجه محظور، وإن كان سبباً لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سبباً له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر الله تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب‏.‏