فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ أي أولادهم، قال الراغب‏:‏ الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع، وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية، وقيل‏:‏ أصله ذروية، وقيل‏:‏ هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقاً أبو حيان، وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثونهم للتجارة ‏{‏فِى الفلك‏}‏ أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء ‏{‏المشحون‏}‏ أي اللمملوء، وقيل‏:‏ هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم، وقيل‏:‏ المراد به النساء فإنه يطلق عليهن، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الدراري وفسر بالنساء‏.‏

وفي الفائق قال حنظلة الكاتب‏:‏ كنا في غزاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال‏:‏ هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالداً وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا، وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقراره وتماسكهم في الفلك أعجب، وقيل‏:‏ تطلق الذرية على الآباء وعلى الابناء قاله أبو عثمان‏.‏ وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة، وقيل‏:‏ الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية، والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، وقيل‏:‏ لأنه أبعد من الخطر، وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والسدى

‏[‏بم وفسر ما في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ عليه بالابل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير، واطلاق السفائن عليها شائع كما قيل‏:‏

سفائن بر والسراب بحارها *** وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن سداد، وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها، وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضاً أن المراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضاً عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة‏.‏ واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام‏.‏ وأجيب بأن ذلك يحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وادخل في التعجب ظاهراً حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملتاهم ومن معهم ليبقى نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير، وقال الإمام‏:‏ يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين، وقيل‏:‏ الكلام على حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لأهل مكة وضمير ‏{‏ذُرّيَّتُهُم‏}‏ للقرون الماضية الذين هم منهم وحكى ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء، وجوز الإمام كون الضميرين للعباد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياحسرة عَلَى العباد‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 30‏]‏ ولا يكون المراد في كل أشخاصاً معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضاً فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه، ورجح تفسير ‏{‏مَا‏}‏ بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والاختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد‏.‏ وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكون في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏ على تقدير كون ما موصولة، و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض؛ وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه، والظاهر أن ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول، وجوز عوده على الذرية، وجوز أيضاً عود ضمير ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ على معلوم غير مذكور تقديره من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الارض‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ وهو أبعد من العيوق، وأياً ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏ وإنما لم يؤت بها على أسلوب إخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة أحييناها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37‏]‏ لأنه ليس الفلك نفسه عجباً وإنما حملهم فيه هو العجب، وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ والأعمش‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبان بن عثمان ‏{‏ذرياتهم‏}‏ بالجمع، وكسر زيد‏.‏ وأبان الذال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

وَإِن نَّشَأْ‏}‏ اغراقهم ‏{‏نُغْرِقْهُمْ‏}‏ في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد بـ ‏{‏ما‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 42‏]‏ هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملناهم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطراداً للتماثل، ولما في ذلك من نوع بعد قيل إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّشَأْ‏}‏ الخ يرجح حمل ‏{‏الفلك‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏ على الجنس و‏{‏مَا‏}‏ على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة، وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة اشعار بأنه قد تكامل ما يستدعى اهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به، وقيل إن ذلك ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء، وقرأ الحسن ‏{‏نُغْرِقْهُمْ‏}‏ بالتشديد ‏{‏فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وتفسير الصريخ بالمغيث مروى عن مجاهد‏.‏ وقتادة، ويكون بمعنى الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا، ويكون مصدراً كالصراخ ويتجوز به عن الاغاثة لأن المستغيث ينادي من يستغيث به فيصرح له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل‏:‏ قال سلامة بن جندل‏:‏

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له فزع المطانيب

يقول إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته، وجوز إرادته هنا أي فلا إغاثة لهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ‏}‏ أي ينجون من الموت به بعد وقوعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً‏}‏ استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما، ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والإنقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع، وإلى كونه استثناء مفرغاً مما يكون مفعولاً لأجله ذهب الزجاج والكسائي، والاستثناء على ما يقتضيه الظاهر متصل، وقيل‏:‏ الاستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سبباً لنجاتهم وليس بذاك، وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع، والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض‏.‏ وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعاً، ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله‏:‏ ولم أسلم لكي أبقى ولكن *** سلمت من الحمام إلى الحمام

والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم، وقال ابن عطية‏:‏ إن ‏{‏فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 43‏]‏ الخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى، وليس مربوطاً بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله اه، وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن‏.‏

والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ الخ بيان لاعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إغراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي إذا قيل لأهل مكة بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره ‏{‏اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ‏}‏ قال قتادة‏.‏ ومقاتل‏:‏ أي عذاب الأمم التي قبلكم، والمراد اتقوا مثل عذابهم ‏{‏وَمَا خَلْفَكُمْ‏}‏ أي عذاب الآخرة، وقال مجاهد في رواية عكس ذلك، وجاء عنه في رواية أخرى ما بين أيديهم ما تقدم من ذنوبهم وما خلفهم ما يأتي منها، وعن الحسن مثله، وقيل ما بين أيديهم نوازل السماء وما خلفهم نوائب الأرض، وقيل ما بين أيديهم المكاره من حيث يحسبون وما خلفهم المكاره من حيث لا يحتسبون، وحاصل الأمر على ما قيل اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ حال من واو اتقوا أو غاية له راجعين أن ترحموا أو كي ترحموا، وفسرت الرحمة بالانجاء من العذاب، وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ انفهاماٌ بينا، أما إذا كان الإنذار بالآية الكريمة فبعبارة النص، وأما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين أعرضوا عن أيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولى كأنه قيل‏:‏ وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أو اتقوا ما يوجبه أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه، وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية، وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها، والمراد بها إما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والإيمان وإيتاؤها نزول الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء، وإما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآية الثلاث المعدودة آنفاً وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاريكن للنظر الصحيح فيما المؤدي إلى الإيمان به عز وجل‏.‏

وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الأعراض حسب استمرار إتيان الآيات، و‏{‏عَنْ‏}‏ متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الإدعائي مبالغة في تقبيح حالهم، وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لا عما عم عليه من الكفر وقيل لرعاية الفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما تأتيهم آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال اعراضهم عنها‏.‏

وجملة ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم‏}‏ الخ على ما يشعر به كلام الكشاف تذييل يؤكد ما سبق من حديث الاعراض، وإلى كونه تذييلاً ذهب الخفاجي ثم قال‏:‏ فتكون معترضة أو حالا مسوقة لتأكيد ما قبلها لشمولها لما تضمنه مع زيادة إفادة التعليل الدال على الجواب المقدر المعلل به فليس من حقها الفصل لأنها مستأنفة كما توهم فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله‏}‏ أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والانعام من أنواع الأموال، وعبر بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً في الإنفاق على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ وتنبيهاً على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر، وكذلك الاتيان بمن التبعيضية، والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى مايدفع البلاء عنهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 45‏]‏ الخ والمعنى عليه، إذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم انفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ‏}‏ والأول أظهر، والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم انفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور، وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون، قيل‏:‏ لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا‏:‏ ‏{‏أَنُطْعِمُ‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ سحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول، وقيل‏:‏ قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك، وروي هذا عن مقاتل، وقال ابن عباس‏:‏ كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلاناً ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون‏.‏

وقال القشيري أيضاً‏:‏ إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين‏.‏ وجوز أن يكون مبنياً على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك‏.‏ وعن الحسن‏.‏ وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك‏.‏

وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفس غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أنفق‏.‏

وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن ‏{‏نُطْعِمُ‏}‏ بمعنى نعطي وليس بذاك، و‏{‏أَطْعَمَهُ‏}‏ جواب ‏{‏لَوْ‏}‏ وورود الموجب جواباً بغير لام فصيح ومه ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 100‏]‏ ‏{‏لو نشاء جعلناه اجاجا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 70‏]‏ نعم الأكثر محيئه باللام‏.‏

والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز وجل، ولعمري أن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له، ويجوز أن يكون جواباً من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافاً بيانياً جواباً لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعدهم بذلك، ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم من الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ يعنون وعد البعص، وجوز أن يكون ذلك من باب الاستهزاء وأرادوا متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ فيما تقولون وتعدون فاخبرونا بذلك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما أنهم أيضاً كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شراً لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد، وقيل‏:‏ إن ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏مَا يَنظُرُونَ‏}‏ جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً‏}‏ عظيمة ‏{‏واحدة‏}‏ وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض‏.‏ وعبر بالانتظار نظراً إلى ظاهر قوللهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏ أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ‏{‏‏}‏ أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ‏{‏تَأُخُذُهُمْ‏}‏ تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون ‏{‏وَهُمْ يَخِصّمُونَ‏}‏ أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏ فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال‏:‏ «لينفخن في الصور والناس في طرفهم وأسواقهم ومجالسهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفح في الصور فيصعق به» وهي التي قال الله تعالى ‏{‏مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ الخ، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقي منه ولتقو من الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها ‏"‏ وأصل يخصمون يختتصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الكسر لاتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزاً‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والأعرج‏.‏ وشبل‏.‏ وابن قسطنين بادغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء، وأبو عمرو أيضاً‏.‏ وقالوا بخلف باختلاس حركة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله، والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضاً، وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم، وبعضهم يكسر ياء المضارعة إتباعاً لكسرة الخاء وشد الصاد، وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في مواضع، وعن نافع أنه قرى بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة، وفيها الجمع بين الساكنين على حده المعروف، وكأنه يجوز الجمع بينهما إذا كان الثاني مدغماً كان الأول حرف مد أيضاً أم لا، وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعاً لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم، ونصب ‏{‏تَوْصِيَةً‏}‏ على أنه مفعول به ليستطيعون، وجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً لمقدر ‏{‏وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز وجل لا إلى غيره سبحانه‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يسن‏:‏ 48‏]‏ لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون أي ينفح فيه، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع‏.‏

وقرأ الأعرج ‏{‏الصور‏}‏ بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك ‏{‏فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث‏}‏ أي القبور جمع جدث بفتحتين، وقرىء بالفاء بدل الثاء والمعنى واحد ‏{‏إلى رَبّهِمُ‏}‏ مالك أمرهم ‏{‏يَنسِلُونَ‏}‏ يسرعون بطريق الأجبار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 32‏]‏ قيل‏:‏ وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحق‏.‏ وأبو عمرو بخلاف عنه بضم السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي في ابتداء بعثهم من القبور ‏{‏يَا وَيْلَنَا‏}‏ أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا أنظروا ويلنا وتعجبوا منه‏.‏ وعلى حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء‏.‏

وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بتاء التأنيث، وعنه أيضاً ‏{‏يا ويلتي‏}‏ بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة، والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي ‏{‏قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا، وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والاستراحة من الأفعال الاختيارية، ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياماً ولم يكن لهم ءدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم، وقيل سموا ذلك مرقداً مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدواه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جبنها فيقولون ذلك‏.‏

وأخرج الفريابي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال‏:‏ ينامون قبل البعث نومة، وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ للكفار هجعة يجدون فيها طعم النون قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور يقولون ‏{‏قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا‏:‏ ذلك‏.‏

وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت‏.‏

وقرأ أمير المؤمنين علي‏.‏ وابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وأبو نهيك ‏{‏مَن بَعَثَنَا‏}‏ بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالاً منه‏.‏ ونحوه في الخبر‏.‏

ويلي عليك وويلي منك يا رجل‏.‏ *** ومن الثانية متعلق ببعث‏.‏

وعن ابن مسعود أنه قرأ ‏{‏مِنْ‏}‏ بمن الاستفهامية وأهب بالهمزة من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته‏.‏

وعن أبي أنه قرأ ‏{‏هبنا‏}‏ بلا همز قال ابن جنى‏:‏ وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أصلاً ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفاً أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل، وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيظنا، وقال البيضاوي‏:‏ هبنا بدون الهمة بمعنى أهبنا بالهمز، وقرىء ‏{‏مِنْ‏}‏ بمن الجارة والمصدر من هب يهب ‏{‏هذا مَا وَعَدَ الرحمن‏}‏ جملة من مبتدأ وخبر ‏{‏وَصَدَقَ المرسلون‏}‏ عطف على ما في حيز ما، وعطفه على الجملة الاسمية أو جعله حالاً بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر، وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيداً الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، وهو على ما قيل جواب من جهته عز وجل على ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين؛ وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل، وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا الباعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع، وفيه من تقريعهم ما فيه‏.‏

وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعدما سبق من قولهم ‏{‏متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏ فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل، وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر، وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل إشارة إلى زيادة التقريع من حيث أن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بالا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه، وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم، واختصاص رحمة الرحمة بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليه السلام أو أجاب بعضهم بعضاً، وآثروا اسم الرحمن طمعاً في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز وجل، وجوز الزجاج كون ‏{‏هذا‏}‏ صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه، وقد روى عن حفص أنه وقف عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماعة القراء على الوقف على ‏{‏مَّرْقَدِنَا‏}‏ غير تامة، وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد، وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق، ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس سره في «تفسيره» المسمى بـ «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» ومن خطه الشريف نقلت ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏ الآية بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مّن بَعْدَمَا *جَاءكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 145‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِ هُدًى بَعْدَ لاَ رَيْبَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فليحفظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏إِن كَانَتْ‏}‏ أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفاً ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، وقيل‏:‏ هي قول إسرائيل عليه السلام أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء‏.‏ وقرىء برفع ‏{‏صَيْحَةٍ‏}‏ ومر توجيهها ‏{‏فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ‏}‏ مجمع ‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا ‏{‏مُحْضَرُونَ‏}‏ لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين، وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فاليوم‏}‏ الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه؛ وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ‏}‏ من النفوس برة كانت أو فاجرة ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئاً من الأشياء على أنه مفعول به على الحذف والإيصال ‏{‏وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه، وقيل‏:‏ لا تجزوم إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب، وهذا حكاية عهما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقاً للحق وتقريعاً لهم، واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام إخباراً من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ واختاره السكاكي، وقيل‏:‏ عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافاً مضاعفة‏.‏ ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظالم أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون‏}‏ على تقدير كون الخطاب السابق خاصاً بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الإخبار بحسن حال أعدائهم إثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين، وعلى تقدير كونه عاماً ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب، والشغل هو الشأن الذي يصدر المرء ويشغله عما سواه من شؤنه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد ههنا هو الأول، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وعن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار‏.‏

وقيل السماع وروى عن وكيع‏.‏ وعن ابن كيسان التزاور، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعاً، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا، ولعل التعميم أولى‏.‏

وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار، والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبراً لأن و‏{‏فاكهون‏}‏ خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و‏{‏فِى شُغُلٍ‏}‏ متعلق به أو حال من ضميره؛ والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ عن ابن عباس فرحون، وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فهي‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي، وقال أبو مسلم‏:‏ إنه مأخوذ من الفاكهة بالضم وهي التحدث بمايسر، وقيل‏:‏ التمتع والتلذذ قيل ‏{‏فاكهون‏}‏ ذووا فاكهة نحو لابن وتامر‏.‏

وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏شُغُلٍ‏}‏ بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين كما قال الفراء‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ وأبو السمال‏.‏ وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين، ويزيد النحوي‏.‏ وابن هبيرة أيضاً فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان العين وهما لغتان أيضاً فيه‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ ويحيى بن صبيح‏.‏ ونافع في رواية ‏{‏فاكهون‏}‏ جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت، وقرأ طلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏فاكهين‏}‏ بالألف وبالياء نصباً على الحال و‏{‏فِى شُغُلٍ‏}‏ هو الخبر، وقرىء ‏{‏فَكِهِينَ‏}‏ بغير ألف وبالياء كذلك، وقرىء ‏{‏فاكهون‏}‏ بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنطس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ‏}‏ استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسروراً من شركة أزواجهم، فهم مبتدأ و‏{‏أزواجهم‏}‏ عطف عليه و‏{‏مُتَّكِئُونَ‏}‏ خبر والجاران صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة، وجوز أن يكون الخبر هو الرف الأول والظرف الثاني متعلق بمتكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متئكون على الأرائك أو الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم و‏{‏متئكون‏}‏ مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني، وقيل‏:‏ ‏{‏هُمْ‏}‏ تأكيد للمستكن في خبر ‏(‏إن‏)‏ أعني ‏(‏فاكهون‏)‏‏}‏ أو ‏{‏في شغل‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ومنعه بعضهم زعماً منه أن فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي و‏{‏مُتَّكِئُونَ‏}‏ خبر آخر لها و‏{‏على الارائك‏}‏ متعلق به وكذا ‏{‏فِى ظلال‏}‏ أو هو متعلق بمحذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه، ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الاحتمال على تقدير أن يكون ‏{‏هُمْ‏}‏ مبتدأ أيضاً، والضلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب، ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام، وأيد بقراءة عبد الله‏.‏ والسلمي‏.‏ وطلحة‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات، ومنذر بن سعيد يقول‏:‏ جمع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل‏.‏

وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم؛ ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهن الأسواء والجمع باعتبار مالك واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاة‏.‏ ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد بمعنى القدرة على قول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور، وأقول قال ابن الأثير الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان، وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما كان بعده فهو الفىء، وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه المس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها، ومن هنا قال الراغب‏:‏ الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس، فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة‏؟‏ قال‏:‏ مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل‏:‏ ما نورها‏؟‏ قال‏:‏ ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير، وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا، ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم منه ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحوار العين وغيرهم‏.‏

نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يومىء إليه ما أخرجه ابن ماجه عن أسامة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ ‏"‏ الحديث، ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على المعنى وجمعه للتعدد الاعتباري، ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذل وبهذا فسر الراغب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين فِى ظلال وَعُيُونٍ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 41‏]‏ وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام، ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفاً وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضاً ما هو ظاهر في أن فيها شجراً مرتفعاً يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها فاقرؤا إن شئتم ‏{‏وظالم مَّمْدُودٍ‏}‏ ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر، وابن الأثير يقول‏:‏ معنى في ظلها في ذراها وناحيتها، وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها، و‏{‏الارائك‏}‏ جمع أريكة وهو السرير في قول، وقيل‏:‏ الوسادة حكاه الطبرسي‏.‏ وقال الزهري‏:‏ كل ما اتكىء عليه فهو أريكة، وقال ابن عباس‏:‏ لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة‏.‏ وفي «حادي الأرواح» لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكن على السرير فراش، وفي «الصحاح الأريكة» سرير منجد مزين في قبة أو بيت، وقال الراغب‏:‏ الأريكة حجلة على سرير والجمع أرائك، وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكاناً للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات‏.‏

وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم يقال للمتكىء على أريكة متكىء على سرير فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 20‏]‏ لجواز أن تكون في السرر في الحجال فتكون أرائك، ويجوز أن يقال‏:‏ إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بارائك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياكم الجلوس على هاتيك السرر والاتكاء مع الأزواج على الأرائك، والظاهر أن المراد بالأزواج أزواجهم المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا، وقيل أزواجهم اللاتي متن ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفاراً فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون المراد بأزواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الايمان كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أزواج‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ وقريب منه ما قيل المراد به أخلاؤهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الاشكال والإخلاء ومن سمعت أولاً، وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الاشكال أو الإخلاء بالخصوص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فاكهة‏}‏ بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسماني والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلاً لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل، ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه الكلام السابق من اشتغالهم بالإنس واتكائهم على الأراشك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل‏:‏ إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم‏؟‏ فأجيب بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا فاكهة‏}‏ وهو مشير إلى أن لهم من المأكل ما لهم على أتم وجه، وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحماً، والتنوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا فاكهة‏}‏ دون يأكلون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الاختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاؤا أكلوا وإن شاؤا أمسكوا‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا أنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت‏:‏ لك ذلك تعني فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلباً وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لا سيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجيل جل جلاله وعم نواله، فيدعون من الدعاء بمعنى الطلب، وأصله يد تعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل‏:‏ بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالاً ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالاً وأدغمت، وافتعل بمعنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى بمعنى شوى واجتمل بمعنى جمل أي أذاب الشحم‏.‏

قال لبيد‏:‏

فاشتوى ليلة ريح واجتمل‏.‏ *** و‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إضما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال، وجوز أن تكون منا نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر، والجملة عطف على الجملة قبلها، وعدم الاكتفاء بعطف ‏{‏مَا‏}‏ على ‏{‏فاكهة‏}‏ لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ من الافتعال بمعنى التفاعل كارتموه بمعنى تراموه أي لهم ما يتداعون، والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب، وأن يكون من الافتعال على ما سمعت أولاً إلا أن الادعاء بمعنى التمني‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ العرب تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن على، وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمني أي لهم ما يتمنون، قال الزجاج‏:‏ وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، وقيل‏:‏ افتعل بمعنى فعل فيدعون بمعنى يدعون من الدعاء بمعناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عز وجل في الدنيا من الجنة ودرجاتها‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏سلام‏}‏ جوز أن يكون بدلاً من ‏{‏ما‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 57‏]‏ بدل بعض من كل ولزوم الضمير غير مسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَوْلاً‏}‏ مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة صفة لاسماً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ صفة ‏{‏قَوْلاً‏}‏ أي سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم أي يسلم عليهم من جهته تعالى بلا واسطة تعظيماً لهم‏.‏ فقد أخرج ابن ماجه وجماعة عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرعوا رؤسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ قال فينظر إليه وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ‏"‏ وقيل بواسطة الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23، 24‏]‏ وروى ذلك عن ابن عباس وعلى الأول الأكثرون، وأما ما قيل إن ذلك سلام الملائكة على المؤمنين عند الموت فليس بشيء، والبدلية المذكورة مبنية على أن ما عامة‏.‏

وجوز أن يكون بدل كل من كل على تقدير أن يراد بها خاص أو على ادعاء الاتحاد تعظيماً، ولا بأس في إبدال هذه النكرة منها على تقدير موصوليتها لأنها نكرة موصوفة بالجملة بعدها، على أنه يجوز أن يلتزم جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقاً من غير قبح‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏سلام‏}‏ خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفته أي هو أو ذلك سلام يقال قولاً من رب رحيم، والضمير لما وكذا الإشارة، وجوز أن يكون صفة لما أي لهم ما يدعون سالم أو ذو سلامة مما يكره، و‏{‏قَوْلاً‏}‏ مصدر مؤكد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 75‏]‏ سلام أي عدة من رب رحيم، وهذه الوصفية على تقدير كون ما نكر موصوفة ولا يصح على تقدير كونها موصولة للتخالف تعريفاً وتنكيراً وأن يكون خبراً لما، و‏{‏لَهُمْ‏}‏ متعلق به لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه، ونصب ‏{‏قَوْلاً‏}‏ على ما سمعت آنفاً‏.‏

وفي «الكشاف» الأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من محازه فيكون الكلام جملة مفصولة عما سبق ولا ضير في نصب النكرة على ذلك، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ولهم سلام يقال قولاً من رب رحيم، وقد الخبر مقدماً لتكون الجملة على أسلوب أخواتها لا ليسوغ الابتداء بالنكرة فإن النكرة موصوفة بالجملة بعدها، وظاهر كلامهم تقدير العاطف أيضاً ويمكن أن لا يقدر، وفصل الجملة على ما قيل لأنها كالتعليل لما تضمنته لآي قبلها فإن سلام الرب الرحيم منشأ كل تعظيم وتكريم، وجوز على تقدير كونه مبتدأ تقدير الخبر المحذوف عليهم؛ قال الإمام‏:‏ فيكون ذلك إخباراً من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه حكى لنا وقال جل شأنه‏:‏

‏{‏إِنَّ أصحاب اليوم فِى شُغُلٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55‏]‏ ثم لما كمل بيان حالهم قال‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْهِمْ‏}‏ وهذا كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏سلام على نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79‏]‏ ‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 181‏]‏ فيكون جل وعلا قد أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ثم قال‏:‏ وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه فنقول‏:‏ أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعاً من الالتفات حيث قال تعالى لهم كذا وكذا ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ اه‏.‏ ووجه الابتداء بسلام في مثل هذا التركيب موصوفاً كان أم لا معروف عند أصاغر الطلبة‏.‏ وقرأ محمد بن كعب القرظي ‏{‏سلام‏}‏ بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ مسالم لهم أي ذلك مسالم وليس بذاك‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وعبد الله‏.‏ وعيسى‏.‏ والغنوي ‏{‏سَلاَماً‏}‏ بالنصب على المصدر أي يسلم عليهم سلاماً أو على الحال من ضمير ما في الخبر أو منها على القول بجواز مجيء من المبتدأ أي ولهم مرادهم خالصاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ أي انفردوا عن المؤمنين إلى مصيركم من النار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير، وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع من يحبون، ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضاً الوارد في آيات أخر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 47‏]‏ ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى، وجوز الإمام كون الأمر أمر تكيون كما في ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏ ولا يخفى بعده، والجملة عطفاً ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية، وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما، وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون‏.‏

قاله أبو السعود، وقال الخفاجي‏:‏ يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في ‏{‏قولا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 58‏]‏ وهو أقرب وأقل تكلفاً لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو البحر حدث عنه ولا حرج، وفيه بحث يظهر بأدنى تأمل، وقيل‏:‏ إن المذكور من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55‏]‏ إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 54‏]‏ وبني عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليمتز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة وامتازوا عنهم إلى النار، وتعقبه في «الكشف» بأنه ليس بظاهر إذ بأحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال‏:‏ والوجه أن المقصود عطف جملة قصة أصحاب النار على جملة قصة أصحاب الجنة وأوثرها هنا الطلب زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصلوها اليوم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 64‏]‏ وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على المعنى وأن المجرمون ممتازون منفردون‏.‏

وفائدة العدول ما في الخطاب والطلب من النكتة اه، وما ذكره من حديث إغناء أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديرياً مع أن الامتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك‏:‏ إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكى عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعاً لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الافهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لاضمار شيء يتعلق به إخراجاً للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أكثر من أولوية تقدير فليقروا عيناً على تقدير فليمتازوا فليفهم، وقال بعض الأذكياء‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏امتازوا‏}‏ فعلاً ماضياً والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من التنعم وأيضاً للمأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن ‏{‏امتازوا‏}‏ فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارىء ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى بَنِى *ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان‏}‏ من جملة ما يقال لهم بطريق لتقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر والامتياز والأمر بمقاساة حر جهنم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنعة، والمراد به ههنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏ وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى، وقيل‏:‏ هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وقيل‏:‏ هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره عز وجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعباة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة، وقرأ طلحة‏.‏ والهذيل بن شرحبيل الكوفي ‏{‏أَعْهَدْ‏}‏ بكسر الهمزة قاله «صاحب اللوامح» وقال هي لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة؛ وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ‏}‏ بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء، وروى عن ابن وثاب ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ‏}‏ بكسر الهاء ويقال عهد وعهد اه‏.‏

ولعله أراد أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا إن الميم مكسروة والهمزة بعدها مكسورة أيضاً فتلفظ بها، وقال الزمخشري‏:‏ قرىء ‏{‏أَعْهَدْ‏}‏ بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و‏{‏أَعْهَدْ‏}‏ بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و‏{‏احهد‏}‏ بإبدال العين وحدها حاء مهملة و‏{‏عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏ بإبدالها مع إبدال الهاء وإدغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكره من قوله‏:‏ إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضاً فيقولون يعلم مثلاً وقوله في أحد وأحد لغة بني تميم هو المشهور، وقيل‏:‏ أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أو دع هذه المرأة مع هذه القربة ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاب، وقيل‏:‏ تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنِ اعبدونى‏}‏ عطف على ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏ على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ فيها مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول دون حروفه أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم اعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية قيل‏:‏ وليتصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم، وجعل بعضهم الإشارة إلى ما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وفعل عبادة الله عز وجل‏.‏

ورجح بأن عبادته تعالى إذا لم تنفرد عن عبادة غيره سبحانه لا تسمى صراطاً مستقيماً فتأمل والجملة استئنافية جيء بها لبيان المقتضى للعهد بعبادته تعالى أو للعهد بشقيه والتنكير للمبالغة والتعظيم أي هذا صراط بليغ في استقامته جامع لكل ما يجب أن يكون عليه واصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف والتعريف ولذا لم يقل هذا الصراط المستقيم أو هذا هو الصراط المستقيم وإن كان مفيداً للحصر، وجوز أن يكون التنكير للتبعيض على معنى هذا بعض الصرط المستقيمة وهو للهضم من حقه على الكلام المنصف، وفيه إدماج التوبيخ على معنى أنه لو كان بعض الصراط الموصوفة بالاستقامة لكفى ذلك في انتهاجه كيف وهو الأصل والعدة كما قيل‏:‏ وأقول بعض الناس عنك كناية *** خوف الوشاة وأنت كل الناس

وفيه أن المطلوب الاستقامة والأمر دائر معها وقليلها كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً‏}‏ استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم إثر بيان نقضهم العهد فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم، وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء‏.‏

والجبل قال الراغب الجماعة العظيمة أطلق عليهم تشبيهاً بالجبل في العظم، وعن الضحاك أقل الجبل وهي الأمة العظيمة عشرة آلاف، وفسره بعضهم بالجماعة وبعض بالأمة بدون الوصف وقيل هو الطبع المخلوق عليه الذي لا ينتقل كأنه جبل وهو هنا خلاف الظاهر‏.‏

وقرأ العربيان‏.‏ والهذيل ‏{‏جِبِلاًّ‏}‏ بضم الجيم وإسكان الباء‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي بضمتين مع تخفيف اللام‏.‏ والحسن‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ والزهري‏.‏ وابن هرمز‏.‏ وعبد الله بن عبيد بن عمير‏.‏ وحفص بن حميد بضمتين وتشديد اللام، والأشهب العقيلي‏.‏ واليماني‏.‏ وحماد بن سلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء، والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام جمع جبلة نحو فطرة وفطر، وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وبعض الخراسانيين ‏{‏جيلاً‏}‏ بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف واحد الأجيال وهو الصنف من الناس كالعرب والروم‏.‏

‏{‏كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ‏}‏ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ وعيسى‏.‏ وعاصم في رواية عبد بن حميد عنه بياء الغيبة فالضمير للجبل‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم أي هذه التي ترونها حهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم السلام والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏اصلوها اليوم‏}‏ أمر تحقير وإهانة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ الخ أي قاسوا حرها في هذا اليوم الذي لم تستعدوا له، وقال أبو مسلم‏:‏ أي صيروا صلاها أي وقودها‏.‏

وقال الطبرسي‏:‏ ألزموا العذاب بها وأصل الصلا اللزوم ومنه المصلي الذي يجىء في أثر السابق للزومه أثره‏.‏

‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ كفركم المستمر في الدنيا فالباء للسببية وما مصدرية واحتمال كونها موصولة بعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ كناية عن منعهم من التكلم، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة‏.‏

وجوز أن يكون الختم مستعاراً لمعنى المنع بأن يشبه إحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعاً شبيهاً بالختم، والأول أولى في نظري ‏{‏وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول إنهم فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك‏.‏

ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 35‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏ وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏السورى‏:‏ 30‏]‏ إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن‏.‏

وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏ بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضاً في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص ههنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون‏.‏

ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحداً بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولاً ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم إما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى‏:‏

‏{‏حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏ فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجىء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 63، 64‏]‏ فيكون ذلك عند المجىء إلى النار أيضاً، قال في إرشاد العقل السليم‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ‏}‏ الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية، لكن قال في موضع آخر‏:‏ إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والأخبار ظاهرة في ذلك‏.‏

أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ عن أبي موسى الأشعري من حديث «يدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم على فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية» وفي حديث أخرجه مسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والبيهقي عن أبي سعيد‏.‏ وأبي هريرة مرفوعاً «إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي فل ألم أكرمك إلى أن قال صلى الله عليه وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثنى بخير ما استطاع فيقول‏:‏ ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد على فيختم على فيه‏.‏ ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله»‏.‏

وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهداً منه فيختم على فيه، أخرج أحمد‏.‏ ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال‏:‏ أتدرون مم ضحكت‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول الله قال‏:‏ من مخاطبة العبد ربه يقول‏:‏ يا رب ألم تجرني من الظلم‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى فيقول‏:‏ إني لا أجيز على ألا شاهداً مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول‏:‏ بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر‏.‏

وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن، وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال ‏"‏ ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلماً وقدرة فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على أن ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد إقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم، وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع، والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلاً في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولاً وأنطقها نطقاً يفقهه المشهود عليه، وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى عل كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والإرادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بهذا فليؤمن بذلك، والتشبث بذيل الاستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم قال حجة الإسلام الغزالي أفضل من قتل مائة كافر، وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها، وعلى الاحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره‏.‏

وقد أفاد الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ يفيد جواز ذلك، وذكر فيه أن الشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه، ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسألة من الكلام، وكأن الشهادة على الاحتمال الثاني بعد الاستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل‏.‏

ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم، وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها، وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر، وإما بأن تذكر المعاصي فقط، وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال ما لم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحداً يدعيه‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيآتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويستدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الحالية بمنزلة المقالية مجازاً، وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏ ظاهر جداً في النطق القالي والإخبار أظهر وأظهر، نعم يهون على هذا القول أمر الاستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد، هذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو لم يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا، وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحداً يقول به بل ربما يدعي تخصيصه بما سوى الكفر بناءً على أنه من أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم‏.‏

وشهادتها به إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى، وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ‏.‏ وقرىء ‏{‏يَخْتِمْ‏}‏ للمفعول ‏{‏بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بتاءين، وقرىء ‏{‏وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ‏}‏ بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة‏.‏ وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ ‏{‏ولتكلمنا أيديهم ولتشهد‏}‏ بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي إيانا ولشهادة الأجل نختم على أفواههم‏.‏