فصل: (سورة السجدة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏[‏سورة السجدة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الم‏}‏ إن جعل اسماً للسورة أو القرآن فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا الم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤول باسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ خبر ثالث، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ خبر رابع، وجوز أن يكون ‏{‏الم‏}‏ مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بالم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين، وتعقب بأن ما يجعل عنواناً للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ يجوز أن يكون مبتدأ و‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ بمعنى منزل خبره و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ حال من ‏{‏الكتاب‏}‏ والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة و‏{‏مَن رَّبُّ‏}‏ متعلق بتنزيل، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في ‏{‏فِيهِ‏}‏ والعامل فيها الظرف ‏{‏لاَ رَيْبَ‏}‏ لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت، وهذا التعلق يجوز أيضاً على تقدير أن يكون ‏{‏الم‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخباراً لذلك المحذوف، وإن جعل ‏{‏الم‏}‏ مسروداً على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب، وفي إعراب ما بعد عدة أوجه، قال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ مبتدأ و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ الخبر و‏{‏مَن رَّبُّ‏}‏ حال كما تقدم، ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه، ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏مَن رَّبُّ‏}‏ و‏{‏لاَ رَيْبَ‏}‏ حالاً من ‏{‏الكتاب‏}‏ وأن يكون خبراً بعد خبر انتهى‏.‏

ووجه منع التعلق بالمصدر بعدما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن التزام حديث التوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والاسم لا يخبر عنه قبل تمامه، وجوز ابن عطية تعلق ‏{‏مَن رَّبُّ‏}‏ بريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود، وجوز الحوفي كون ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب، وقال أبو حيان‏:‏ الذي اختاره أن يكون ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ مبتدأ ‏{‏وَلاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض لا محل له من الإعراب و‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ الخبر وضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلاً من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل‏:‏ لا ريب في ذلك أي في كونه منزلاً من رب العالمين وهذا ما اعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جل شأنه، وقيل‏:‏ أي فلا بد من أن يكون مورده حكماً مقصوداً بالإفادة لا قيداً للحكم بنفي الريب عنه، وفيه بحث، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ فإنه تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك‏:‏ إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولاً أن تنزيله من رب العالمين وأن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلاً عنه وهو كونه معجزاً للبشر، ثم أضرب جل وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ لأن ‏{‏أَمْ‏}‏ هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجيباً منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو إما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر، ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك، وفي «الكشف» أن الزمخشري بين وجاهة كون ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ مبتدأ و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراضاً و‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ خبراً بحسن موقع الاعتراض إذ ذاك ثم حسن الإنكار على الزاعم أنه مفترى مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الالتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ وما في إيثار لفظ ‏{‏الحق‏}‏ وتعريفه تعريف الجنس من الحسن؛ ويقرب عندي من هذا الوجه جعل ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ مبتدأ وجملة ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الكتاب‏}‏ و‏{‏مَن رَّبُّ‏}‏ خبراً فتدبر ولا تغفل، وزعم أبو عبيدة أن ‏{‏أَمْ‏}‏ بمعنى بل الانتقالية وقال‏:‏ إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء‏.‏

والظاهر أن ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ في موضع الحال أي كائناً من ربك، وقيل‏:‏ يجوز جعله خبراً ثانياً وإضافة الرب إلى العالمين أولاً ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ثانياً بعدما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه أنه عليه الصلاة والسلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر، ووروده على أسلوب الترقي دل على أن جمعيته صلى الله عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات الله تعالى وسلامه عليه ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ بيان للمقصود من تنزيله فقيل لهو متعلق بتنزيل، وقيل‏:‏ بمحذوف أي أنزله لتنذر الخ، وقيل‏:‏ بما تعلق به ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ ‏{‏وقوما‏}‏ مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب و‏{‏فِى مَا‏}‏ نافية كما هو الظاهر و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى صلة ‏{‏وَنَذِيرٌ‏}‏ فاعل ‏{‏ءاتاهم‏}‏ ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عز وجل قيل‏:‏ وهو المراد هنا كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4 2‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون النذير ههنا مصدراً بمعنى الإنذار و‏{‏مِن قَبْلِكَ‏}‏ أي من قبل إنذارك أو من قبل زمانك متعلق بأتى والجملة في موضع الصفة لقوما، والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد، قال في «الكشف»‏:‏ الظاهر أنه لم يبعث إليهم رسول منهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين في البحث عنها لا سيما دين إبراهيم‏.‏ وإسماعيل عليهما السلام إن قلنا‏:‏ إن دعوتي موسى‏.‏ وعيسى عليهما السلام لم تعما وهو الأظهر، وقد تقدم لك القول بانقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم بعد موته فلا يكلف أحد مطلقاً يجىء بعده باتباعه والقول بالانقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته، والظاهر أن قريشاً كانوا ملزمين بملة إبراهيم‏.‏ وإسماعيل عليهما السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4 2‏]‏ فإنه عام للرسول وللعالم الذي ينذر كذا قيل‏.‏ واستشكل مع ما هنا، وأجيب بأن المراد هنا ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك ‏{‏إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ منها أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول، وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان‏:‏ في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشاً ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين وإما أن النذارة انقطعت فلا‏.‏ نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله عز وجل وعبادته انتهى‏.‏

وفي القلب منه شيء، ومقتضاه أن المنفي ههنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام قريشاً الذين كانوا في عصره عليه الصلاة والسلام قبله صلى الله عليه وسلم وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك، والأول‏:‏ مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان، والثاني‏:‏ مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع وآمن به قبل بعثته عليه الصلاة والسلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين، وكان على ملة إبراهيم‏.‏

وإسماعيل عليهما السلام، فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول‏:‏ يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، وفي بعض طرق الخبر عنه أيضاً بزيادة، وكان يقول‏:‏ اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته، وذكر موسى بن عقبة في «المغازي» سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير الله، وأخرج الطيالسي في مسنده عن ابنه سعيد أنه قال‏:‏ ‏"‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفاستغفر له‏:‏ قال، نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ‏"‏ ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة الله تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وإنكاره على قريش الذبح لغير الله تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه السلام وعبادة الله سبحانه وحده، وكذا تضمن كلامه النقل أيضاً، ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي الله تعالى عنه لم يكن نبياً وهو ظاهر، وزعم بعضهم أنه كان نبياً، واستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول‏:‏ هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل غيري؛ وصحة ذلك ممنوعة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق، ومثل زيد رضي الله تعالى عنه قس بن ساعدة الأيادي فإنه رضي الله تعالى عنه كان مؤمناً بالله عز وجل داعياً إلى عبادته سبحانه وحده وعاصر النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين، ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، وقال المرزباني‏:‏ ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخباراً كثيرة لكن قال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته وهو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع، ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو الياس أو مضر أما إذا أريد من كان منهم حين بعث صلى الله عليه وسلم فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل، وقيل‏:‏ المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير من الأنبياء عليهم السلام غيره صلى الله عليه وسلم وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفاً، وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقاً، وموسى‏.‏

وعيسى‏.‏ وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ مرحباً بابنة نبي ضيعه قومه ونحوه من الإخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال، وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك، وقيل‏:‏ المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب، والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم‏.‏

هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عز وجل وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4 2‏]‏ ليوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6 3‏]‏ وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وإن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولاً أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وجوز كون ‏{‏مَا‏}‏ موصولة وقعت مفعولاً ثانياً لتنذر و‏{‏مّن نَّذِيرٍ‏}‏ عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك واختاره أبو حيان، وعليه لا مجال لتوهم الأشكال لكن لا يخفي أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين، والاقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ دون التبشير ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجياً لاهتدائهم، وجعل الترجي مستعاراً للإرادة منسوباً إليه عز وجل نزغة اعتزالية‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ مر بيانه فيما سلف على مذهبي السلف والخلف ‏{‏مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ أي ما لكم مجاوزين الله عز وجل أي رضاه سبحانه وطاعته تعالى ولي ولا شفيع أي لا ينفعكم هذان من الخلق عنده سبحانه دون رضاه جل جلاله فمن دونه حال من مجرور ‏{‏لَكُمْ‏}‏ والعامل الجار أو متعلقه، وعلى هذا المعنى لا دليل في الخطاب على أنه تعالى شفيع دون غيره ليقال‏:‏ كيف ذاك وتعالى جل شأنه أن يكون شفيعاً، وكفى في ذلك رده صلى الله عليه وسلم على الأعرابي حيث قال‏:‏ إنا نستشفع بالله تعالى إليك، وقد يقال‏:‏ الممتنع إطلاق الشفيع عليه تعالى بمعناه الحقيقي وأما إطلاقه عليه سبحانه بمعنى الناصر مجازاً فليس بممتنع، ويجوز أن يعتبر ذلك هنا وحينئذٍ يجوز أن يكون ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ حالاً مما بعد قدم عليه لأنه نكرة ودون بمعنى غير، والمعنى ما لكم ولي ولا ناصر غير الله تعالى، ويجوز أن يكون حالاً من المجرور كما في الوجه السابق، والمعنى ما لكم إذا جاوزتم ولايته ونصرته جل وعلا ولي ولا ناصر، ويظهر لي أن التعبير بالشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيراً ما كانوا يقولون في آلهتهم ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ ويزعمون أن كل واحد منها شفيع لهم ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها، فالإنكار على الأول‏:‏ متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معاً، وعلى الثاني‏:‏ إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يُدَبّرُ الامر‏}‏ قيل‏:‏ أي أمر الدنيا وشؤونها، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجىء محمود العاقبة وهو في حقه عز وجل مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجاران في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ السماء إِلَى الارض‏}‏ متعلقان به ومن ابتدائية وإلى انتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلاً له من السماء إلى الأرض، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم ‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ‏}‏ أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ عز وجل وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقاً تنجيزياً بأن يعلمه جل وعلا موجوداً بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عز وجل موجوداً كذلك ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعي فيها الحكمة وبين وجودها كذلك، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في حضرة قد أعدها سبحانه للاختبار بما هو جل جلاله أعلم به إظهاراً لكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته؛ وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار، وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل‏:‏ يريد تعالى الأمر متقناً مراعي فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون، وقيل‏:‏ العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عز وجل كما هو مروى عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ والضحاك والفعلان متنازعان في ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضاً وإلا فزمان التدبير والعروج يسير، وقيل‏:‏ المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في «اللوح المحفوظ» فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظراً للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهاباً وإياباً، والظاهر أن ‏{‏يُدَبّرُ‏}‏ عليه مضمن معنى الإنزال، والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل، وزعم بعضهم أن ضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 18‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى يدبر سبحان أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الرب جل شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 7 4‏]‏ ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عز وجل ويكتب في صحف ملائكته جل وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضاً ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة، ويشير إلى هذا ما روى عن مجاهد قال‏:‏ إنه تعالى يدبر ويلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنيننا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في ‏{‏يُدَبّرُ‏}‏ والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة و‏{‏أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ على ظاهره و‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ يتعلق بالفعلين واعمل الثاني كأنه قيل‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول‏:‏ قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل‏:‏ يجدد هذا الأمر مستمراً؛ وقيل‏:‏ المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه كما في سابقه، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جل وعلا فيه‏.‏ و‏{‏في يوم‏}‏ متعلق بالعروج ولا تنازع، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة، ولا ينافي هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطناً كل موطن ألف سنة، وقيل‏:‏ المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطاً وصعوداً، فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏ والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا اختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء الله تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها إلى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات، والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبراً من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولايصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه ‏{‏يُدَبّرُ‏}‏ مضمن معنى الإنزال ومن وإلى متعلقان به، ومعنى العروج الصعود كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 0 1‏]‏ والغرض من الألف استطالة المدة، والمعنى استقلال عبادة الخلص واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للاستبعاد، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 9‏]‏ لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة‏.‏ هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال ومخالفته للظاهر جداً وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو‏.‏ ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأمنتم مَّن فِى السماء أَن‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة و‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ متعلق بالعروج بلا تنازع، وأقول‏:‏ إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستوى على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عز وجل إظهاراً لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جل وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله، وقول بعضهم‏:‏ العرش موضع التدبير وما دون موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وسعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن الأنباري في المصاحف‏.‏ والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال‏:‏ دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبّرُ الامر مِنَ السماء إِلَى الارض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ فكأن ابن عباس اتهمه فقال‏:‏ ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏؟‏ فقال‏:‏ إنما سألتك لتخبرني فقال رضي الله تعالى عنه‏.‏ هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت‏:‏ ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس‏؟‏ قال‏:‏ بلى فأخبرته فقال للسائل‏:‏ هذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني‏.‏

وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي، ومحيي الدين قدس سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج، وقد ذكر ذلك وأياً ما أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في الفتوحات، وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة فكتب في جوابها ما كتب واستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقاً، منها إطلاقه على اليوم الربوبي وإطلاقه على اليوم الإلهي وأطال الكلام في ذلك المقام، ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئاً معتداً به في موضع آخر، وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضاً تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بني هذه الآية وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ صفة ‏{‏أَلْفٍ‏}‏ أو صفة ‏{‏سَنَةٍ‏}‏‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏يَعْرُجُ‏}‏ بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار واستتر الضمير‏.‏ وقرأ جناح بن حبيش ‏{‏مَا نُنَزّلُ الملائكة‏}‏ إليه بزيادة الملائكة قال أبو حيان‏:‏ ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏ بياء الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية للقدرة التامة والحكمة العامة ‏{‏عالم الغيب‏}‏ أي كل ما غاب عن الخلق ‏{‏والشهادة‏}‏ أي كل ما شاهده الخلق فيدبر سبحانه ذلك على وفق الحكمة، وقيل‏:‏ الغيب الآخرة والشهادة الدنيا ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب على أمره ‏{‏الرحيم‏}‏ للعباد، وفيه إيماء بأنه عز وجل متفضل فيما يفعل جل وعلا، واسم الإشارة مبدأ والأوصاف الثلاثة بعده أخبار له، ويجوز أن يكون الأول خبراً والأخير نعتان للأول‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بخفض الأوصاف الثلاثة على أن ذلك إشارة إلى الأمر مرفوع المحل على أنه فاعل ‏{‏يَعْرُجُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏ والأوصاف مجرورة على البدلية من ضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ وقرأ أبو زيد النحوي بخفض الوصفين الأخيرين على أن ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الله تعالى مرفوع المحل على الابتداء و‏{‏عالم‏}‏ خبره والوصفان مجروران على البدلية من الضمير، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح، وجوز أبو البقاء كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي، وكون ‏{‏العزيز‏}‏ مبتدأ و‏{‏الرحيم‏}‏ صفته وهذا خبره وجملة ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ في محل جر صفة ‏{‏شَىْء‏}‏ ويجوز أن تكون في محل نصب صفة ‏{‏كُلٌّ‏}‏ واحتمال الاستئناف بعيد أي حسن سبحانه كل مخلوق من مخلوقاته لأنه ما من شيء منها إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة واستدعته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت في مراتب الحسن كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏ ونفي التفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ على معنى ستعرفه إن شاء الله تعالى غير مناف لما ذكر، وجوز أن يكون المعنى علم كيف يخلقه من قوله‏.‏ قيمة المرء ما يحسن وحقيقته يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان، ولا يخفى بعده‏.‏

وقرأ العربيان‏.‏ وابن كثير ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ بسكون اللام فقيل‏:‏ هو بدل اشتمال من ‏{‏كُلٌّ‏}‏ والضمير المضاف هو إليه له وهو باق على المعنى المصدري، وقيل‏:‏ هو بدل كل من كل أو بدل بعض من كل والضمير لله تعالى وهو بمعنى المخلوق، وقيل‏:‏ هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أي أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل، وقيل‏:‏ هو المفعول الأول و‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ المفعول الثاني وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان والتفضل، وقيل‏:‏ هو المفعول الأول و‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ المفعول الثاني وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء أو التعريف كما قال أبو البقاء، والمعنى الهم أو عرف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 0 5‏]‏‏.‏

واختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لأحسن من معناه والضمير لله تعالى نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُنْعَ الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ و‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان‏}‏ أي آدم عليه السلام ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ أو بدأ خلق هذا الجنس المعروف ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ حيث بدأ خلق آدم عليه السلام خلقاً منطوياً على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجمالياً منه، وقرأ الزهري ‏{‏بَدَأَ‏}‏ بالألف بدلاً من الهمزة قال في «البحر» وليس القياس في هدأ هذا بإبدال الهمزة ألفاً بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين على أن الأخفش حكى في قرأت قريت قيل‏:‏ وهي لغة الأنصار فهم يقولون في بدأ بدي بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وطيء يقولون في فعل هذا نحو بقي بقي كرمي فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة بأن يكون الأصل بدي ثم صار بداً، وعلى لغة الأنصار قال ابن رواحة‏:‏

باسم الإله وبه بدينا *** ولو عبدنا غيره شقينا

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ‏}‏ أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه ‏{‏مِن سلالة‏}‏ أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية ‏{‏مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ ممتهن لا يعتني به وهو المني

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ‏}‏ عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي، وأصل التسوية جعل الأجزاء متساوية، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للترتيب الرتبي أو الذكري‏.‏

‏{‏وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏ أضاف الروح إليه تعالى تشريفاً له كما في بيت الله تعالى وناقة الله تعالى وإشعاراً بأنه خلق عجيب وصنع بديع، وقيل‏:‏ إضافة لذلك إيماء إلى أن له شأنه له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية‏.‏

ومن هنا قال أبو بكر الرازي‏:‏ م عرف نفسه فقد عرف ربه، ونفخ الروح قيل‏:‏ مجاز عن جعلها متعلقة بالبدن وهو أوفق بمذهب القائلين بتجرد الروح وأنها غير داخلة في البدن من الفلاسفة وبعض المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة، وقيل‏:‏ هو على حقيقته والمباشر له الملك الموكل على الرحم وإليه ذهب القائلون بأن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر، وهو الذي تشهد له ظواهر الأخبار وأقام العلامة ابن القيم عليه نحو مائة دليل‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة‏}‏ التفات إلى الخطاب لا يخفى موقع ذكره بعد نفخ الروح وتشريفه بخلعة الخطاب حين صلح للخطاب والجعل إبداعي واللام متعلقة به، والتقديم على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم، وتقديم السمع لكثرة فوائده فإن أكثر أمور الدين لا تعلم إلا من جهته وأفرد لأنه في الأصل مصدر‏.‏

وقيل‏:‏ للإيماء إلى أن مدركه نوع واحد وهو الصوت بخلاف البصر فإنه يدرك الضوء واللون والشكل والحركة والسكون وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك مدركات الحواس بواسطتها وزيادة على ذلك أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها في أنفسها نعماً جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلاً منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلي والقلة بمعنى النفي كما ينبى عنه ما بعده‏.‏

ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف وقع معمولاً لتشكرون أي شكراً قليلاً تشكرون أو زماناً قليلاً تشكرون‏.‏

واستظهر الخفاجي عليه الرحمة كون الجملة حالية لا اعتراضية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات إيذاناً بأن ما ذكر من عدم شكرهم تلك النعم موجب للإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة، وروى أن القائل أبي بن خلف فضمير الجمع لرضا الباقين بقوله ‏{‏أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ أي ضعنا فيها بأن صرنا تراباً مخلوطاً بترابها بحيث لا نتميز منه فهو من ضل المتاع إذا ضاع أو غبنا فيها بالدفن وإن لم نصر تراباً وإليه ذهب قطرب، وأنشد قول النابغة يرثي النعمان بن المنذر‏:‏

وآب مضلوه بعين جلية *** وغودر بالجولان حزم ونائل

وقرأ يحيى بن يعمر‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن وثاب ‏{‏ضَلَلْنَا‏}‏ بكسر اللام ويقال‏:‏ ضل يضل كضرب يضرب وضل يضل كعلم يعلم وهما بمعنى والأول اللغة المشهورة الفصيحة وهي لغة نجد والثاني لغة أهل العالية‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏ضَلَلْنَا‏}‏ بضم الضاد المعجمة وكسر اللام ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وإبان بن سعيد بن العاصي ‏{‏صللنا‏}‏ بالصاد المهملة وفتح اللام ونسبت إلى علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن الحسن أنه كسر اللام ويقال فيه نحو ما يقال في ضل بالضاد المعجمة وزيادة أصل بالهمزة كأفعل، قال الفراء‏:‏ والمعنى صرنا بين الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة كأنها من الصليل لأن اليابس الصلب إذا انشق يكون له صليل، وقيل‏:‏ أنتنا من الصلة وهو النتن، وقيل‏:‏ للأرض الصلة لأنها است الدنيا وتقول العرب ضع الصلة على الصلة، وقال النحاس لا نعرف في اللغة صللنا ولكن يقال أصل اللحم وصل وأخم وخم إذا نتن وهذا غريب منه‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏قَبْلِكُمْ إِذَا‏}‏ بترك الاستفهام والمراد الإخبار على سبيل الاستهزاء والتهكم والعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وهو نبعث أو يجدد خلقنا، ولا يصح أن يكون هو العامل لمكان الاستفهام وإن وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله ويعتبر ما ذكر من نبعث أو يجدد خلقنا جواباً لاذا إذا اعتبرت شرطية لا ظرفية محضة والهمزة للإنكار والمراد تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو المتبادر من تقديمها على أداته فإنها مؤخرة عنها في الاعتبار وتقديمها عليها لقوة اقتضائها الصدارة‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏{‏أَنَاْ‏}‏ بترك الاستفهام على نحو ما ذكر آنفاً ‏{‏بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون‏}‏ إضراب وانتقال عن بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بلقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده جميعاً، وقيل‏:‏ هو إضراب وترق من التردد في البعث واستبعاده إلى الجزم بجحده بناء على أن لقاء الرب كناية عن البعث، ولا يضر فيه على ما قال الخفاجي كون الاستفهام السابق إنكارياً وهو يؤل إلى الجحد فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ رداً عليهم ‏{‏يتوفاكم مَّلَكُ الموت‏}‏ يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئاً من أجزائها أولاً يترك شيئاً من جزئياتها ولا يبقى أحداً منكم، وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه، وفسر بالاستيفاء لأن التفعل والاستفعال يلتقيان كثيراً كتقضيته واستقضيته وتعجله واستعجلته، ونسبة التوفي إلى ملك الموت باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام يباشر قبض الأنفس بأمره عز وجل كما يشير إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذى وُكّلَ بِكُمْ‏}‏ أي بقبض أنفسكم ومعرفة انتهاء آجالكم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال‏:‏ أبشريا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله مالي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصحفهم فهي كل يوم وليلة خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه، وأخرج نحوه الطبراني‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ وابن منده ونسبته إليه عز وجل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2 4‏]‏ باعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوقة له جل وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوى الكسب كما يقوله الأشاعرة أو باعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جل شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1 6‏]‏ وإلى الملائكة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8 2‏]‏ لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت، وقيل‏:‏ المراد بملك الموت الجنس، وقال بعضهم‏:‏ إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم الله عز وجل بنفسه، أخرج ابن ماجه عن أبي أمامة قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى وكل ملك الموت عليه السلام بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم‏.‏

وجاء ذلك أيضاً في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للإنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل‏.‏ أخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ وكل ملك الموت عليه السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في «البحر» فإن الله تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه‏.‏

والذي ذهب إليه الجمهور أن ملك الموت لمن يعقل وما لا يعقل من الحيوان واحد وهو عزرائيل ومعناه عبد الله فيما قيل نعم له أعوان كما ذكرنا، وخبر الضحاك عن ابن عباس الله تعالى أعلم بصحته ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ بالبعث للحساب والجزاء‏.‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها على ما ذكرنا في توجيه الإضراب ظاهرة لأنهم لما جحدوا لقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده ذكر لهم حديث توفي ملك الموت إياهم إيماء إلى أنهم سيلاقونه وحديث الرجوع إلى الله تعالى بالبعث للحساب والجزاء، وأما على ما قيل فوجه المناسبة أنهم لما أنكروا البعث والمعاد رد عليهم بما ذكر لتضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ البعث وزيادة ذكر توفي ملك الموت إياهم وكونه موكلاً بهم لتوقف البعث على وفاتهم ولتهديدهم وتخويفهم وللإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء، وقيل‏:‏ إن ذلك لرد ما يشعر به كلامهم من أن الموت بمقتضى الطبيعة حيث أسندوه إلى أنفسهم في قولهم‏:‏ ‏{‏أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 0 1‏]‏ فليس عندهم بفعل الله تعالى ومباشرة ملائكته، ولا يخفى بعده‏.‏ وأبعد منه ما قيل في المناسبة‏:‏ إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى والقدر جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عز وجل لما أن ذلك السريان مما خفى على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بالبناء للفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون‏}‏ وهم القائلون‏:‏ ‏{‏أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ أو جنس المجرمين وهم من جملتهم ‏{‏نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ‏}‏ مطرقوها من الحياء والخزي ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ حين حسابهم لمايظهر من قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏نُكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ‏}‏ فعلاً ماضياً ومفعولاً ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ بتقدير القول الواقع حالاً والعامل فيه ‏{‏نَاكِسُواْ‏}‏ أي يقولون ربنا الخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم‏:‏ ربنا ‏{‏أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا‏}‏ أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عمياً صماً لا ندرك شيئاً ‏{‏فارجعنا‏}‏ إلى الدنيا ‏{‏نَعْمَلْ صالحا‏}‏ حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل ادعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ استئناف لتعليل ما قبله، وقيل‏:‏ استئناف لم يقصد به التعليل، وعلى التقديرين هو متضمن لادعائهم صحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها، وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه، وكأنه لذلك لم يقولوا‏:‏ أبصرنا وسمعنا وأيقنا فارجعنا الخ، ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى، ويجوزأن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال‏:‏ أبصرنا البعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم السلام ويراد به نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَكْسِبُونَ يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏ لا الإخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلاً أو يقال أبصرنا البعث وما وعدتنا به وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال‏:‏ أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار، وقيل‏:‏ أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنية فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فارجعنا الخ، ولا يخفى حال هذا القيل، وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الأبصار على السماع ظاهر، و‏{‏لَوْ‏}‏ هي التي سماها غير واحد امتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً لا يقادر قدره‏.‏

والخطاب في ‏{‏تَرَى‏}‏ لكل أحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته، وقيل‏:‏ لأن القصد إلى بيان أنحالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء، والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولاً، والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمراً فظيعاً، وجوز أن يكون الخطاب خاصاً بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم و‏{‏لَوْ‏}‏ للتمنى كأنه قيل‏:‏ ليتك إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم لتشمت بهم، وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم، ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور، وقال أبو حيان‏.‏

وابن مالك‏:‏ لا بد لها من الجواء استدلالاً بقول مهلهل في حرب البسوس‏:‏

فلو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقرعينا

وكيف لقاء من تحت القبور *** فإن لو فيه للتمنى بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر، ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل‏:‏ لو حصل نبش فإخبار، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقال الخفاجي عليه الرحمة‏:‏ لو قيل‏:‏ إنها لتقدير التمني معها كثيراً أعطيت حكمه واستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مماذكر، وجوزأن يقدر لترى مفعول دل عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رؤسهم والمضي في لو الامتناعية وإذ لأن إخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي فيستعمل فيه ما يدل على المضي مجازاً كلو وإذ، هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية‏:‏ المعنى قل يا محمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال‏:‏ رأى أن الجملة معطوفة على ‏{‏يتوفاكم‏}‏ داخلة تخت ‏{‏قُلْ‏}‏ السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة والسلام انتهى كلامه فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ مقدر بقول معطوف على مقدر قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَبْصَرْنَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ الخ وهو جواب لقولهم ‏{‏ارجعنا‏}‏ يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء اختيارهم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى إعطاءهم الهدي أي ونقول‏:‏ لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقاً فعلياً بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح، وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى، وأما تفسيره بما سأله الكفرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء ‏{‏هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنْى‏}‏ أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله‏:‏ ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2 8 5 8‏]‏ وهو المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة، وقيل‏:‏ التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر‏.‏

ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا‏}‏ إلى ضمير الوحدة في قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏ولكن حَقَّ القول مِنْى‏}‏ وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرد على اللعين وقد وقع فيه القول ولإملاء مسندين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ‏}‏ في توحيد الضمير، وقد يقال‏:‏ ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه ‏{‏مِنَ الجنة‏}‏ والناس أو يقال‏:‏ إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فهي متوهم نوعاً من أنواع الشركة أصلاً أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما ارتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك، أو يقال‏:‏ وحد الضمير في ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في ‏{‏حَقَّ القول مِنْى‏}‏ والإيتاء يتعدد بتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في ‏{‏شِئْنَا‏}‏ فتدبر، ولا يلزم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ دخول جميع الجن والإنس فيها، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1 7‏]‏ فالورود فيه غير الدخول، وقد مر الكلام في ذلك لأن ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ تفيد عموم الأنواع لا الأفراد فالمعنى لأملأنها من ذينك النوعين جميعاً كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعاً كذا قيل، ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما، واستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في ‏{‏الجنة‏}‏ للعهد والمراد عصاتها ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس، وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحقق القول مني لأملأن جهنم الخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين اختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏ الآية فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول، وإنما قيدت المشيئة بما مر من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالاً متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطاً بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغي وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها بأن يقال‏:‏ ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 3 2‏]‏ كذا قال بعض الأجلة‏.‏

وقد يقال‏:‏ يجوز أن يراد بالمشيئة المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم ويراد بالقول علم الله تعالى فإنه وكذا كلمة الله سبحانه يطلق على ذلك كما قال الراغب، وذكر منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96‏]‏ وحاصل المعنى لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه ولكن ثبت وتحقق علمي إزلاً بتعذيب العصاة فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم لئلا يلزم انقلاب العلم جهلاً ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة استلزام العلة للمعلول فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة وهو محال وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة فإما أن ينتفي العلم المذكور وهو محال لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري فتعين انتفاء المشيئة لذلك ويرجح هذا بالآخرة إلى أن سبب انتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم في نفسه فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة فلا يشاؤهم جل جلاله إلا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علماً‏.‏

ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره ويقال‏:‏ إنه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جل وعلا قال لإبليس عليه اللعنة‏:‏ إنه سبحانه يعذب أتباعه ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول ويرجع بالآخرة أيضاً إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل، ومآل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم، ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالأعيان الثابتة وأن الشقي شقي في نفسه والسعيد سعيد في نفسه وعلم الله تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما وأن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جل شأنه فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى إياهما على ما هما عليه في أنفسهما فإذا تم هذا تم ذاك وإلا فلا، والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قبل من نفي الرجع إلى الدنيا أو على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن حَقَّ القول مِنْى‏}‏ الخ، ولعل هذا أسرع تبادراً، وجعلها بعضهم واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا يئستم من الرجوع أو إذا حق القول فذوقوا، وجوز كونها تفصيلية والأمر للتهديد والتوبيخ، والباء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ للسببية و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية و‏{‏هذا‏}‏ صفة يوم جىء به للتهويل، وجوز كونه مفعول ‏{‏ذُو‏}‏ وهو إشارة إلى ما هم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم، وعلى الأول يكون مفعول ‏{‏وَنَقُولُ ذُوقُواْ‏}‏ محذوفاً والوصفية أظهر أي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية، وهذا تسريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقياً كان أو غيره، والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادراً منهم لا يسعهم إنكاره، والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه باعتبار تعمد سببه من الانهماك في اتباع الشهوات، ومثله في كونه مجازاً النسيان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نسيناكم‏}‏ أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازاً مانعاً منها قيل‏:‏ والقرينة على قصد المشاكلة فيه أنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 0 4‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا، ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له استحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل من النسيان وما ذكر في استيجاب العذاب، وفي إبهام المذوق أولاف وبيانه ثانياً بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبىء عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا‏}‏ استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل‏:‏ إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملاً صالحاً ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن ‏{‏الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا‏}‏ أي وعظوا ‏{‏خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏ أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلاً عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعاً لله تعالى وخشوعاً وخوفاً من عذابه عز وجل، قال أبو حيان‏:‏ هذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس‏:‏ السجود هنا الركوع‏.‏

وروي عن ابن جريج‏.‏ ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ اه‏.‏

ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال ‏{‏وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبراً كأن لم يسمع الآيات، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري ‏{‏خَرُّواْ‏}‏ و‏{‏سَبَّحُواْ‏}‏ وجوز عطفها على أحد الفعلين، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم‏.‏

وجوز أن تكون حالية أو خبراً ثانياً للمبتدأ، والتجافي البعد والارتفاع؛ والجنوب جمع جنب الشقوق، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، و‏{‏المضاجع‏}‏ جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

نبي تجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ ومالك‏.‏ والأوزاعي‏.‏ وغيرهم‏.‏ وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له، أخرج أحمد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال‏:‏ «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت‏:‏ يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار‏؟‏ قال‏:‏ لقد سألت عن عظيم وأنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال‏:‏ ألا أدلك على أبواب الخير‏؟‏ الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ حتى بلغ يعملون» الحديث‏.‏

وقال أبو الدرداء‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة، وعن الحسن‏.‏ وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء، أخرج الترمذي وصححه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهما عن أنس قال‏:‏ إن هذه الآية ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها‏:‏ نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد‏.‏ وابن عدي‏.‏ وابن مردويه عن مالك بن دينار قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن هذه الآية ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ قال‏:‏ كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وقال قتادة‏.‏ وعكرمة‏:‏ هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء؛ واستدل به بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد الله بن عيسى قال‏:‏ كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى، وروى نحوه هو‏.‏ ومحمد بن نصر عن الضحاك‏.‏ والجمهور عولوا على ما هو المشهور، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار‏.‏

‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏جُنُوبُهُمْ‏}‏ وقد أضيف إليه ما هو جزء، وجوز على احتمال كون جملة ‏{‏تتجافى‏}‏ الخ حالية أن تكون حالاً ثانية مما جعلت تلك حالاً منه وعلى احتمال كونها خبراً ثانياً للمبتدأ أن تكون خبراً ثالثاً، وجوز كونها مستأنفة، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر، وقيل‏:‏ المراد به الصلاة ‏{‏خَوْفًا‏}‏ أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عز وجل وعدم قبول عبادتهم ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفاً ويطمعون طمعاً وتكون الجملة حينئذٍ حالاً، وأن يكونا مفعولاً له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح‏.‏

‏{‏وَمِمَّا رزقناهم‏}‏ إياه من المال ‏{‏يُنفِقُونَ‏}‏ في وجوه الخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ‏}‏ أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم، والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق رجاءهم فلا تعلم نفس ‏{‏مَّا أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجلية ‏{‏مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ أي مما تقر به أعين، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال‏.‏

وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ‏"‏ وأخرج القريابي‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال‏:‏ إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع إذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي جوزوا جزاءً بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة‏.‏

وجوز جعلها حالية، وقيل‏:‏ يجوز جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة المتقدمة، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون مفعولاً له لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُهُمْ نَفْسٌ‏}‏ على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفي فإن إخفاءه لعلو شأنه، وعن الحسن أنه قال‏:‏ أخفى القوم أعمالاً في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفي ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل‏.‏

وفي «الكشف» أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ‏}‏ رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء، وعدم ذكر الفاعل في ‏{‏أُخْفِىَ‏}‏ ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ ويعقوب‏.‏ والأعمش ‏{‏أُخْفِىَ‏}‏ بسكون الياء فعلاً مضارعاً للمتكلم، وابن مسعود ‏{‏نُخْفِى‏}‏ بنون العظمة، والأعمش أيضاً ‏{‏أخفيت‏}‏ بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده، ومحمد بن كعب ‏{‏مَّا أُخْفِىَ‏}‏ فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ في جميع ذلك اسم موصول مفعول ‏{‏تَعْلَمْ‏}‏ والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها، وقال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية وموضعها رفع بالابتداء و‏{‏أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل ‏{‏أُخْفِىَ‏}‏ مضارعاً يكون ‏{‏مَا‏}‏ في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإبهام للتعظيم‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وأبو الدرداء‏.‏ وأبو هريرة‏.‏ وعون‏.‏ والعقيلي ‏{‏مِنْ قَرَأْتَ‏}‏ على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي عمرو‏.‏ وأبي جعفر والأعمش، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة، والجار والمجرور في موضع الحال‏.‏