فصل: تفسير الآية رقم (29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ أي لجهلهم حقيقة أو حكماً ولذا لم يعطف بالفاء وقيل يقولون أي من فرط تعنتهم وعدم العطف بالفاء لذلك‏.‏

وقيل الحامل فرط الجهل وعدم العطف بالفاء لظهور تفرعه على ما قبله ومثله يوكل إلى ذهن السامع، وقيل إن ذاك لأن فرط الجهل غير الجهل وهو كما ترى، وقيل لأن هذا حال بعض وعدم العلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ حال بعض آخر، والذي يظهر لي أن القائلين بالفعل هم بعض المشركين المعاصرين له صلى الله عليه وسلم لا أكثر الناس مطلقاً وأن المراد بصيغة المضارع الاستمرار التجددي، وقيل عبر بها استحضاراً للصورة الماضية لنوع غرابة والأصل وقالوا‏:‏

‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ بطريق الاستهزاء يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ مخاطبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ‏}‏ أو وعد يوم على أن ‏{‏مّيعَادُ‏}‏ مصدر ميمي أو اسم أقيم مقام المصدر على ما نقل عن أبي عبيدة وهو بمعنى الموعود، وقيل‏:‏ الكلام على تقدير مضاف أي لكم وقوع وعد يوم أو نجز وعد يوم، وتنوين يوم للتعظيم أي يوم عظيم، وجوز أن يكون الميعاد اسم زمان وإضافته إلى يوم ‏{‏للتبيين‏}‏ أي لبيان زمان الوعد بأنه يوم مخصوص نحو سحق ثوب وبعير سانية، وأيد الوجه الأول بوقوع الكلام جواباً لقولهم ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29‏]‏ والوجه الثاني أنه قرىء ‏{‏مّيعَادُ يَوْمٍ‏}‏ برفعهما وتنوينهما فإن يوم على هذه القراءة بدل وذلك يقتضي أن الميعاد نفس اليوم، وكونه بدل اشتمال بعيد، وكذا ما قال أبو حيان من أنه على تقدير محذوف أي قل لكم ميعاد ميعاد يوم فلما حذف المضاف أعرب ما قام مقامه بإعرابه، وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏مّيعَادُ‏}‏ بالرفع والتنوين ‏{‏يَوْماً‏}‏ بالنصب والتنوين قال الزمخشري‏:‏ وهو على التعظيم باضمار فعل تقديره لكم ميعاد أعني يوماً من صفته كيت وكيت، ويجوز الرفع على هذا أيضاً، وجوز أن يكون على الظرفية لميعاد على أنه مصدر بمعنى الموعود لا اسم زمان، وقال في البحر‏:‏ يجوز أن يكون انتصابه على الظرف والعامل فيه مضاف محذوف أي إنجاز وعد يوماً من صفته كيت وكيت‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏مّيعَادُ‏}‏ منوناً ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ بالنصب من غير تنوين مضافاً إلى الجملة ووجه النصب ما مر آنفاً‏.‏

‏{‏لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً‏}‏ إذا فاجأكم ‏{‏وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي عنه ساعة، والهاء على ما قال أبو البقاء يجوز أن تعود على ‏{‏مّيعَادُ‏}‏ وإن تعود على ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وعلى أيهما عادت كانت الجملة وصفاً له‏.‏ وفي الإرشاد هي صفة لازمة لميعاد، وفي الجواب على تقدير تقييد النفي بالمفاجأة من المبالغة في التهديد ما لا يخفى، ويجوز أن يكون النفي غير مقيد بذلك فيكون وصف الميعاد بما ذكر لتحقيق وتقديره، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الجلمة فتذكر‏.‏

ولما كان سؤالهم عن الوقت على سبيل التعنت أجيبوا بالتهديد، وحاصله أنه لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لا ما يعطيه ظاهر اللفظ وليس هذا من الأسلوب الحكيم فإن البليغ يلتفت لفت المعنى، وقال الطيبي‏:‏ هو منه سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالهم فيها فكأنه قيل‏:‏ دعوا السؤال عن وقت ارسائها فإن كينونته لا بد منه بل سلوا عن أحوال أنفسكم حيث تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشهدون فهذا أليق بحالكم من أن تسألوا عنه وهو كما ترى، وقيل‏:‏ إنه متضمن الجواب بأن ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله عز وجل لمكان تنكير ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وهو تعسف لا حاجة إليه‏.‏ واختلف في هذا اليوم فقيل يوم القيامة وعليه كلام الطيبي، وقيل‏:‏ يوم مجيء أجلهم وحضور منيتهم، وقيل‏:‏ يوم بدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم مشركو العرب ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي من الكتب القديمة كما روي عن قتادة‏.‏ والسدى‏.‏ وابن جريج، ومرادهم نفي الإيمان بجميع ما يدل على البعث من الكتب السماوية المتضمنة لذكل؛ ويروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم فأغضبهم ذلك فقالوا ما قالوا، وضعف بأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه، وقيل الذي بين يديه القيامة‏.‏

وخطأ ابن عطية قائله بأن ما بين اليد في اللغة المتقدم‏.‏ وتعقب بأنه قد يراد به ما مضى وقد يراد به ما سيأتي‏.‏

نعم يضعف ذلك أن ما بين يدي الشيء يكون من جنسه لكن محصل كلامهم على هذا أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولا بما دل عليه، وأما ادعاء أن الأكثر كونه لما مضى فقد قيل أيضاً إنه غير مسلم، وحكى الطبرسي أن المراد بالذين كفروا اليهود وحينئذ يراد بما بين يديه الإنجيل، ولا يخفى أن هذا القول مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وليس في السباق والسياق ما يدل عليه ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه، ومفعول ‏{‏تَرَى‏}‏ إذ أو محذوف و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف له أي أي حال الظالمين و‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني مصروفاً إلى غيره تعالى لا جواب لها أو هو مقدر أي لرأيت أمراً فظيعاً أو نحوه، و‏{‏الظالمون‏}‏ ظاهر وضع موضع الضمير للتسجيل وبيان علة استحقاقهم، والأصل ولو ترى إذ هم موقوفون عند ربهم أي في موقف المحاسبة ‏{‏يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول‏}‏ أي يتحاورون ويتراجعون القول، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الذين استضعفوا‏}‏ استئناف لبيان تلك المحاورة أو بدل من ‏{‏يُرْجَعُ‏}‏ الخ أي يقول الأتباع ‏{‏لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال ‏{‏لَوْلاَ أَنتُمْ‏}‏ صددتمونا عن الهدى ‏{‏لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ‏}‏ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الذين استكبروا لما اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم‏؟‏ فقيل قالوا‏:‏ ‏{‏أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ‏}‏ أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم أي لسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين الإيمان بعد إذ صممتم على الدخول فيه بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وأيثاركم الكفر على الإيمان‏.‏

ووقوع إذ مضافاً إليها الظرف شائع في كلامهم كوقوعها مضافة وذلك من باب الاتساع في الظروف لا سيما الزمانية، وبهذا يجاب عما قيل إن إذ من الظروف اللازمة للظرفية فكيف وقعت ههنا مجرورة مضافاً إليها‏.‏

وقال صاحب الفرائد إن إذ ههنا جردت عن معنى الظرفية وانسلخت عنه رأساً وصيرت اسماً صرفاً لأن المراد من وقت مجيء الهدى هو الهدى لا الوقت نفسه فلذا أضيف إليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ اضراباً عن اضرابهم وإبطالاً له ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ أي بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعاً أو جعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي، وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن الإضافة على معنى في‏.‏ وتعقب بأنها مع أن المحققين لم يقولوا بها يفوت باعتبارها المبالغة، ويعلم مما أشرنا إليه أن ‏{‏مَكَرَ‏}‏ فاعل لفعل محذوف، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار أو مكر الليل والنهار سبب كفرنا‏.‏ وقرأ قتادة‏.‏ ويحيى ابن يعمر ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم أو مكر عظيم في الليل والنهار‏.‏

وقرأ محمد بن جعفر‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ وأبو رزين‏.‏ وابن يعمر أيضاً ‏{‏مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ بفتح الميم والكاف وتشديد الراء والرفع مع الإضافة أي بل صدنا كرور الليل والنهار واختلافهما، وأرادوا على ما قيل الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله عز وجل‏.‏

وقرأ ابن جبير أيضاً‏.‏ وراشد القاري‏.‏ وطلحة‏.‏ كذلك إلا أنهم نصبوا ‏{‏مَكَرَ‏}‏ على الظرف أي بل صددتمونا مكر الليل والنهار أي في مكرهما أي دائماً، وجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً أي تكرون الإغراء مكراً دائماً لا تفترون عنه، وجوز صاحب اللوامح كونه ظرفاً لتأمروننا بعد‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه وهم لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَأْمُرُونَنَا‏}‏ بدل من الليل والنهار أو تعليل للمكر، وجعله في الإرشاد ظرفاً له أي بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا ‏{‏أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ على أن مكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر وأما أمور آخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ الذين استضعفوا‏}‏ الخ عطف على جملة ‏{‏يَقُولُ الذين استضعفوا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ الخ وإن تغايرتا مضياً واستقبالاً‏.‏

ولما كان هذا القول رجوعاً منهم إلى الكلام دون قول المستكبرين ‏{‏أنحن صددناكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏ فإنه ابتداء كلام وقع جواباً للاعتراض عليهم جيء بالعاطف ههنا ولم يجىء به هناك على ما اختاره بعضهم، وقيل‏:‏ إن النكتة في ذلك أنه لما حكى قول المستضعفين بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ كان مظنة إن يقال‏:‏ فماذا قال الذين استكبروا للذين استضعفوا وهل كان بين الفريقين تراجع‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الذين استكبروا كذا، وقال الذين استضعفوا كذا فأخرج محموع القولين مخرج الجواب وعطف بعض الجواب على بعض فتدبر، والانداد جمع ند هو شائع فيمن يدعى أنه شريك مطلقاً لكن ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره الجاري فيه على مسلك المفسرين إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وبخطه الشريف النوراني رأيته أنه مخصوص بمن يدعي الألوهية كفرعون وإضرابه لأن بذلك ندعن الله تعالى وشرد عن رحمته سبحانه، وقال الشيخ‏:‏ لأنه شرد عن العبودية له جل شأنه ‏{‏وَأَسَرُّواْ‏}‏ أي أضمر الظالمون من الفريقين المستكبرين والمستضعفين ‏{‏الندامة‏}‏ على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال نظراً للمستكبرين ومن الضلال فقط نظرا للمستضعفين، والقول بحصول ندامتهم على الاضلال أيضاً باعتبار قبوله تكلف، ولم يظهروا ما يدل عليها من المحاورة وغيرها ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ‏}‏ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق واشتغلوا عن إظهارها بشغل شاغل، وقيل‏:‏ اخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، وتعقب بأنه كيف يتأتى هذا مع قول المستضعفين لرؤساهم لولا أنتم لكنا مؤمنين وأي ندامة أشد من هذا، وأيضاً مخافة التعيير في ذلك المقام بعيدة، وقيل‏:‏ أسروا الندامة بمعنى اظهروها فإن اسر من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب فمعنى أسره جعله سراً أو إزال سره ونظيره أشكيت؛ وأنشد الزمخشري لنفسه‏:‏

شكوت إلى الإيام سوء صنيعها *** ومن عجب باك فشكى إلى المبكي

فما زادت الأيام إلا شكاية *** وما زالت الأيام نشكى ولا تشكي

وتعقب ابن عطية هذا القول بأنه لم يثبت قط في لغة ان أسر من الأضداد، وأنت تعلم أن المثبت مقدم على النافي فلا تغفل ‏{‏وَجَعَلْنَا‏}‏ أي القيود ‏{‏الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم المستكبرون والمستضعفون والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضماء للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب اغلالهم، واستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له اتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تبابعاً لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي لا يجوزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر، وحاصله لا يجزون إلا شرا، وجزي قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا، وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه رود تعدية جزي بها جميعاً، وقيل‏:‏ إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت عن الراغب لم يحتج إلى هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ‏}‏ من القرى ‏{‏مّن نَّذِيرٍ‏}‏ أي نذيراً من النذر ‏{‏إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا‏}‏ أي المتوسعون في النعم فيها، والجملة في موضع الحال ‏{‏إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ بزعمكم من التوحيد وغيره، والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كافرون‏}‏ وهو خبر إن، وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم، وقيل‏:‏ لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على اتباعه المؤمنين به، وقال بعض الأجلة‏.‏ الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُرْسِلْتُمْ‏}‏ والثاني ‏{‏كافرون‏}‏ فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم، وقيل‏:‏ الجمع الأول ‏{‏نَّذِيرٍ‏}‏ لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي، وليس كل قوم منكراً لجميع الرسل فحمل على المقابلة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ابتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم لع عليه الصلاة والسلام، وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر إتباع الأنبياء عليهم السلام كما جاء في حديث هرقل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم، وقيل‏:‏ لقريش، والظاهر المتبادر هو الأول، والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون‏:‏

‏{‏نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا‏}‏ أي أموالنا وأولادنا كثيرة جداً فأفعل للزيادة المطلقة، وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر استعمالاً والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالاً وأولاداً ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك، وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك، وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عز وجل ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفاً لرضاه لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة، وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا‏:‏ نفى كونهم معذبين إما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأساً وإما بناء على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها، وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي‏:‏ إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون استهانة بهم لظنهم أن المال والولد يدفع العذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم، ولعل ما ذكرناه أولاً أنسب بالمقام فتأمل جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ رداً لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا ‏{‏إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يبسطه له ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معاً وقد يضيق عليهما معاً وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلاً من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصي وليس فليس، والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلاً على ما زعموا لاستواء المعادي والموالي فيه، وقال جمع‏:‏ أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وقال ناصر الدين‏:‏ لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى، وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الاختيار والميئة وقد قال به الخفاجي أخذاً من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد، ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على الله تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات الميئة التي لا تجامع الإيجاب، وقرأ الأعمش ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ مشدد هنا وفيما بعد ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرق والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة، ومنهم من تحير واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم‏:‏

كم عالم عالم أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً

هذا الذي ترى الأفهام حائرة *** وصير العالم النحرير زنديقا

وعنى هذا القائل بالعالم النحرير نفسه، ولعمري أنه بوصف الجاهل البليد أحق منه بهذا الوصف فالعالم النحرير من يقول‏:‏

ومن الدليل على القضاء وحكمه *** بؤس اللبيب وطيب عيشي الأحمق

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى‏}‏ كلام مستأنف من جهته عز وجل خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق كذا في «إرشاد العقل السليم»، وجوز أن يكون ما تقدم لنفي أن يكون القرب والكرامة مداراً وعلة لكثرة الرزق وهذا النفي أن تكون كثرة الرزق سبباً للقرب والكرامة ويكون الخطاب للكفرة، والتي واقع على الأموال والأولاد، وحيث أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث وكان المجموع بمعنى جماعة صح الأفراد والتأنيث أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة، ولا حاجة إلى تقدير مضاف في النظم الكريم، وما ذكر تقدير معنى لا إعراب، وعن الزجاج أن في الكلام حذفاً في أوله لدلالة ما في آخره والتقدير وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي الخ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إليه أيضاً، وجوز أن تكون التي صفة لموصوف مفرد مؤنث تقديره بالتقوى أو بالخصلة التي، وجوز الزمخشري أن تكون التي كناية عن التقوى لأن المقرب إلى الله تعالى ليس إلا تلك أي وما أموالكم ولا أولادكم بتلك الموضوعة للتقريب‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏باللاتي‏}‏ جمعاً وهو راجع للأموال والأولاد كالتي على ما سمعت أولاً‏.‏ وقرىء ‏{‏ءامَنُواْ بالذى‏}‏ أي بالشيء الذي يقربكم‏.‏

وزلفى مصدر كالقربى وانتصابه على المصدرية من المعنى‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏زلفا‏}‏ بفتح اللام وتنوين الفاء جمع زلفة وهي القربة ‏{‏يَعْلَمُونَ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى‏}‏ استثناء من مفعول ‏{‏تُقَرّبُكُمْ‏}‏ على ما ذهب إليه جمع وهو استثناء متصل إذا كان الخطاب عاماً للمؤمنين والكفرة ومنقطع إذا كان خاصاً بالكفرة فالموصول في محل نصب أو رفع على أنه مبتدأ ما بعده خبره أو خبره مقدر أي لكن من آمن وعمل صالحاً فإيمانه وعمل يقربانه‏.‏

واستظهر أبو حيان الانقطاع، وقال في «البحر» إن الزجاج ذهب إلى بدليته من المفعول المذكور وغلطه النحاس بأن ضمير المخاطب لا يجوز الإبدال منه فلا يقال رأيتك زيداً، ومذاهب الأخفش‏.‏ والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضميري المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا فلو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالداً لم يصح اه‏.‏

وذكر بعض الأجلة أن جعله استثناء من المفعول لا يصح على جعل التي كناية عن التقوى لأنه يلزم أن تكون الأموال والأولاد تقوى في حق غير من آمن وعمل صالحاً لكنها غير مقربة، وقيل لا بأس بذلك إذ يصح أن يقال وما أموالكم ولا أولادكم بتقوى إلا المؤمنين، وحاصله أن المال والولد لا يكونان تقوى ومقربين لأحد إلا للمؤمنين، وإذا كان الاستثناء منقطعاً صح واتضح ذلك، وجوز أن يكون استثناء من ‏{‏أموالكم وأولادكم‏}‏ على حذف مضاف أي إلا أموال من آمن وعمل صالحاً وأولادهم، وفي هذا إذا جعل التي كناية عن التقوى مبالغة من حيث أنه جعل مال المؤمن الصالح وولده نفس التقوى‏.‏

ثم إن تقريب الأموال المؤمن الصالح بانفاقها فيما يرضى الله تعالى وتقريب الأولاد بتعليمهم الخير وتفقيههم في الدين وترشيحهم للصلاح والطاعة‏.‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالايمان والعمل الصالح ‏{‏لَهُمْ جَزَاء الضعف‏}‏ أي لهم أن يجازيهم الله تعالى الضعف أي الثواب المضاعف فيجازيهم على الحسنة بعشر أمثالها أو بأكثر إلى سبعمائة فإضافة جزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ ‏{‏جَزَاء الضعف‏}‏ برفعهما فالضعف بدل، وجوز الزجاج كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الضعف‏.‏ ويعقوب في رواية بنصب ‏{‏جَزَاء‏}‏ ورفع ‏{‏الضعف‏}‏ فجزاء تمييز أو حال من فاعل ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي يجزون جزاء، وقرىء ‏{‏جَزَاء‏}‏ بالرفع والتنوين ‏{‏الضعف‏}‏ بالنصب على أعمال المصدر ‏{‏بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ من الصالحات ‏{‏وَهُمْ فِى الغرفات‏}‏ أي في غرفات الجنة ومنازلها العالية ‏{‏ءامِنُونَ‏}‏ من جميع المكارم الدنيوية والأخروية‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعاصم بخلاف عنه‏.‏ والأعمش‏.‏ ومحمد بن كعب ‏{‏فِى الغرفات‏}‏ بإسكان الراء، وقرأ بعض القراء بفتحها، وابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وحمزة وخلف ‏{‏فِى الغرفة‏}‏ بالتوحيد وإسكان الراء، وابن وثاب أيضاً بالتوحيد وضم الراء والتوحيد على إرادة الجنس لأن الكل ليسوا في غرفة واحدة والمفرد أخصر مع عدم اللبس فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا‏}‏ بالرد والطعن فيها ‏{‏معاجزين‏}‏ أي بحسب زعمهم الباطل الله عز وجل أو الأنبياء عليهم السلام، وحاصله زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله تعالى أو أنبيائه عليهم السلام عليهم، ومعنى المفاعلة غير مقصود ههنا ‏{‏أولئك‏}‏ الذي بعدت منزلتهم في الشر ‏{‏فِى العذاب مُحْضَرُونَ‏}‏ لا يجديهم ما عولوا عليه نفعاً، وفي ذكر العذاب دون موضعه ما لا يخفى من المبالغة ‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ‏}‏ أي يوسعه سبحانه عليه تارة ويضيقه عليه أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله تعالى وتقربوا لديه عز وجل بأموالكم وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالانفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت، وأيضاً ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد باعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا ‏{‏لَهُ‏}‏ وعدم قوله هناك، والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خالياً عن ذلك وذكر هذا بعده مشتملاً عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء‏}‏ يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏}‏ جواب الشرط، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و‏{‏مِن شَىْء‏}‏ تبيين على الاحتمالين، ومعنى ‏{‏يُخْلِفُهُ‏}‏ يعطى بدله وما يقوم مقامه عوضاً عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل‏.‏ وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة، أخرج الفريابي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية ‏{‏وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏}‏ فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية‏:‏ أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربا لم يرزقها حتى تموت، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عز وجل فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالاتفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏ تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل‏:‏ فيرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏ وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً ‏"‏ وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر بن عبد الله بن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامناً إلا نفقة في بنيان أو معصية ‏"‏

وأخرج البخاري‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ قال الله عز وجل أنفق يا ابن آدم أنفق عليك ‏"‏ وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال عليه الصلاة والسلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة ‏"‏ وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تحزن فاخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلاً ولا نهاراً ينزل الله تعالى منه الرزق على كل امرىء بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصى فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك ‏"‏

الحديث، ومعنى الرازقين الموصلين للزرق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عز وجل وعلى غيره ويشعر بذلك ‏{‏فارزقوهم مّنْهُ‏}‏ نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏ ووجه الأخيرية في غاية الظهور؛ وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صور فاستشكل أمر التفضيل بأنه لا بد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة‏.‏

وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازاً وهو ضرب من عموم المجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عز وجل، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعاً ‏{‏ثُمَّ يَقُولُ للملائكة‏}‏ إلى آخر يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما يشهد له، فقد روى أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياماً في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلى الله عليه وسلم فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السلام‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ تقريعاً للمشركين وتبكيتاً وإقناطاً لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السلام لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السلام ‏{‏أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6 11‏]‏ وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في «تاريخه» في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو بن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوي فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسول للعرب فعبدوه واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية‏.‏ و‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ و‏{‏كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ خبره و‏{‏إِيَّاكُمْ‏}‏ مفعول ‏{‏يَعْبُدُونَ‏}‏ قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع واستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه ابن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال‏:‏ والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب، وقرأ جمهور القراء ‏{‏نَحْشُرُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ‏}‏ بالنون في الفعلين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا تقول الملائكة حينئذ‏؟‏ فقيل تقول منزهين عن ذلك ‏{‏سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ‏}‏ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ أي الشياطين كما روى عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله تعالى، وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا‏:‏ هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقيل‏:‏ كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئاً تخيلوه صادقاً على الجن لا صادقاً علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا، وقال ابن عطية‏:‏ يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها ‏{‏أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ الضمير الثاني للجن والأول للمشركين، والأكثر على ظاهره لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم اتباعاً لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل، واختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال‏:‏ إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع الله تعالى الملائكة عليهم السلام عليهم أو أنهم حكموا على الأكثر بايمانهم بالجن لأن الايمان من أعمال القلب فلم يذكروا الاطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك لله عز وجل، وجوز أن يكون الضمير الأول للإنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة، وقيل مصدقون أنهم بنات الله ‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ وقيل مصدقون أنهم ملائكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً‏}‏ من جملة ما يقال للملائكة عليهم السلام عند جوابهم بالتبرىء عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤس الأشهاد إظهاراً لعحزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصاً على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية، وقيل للكفار وليس بذاك، والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السلام، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في استحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم، والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها، وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد، والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ‏.‏

‏{‏وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏نَّقُولُ للملائكة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40‏]‏ وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطاباً للملائكة مترتباً على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السلام‏.‏ وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر‏.‏ ووقع الموصول هنا وصفاً للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ صفة للمضاف فقال أبو حيان‏:‏ لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 0 2‏]‏ فوصف لهم ثمت ما لابسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم، وكون الموصول هنا نعتاً للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏ بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك ‏{‏قَالُواْ مَا هذا‏}‏ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم التالي للآيات، والإشارة للتحقير قاتلهم الله تعالى ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ‏}‏ فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد ‏{‏وَقَالُواْ مَا هذا‏}‏ يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السابقة ‏{‏إِلاَّ إِفْكٌ‏}‏ أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع ‏{‏مُّفْتَرًى‏}‏ بإسناده إلى الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ‏}‏ أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ من غير تدبر ولا تأمل فيه ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر سحريته‏.‏

وفي ذكر ‏{‏قَالَ‏}‏ ثانياً والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه، وجوز أن تكون كل جملة صدرت من قوم من الكفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ءاتيناهم‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا‏}‏ تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 5 3‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 1 2‏]‏ وإلى هذا ذهب ابن زيد، وقال السدي‏:‏ المعنى ما آتيناهم كتباً يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به، ويرجع إلى الأول، والمقصود نفى أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك، ومن صلة، وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه واستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما تواترت الأدلة النيرة على خلافه‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏يَدْرُسُونَهَا‏}‏ بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع أدرس افتعل من الدرس ومعناه يتدارسونها، وعنه أيضاً ‏{‏يَدْرُسُونَهَا‏}‏ من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففاً ودرس الكتب مشدداً التضعيف فيه باعتبار الجمع‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ‏}‏ أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيراً يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى، ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الاستجابة لك كأهل الكتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينهم مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله باتباعه وتبشير الكتب به، وذكر ابن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السلام والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏ ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم اه، ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا ‏{‏وَمَا بَلَغُواْ‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏مِعْشَارَ‏}‏ أي عشر ‏{‏مَا ءاتيناهم‏}‏ وقال‏:‏ قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه ابن عطية، وقال الماوردي‏:‏ المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمال وقوة الأجسام وكثرة الأموال ‏{‏فَكَذَّبُواْ‏}‏ أي أولئك المكذبون ‏{‏رُسُلِى‏}‏ الذين أرسلتهم إليهم ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك‏.‏

والفاء الأولى سببية و‏{‏كَذَّبَ‏}‏ الأول تنزيل منزلة للازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه، ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا قالوا‏:‏ إن ‏{‏كَذَّبُواْ رُسُلِى‏}‏ عطف على ‏{‏كَذَّبَ الذين‏}‏ عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى ‏{‏وَمَا بَلَغُواْ‏}‏ اعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم، وجعل التدمير إنكاراً تنزيلاً للفعل منزلة القول كما في قوله‏:‏

ونشتم بالأفعال لا بالتكلم *** أو على نحو‏.‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في ‏{‏كَذَّبَ الذين‏}‏ وفي ‏{‏لَّمَّا كَذَّبُواْ‏}‏ للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى اجترؤا على تكذيب الرسل، وعلى الوجهين لا تكرار، وجوز أن يكون ‏{‏كَذَّبُواْ رُسُلِى‏}‏ منعطفاً على ‏{‏مَا بَلَغُواْ‏}‏ من تتمة الاعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى، وكون جملة ‏{‏مَا بَلَغُواْ‏}‏ معترضة هو الظاهر وجعل ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ تمهيداً لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا التئام دون القول بكونها معترضة، وإرجاع ضمير ‏{‏بَلَغُواْ‏}‏ إلى أهل مكة والضمير المنصوب في ‏{‏ءاتيناهم‏}‏ إلى ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ وبيان الموصول بما سمعت هو المروي عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وابن زيد، وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى، وقيل‏:‏ الضميران للذين من قبلهم، أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المنة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم، واستظهر ذلك أبو حيان معللاً له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير ‏{‏فذكبوا‏}‏ للذين من قبلهم فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة‏}‏ أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قتادة ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ‏}‏ على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم، وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة‏.‏ واعترض بأن ‏{‏أَن تَقُومُواْ‏}‏ معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتحالف مما لم يذهب إليه ذاهب‏.‏

والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف، وقد صرح ابن مالك في «التسهيل» بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية، وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمى التوكيد صفة وعطف البيان صفة، ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولاً بها دائماً غير مسلم، والقيام مجاز عن الجد والاجتهاد، وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بذاك، وقد روى نفي إرادته عن ابن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله تعالى ‏{‏مثنى وفرادى‏}‏ أي متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً فإن في الازدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الانصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها على تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان، وفي «البحر» قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا انقدح الحق بين الإثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الإثنين ‏{‏ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ‏}‏ في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته، والوقف عند أبي حاتم هنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لادعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلاً وأصدقهم قولاً وأذكاهم نفساً وأفضلهم علماً وأحسنهم عملاً وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبكم للإيماء إلى أن حاله صلى الله عليه وسلم مشهور بينهم لأنه نشأ بين أظهرهم معروفاً بما ذكرنا، وجوز أن يكون متعلقاً بما قبله والوقف على ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ على أنه مفعول لفعل علم مقدر لدلالة التفكر عليه لكونه طريق العلم أي ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة أو معمول لتتفكروا على أن التفكر مجاز عن العلم أو معمول له بدون ارتكاب تجوز بناءً على ما ذهب إليه ابن مالك في التسهيل من أن تفكر يعلق حملاً على أفعال القلوب، وجوز أن يكون هناك تضمين أي ثم تتفكروا عالمين ما بصاحبكم من جنة، وقال ابن عطية‏:‏ هو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله تعالى والإيمان به اه وهو كما ترى، و‏{‏مَا‏}‏ مطلقاً نافية والباء بمعنى في ومن صلة، وقيل‏:‏ ما للاستفهام الإنكاري ومن بيانية، وجوز أن تكون صلة أيضاً وفيه تطويل المسافة وطيها أولى ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ هو عذاب الآخرة فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوث في نسم الساعة وجاء ‏{‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏}‏ وضم عليه الصلاة والسلام الوسطى والسبابة على المشهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ‏}‏ أي مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة ‏{‏فَهُوَ لَكُمْ‏}‏ والمراد نفي السؤال رأساً كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئاً فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئاً، فما شرطية مفعول ‏{‏سَأَلْتُكُمْ‏}‏ وهو المروى عن قتادة، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ومن للبيان، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط أي الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم وثمرته تعود إليكم، وهو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى المودة في القربى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3 2‏]‏ وكون ذلك لهم على القول بأن المراد بالقربى قرباهم ظاهر، وأما على القول بأن المراد بها قرباه عليه الصلاة والسلام فلأن قرباه صلى الله عليه وسلم قرباهم أيضاً أو هو إشارة إلى ذلك وإلى ما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7 5‏]‏ وظاهر أن اتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وجوز كون ما نافية ومن صلة وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهُوَ لَكُمْ‏}‏ جواب شرط مقدر أي فإذا لم أسألكم فهو لكم، وهو خلاف الظاهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ يؤيد إرادة نفي السؤال رأساً‏.‏ وقرىء ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ بسكون الياء ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ‏}‏ أي مطلع فيعلم سبحانه صدقي وخلوص نيتي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق‏}‏ قال السدي وقتادة‏:‏ بالوحي، وفي رواية أخرى عن قتادة بالقرآن والمآل واحد؛ وأصل القذف الرمي بدفع شديد وهو هنا مجاز عن الإلقاء، والباء زائدة أي إن ربي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده سبحانه، وقيل القذف مضمن معنى الرمي فالباء ليست زائدة، وجوز أن يراد بالحق مقابل الباطل والباء للملابسة والمقذوف محذوف، والمعنى إن ربي يلقى ما يلقى إلى أنبيائه عليهم السلام من الوحي بالحق لا بالباطل‏.‏

وعن ابن عباس إن المعنى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله عز وجل ويزيله، والحق مقابل الباطل والباء مثلها في قولك قتلته بالضرب، وفي الكلام استعارة مصرحة تبعية والمستعار منه حسي والمستعار له عقلي، وجوز أن تكون الاستعارة مكنية، وقيل‏:‏ المعنى يرمي بالحق إلى أفقطار الآفاق على أن ذلك مجاز عن إشاعته فيكون الكلام وعداً بإظهار الإسلام وإفشائه، وفيه من الاستعارة ما فيه ‏{‏علام الغيوب‏}‏ خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه علام الغيوب أو صفة محمولة على محل إن مع اسمها كما جوزه الكثير من النحاة وإن منعه سيبويه أو بدل من ضمير ‏{‏يَقْذِفُ‏}‏ ولا يلزم خلو جملة الخبر من العائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح من كل الوجوه، وقال الكسائي‏:‏ هو نعت لذلك الضمير ومذهبه جواز نعت المضمر الغائب‏.‏

وقرأ عيسى‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وحرب عن طلحة ‏{‏عِلْمَ‏}‏ بالنصب فقال الزمخشري‏:‏ صفة لربي، وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ وابن عطية‏:‏ بدل، وقال الحوفي‏:‏ بدل أو صفة، وقيل نصب على المدح‏.‏ وقرأ ابن ذكوان‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏الغيوب‏}‏ بالكسر كالبيوت، والباقون بالضم كالعشور وهو فيهما جمع، وقرىء بالفتح كصبور على أنه مفرد للمبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ جَاء الحق‏}‏ أي الإسلام والتوحيد أو القرآن، وقيل السيف لأن ظهور الحق به وهو كما ترى ‏{‏وَمَا يُبْدِىء الباطل‏}‏ أي الكفر والشرك ‏{‏وَمَا يُعِيدُ‏}‏ أي ذهب واضمحل بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ولا إعادة أي فعله ثانياً كما يقال لا يأكل ولا يشرب أي ميت فالكلام كناية عما ذكر أو مجاز متفرع على الكناية، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص‏:‏

أقفر من أهله عبيد *** فاليوم لا يبدىء ولا يعيد

وقال جماعة‏:‏ الباطل إبليس وإطلاقه عليه لأنه مبدؤه ومنشؤه، ولا كناية في الكلام عليه، والمعنى لا ينشىء خلقاً ولا يعيد أو لا يبدىء خيراً لأهله ولا يعيد أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقيل هو الصنم والمعنى ما سمعت، وعن أبي سليمان أن المعنى إن الصنم لا يبتدىء من عنده كلاماً فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ على جميع ذلك نافية، وقيل‏:‏ هي على ما عدا القول الأول للاستفهام الإنكاري منتصبة بما بعدها أي أي شيء يبدىء الباطل وأي شيء يعيد ومآله النفي، والكلام جوز أن يكون تكميلاً لما تقدم وأن يكون من باب العكس والطرد وأن يكون تذييلاً مقرراً لذلك فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ‏}‏ عن الحق ‏{‏فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ أي عائداً ضرر ذلك ووباله عليها فإنها الكاسبة للشرور والأمارة بالسوء ‏{‏وَإِنِ اهتديت‏}‏ إلى الحق ‏{‏فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى‏}‏ فإن الاهتداء بهدايته تعالى وتوفيقه عز وجل، وما موصولة أو مصدرية، وكان الظاهر وإن اهتديت فلها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6 4‏]‏ أو إن ضللت فإنما أضل بنفسي ليظهر التقابل لكنه عدل عن ذلك اكتفاء بالتقابل بحسب المعنى لأن الكلام عليه أجمع فإن كل ضرر فهو من النفس وبسببها وعليها وباله، وقد دل لفظ على في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية والباء في الثانية على معنى السببية في الأولى فكأنه قيل‏:‏ قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لنفسي بهداية الله تعالى وتوفيقه سبحانه، وعبر عن هذا ‏{‏بِمَا يوحى إِلَىَّ *رَبّى‏}‏ لأنه لازمه، وجعل على للتعليل وإن ظهر عليه التقابل ارتكاب لخلاف الظاهر من غير نكتة‏.‏

وجوز أن يكون معنى القرينة الأولى قل إن ضللت فإنما أضل علي لا على غيري، ولا يظهر عليه أمر التقابل مطلقاً، والحكم على ما قال الزمخشري عام وإنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به، وقال الإمام‏:‏ أي إن ضلال نفسي كضلالكم لأنه صادر من نفسي ووباله عليها وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المنير فيكون مجموع الحكمين عنده مختصاً به عليه الصلاة والسلام، وفيما ذكره دلالة على ما قال الطيبي على أن دليل النقل أعلى وأفخم من دليل العقل وفيه بحث‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وعبد الرحمن المقري ‏{‏ضَلَلْتُ‏}‏ بكسر اللام و‏{‏أَضَلَّ‏}‏ بفتح الضاد وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة ‏{‏أَضَلَّ‏}‏ وقرىء ‏{‏رَبّى‏}‏ بفتح الياء ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ فلا يخفى عليه سبحانه قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما فيجازى كلاً بما يليق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ‏}‏ أي اعتراهم انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، والخطاب في ترى للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية، ومفعول ‏{‏تَرَى‏}‏ محذوف أي الكفار أو فزعهم أو هو ‏{‏إِذْ‏}‏ على التجوز إذ المراد برؤية الزمان رؤية ما فيه أو هو متروك لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي لو تقع منك رؤية وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف أي لرأيت أمراً هائلاً، وهذا الفزع على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد يوم القيامة، والظاهر عليه أنه فزع البعث وهو مروى عن الحسن‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن قتادة أنه في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة عليهم السلام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه يوم بدر فقيل هو فزع الحرب، وعن السدي‏.‏ وابن زيد فزع ضرب أعناقهم ومعاينة العذاب، وقيل في آخر الزمان حين يظهر المهدي ويبعث إلى السفياني جنداً فيهزمهم ثم يسير السفياني إليه حتى إذا كان ببيداء من الأرض خسف به وبمن معه فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم فالفزع فزع ما يصيبهم يومئذٍ ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ فلا يفوتون الله عز وجل بهرب أو نحوه عما يريد سبحانه بهم ‏{‏وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ من الموقف إلى النار أو من ظهر الأرض إلى بطنها أو من صحراء بدر إلى القليب أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عز وجل، والجملة عطف على ‏{‏فَزِعُواْ‏}‏ على ما ذهب إليه جماعة قال في «الكشف»‏:‏ وكأن فائدة التأخير أن يقدر فلا فوت ثانياً إما تأكيداً وأما أن أحدهما غير الآخر تنبيهاً على أن عدم الفوت سبب للأخذ وأن الأخذ سبب لتحققه وجوداً، وفيه مبالغة حسنة، وقيل على ‏{‏لا فَوْتَ‏}‏ على معنى فلم يفوتوا وأخذوا، واختاره ابن جني معترضاً على ما تقدم بأنه لا يراد ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم وإنما المراد ولو ترى إذ فزعوا ولم يفوتوا وأخذوا، وبما نقل عن الكشف يتحصل الجواب عنه‏.‏

وجوز كونها حالاً من فاعل ‏{‏فَزِعُواْ‏}‏ أو من خبر لا المقدر وهو لهم بتقدير قد أو بدونه، والفاء في ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ قيل إن كانت سببية فهي داخلة على المسبب لأن عدم فوتهم من فزعهم وتحيرهم وإن كانت تعليلية فهي تدخل على السبب لترتب ذكره على ذكر المسبب، وإذا عطف ‏{‏أُخِذُواْ‏}‏ عليه أو جعل حالاً من الخبر يكون هو المقصود بالتفريع‏.‏ وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة ‏{‏فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ‏}‏ مصدرين منونين‏.‏

وقرأ أبي ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ مبنياً ‏{‏وَأَخَذَ‏}‏ مصدراً منوناً، وإذا رفع أخذ كان خبر مبتدأ محذوف أي وحالهم أخذ أو مبتدأ خبره محذوف أي وهناك أخذ وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وقال الزمخشري‏:‏ قرىء وأخذ بالرفع على أنه معطوف على محل ‏{‏لا فَوْتَ‏}‏ ومعناه فلا فوت هناك وهناك أخذ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ‏}‏ أي بالله عز وجل على ما أخرجه جمع عن مجاهد، وقالت فرقة‏:‏ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 6 4‏]‏ وقيل الضمير للعذاب، وقيل للبعث، ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة والسلام لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم شامل للإيمان بالله عز وجل وبما ذكر من العذاب والبعث ‏{‏وأنى لَهُمُ التناوش‏}‏ التناوش التناول كما قال الراغب وروي عن مجاهد‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضاً بالسلاح، وقال الراجز‏:‏

فهي تنوش الحوض نوشاً من علا *** نوشاً به تقطع أجواز الفلا

وإبقاؤه على عمومه أولى أي من أين لهم أن يتناولوا الإيمان ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ فإنه في حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد؛ ونقل في «البحر» عن ابن عباس تفسير ‏{‏التناوش‏}‏ بالرجوع أي من أين لهم الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري‏:‏

تمنى أن تؤوب إلى مي *** وليس إلى تناوشها سبيل

ولا يخفى أنه ليس بنص في ذلك، والمراد تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء بعد أن بعد عنه وفات في الاستحالة‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو بكر ‏{‏التناؤش‏}‏ بالهمز وخرج على قلب الواو همزة، قال الزجاج‏:‏ كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت بالخيار فيها إن شئت أبقيتها وإن شئت قلبتها همزة فتقول ثلاث أدور بلا همز وثلاث أدؤر بالهمز‏.‏ وتعقب ذلك أبو حيان فقال‏:‏ إنه ليس على إطلاقه بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغماً فيها نحو تعود وتعوذ مصدرين وقد صرح بذلك في التسهيل ولا إذا صحت في الفعل نحو ترهوك ترهوكاً وتعاون تعاوناً؛ وعلى هذا لا يصح التخريج المذكور لأن التناوش كالتعاون في أن واوه قد صحت في الفعل إذ تقول تناوش فلا يهمز‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو من نأشت أي تأخرت وأنشد قول نهشل‏:‏

تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني *** وقد حدثت بعد الأمور أمور

أي تمنى أخيراً، والضمير للمولى في قوله‏:‏

ومولى عصاني واستبد برأيه *** كما لم يطع فيما أشاء قصير

فالهمزة فيه أصلية واللفظ ورد من مادتين، وقال بعضهم‏:‏ هو من نأشت الشيء إذا طلبته، قال رؤبة‏:‏

أقحمني جار أبي الخابوش *** إليك نأش القدر النؤش

فالهمزة أصلية أيضاً، قيل والتناؤش على هذين القولين بمعنى التناول من بعد لأن الأخير يقتضي ذلك والطلب لا يكون للشيء القريب منك الحاضر عندك فيكون من ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ تأكيداً أو يجرد التناوش لمطلق التناول، وحمل البعد في قيده على البعد الزماني بحث فيه الشهاب بأنه غير صحيح لأن المستعار منه هو في المكان وما ذكر من أحوال المستعار له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ‏}‏ حال أو معطوف أو مستأنف والأول أقرب، والضمير المجرور لما عاد عليه الضمير السابق في ‏{‏آمنا بِهِ‏}‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل ذلك في أوان التكليف‏.‏

‏{‏وَيَقْذِفُونَ بالغيب‏}‏ أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن الله عز وجل فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً أو في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام فيقولون فيه وحاشاه‏:‏ شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول بنفيه ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه، والجملة عطف على ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ‏}‏ وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية، والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وجوز الزمخشري كونه عطفاً على ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ‏}‏ على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه شاحطاً‏.‏ وقرأ مجاهد‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو ‏{‏يقذفون‏}‏ مبنياً للمفعول؛ قال مجاهد‏:‏ أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء، وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل‏:‏ وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفي عليهم، والمراد تعظيم أمر كفرهم، وجوز أن يراد بالغيب ما خفي من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفي من معايبهم‏.‏

وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم بمأتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة انتهى، وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على ‏{‏قَدْ كَفَرُواْ‏}‏ وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الرجوع إلى الدنيا، وقال الحسن‏:‏ هو الإيمان المقبول، وقال قتادة‏:‏ طاعة الله تعالى، وقال السدي‏:‏ التوبة، وقال مجاهد‏:‏ الأهل والمال والولد‏.‏

وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضاةً و‏{‏حيل‏}‏ مبني للمجهول ونائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول؛ وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدراً مؤكداً فناب مناب الفاعل، وعلى ذلك يخرج قوله‏:‏

وقالت متى يبخل عليك ويعتلل *** يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب

أي يعتلل هو أي الاعتلال، وقال الحوفي‏:‏ قام الظرف مقام الفاعل، وتعقبه في «البحر» بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعاً والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد، نعم للبناء للإضافة إلى المبنى مواضع أحكمت في النحو، وماذا يقول الحوفي في قوله‏:‏

وقد حيل بين العير والنزوان *** فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب‏.‏ وقرأ ابن عامر‏.‏ والكسائي بإشمام الضم للحاء‏.‏

‏{‏يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ‏}‏ أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة، و‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، وعن الضحاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل، والظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ‏}‏ أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريباً على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازياً أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر، وكأنه من هنا قال ابن عطية‏:‏ الشك المريب أقوى ما يكون من الشك، وضمير الجمع للإشباع وقيل‏:‏ لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم‏.‏ ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً ياجبال جِبَالٍ أَوّبِى مَعَهُ والطير‏}‏ أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سري في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكراً فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك

‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏وَأَلَنَّا لَهُ الحديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 0 1‏]‏ القلب ‏{‏أَنِ اعمل سابغات‏}‏ وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب على اللسان ‏{‏وَقَدّرْ فِى السرد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 11‏]‏ أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد «كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم»

ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ ريح العناية ‏{‏غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر ‏{‏وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏ إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور ‏{‏وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3 1‏]‏ وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى ‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 14‏]‏ فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علماً ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ وهي مقامات أهل الباطن من العارفين ‏{‏قُرًى ظاهرة‏}‏ وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين ‏{‏سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ‏}‏ في ليالي البشرية ‏{‏فِى مَا‏}‏ في أيام الروحانية ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏ في خفارة الشريعة‏.‏

وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية‏:‏ القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم ‏{‏وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم ‏{‏حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم ‏{‏وَمَا أرسلناك‏}‏ أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود ‏{‏إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ‏}‏ الأولين والآخرين ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8 2‏]‏ إذ لا نور لهم يهتدون به ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3 4‏]‏ هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ إن النفس لأمارة بالسوء ‏{‏وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إلى رَبّى‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 0 5‏]‏ من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشىء من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهراً وباطناً ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه لا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 9 7‏]‏ نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون‏.‏