فصل: تفسير الآية رقم (15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ‏}‏ لم ذكر عز وجل حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه تعالى ذكر حال الكافرين بالنعمة المعرضين عنه جل شأنه موعظة لقريش وتحذيراً لمن كفر بالنعم وأعرض عن المنعم، وسبأ في الأصل اسم رجل وهو سبا بن يشجب بالشين المعجمة والجيم كينصر بن يعرب بن قحطان، وفي بعض الأخبار عن قروة بن مسيك قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن سبا أرجل هو أم امرأة‏؟‏ فقال‏:‏ هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد‏.‏ وكندة‏.‏ ومذحج والأشعريون وأنمار ومنهم بجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام، وفي شرح قصيدة عبد المجيد بن عبدون لعبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي البستي أن سبا بن يشجب أول ملوك اليمن في قول واسمه عبد شمس وإنما سمي سبا لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان وكان ملكه أربعمائة وأربعاً وثمانين سنة ثم سمي به الحي، ومنع الصرف عنه ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو وباعتبار جعله اسماً للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث، وقرأ قنبل بإسكان الهمزة على نية الوقف، وعن ابن كثير قلب همزته ألفاً ولعله سكنها أولاً بنية الوقف كقنبل ثم قلبها ألفاً والهمزة إذا سكنت يطرد قلبها من جنس حركة ما قبلها، وقيل‏:‏ لعله أخرجها بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب، والمراد بسبا هنا إما الحي أو القبيلة وإما الرجل الذي سمعت وعليه فالكلام على تقدير مضاف أي لقد كان في أولاد سبا، وجوز أن يراد به البلد وقد شاع إطلاقه عليه وحينئذ فالضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى مَسْكَنِهِمْ‏}‏ لأهلها أولها مراداً بها الحي على سبيل الاستخدام والأمر فيه على ما تقدم ظاهر، والمسكن اسم مكان أي في محل سكناهم وهو كالدار يطلق على المأوى للجميع وإن كان قطراً واسعاً كما تسمى الدنيا داراً، وقال أبو حيان‏:‏ ينبغي أن يحمل على المصدر أي في سكناهم لأن كل أحد له مسكن وقد أفرد في هذه القراءة وجعل المفرد بمعنى الجمع كما في قوله‏:‏

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** وقوله‏:‏

قد عض أعناقهم جلد الجواميس *** يختص بالضرورة عند سيبويه انتهى‏.‏

وبما ذكرنا لا تبقى حاجة إليه كما لا يخفى، واسم ذلك المكان مأرب كمنزل وهي من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وقرأ الكسائي‏.‏ والأعمش وعلقمة ‏{‏مَسْكَنِهِمْ‏}‏ بكسر الكاف على خلاف القياس كمسجد ومطلع لأن ما ضمت عين مضارعة أو فتحت قياس المفعل منه زماناً ومكاناً ومصدراً الفتح لا غير، وقال أبو الحسن كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة الحجاز وهي اليوم قليلة، وقال الفراء‏:‏ هي لغة يمانية فصيحة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مساكنهم‏}‏ جمعاً أي في مواضع سكناهم ‏{‏ءايَةً‏}‏ أي علامة دالة بملاحظة أخواتها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار وأنه سبحانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء وهي اسم كان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ بدل منها على ما أشار إليه الفراء وصرح به مكي وغيره، وقال الزجاج‏:‏ خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ولا يشترط في البدل المطابقة أفراداً وغيره وكذا الخبر إذا كان غير مشتق ولم يمنع المعنى من اتحاده مع المبتدا؛ ولعل وجه توحيد الآية هنا مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 0 5‏]‏ ولا حاجة إلى اعتبار مضاف مفرد محذوف هو البدل أو الخبر في الحقيقة أي قصة جنتين، وذهب ابن عطية بعد أن ضعف وجه البدلية ولم يذكر الجهة إلى أن ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِينٌ يَمِينٍ وَشِمَالٍ‏}‏ ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا أن اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو جنتان عظيمتان وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام متفلتاً عما قبله‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏جَنَّتَيْنِ‏}‏ بالنصب على المدح، وقال أبو حيان‏:‏ على أن آية اسم كان و‏{‏جَنَّتَيْنِ‏}‏ الخبر وأياً ما كان فالمراد بالجنتين على ما روى عن قتادة جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله وإطلاق الجنة على كل جماعة لأنها بالتقارب أفرادها وتضامنها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، وقيل‏:‏ أريد بستاناً كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2 3‏]‏ قيل‏:‏ ولم تجمع لئلا يلزم أن لكل مسكن رجل جنة واحدة لمقابلة الجمع بالجمع، ورد بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ‏}‏ يدفع ذلك لأنه بالنظر إلى كل مسكن إلا أنها لو جمعت أو هم أن لكل مسكن جنات عن يمين وجنات عن شمال وهذا لا محذور فيه إلا أن يدعي أنه مخالف للواقع ثم أنه قيل إن في فيما سبق بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا ظرف لهما، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى هذا فإن القريب من الشيء قد يجعل فيه مبالغة في شدة القرب ولكل جهة لكن أنت تعلم أنه إذا أريد بالمساكن أو المسكن ما يصلح أن يكون ظرفاً لبلدهم المحفوفة بالجنتين أو لمحمل كل منهم المحفوفة بهما لم يحتج إلى التأويل أصلاً فلا تغفل ‏{‏كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ‏}‏ جملة مستأنفة بتقدير قول أي قال لهم نبيهم كلوا الخ، وفي «مجمع البيان» قيل‏:‏ إن مساكنهم كانت ثلاثة عشر قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى الله عز وجل يقول كلوا من رزق ربكم الخ، وقيل‏:‏ ليس هناك قول حقيقة وإنما هو قول بلسان الحال ‏{‏بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره، والجملة استئناف للتصريح بموجب الشكر، ومعنى طيبة زكية مستلذة‏.‏

يروى أنها كانت لطيفة الهواء حسنة التربة لا تحذف فيها عامة ولا يكون فيها هامة حتى أن الغريب إذا حلها وفي ثيابه قمل أو براغيث ماتت، وقيل‏:‏ المراد بطيبها صحة هوائها وعذوبة مائها ووفور نزهتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في الصيف ولا برد يؤذي في الشتاء، وقرأ رويس بنصب ‏{‏بَلْدَةٌ‏}‏ وجميع ما بعدها وذلك على المدح والوصفية‏.‏

وقال أحمد بن يحيى‏:‏ تقدير اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً ومن الاتفاقات النادية إن لفظ بلدة طيبة بحساب الجمل واعتبار هاء التأنيث بأربعمائة كما ذهب إليه كثير من الأدباء وقع تاريخاً لفتح القسطنطينية وكانت نزهة بلاد الروم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَعْرِضُواْ‏}‏ أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الإعراض عن الايمان لأنه أعظم الكفر والكفران، وقال أبو حيان‏:‏ أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم‏}‏ أي الصعب من عرم الرجل مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس من تفسيره بالشديد، وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن أباها من النحاة قال التقدير سيل الأمر العرم‏.‏

وقيل‏:‏ العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها، وقيل‏:‏ هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سبباً لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الذي يقال له الخلد وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة، وقال ابن جبير‏:‏ العرم المسناة بلسان الحبشة، وقال الأخفش، هو بهذا المعنى عربي، وقال المغيرة بن حكيم‏:‏ وأبو ميسرة‏:‏ العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بنى أو سنم ليمسك الماء ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة، والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى؛ وعن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك‏.‏ ومقاتل هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وربني السد فيه، ووجه إضافة السيل إليه ظاهر، وقرأ عزرة بن الورد فيما حكى ابن خالويه ‏{‏العرم‏}‏ بإسكان الراء تخفيفاً كقولهم في الكبد الكبد‏.‏ روى أن بلقيس لما ملكت اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا‏:‏ لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم‏:‏ أنتم لا عقول لكم ولا تطيعوني فقالوا‏:‏ نطيعك فرجعت إلى واديهم وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجاً على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام ما كان‏.‏

وقيل‏:‏ الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية، وقيل بناه لقمان الأكبر بن عاد ورصف أحجاره بالرصاص والحديد وكان فرسخاً في فرسخ ولم يزالوا في أرغد عيش وأخصب أرض حتى أن المرأة تخرج وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيمتلى المكتل مما يتساقط من أشجار بساتينهم إلى أن أعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء عليهم السلام فسلط الله تعالى على سدهم الخلد فوالد فيه فخرقه فأرسل سبحانه سيلاً عظيماً فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس، وقيل‏:‏ إنه أذهب السد فاختل أمر قسمة الماء ووصوله إلى جنانهم فيبست وهلكت، وكان ذلك السيل على ما قيل في ملك ذي الأذعار بن حسان في الفترة بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، وفيه بحث على تقدير القول بأن الإعراض كان عما جاءهم من أنبيائهم الثلاثة عشر كما ستعلمه إن شاء الله تعالى عن قريب‏.‏

‏{‏وبدلناهم‏}‏ أي أذهبنا جنتيهم وأتينا بدلها ‏{‏بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ‏}‏ أي ثمر ‏{‏خَمْطٍ‏}‏ أي حامض أو مر، وعن ابن عباس الخمط الأراك ويقال لثمره مطلقاً أو إذا أسود وبلغ البربر، وقيل شجر الغضا ولا أعلم هل له ثمر أم لا، وقال أبو عبيدة‏:‏ كل شجرة مرة ذات شوك، وقال ابن الأعرابي‏:‏ هو ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به وتسمى تلك الشجرة على ماقيل بفسوة الضبع، وهو على الأول صفة لأكل والأمر في ذلك ظاهر، وعلى الأخير عطف بيان على مذهب الكوفيين المجوزين له في النكرات، وقيل بدل وعلى ما بينهما الكلام على حذف مضاف أي أكل أكل خمط وذلك المضاف بدل من أكل أو عطف بيان عليه ولما حذف أقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه كما في «البحر»، وقيل هو بتقدير أكل ذي خمط، وقيل هو بدل من باب يعجبني القمر فلكه وهو كما ترى، ومنع جعله وصفاً من غير ضرب من التأويل لأن الثمر لا يوصف بالشجر لا لأن الوصف بالأسماء الجامدة لا يطرد وإن جاء منه شيء نحو مررت بقاع عرفج فتأمل‏.‏

وقرأ أبو عمرو ‏{‏أُكُلٍ خَمْطٍ‏}‏ بالإضافة وهو من باب ثوب خز، وقرأ ابن كثير ‏{‏أَكَلَ‏}‏ بسكون الكاف والتنوين ‏{‏وَأَثْلٍ‏}‏ ضرب من الطرفاء على ما قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له، وعن ابن عباس تفسيره الطرفاء، ونقل الطبرسي قولاً أنه السمر وهو عطف على ‏{‏أَكَلَ‏}‏ ولم يجوز الزمخشري عطفه على ‏{‏خَمْطٍ‏}‏ معللاً بأن الأثل لا ثمر له، والأطباء كداود الأنطاكي وغيره يذكرون له ثمراً كالحمص ينكسر عن حب صغار ملتصق بعضه ببعض ويفسرون الأثل بالعظيم من الطرفاء ويقولون في الطرفاء هو برى لا ثمر له وبستاني له ثمر لكن قال الخفاجي‏:‏ لا يعتمد على الكتب الطبية في مثل ذلك وفي القلب منه شيء، ونحن قد حققنا أن للأثل ثمراً، وكذا لصنف من الطرفاء إلا أن ثمرهما لا يؤكل ولعل مراد النافي نفي ثمرة تؤكل، والأطباء يعدون ما تخرجه الشجر غير الورق ونحوه ثمرة أكلت أم لا، ومثله في العطف على ذلك في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ‏}‏ وحكى الفضيل بن إبراهيم أنه قرىء ‏{‏أثلا وشيئاً‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ‏}‏ والسدر شجر النبق، وقال الأزهري‏:‏ السدر سدران سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل وهو الذي يسمي الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب انتهى‏.‏

واختلف في المراد هنا فقيل الثاني، ووصف بقليل لفظاً ومعنى أومعنى فقط وذلك إذا كان نعتاً لشيء المبين به لأن ثمره مما يطيب أكله فجعل قليلاً فيما بدلوا به لأنه لو كثر كان نعمة لا نقمة، وإنما أوتوه تذكيراً للنعم الزائلة لتكون حسرة عليهم، وقيل المراد به الأول حتماً لأنه الأنسب بالمقام، ولم يذكر نكتة الوصف بالقليل عليه‏.‏

ويمكن أن يقال في الوصف به مطلقاً أن السدر له شأن عند العرب ولذا نص الله تعالى على وجوده في الجنة والبستاني منه لا يخفى نفعه والبرى يستظل به أبناء السبيل ويأنسون به ولهم فيه منافع أخرى ويستأنس لعلو شأنه بما أخرجه أبو داود في «سننه»‏.‏ والضياء في «المختارة» عن عبد الله بن حبشيء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ‏"‏ وبما أخرجه البيهقي عن أبي جعفر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في مرض موته‏:‏ أخرج يا علي فقل عن الله لا عن رسول الله لعن الله من يقطع السدر ‏"‏ وفي معناهما عدة أخبار لها عدة طرق، والكل فيما أرى محمول على ما إذا كان القطع عبثاً ولو كان السدر في ملكه‏.‏

وقيل في ذلك مخصوص بسدر المدينة، وإنما نهى عن قطعه ليكون إنساً وظلاً لمن يهاجر إليها، وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان، وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان، وقيل بسدر مكة لأنها حرم، وقيل بما إذا كان في ملك الغير وكان القطع بغير حق، والكل كما ترى، وأياً كان ففي التنصيص عليه ما يشير إلى أن له شأناً فلما ذكر سبحانه ما آل إليه حال أولئك المعرضين وما بدلوا بجنتيهم أتى جل وعلا بما يتضمن الإيذان بحقارة ما عوضوا به وهو مما له شأن عند العرب أعنى السدر وقلته، والإيذان بالقلة ظاهر وأما الإيذان بالحقارة فمن ذكر شيء والعدول عن أن يقال وسدر قليل مع أنه الأخص الأوفق بما قبله ففيه إشارة إلى غاية انعكاس الحال حيث أومأ الكلام إلى أنهم لم يؤتوا بعد إذهاب جنتهم شيئاً مما لجنسه شأن عند العرب إلا السدر وما أوتوه من هذا الجنس حقير قليل، وتسمية البدل جنتين مع أنه ما سمعت للمشاكلة والتهكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من التبديل، وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد رتبته في الفظاعة أو إلى مصدر قوله تعالى‏:‏

‏{‏جزيناهم‏}‏ كما قيل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 14‏]‏ ومحله على الأول النصب على أنه مفعول ثان، وعلى الثاني النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور، والتقديم للتعظيم والتهويل وقيل للتخصيص أي ذلك التبديل جزيناهم لا غيره أو ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر ‏{‏بِمَا كَفَرُواْ‏}‏ أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها، وقيل بسبب كفرهم بالرسل الثلاثة عشر الذين بعثوا إليهم‏.‏ واستشكل هذا مع القول بأن السيل العرم كان زمن الفترة بأن الجمهور قالوا‏.‏ لا نبي بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ومن الناس من قال‏:‏ بينهما صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد العبسي وهو قد بعث لقومه وبنو إسرائيل لم يبعثوا للعرب‏.‏ وأجيب بأن ما كان زمن الفترة هو السيل العرم لا غير والرسل الثلاثة عشر هم جملة من كان في قومهم من سبا بن يشجب إلى أن أهلكهم الله تعالى أجمعين فتأمل ولا تغفل‏.‏

‏{‏وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور‏}‏ أي ما نجازي مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفر إن أو الكفر فلا يتوجه على الحصر إشكال أن المؤمن قد يعاقب في العاجل‏.‏ وفي «الكشف» لإيراد أن المؤمن أيضاً يعاقب فإنه ليس بعقاب على الحقيقة بل تمحيص ولأنه أريد المعاقبة بجميع ما يفعله من السوء، ولا كذلك للمؤمن، ولا مانع من أن يكون الجزاء عاماً في كل مكافآت وأريد به المعاقبة مطلقاً من غير تقييد بما سبق لقرينة ‏{‏جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ‏}‏ لتعيين المعاقبة فيه بل قال الزمخشري‏:‏ هو الوجه الصحيح وذلك لعدم الإضمار ولأن التذييل هكذا آكد وأسد موقعاً ولا يتوجه الأشكال لما في «الكشف»‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يجازي‏}‏ بضم الياءي وفتح الزاي مبنياً للمفعول ‏{‏إِلاَّ الكفور‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل‏.‏ وقرىء ‏{‏يجازي‏}‏ بضم الياء وكسر الزاي مبنياً للفاعل وهو ضميره تعالى وحده ‏{‏إِلاَّ الكفور‏}‏ بالنصب على المفعولية، وقرأ مسلم بن جندب ‏{‏يجزى‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏الكفور‏}‏ بالرفع على النيابة، والمجازات على ما سمعت عن الزمخشري المكافآت لكن قال الخفاجي لم ترد في القرآن إلا مع العقاب بخلاف الجزاء فإنه عام وقد يخص بالخير، وعن أبي إسحق تقول جزيت الرجل في الخير وجازيته في الشر، وفي معناه قول مجاهد يقال في العقوبة يجازي وفي المثوبة يجزي‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ ينبغي أن يكون أبو إسحاق قد أراد أنك إذا أرسلت الفعلين ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك وأما إذا ذكرته فيستعمل كل منهما في الخير والشر، ويرد على ما ذكر ‏{‏جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ‏}‏ وكذا ‏{‏وَهَلْ يجزى‏}‏ في قراءة مسلم إذ الجزاء في ذلك مستعمل في الشر مع عدم ذكر المفعول الثاني، وقوله‏:‏

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار

وقال الراغب‏:‏ يقال جزيته وجازيته ولم يجىء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأن المجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله عز وجل تتعالى عن ذلك ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأة فيه سبحانه وتعالى، وفيه غفلة عما هنا إلا أن يقال‏:‏ أراد أنه لم يجىء في القرآن جاز فيما هو نعمة مسنداً إليه تعالى فإنه لم يخطر لي مجيء ذلك فيه والله تعالى أعلم، ويحسن عندي قول أبي حيان‏:‏ أكثر ما يستعمل الجزاء في الخير والمجازاة في الشر لكن في تقييدهما قد يقع كل منهما موقع الآخر، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ‏}‏ دون جازيناهم بما كفروا على الوجه الثاني في اسم الإشارة ما يحكى تمتع القوم بما يسر ووقوعهم بعده فيما يسيء ويضر، ويمكن أن تكون نكتة التعبير بجزي الأكثر استعمالاً في الخير، ويجوز أن يكون التعبير بذاك أول وبنجازى ثانياً ليكون كل أوفق بعلته وهذا جار على كلا الوجهين في الإشارة فتدبر جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظاهرة‏}‏ إلى آخره عطف بمجموعه على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة وهو حكاية لما أوتوا من النعم في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وماحاق بهم بسبب ذلك وما قبل كان حكاية لما أوتوا من النعم في مساكنهم ومحمل إقامتهم وما فعلوا بها وما فعل بهم، والمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام وذلك بكثرة أشجارها وأثمارها والتوسعة على أهلها وعن ابن عباس هي قرى بيت المقدس وعن مجاهد هي السراوية وعن وهب قرى صنعاء وقال ابن جبير‏:‏ قرب مأرب والمعول عليه الأول حتى قال ابن عطية إن إجماع المفسرين عليه، ومعنى ‏{‏ظاهرة‏}‏ على ما روى عن قتادة متواصلة يقرب بعضها من بعض بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى وهذا يقتضي القرب الشديد لكن سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما قيل في مقدار ما بين كل قريتين وقال المبرد ظاهرة مرتفعة أي على الآكام والظراب وهي أشرف القرى؛ وقيل ظاهرة معروفة يقال هذا أمر ظاهر أي معروف وتعرف القرية لحسنها ورعاية أهلها المارين عليها، وقيل‏:‏ ظاهرة موضوعة على الطرق ليسهل سير السابلة فيها‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الذي يظهر لي أن معنى ‏{‏ظاهرة‏}‏ خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي في ظواهر المدن كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي ومنه قولهم نزلنا بظاهر البلد الفلاني أي خارجاً عنه، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلو شهدتني من قريش عصابة *** قريش البطاح لا قريش الظواهر

يعني أن الخارجين من بطحاء مكة ويقال للساكنين خارج البلد أهل الضواحي وأهل البوادي أيضاً‏.‏

‏{‏وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير‏}‏ أي جعلنا نبسة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير قيل من سار من قرية صباحاً وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ونحوه، وقيل‏:‏ كان بين كل قريتين ميل، وقال الضحاك‏:‏ مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها وهذا هو الأوفق بعنى ‏{‏ظاهرة‏}‏ على ما سمعت عن قتادة وكذا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سِيرُواْ فِيهَا‏}‏ فإنه مؤذن بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى، والظاهر أن ‏{‏سِيرُواْ‏}‏ أمر منه عز وجل على لسان نبي أو نحوه وهو بتقدير القول أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى ‏{‏لَيَالِىَ وَأَيَّاماً‏}‏ أي متى شئتم من ليل ونهار ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ من كل ما تكرهونه لا يختلف إلا من فيها باختلاف الأوقات، وقدم الليالي لأنها مظنة الخوف من مغتال وإن قيل الليل أخفى للويل أو لأنها سابقة على الأيام أو قلنا سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي وأياماً كثيرة، قال قتادة‏:‏ كانوا يسيروا مسيرة أربعة أشهر في أمان ولو وجد الرجل قاتل أبيه لم يهجه أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم أي مدة أعماركم لا تلقون فيها الا الامن، وقدمت الليالي لسبقها‏.‏ وأياً ما كان فقد علم فائدة ذكر الليالي والأيام وإن كان السير لا يخلو عنهما، وجوز أن لا يكون هناك قول حقيقة وإنما نزل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه منزلة القول لهم وأمرهم بذلك والأمر على الوجهين للإباحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا‏}‏ لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل وقالوا‏:‏ لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجلبه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل اتصال العمران وفصل المفاوز والقفار وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن ذلك فجعل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال، وجوز الإمام أن يكونو قالوا‏:‏ ‏{‏باعد‏}‏ بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وهشام ‏{‏بَعْدَ‏}‏ بتشديد العين فعل طلب، وابن عباس‏.‏ وابن الحنفية‏.‏ وعمرو بن قائد ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ رفعاً ‏{‏بَعْدَ‏}‏ بالتشديد فعلاً ماضياً، وابن عباس‏.‏ وابن الحنفية أيضاً‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ والحسن‏.‏ ويعقوب وزيد بن علي‏.‏ وأبو صالح‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ والكلبي‏.‏ ومحمد بن علي‏.‏ وسلام‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ رفعاً و‏{‏باعد‏}‏ طلباً من المفاعلة، وابن الحنفية أيضاً‏.‏ وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن‏.‏ وسفيان بن حسين‏.‏ وابن السميقع ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ بالنصب ‏{‏بَعْدَ‏}‏ بضم العين فعلاً ماضياً ‏{‏بَيْنَ‏}‏ بالنصب إلا سعيداً منهم فإنه يضم النون ويجعل ‏{‏بَيْنَ‏}‏ فاعلاً، ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على ‏{‏السير‏}‏ ومن نصب ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشراً وبطراً‏.‏

وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلاً ماضياً كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر، ومن رفع ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ فلا يكون الفعل عنده إلا ماضياً والجملة خبرية متضمنة للشكوى على ما قيل، ونصب ‏{‏بَيْنَ‏}‏ بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضياً كان أو طلباً عند أبي حيان على أنه مفعول به، وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف عن ظرفيته‏.‏ وقرىء ‏{‏بوعد‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن يعمر ‏{‏مِن سَفَرِنَا‏}‏ بالإفراد ‏{‏وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة وغمطوها ‏{‏فجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏ جمع أحدوثه وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس، وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم‏.‏

وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث ‏{‏ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلاً في كل فرقة ليس بعدها وصال، وعن ابن سلام أن المراد جعلناهم تراباً تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد، وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن مسيك‏.‏

وفي «الكشاف» لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان‏.‏ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة وأسد بالبحرين وخزاعة بتهامة، وظاهر الآية أن ذلك كان بعد إرسال السيل العرم‏.‏ وفي «البحر» أن في الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب تيامن منها ستة قبائل وتشاءمت أربعة، وزعم بعضهم أن تفرقهم كان قبيل مجىء السيل‏.‏

قال عبد الملك في شرح قصيدة ابن عبدون إن أرض سبأ من اليمن كانت العمارة فيها أزيد من مسيرة شهرين للراكب المجد وكان أهلها يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة أربعة أشهر فمزقوا كل ممزق وكان أول من خرج من اليمن في أول الأمر عمرو بن عامر مزيقياً، وكان سبب خروجه أنه كانت له زوجة كاهنة يقال لها طريفة الخير وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ففزعت طريفة لذلك فزعاً شديداً وأتت الملك عمراً وهي تقول ما رأيت كاليوم أزال عني النوم رأيت غيماً أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شيء إلا أحرق فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها ثم أن عمراً دخل على حديقة له ومعه جاريتان من جواريه فبلغ ذلك طريفة فخرجت إليه وخرج معها وصيف لها اسمه سنان فلما برزت من بيتها عرض لهاث لاث مناجد منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها وقالت‏:‏ لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني فلما ذهبت أخبرها فانطلقت مسرعة فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول على بطنها قذاً فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح فلما رآها استحى منها وأمر الجارتين بالانصراف إلى ناحية ثم قال لها يا طريفة فكهنت وقالت‏:‏ والنور والظلماء والأرض والسماء أن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن السالك قال عمرو‏:‏ من أخبرك بهذا‏؟‏ قالت‏:‏ أخرتني المناجد بسنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد قال‏:‏ ما تقولين‏؟‏ قالت‏:‏ أقوى قول الندمان لهيفاً لقد رأيت سلحفاة تجرف التراب جرفاً وتقذف بالبول قذفاً فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكفى قال‏:‏ ما ترين في ذلك‏؟‏ قالت‏:‏ هي داهية دهياء من أمور جسيمة ومصايب عظيمة قال‏:‏ وما هو ويلك‏؟‏ قالت‏:‏ أجل وإن فيه الوليل ومالك فيه من نيل وإن الويل فيما يجىء به السيل فالقى عمرو عن فراشه وقال‏:‏ ما هذا يا طريقة‏؟‏ قالت‏:‏ خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل قال‏:‏ وما علامة ما تذكرين‏؟‏ قالت‏:‏ اذهب إلى السد فإذا رأيت جرذاً يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من أجل الصخر فاعلم أن الغمر عمر وأنه قد وقع الأمر قال‏:‏ وما الذي تذكرين‏؟‏ قالت‏:‏ وعد من الله تعالى نزل وباطل بطل ونكال بنا نكل فبغيرك يا عمرو يكون الثكل فانطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلها خمسون رجلاً فرجع وهو يقول‏:‏

أبصرت أمراً عادني منه ألم *** وهاج لي من له برح السقم

من جرذ كفحل خنزير الأجم *** أو كبش صرم من أفاويق الغنم

يسحب قطراً من جلاميد العرم *** له مخاليب وأنياب قضم

ما فاته سحلاً من الصخر قصم *** فقالت طريفة‏:‏ وإن من من علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإن الريح يملؤها من تراب البطحاء من سهل الوادي وحزنه وقد علمت أن الجنان مظللة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ولم تمكث إلا قليلاً حتى امتلأت من التراب فأخبرها بذلك، وقال لها‏:‏ متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد‏؟‏ قالت له‏:‏ فيما بيني وبينك سبع سنين قال‏:‏ ففي أيها يكون‏؟‏ قالت‏:‏ لا يعلم بذلك إلا الله تعالى ولو علمه أحد لعلمته وأنه لا تأتي على ليلة فيما بيني وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في مسائها ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم، وقيل له‏:‏ إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فنظر إليها فوجد الخصباء قد ظهرت فيها فعلم أنه واقع وأن بلادهم ستخرب فكتم ذلك وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب وأن يخرج منها هو وولده ثم خشي أن تنكر الناس عليه ذلك فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه وأن يفعل ذلك به في الملإ من الناس وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه ثم صنع عمرو طعاماً وبعث إلى أهل مأرب أن عمراً قد صنع طعاماً يوم مجد وذكر فاحضروا طعامه فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه فرفع عمرو يده فلطمه فلطمه ابنه وكان اسمه مالكاً فصاح عمرو واذلاه يوم فخر عمرو وبهجته صبي يضرب وجهه وحلف ليقتله فلم يزالوا يرغبون إليه حتى ترك وقال‏:‏ والله لا أقيم بموضع صنع فيه بي هذا ولأبيعن أموالي حتى لا يرث بعدي منها شيئاً فقال الناس‏:‏ بعضهم لبعض اغتنموا غيظ عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فابتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء فلما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن السيل وخرج فخرج لخروجه منها بشر كثير فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك فارتحلوا عن بلادهم ثم اصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو وتفرقوا في البلاد فمنهم من سار إلى الشام وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر ومنهم من سار إلى يثرب وهم أبناء قيلة الأوس والخزرج وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وسارت أزد السراة إلى السراة وأزد عمان إلى عمان وسار مالك بن فهم إلى العراق ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيء فنزلت اجأ وسلمى ونزلت أبناء ربيعة بن حارثة بن عامر بن عمرو تهامة وسموا خزاعة لانخزاعهم من إخوانهم ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك يقول ميمون بن قيس الأعشى‏:‏

وفي ذاك للمؤتسي أسوة *** ومأرب عفا عليها العرم

رخام بنته لهم حمير *** إذا جاء مواره لم يرم

فاروي الزروع وأعنابها *** على سعة ماؤهم إذ قسم

فصاروا أيادي ما يقدرو *** ن منه على شرب طفل فطم

وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم‏:‏ أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فماذا تأمرين قالت‏:‏ من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت‏:‏ من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس‏.‏

والخزرج ثم قالت‏:‏ من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان ثم قالت‏:‏ من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق، والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل، نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين استشعروا وقوعه، وفي المثل ذهبوا أيدي سبأ ويقال تفرقوا أيدي سبأ ويروي أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم‏.‏

وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازاً قال في «الكشف»‏:‏ وهو حسن، ونصبه على الحالية بتقدير مثل لاقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة، وقيل‏:‏ إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه أي تفرقوا في طرق شتى، والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقدير في كما أشار إليه الفاضل اليمني، وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك، ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ، وعليه قول كثير عزة‏:‏

أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم *** فلم يحل بالعينين بعدك منظر

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما ذكر من قصتهم ‏{‏لايات‏}‏ عظيمة ‏{‏لّكُلّ صَبَّارٍ‏}‏ أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات، وقيل‏:‏ شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ شأنه الشكر على النعم، وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ أي حقق عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقاً، والظاهر أن ضمير ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ عائد على سبأ، ومنشأ ظنه رؤية انهماكهم في الشهوات، وقيل‏:‏ هو لبني آدم ومنشأ ظنه أنه شاهد أباهم آدم عليه السلام وهو هو قد أصغى إلى وسوسته فقاس الفرع على الأصل والولد على الوالد، وقيل‏:‏ إنه أدرك ما ركب فيهم من الشهوة والغضب وهما منشئان للشرور، وقيل‏:‏ إن ذاك كان ناشئاً من سماع قول الملائكة عليهم السلام ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ يوم قال سبحانه لهم‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 3‏]‏ ويمكن أن يكون منشأ ذلك ما هو عليه من السوء كما قيل‏:‏

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم

وجوز أن يكون كل ماذ كر منشأ لظنه في سبأ، والكلام على الوجه الأول في الضمير على ما قال الطيبي تتمة لسابقه إما حالاً أو عطفاً، وعلى الثاني هو كالتذييل تأكيداً له‏.‏ وقرأ البصريون ‏{‏صَدَقَ‏}‏ بالتخفيف فنصب ‏{‏ظَنَّهُ‏}‏ على إسقاط حرف الجر والأصل صدق في ظنه أي وجد ظنه مصيباً في الواقع فصدق حينئذٍ بمعنى أصاب مجازاً‏.‏

وقيل هو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر أي يظن ظنه كفعلته جهدك أي تجهد جهدك، والجملة في موقع الحال و‏{‏صَدَقَ‏}‏ مفسر بما مر، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول به والفعل متعد إليه بنفسه لأن الصدق أصله في الأقوال والقول مما يتعدى إلى المفعول به بنفسه، والمعنى حقق ظنه كما في الحديث «صدق وعده ونصر عبده» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3 2‏]‏‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم‏.‏ والزهري‏.‏ وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب ‏{‏إِبْلِيسَ‏}‏ ورفع ‏{‏طنه‏}‏ كذا في «البحر» والظان ذلك مع قراءة ‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ‏}‏ بالتشديد أي وجده ظنه صادقاً لكن ذكر ابن جني أن الزهري كان يقرأ ذلك مع تخفيف ‏{‏صَدَقَ‏}‏ أي قال له الصدق حين خيل له إغواؤهم‏.‏

وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ‏{‏إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ برفعهما بجعل الثاني بدل اشتمال، وأبهم الزمخشري القارىء بذلك فقال قرىء بالتخفيف ورفعهما على معنى صدق عليهم ظن إبليس ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في ‏{‏صَدَقَ‏}‏ كقوله‏:‏

فدت نفسي وما ملكت يميني *** فوارس صدقت فيهم ظنوني

وهو ظاهر في أنه لم يقرأ أحد بذلك والله تعالى أعلم، وعلى جميع القراءات ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ متعلق بالفعل السابق وليس متعلقاً بالظن على شيء منها ‏{‏فاتبعوه‏}‏ أي سبأ وقيل بنو آدم ‏{‏إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين‏}‏ أي إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية، وتقليلهم إما لقلتهم في حد ذاتهم أو لقلتهم بالإضافة إلى الكفار، وهذا متعين على القول برجوع الضمير إلى بني آدم؛ وكأني بك تختار كون القلة في حد ذاتهم على القول برجوع الضمير إلى سبأ لعدم شيوع كثرة المؤمنين في حد ذاتهم منهم أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون فمن تبعيضية والمراد مطلق الاتباع الذي هو أعم من الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان‏}‏ أي تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء‏.‏

‏{‏إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ مِنْهَا فِى شَكّ‏}‏ استثناء مفرغ من أعم العلل، و‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة وجعلها استفهامية بعيد، والعلم المستقبل المعلل ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة التي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب وهو مضمن معنى التميز لمكان من أي ما كان له عليهم تسلط لأمر من الأمور إلا لتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزاً ممن هو منها في شك تعلقاً حالياً يترتب عليه الجزاء وإلى هذا يشير كلام كثير من أئمة التفسير، وقيل‏:‏ المعنى لنجعل المؤمن متميزاً من غيره في الخارج فيتميز عند الناس، وقيل‏:‏ المراد من وقوع العلم في المستقبل وقوع المعلوم لأنه لازمه فكأنه قيل ما كان ذلك لأمر من الأمور إلا ليؤمن من قدر إيمانه ويضل من قدر ضلاله، وعدل عنه إلى ما في «النظم الجليل» للمبالغة لما فيه من جعل المعلوم عين العلم، وقيل المراد بالعلم الجزاء فكأنه قيل على الإيمان وضده، وقيل‏:‏ العلم على ظاهره إلا أن المستقبل بمعنى الماضي وعلم الله تعالى الأزلي بأهل الشك يستدعي تسلط الشيطان عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد لنعامل معاملة من كأنه لا يعلم ذلك وإنما يعمل ليعلم، وقيل‏:‏ المراد ليعلم أولياؤنا وحزبنا ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال، وكان الظاهر إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن لا يؤمن بها وعدل عنه إلى ما فيه «النظم الجليل» لنكتة وهي أنه قوبل الإيمان بالشك ليؤذن بأن أدنى مراتب الكفر مهلكة، وأورد المضارع في الجملة الأولى إشارة إلى أن المعتبر في الإيمان الخاتمة ولأنه يحصل بنظر تدريجي متجدد، وأتى بالثانية اسمية إشارة إلى أن المعتبر الدوام والثبات على الشك إلى الموت، ونون شكا للتقليل، وأتى بفي إشارة إلى أن قليه كأنه محيط بصاحبه، وعداه بمن دون في وقدمه لأنه إنما يضر الشك الناشىء منها وأنه يكفي شك ما فيما يتعلق بها‏.‏

وقرأ الزهري ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول ‏{‏وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ‏}‏ أي وكيل قائم على أحواله وشؤونه، وهو إما مبالغة في حافظ وإما بمعنى محافظ كجليس ومجالس وخليط ومخالط ورضيع ومراضع إلى غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقسة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم تنبيهاً على بطلان ما هم عليه وتبكيتاً لهم ‏{‏ادعوا الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ أي زعمتموهم آلهة كذا قدره الجمهور على أن الضمير مفعول أول وآلهة مفعول ثان وحذف الأول تخفيفاً لأن الصلة والموصول بمنزلة اسم واحد فهناك طول يطلب تخفيفه والثاني لأن صفته أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ سدت مسده فلا يلزم إجحاف بحذفهما معاً، ولا يجوز أن يكون ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ هو المفعول الثاني إذ لا يتم به مع الضمير الكلم ولا يلتئم النظام فأي معنى معتبر لهم من دون الله على أن في جواز حذف أحد مفعولي هذا الباب اختصاراً خلافاً ومن أجازه قال هو قليل في كلامهم، وكذا لا يجوز أن يكون لا يملكون لأن ما زعموه ليس كونهم غير مالكين بل خلافه، وليس ذلك أيضاً بزعم بالمعنى الشائع لو سلم أنه صدر منهم بل حق، وقال ابن هشام‏:‏ الأولى أن يقدر زعمتم أنهم آلهة لأن الغالب على زعم أن لا يقع على المفعولين الصريحين بل على ما يسد مسدهما من أن وصلتهما ولم يقع في التنزيل إلا كذلك أي فالأنسب أن يوافق المقدر المصرح به في التنزيل‏.‏

ورجح تقدير الجمهور بأنه أبعد عن لزوم الإجحاف والأمر للتوبيخ والتعجيز أي ادعوهم فيما يهمكم من دفع ضر أو جلب نفع لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم‏.‏ روي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ كلام مستأنف في موقع الجواب ولم يمهلم ليجيبوا إشعاراً بتعينه فإنه لا يقبل المكابرة، وجوز تقدير ثم أجب عنهم قائلاً لا يملكون الخ وهو متضمن بيان حال الآلهة في الواقع وأنهم إذا لم يملكوا مقدار ذرة أي من خير وشر ونفع وضر كيف يكونون آلهة نعبد‏.‏

‏{‏فِي السماوات وَلاَ فِى الارض‏}‏ أي في أمر من الأمور، وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفاً فيراد بهما جميع الموجودات، وهذا كما يقال المهاجرون والأنصار ويراد جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فلا يتوهم أنهم يملكون في غيرهما، ويجوز أن يقال‏:‏ إن ذكرهما لأن بعض آلهة المخاطبين سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام فالمراد نفي قدرة السماوي منهم على أمر سماوي والأرضي على أمر أرضي ويعلم نفي قدرته على غيره بالطريق الأولى أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية فالمراد نفي قدرتهم بشيء من الأسباب القريبة فكيف بغيرها ‏{‏وَمَا لَهُمْ‏}‏ أي لآلهتهم ‏{‏فِيهِمَا مِن شِرْكٍ‏}‏ أي شركة ما لا خلفاً ولا ملكاً ولا تصرفا ‏{‏وَمَا لَهُ‏}‏ أي لله عز وجل ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من آلهتهم ‏{‏مّن ظَهِيرٍ‏}‏ أي معين يعينه سبحانه في تدبير أمرهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ‏}‏ أي لا توجد رأساً كما في قوله‏:‏

على لا حب لا يهتدي بمناره *** لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ وإنما علق النفي بنفعها دون وقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال على ما اختاره الزمخشري، و‏{‏مِنْ‏}‏ عبارة عن الشافع واللام الداخلة عليه للاختصاص مثلها في الكرم لزيد ولام ‏{‏لَهُ‏}‏ صلة أذن، والمراد نفي شفاعة آلهتهم لهم لكن ذكر ذلك على وجه عام ليكون طريقاً برهانياً أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال أو كائنة لمن كانت إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة، ومن البين أنهم لا يؤذن لهم في الشفاعة للكفار فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 8 3‏]‏ والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب وعدم الإذن للأصنام أبين وأبين فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية أو ‏{‏مِنْ‏}‏ عبارة عن المشفوع له واللام الداخلة عليه للتعليل ولام ‏{‏لَهُ‏}‏ صلة ‏{‏أَذِنَ‏}‏ أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن له أي لشفيعه على الإضمار لأن المشفوع لم يصدر عنه فعل حتى يؤذن له فيه أن يشفعه، واختار الزمخشري أن لام ‏{‏لَهُ‏}‏ للتعليل أي إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، ووجهه على ما في «الكشف» حصول الإشارة إلى الشافع والمشفوع لأن المأذون لأجله المشفوع والمأذون الشافع ولأن الغرض بيان محل النفع وهو المشفوع كان التصريح بذكره أهم، ولا يخفى أن الوجه السابق ظاهر التكلف فيه الإضمار الذي لا يقتضيه المقام، وحاصل المعنى على هذا لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها إلا كائنة لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلاً وإن فرض وقوعها من الشفعاء إذ لم يؤذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم، ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص وعن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها بالكلية أولى، وذهب أبو حيان إلى أن الاستثناء من أعم الذوات أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن الخ، واستظهر احتمال أن تكون من عبارة عن المشفوع له واللام نظراً إلى الظاهر متعلقة بالشفاعة، وجوز أبو البقاء تعلقها بتنفع‏.‏ وتعقبه بأنه لا يتعدى إلا بنفسه وقال أبو حيان فيه‏:‏ إن المفعول متأخر فدخول اللام قليل‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏أَذِنَ‏}‏ مبنياً للمفعول فله قائم مقام فاعله ‏{‏حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق‏}‏ صيغة التفعيل للسلب كما في قردت البعير إذا أزلت قراده ومنه التمريض فالتفزيع إزالة الفزع، وهو على ما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، و‏{‏حتى‏}‏ للغاية واختلفوا في المغيا إذ لم يكن قبلها ما يصلح أن يكون مغياً بحسب الظاهر، واختلفوا لذلك في المراد بالآية اختلافاً كثيراً، فقيل‏:‏ هو ما يفهم من حديث الشفاعة ويشير إليه، وذلك أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ يؤذن بشفعاء ومشفوع لهم وأن هناك استئذاناً في الشفاعة ضرورة أن وقوع الإذن يستدعي سابقية ذلك وهو مستدع للترقب والانتظار للجواب وحيث أنه كلام صادر عن مقام العظمة والكبرياء كيف وقد تقدمه ما تقدمه يدل على كون الكل في ذلك الموقف خلف سرادق العظمة ملقى عليهم رداء الهيبة، وما بعد حرف الغاية أيضاً شديد الدلالة على ذلك فكأنه قيل‏:‏ تقف الشفعاء والمشفوع لهم في ذلك الموقف الذي يتشبث فيه المستشفعون بأذيال الرجاء من المستشفع بهم ويقوم فيه المستشفع به على قدم الالتجاء إلى الله جل جلاله فيطرق باب الشفاعة بالاستئذان فيها ويبقون جميعاً منتظرين وجلين فزعين لا يدرون ما يوقع لهم الملك الأعظم جل وعلا على رقعة سؤالهم وماذا يصح لهم بعد عرض حالهم حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير حسن التوقيع وسطوع أنوار الإجابة والارتضاء من آفاق رحمة الملك الرفيع قالوا أي قال بعضهم لبعض، والظاهر أن البعض القائل المشفوع لهم وإن شئت فأعد الضمير إليهم من أول الأمر إذ هم الأشد احتياجاً إلى الإذن والأعظم اهتماماً بأمره ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة قالوا‏:‏ أي الشفعاء فإنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون لأولئك السائلين بالشفاعة عنده عز وجل قال‏:‏ ربنا القول الحق أي الواقع بحسب ما تقتضيه الحكمة وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى‏.‏

والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ العلى الكبير‏}‏ من تتمة كلام الشفعاء قالوه اعترافاً بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه أي هو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه وليس لكل منهم كائناً من كان أن يتكلم إلا من بعد إذنه جل وجلاً، وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالإذن لهم بالشفاعة ما فيه، وفيه أيضاً نوع من الحمد كما لا يخفى وهذه الجملة المغيات بما ذكر لا يبعد أن تكون جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ كيف يكون الإذن في ذلك الموقف للمستأذنين وكيف الحال فيه للشافعين والمستشفعين‏؟‏ فقيل‏:‏ يقفون منتظرين وجلين فزعين حتى إذا الخ؛ والآيات دالة على أن المشفوع لهم هم المؤمنون وأما الكفرة فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف ألف منزل، وجعل بعضهم على هذا الوجه من كون المغيا ما ذكر ضمير ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ للملائكة وخص الشفعاء بهم وضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ الأول‏:‏ لهم أيضاً وضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ الثاني‏:‏ للملائكة الذين فوقهم وهم الذين يبلغون ذلك إليهم وقال‏:‏ إن فزعهم إِما لما يقرن به الإذن من الأمر الهائل أو لغشية تصيبهم عند سماع كلام الله جل شأنه أو من ملاحظة وقوع التقصير في تعيين المشفوع لهم بناءً على ورود الإذن بالشفاعة إجمالاً وهو كما ترى‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ تفسير هذا أن جبريل عليه السلام لما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ظنت الملائكة عليهم السلام أنه نزل بشيء من أمر الساعة ففزعت لذلك فلما انكشف عنها الفزع قالوا‏:‏ ماذا قال‏:‏ ربكم سألت لأي شيء نزل جبريل عليه السلام قالوا‏:‏ الحق اه‏.‏

روي ذلك عن قتادة‏.‏ ومقاتل‏.‏ وابن السائب بيد أنهم قالوا‏:‏ إن الملائكة صعقوا لذلك فجعل جبريل عليه السلام يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، ولم يبين الزجاج وجه اتصال الآية بما قبلها ولا بحث عن الغاية بشيء وقد ذكر نحو ذلك الإمام الرازي ثم قال في ذلك‏:‏ أن ‏{‏حتى‏}‏ غاية متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لأنه تبينه بالوحي فلما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ فزع من في السماوات وهو لعمري من العجب العجاب‏.‏

وقال الفاضل الطيبي بعد نقله ذلك التفسير‏:‏ وعليه أكثر كلام المفسرين ويعضده ما روينا عن البخاري‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير ‏"‏ وعن أبي داود عن ابن مسعود قال‏:‏ «إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون‏:‏ يا جبريل ماذا قال ربكم‏؟‏ فيقول‏:‏ الحق الحق» ثم ذكر في أمر الغاية واتصال الآية بما قبلها على ذلك أنه يستخرج معنى المغيا من المفهوم وذلك إن المشركين لما ادعوا شفاعة الآلهة والملائكة وأجيبوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏ من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه تعالى والتجؤا إليهم فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا تنفع الشفاعة من هؤلاء إلا للملائكة لكن مع الإذن والفرع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمرضيين فعبر عن الملائكة عليهم السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ الآية كناية كأنه قيل‏:‏ لا تنفع الشفاعة إلا لمن هذا شأنه ودأبه وأنه لا يثبت عند صدمة من صدمات هذا الكتاب المبين وعند سماع كلام الحق يعني الذين إذا نزل عليهم الوحي يفزعون ويصعقون حتى إذا أتاهم جبريل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فيقول‏:‏ الحق انتهى، ولا يخفى على من له أدنى تمييز حاله وأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه‏.‏

وقول ابن عطية‏:‏ إن تأويل الآية بالملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل أو الأمر بأمر الله تعالى به فتسمع كجر سلسلة الحديد على الحديد فتفزع تعظيماً وهيبة، وقيل خوف قيام الساعة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ناشىء من حرمان عطية سلامة الذوق وتدقيق النظر، والتفسير الذي ذكرناه أولاً بمراحل في الحسن عما ذكر عن أكثر المفسرين، وما سمعت من الرواية لا ينافيه إذ لا دلالة فيه على أنه عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك في معرض تفسير الآية ولا تنافي بين التفزيعين وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزلوا الآية على ذلك فوقعوا فيما وقعوا فيه وإن كثروا وجلوا، والقائل بما سبق نظر إلى طباق المقام وحقق عدم المنافاة وظهر له حال ما قالوه فعدل عنه‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن الضحاك أنه قال في الآية‏:‏ زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الرب تبارك وتعالى فانحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً وهذا كلما مروا عليهم فيفعلون من خوف ربهم تبارك وتعالى، وابن مسعود عندي أجل من أن يحمل الآية على هذا فالظاهر أنه لا يصح عنه‏.‏

ومثل هذا ما زعمه بعضهم أن ذاك فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض، وقيل إن ‏{‏حتى‏}‏ غاية متعالقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَعَمْتُمْ‏}‏ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم قال الحق وإليه يشير ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية‏:‏ حتى إذا فزع الشيطان عن قلوبهم ففارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم به قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ثم قال‏:‏ وهذا في بني آدم أي كفارهم عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الأقرار، والظاهر أن في الكلام عليه التفاتاً من الخطاب في ‏{‏زَعَمْتُمْ‏}‏ إلى الغيبة في ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ وأن ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ الأول للملائكة الموكلين بقبض أرواحهم والمراد بالتفزيع عن القلوب كشف العطاء وموانع إدراك الحق عنها‏.‏

وما نقل عن الحسن من أنه قال‏:‏ إنما يقال للمشركين ماذا قال ربكم أن علي لسان الأنبياء عليهم السلام فاقروا حين لا ينفع يحتمل أن يكون كالقول المذكور في أن ذلك عند الموت ويحتمل أن يكون قولاً بأن ذلك يوم القيامة إلا أن في جعل حتى غاية للزعم عليه غير ظاهر إذ لا يستصحبهم ذلك إلى يوم القيامة حقيقة كما لا يخفى، وأبعد من هذا القول كون ذلك غاية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 21‏]‏ وضمير قلوبهم لمن باعتبار معناه، والتفزيع كشف اللغطاء ومواقف إدراك الحق بل هو مما لا ينبغي حمل كلام الله تعالى عليه‏.‏

وزعم بعضهم أن المعنى إذا دعاهم إسرافيل عليه السلام من قبورهم قالوا مجيبين ماذا قال ربكم حكاه في البحر ثم قال‏:‏ والتفزيع من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ كما قال زهير‏:‏

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم *** طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل

وأنت تعلم أن التفزيع بالمعنى المذكور لا يتعدى بعن وأمر الغاية عليه ظاهر، وبالجملة ذلك الزعم ليس بشيء‏.‏

واختار أبو حيان أن المغيا الاتباع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 20‏]‏ وضمير قلوبهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير الرفع في ‏{‏اتبعوه‏}‏ أعنى الكفار وكذا ضمير ‏{‏قالو‏}‏ الثاني وضمير ‏{‏شُرَكَائِى قَالُواْ‏}‏ الأول للملائكة وكذا ضمير ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ وجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الذين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏ الخ اعتراضية بين الغاية والمغيا والتفزيع حال مفارقة الحياة أو يوم القيامة وبجعل اتباعهم إبليس مستصحباً لهم إلى ذلك اليوم مجازا، ولا يخفى بعده، والوجه عندى ما ذكر أولا، و‏{‏مَاذَا‏}‏ تحتمل أن تكون منصوبة بقال أي أي شيء قال ربكم، وتحتمل أن تكون في موضع رفع على أن ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة قال صلة الموصول والعائد محذوف أي ما الذي قاله ربكم، وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبو التوكل الناجي‏.‏ وابن السميقع‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏فُزّعَ‏}‏ بالتشديد والبناء للفاعل والفاعل ضمير الله تعالى المستتر أي أزال الله تعالى الفزع عن قلوبهم‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ هو ضميره تعالى إن كان ضمير قلوبهم للملائكة وإن كان للكفار فهو ضمير مغريهم‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏فُزّعَ‏}‏ بالتخفيف والبناء للمفعول فعن قلوبهم نائب الفاعل كما في قراءة الجمهور، وقرأ هو‏.‏ وأبو المتوكل أيضاً‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد ‏{‏فرغ‏}‏ بالفاء والراء المهملة والغين المعجمة مشدداً مبنياً للغاعل بمعنى أزال، وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه خفف الراء، وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والحسن أيضاً‏.‏ وأيوب السختياني‏.‏ وقتادة أيضاً‏.‏ وأبو مجلز ‏{‏فرغ‏}‏ كذلك إلا أنهم بنوه للمفعول، وقرأ مسعود في رواية‏.‏ وعيسى ‏{‏افر نقع‏}‏ قيل بمعنى تفرق‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ بمعنى انكشف، والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب اقمطر من حروف القمط مع زيادة الراء، وفيه إيهام أن العين والراء من حروف الزيادة وليس كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ بالرفع أي مقولة الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماوات والارض‏}‏ أمر صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتاً للمشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وإن الرزاق هو الله عز وجل فإنهم لا ينكرونه وحيث كانوا يتلعثمون أحياناً في الجواب مخافة الإلزام قيل له عليه الصلاة والسلام ‏{‏قُلِ الله‏}‏ إذ لا جواب سواه عندهم أيضاً ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي وإن أحد الفريقين منا معشر الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية العابدية وحده عز وجل ومنكم فرقة المشركين به العاجزين في أنفسهم عن دفع أدنى ضر وجلب أحقر نفع وفيهم النازل إلى أسفل المراتب الإمكانية المتصفون بأحد الأمرين من الاستقرار على الهدى والانغماس في الضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من ماول أو مناف قال لمن خوطب به‏:‏ قد انصفك صاحبك، وفي درجة بعد تقدمه ما قدم من التقرير البليغ دلالة ظاهرة على من هو من الفريقين على هدى ومن هو في ضلال ولكن التعريض أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه قد علم الله تعالى الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم‏:‏

أتهجوه ولست له بكفىء *** فشركما لخيركما الفداء

وقول أبي الأسود‏:‏

يقول الارذلون بنو قشير *** طوال الدهر لا تنسى عليا

بنو عم النبي وأقربوه *** أحب الناس كلهم اليا

فإن يك حبهم خيراً أصبه *** ولست بمخطىء إن كان غيا

وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو كما في قوله‏:‏

سيان كسر رغيفه *** أو كسر عظم من عظامه

والكلام من باب اللف والنشر المرتب بأن يكون ‏{‏على هُدًى‏}‏ راجعاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ و‏{‏فِى ضلال‏}‏ راجعاً لقوله سبحانه ‏{‏إِيَّاكُمْ‏}‏ فإن العقل يحكم بذلك كما في قول أمرى القيس‏.‏

كأن قلوب الطير رطباً ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي

ولا يخفى بعده، وأياً ما كان فليس هذا من باب التقية في شيء كما يزعمه بعض الجهلة، والظاهر أن ‏{‏لَّعَلّى هُدًى‏}‏ الخ خبر ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِيَّاكُمْ‏}‏ من غير تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لمتصف بأحد الأمرين كقولك زيد أو عمرو في السوق أو في البيت، وقيل‏:‏ هو خبر ‏{‏أَنَاْ‏}‏ وخبر ‏{‏إِيَّاكُمْ‏}‏ محذوف تقديره لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقيل‏:‏ هو خبر ‏{‏إِيَّاكُمْ‏}‏ وخبر ‏{‏أَنَاْ‏}‏ محذوف لدلالة ما ذكر عليه، و‏{‏إِيَّاكُمْ‏}‏ على تقديران ولكنها لما حذفت انفصل الضمير‏.‏

وفي البحر لا حاجة إلى تقدير الحذف في مثل هذا وإنما يحتاج إليه في نحو زيد أو عمرو قائم فتدبر، والمتبادر أن ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ صفة ‏{‏ضلال‏}‏ ويجوز أن يكون وصفاً له ولهدى والوصف وكذا الضمير يلزم إفراده بعد المعطوف باو، وأدخل على على الهدى للدلالة على استعلاء صاحبه وتمكنه واطلاعه على ما يريد كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، و‏{‏فِى‏}‏ على الضلال للدلالة على انغماس صاحبه في ظلام حتى كأنه في هواة مظلمة لا يدري أين يتوجه ففي الكلام استعارة مكنية أو تبعية‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِيَّاكُمْ أَمَّا على هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ هذا أبلغ في الإنصاف حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات وأسند للمخاطبين وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وذكر أن في الآية تعريضاً وأنه لا يضر بما ذكر، وزعم بعضهم أنها من باب المتاركة وأنها منسوخة بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا‏}‏ يوم القيامة عند الحشر والحساب ‏{‏ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق‏}‏ يقضي سبحانه بيننا ويفصل بعد ظهور رحال كل مناو منكم بالعدل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار ‏{‏وَهُوَ الفتاح‏}‏ القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كابطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة؛ والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم، ولعل الوجه الأول أولى، وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا وانه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم‏:‏ حلال المشكلات، وقرأ عيسى ‏{‏الفاتح‏}‏ ‏{‏السميع العليم‏}‏ بما ينبغي أن يقضي به أو بكل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء‏}‏ استفسار عن شبهتهم بعد الزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم، وأرى على ما استظهره أبو حيان بمعنى أعلم فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ياء المتكلم والموصول و‏{‏شركا‏}‏ وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم، والمراد اعلموني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وجوز كون رأى بصرية تعدت بالنقل لاثنين ياء المتكلم والموصول و‏{‏للَّهِ شُرَكَاء‏}‏ حال من ضمير الموصول المحذوف أي ألحقتموهم متوهماً شركتهم أو مفعول ثان لألحق لتضمينه معنى الجعل أو التسمية، والمراد أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموهم بالله عز وجل الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة أو ألحقتموهم به سبحانه جاعليهم أو مسميهم شركاء، والغرض إظهار خطئهم العظيم‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ لم يرد من ‏{‏أَرُونِىَ‏}‏ حقيقته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يراهم ويعلمهم فهو مجاز وتمثيل، والمعنى ما زعمتموه شريكاً إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم، وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل اذكر لي أباك الذي قايست به فلاناً الشريف ولا تريد حقيقة الذكر وإنما تريد تبكيته وانه إن ذكر أباه افتضح‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع لهم عن زعم الشركة بعد ما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ‏{‏أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 67‏]‏ بعد ما حج قومه ‏{‏بَلِ الله العزيز‏}‏ أي الموصوف بالغلبة القاهرة المستدعية لوجوب الوجود ‏{‏الحكيم‏}‏ الموصوف بالحكمة الباهرة المستدعية للعلم المحيط بالأشياء، وهؤلاء الملحقون عن الاتصاف بذلك في معزل وعن الحوم حول ما يقتضيه بألف ألف منزل، والضمير اما عائد لما في الذهن وما بعده وهو الله الواقع خبراً له يفسره و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان للاسم الجليل أو عائد لربنا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يفتح بيننا بالحق‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 26‏]‏ على ما قيل أو هو ضمير الشأن و‏{‏الله‏}‏ مبتدأ و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ خبره والجملة خبر ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة على الصحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ‏}‏ المتبادر أن ‏{‏كَافَّةً‏}‏ حال من الناس قدم مع إلا عليه للاهتمام كما قال ابن عطية، وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج واشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤوا جميعاً، ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية‏:‏ أي إلى الناس جميعاً، وما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال‏:‏ أي للناس كافة، وكذا ما أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فاكرمهم على الله تعالى أطوعهم له، وما نقل عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافاً لكثير من النحاة أبو علي‏.‏ وابن كيسان‏.‏ وابن برهان‏.‏ والرضى‏.‏ وابن مالك حيث قال‏:‏

وسبق حال ما بحرف جرقد *** أبوا ولا أمنعه فقد ورد

وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضى من المذكورين وهو الصحيح‏:‏ ومن أمثلة أبي على زيد خير ما يكون خير منك، وقال الشاعر‏:‏

إذا المرء أعيته المروءة ناشئا *** فمطلبها كهلا عليه شديد

وقال آخر‏:‏

تسليت طرا عنكم بعد بينكم *** بذكراكم حتى كأنكم عندي

وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قوله‏:‏

مشغوفة بك قد شغفت وإنما *** حتم الفراق فما إليك سبيل

وقول آخر‏:‏

غافلا تعرض المنية للمر *** ء فيدعى ولات حين إباء

وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز انتهى، وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا‏:‏ إن ما عداه تكلف، واعترض بأنه يلزم عليه عما ما قبل إلا وهو أرسل فيما بعدها وهو ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعاً له وقد منعوه، وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف ما لا يتوسعون في غيره‏.‏

وقال الخفاجي عليه الرحمة‏:‏ الاحسن أن يجعل ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ مستثنى على أن الاستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة، وأما تقديره بما أرسلناك للخالق مطلقاً إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جداً اه، ولا يخفى أن في الآية على ما استحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الاستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الصيح‏.‏

واعترض عليه أيضاً بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغبره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الآخر، وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما استحسنه الخفاجي‏.‏

وقال غيرو احد‏:‏ إن ‏{‏كَافَّةً‏}‏ اسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحو وهو حال من مفعول ‏{‏أرسلناك‏}‏ و‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ متعلق به وإليه ذهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافاً ومانعاً للناس عن الكفر والمعاصي‏.‏

وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضاً إلا أنه قال‏:‏ المعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ‏.‏ وتعقبه أبو حيان بان اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع، وفيه منه ظاهر لأنه يقال‏:‏ كف القميص إذا جمع حاشيته وكف الجرح إذا ربطه بخرقة تحيط به وقد قال ابن دريد‏:‏ كل شيء جمعته فقد كففته مع أنه جوز أن يكون مجازاً من المنع لأن ما يجمع يمتنع تفرقه وانتشاره، وقيل إنه مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية وهو أيضاً حال من الكاف إما باق على مصدريته بلا تقدير شيء مبالغة وإما بتأويل اسم الفاعل أو بتقدير مضاف أي إلا ذا كافة أي ذا كف أي منع للناس من الكفر، وقيل ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك، وذهب بعضهم إلى أنه مصدر وقع مفعولاً له ولم يشترط في نصبه اتحاد الفاعل كما ارتضاه الرضى، وذهب العلامة الزمخشري إلى أنه اسم فاعل من الكف صفة لمصدر محذوف وتاؤه للتأنيث أي ما أرسلناك إلا إرسالة كافة أي عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقدكفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم‏.‏ واعترض عليه بأن كافة لم ترد عن العرب إلا منصوبة على الحال مختصة بالمتعدد من العقلاء وأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه إنما يكون لما عهد وصفه بها بحيث لا تصلح لغيره وأجيب بأن كافة ههنا غير ما التزم فيه الحالية وإن رجعا إلى معنى واحد، وما قيل من أنه لم تستعمله العرب إلا كذلك ليس بشيء وإقامة الصفة مقام موصوفها منقاس مطرد بدون شرط إذا قامت عليه قرينة، وذكر الفعل قبله دال على تقدير مصدره كما في قمت طويلاً وحسناً أي قياماً طويلاً وحسناً‏.‏ وفي الحواشي الخفاجية قد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في كتابه لآل بني كاكلة‏:‏ قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهباً إبريزا وقاله علي كرم الله تعالى وجهه حين أمضاه فقد استعمل هذان الإمامان كافة في غير العقلاء وغير منصوب على الحالية‏.‏

ولا يخفى أن بعض ما اعترض به على هذا الوجه يعترض به على بعض الأوجه السابقة أيضاً، والجواب هو الجواب‏.‏

والذي اختاره في الآية ماهو المتبادر، ولا بأس بالتدم والاستعمال وارد عليه ولا قياس يمنعه، وأمر تخطى العامل إلا إلى ما ليس مستثنى ولا مستثنى منه سهل لحديث التوسع في الظرف، والآية عليه أظهر في الاستدلالعلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 8 15‏]‏ ولو استدل بها القاضي أبو سعيد لبهت اليهودي، وقد يستدل عليه بما لا يكاد ينكره من فعله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في عصره ودعوته عليه الصلاة والسلام إياهم إلى الإسلام ‏{‏بَشِيراً‏}‏ لمن أسلم بالثواب ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ لمن لم يسلم بالعقاب، والوصفان حالان من مفعول ‏{‏أرسلناك‏}‏ وقد يجعلان على بعض الأوجه السابقة بدلاً من ‏{‏كَافَّةً‏}‏ نحو بدل المفصل من المجمل فتأمل‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال