فصل: تفسير الآية رقم (66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أنه عز وجل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة، والطمس إزالة الأثر بالمحو، والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها‏.‏

وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الصراط‏}‏ عطف على ‏{‏لَطَمَسْنَا‏}‏ على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الاستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم ‏{‏فأنى يُبْصِرُونَ‏}‏ أي فكيف يبصرون ذلك الطريق وجهة السلوك والمقصود إنكاراً أبصارهم، وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الاستبقاق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه، وتأويل استبقوا بأرادوا الاستباق مما ذهب إليه البعض، وقيل لا حاجة لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السابق، ونصب ‏{‏الصراط‏}‏ بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية، وجوز كونه مفعولاً به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا، ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة ‏{‏سَوَاء الصراط‏}‏ ابتدروه، قال في «الكشف»‏:‏ فعليه لا تضمين، وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الاستباق متبدرين الطريق لا يبصرون، وقيل يجوز كونه مفعولاً به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجعل الطريق مسبوقاً على التجوز في النسبة أو الاستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا، قال في «القاموس»‏:‏ استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك، وقال غير واحد‏:‏ هو مجاز والعلاقة اللزوم، والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقاً يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها‏.‏

وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط والطريق وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية، وهذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد‏:‏ لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب

والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا، وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروى عن الحسن‏.‏

وقتادة، وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول‏.‏

أخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عنه أنه قال‏:‏ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏فَاسْتَبِقُوا‏}‏ على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم‏}‏ أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة‏.‏ عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير، وقيل‏:‏ لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح، ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية، وسمي بعضهم قلب الحيوان جماداً رسخاً وقلبه نباتاً فسخاً وخص المسخ بقلبه حيواناً آخر، ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم ‏{‏على مكانتهم‏}‏ أي مكانهم كالمقامة والمقام‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم‏.‏

وقال الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وجماعة المعنى لو نشاء لأقعدناهم وأزمناهم وجعلناهم كسحاً لا يقومون‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وأبو بكر ‏{‏مكاناتهم‏}‏ بالجمع لتعددهم ‏{‏مكانتهم فَمَا استطاعوا‏}‏ لذلك ‏{‏مُضِيّاً‏}‏ أي ذهاباً إلى مقاصدهم ‏{‏وَلاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ قيل هو عطف على ‏{‏مُضِيّاً‏}‏ المفعول به لاستطاعوا وهو من باب تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فيكون التقدير فما استطاعوا مضياً ولا رجوعاً وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناءً على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبىء عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبي عنه، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظراً إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر‏.‏

واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل، والإمام بعد الاقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيراً؛ وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل هو عطف على ما ذكر ما استطاعوا، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد‏.‏

وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع، وأياً ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا، وقال ابن سلام‏:‏ هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال‏.‏

وأصل ‏{‏مُضِيّاً‏}‏ مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخف وتناسب الياء‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي ‏{‏مُضِيّاً‏}‏ بكسر الميم إتباعاً لحركة الضاد كالعتي بضم العين والعتي بكسرها‏.‏ وقرىء ‏{‏مُضِيّاً‏}‏ بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصئي بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأى الديك أو الفرخ إذا صاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن نّعَمّرْهُ‏}‏ أي نطل عمره‏.‏

‏{‏نُنَكّسْهُ فِى الخلق‏}‏ نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له، وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة، والحق أن زمان ابتداء الضعف ونتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى‏.‏

والكلام عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 66‏]‏ الخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك‏.‏

وقرأ جمع من السبعة ‏{‏نُنَكّسْهُ‏}‏ مخففاً من الإنكاس ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا علمناه‏}‏ بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتلخيص في أمر المبدأ والمعاد ‏{‏الشعر‏}‏ إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفحم كل منطيق يباين الشعر ولا مثل الثريا للثرى، أما لفظاً فلعدم وزنه وتقفيته، وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب، ولذا قيل أعذبه أكذبه، والقرآن حكم وعقائد وشرائع‏.‏

والمراد من نفي تعليمه صلى الله عليه وسلم بتعليم الكتاب الشعر نفى أن يكون القرآن شعراً على سبيل الكناية لأن ما علمه الله تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعراً لم يكن القرآن شعراً البتة، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام ليس بشاعر إدماجاً وليس هناك كناية تلويحية كما قيل، وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلى الله عليه وسلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه ثم حاشاه من ذلك ‏{‏وَمَا يَنبَغِى لَهُ‏}‏ اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلى الله عليه وسلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل‏.‏

وقال ابن الحاجب‏:‏ أي لا يستقيم عقلاً أن يقول صلى الله عليه وسلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏ لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم‏.‏ وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة والسلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة والسلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سداً لباب الريبة ودحضاً للشبهة وإعظاماً للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاءً بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا نفى الريب مع أنه وقع علم أن العلة في أنه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر، واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولاً، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناءً بشأنه ورفعاً لقدره وتبعيداً له صلى الله عليه وسلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة‏.‏

وإنما لم يعط صلى الله عليه وسلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلى الله عليه وسلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ، ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك، نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه، وقد يقال‏:‏ لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه، وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة والسلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة، وقيل يجوز أن يكون خاصاً والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلى الله عليه وسلم فوق مقام الأنبياء عليهم السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه السلام يوم قتل ولده‏:‏

تغيرت البلاد ومن عليها *** ووجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي طعم ولون *** وقل بشاشة الوجه الصبيح

اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضاً، ولعل الحفظ حينئذٍ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقاً، والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام القرآن فربما تحصل التهمة فيه لو قال صلى الله عليه وسلم الشعر وكذلك معجزات الأنبياء عليهم السلام فتأمل‏.‏

وأياً ما كان لا يرد أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها ولم يبق معه عليه الصلاة والسلام من الناس إلا قليل أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب لأنا لا نسلم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة والسلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيراً في الكلام المنثور ولا يسمى شعراً ولا قائله شاعراً، ولا يتوهم من انتسابه صلى الله عليه وسلم فيه إلى جده دون أبيه دليل القصد لأن النسبة إلى الجد شائعة ولأنه هو الذي قام بتربيته حيث توفى أبوه عليه الصلاة والسلام وهو حمل فحين ولقد قام بأمره فوق ما يقوم الوالد بأمر الولد ولأنه كان مشهوراً بينهم بالصدق والشرف والعزة فلذا خصه بالذكر ليكون كالدليل على ما قبل أو كمانع آخر من الانهزام ولأن كثيراً من الناس كانوا يدعونه عليه الصلاة والسلام بابن عبد المطلب‏.‏

ومنه حديث ضمام بن ثعلبة أيكم ابن عبد المطلب على أن منهم من لم يعد الرجز مطلقاً وأصله ما كان على مستفعلن ست مرات شعراً ولذا يسمى قائله راجزاً لا شاعراً، وعن الخليل أن المشطور منه وهو ما حذف نصفه فبقي وزنه مستفعلن ثلاث مرات؛ والمنهوك وهو ما حذف ثلثاه فبقي وزنه مستفعلن مرتين ليسا بشعر، وفي رواية أخرى عنه أن المجزو وهو ما حذف من كل مصراع منه جزء فبقي وزنه مستفعلن أربع مرات كذلك فقوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب إن كان نصف بيت فهو مجزو فليس بشعر على هذه الرواية وأن فرض أن هناك قصداً وإن كان بيتاً تاماً فهو فليس منهوك بشعر أيضاً على الرواية الأولى وكونه ليس بشعر على قول من لا يرى الرجز مطلقاً شعراً ظاهر‏.‏

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام حرك الباء من كذب والمطلب فلا يكون ذلك موزوناً فكونه ليس بشعر أظهر وأظهر، والقول بأن ضمير ‏{‏لَهُ‏}‏ للقرآن المعلوم من السياق أي وما يصح للقرآن أن يكون شعراً فيجوز صدور الشعر عنه صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج إلى توجيه ليس بشيء فإنه يكفي في نفي الشعر عنه عليه الصلاة والسلام قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر‏}‏ مكع أن الظاهر عود الضمير عليه عليه الصلاة والسلام، وأولى التوجيهات إخراج ذلك من الشعر بانتفاء القصد وبذلك يخرج ما وقع في القرآن من نظائره منه، وقد ذكرنا لك فيما مر كثيراً منها، وليس في الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والتمثل به، وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزناً نادراً كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد بيت ابن رواحة‏:‏

يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر»، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أصاب أصبعه الشريفة حجر في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة‏:‏ على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزي‏:‏

ما أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

وقيل‏:‏ هو له عليه الصلاة والسلام والكلام فيه كالكلام في قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي الخ إلا أن هذا يحتمل أن يكون مشطوراً إذا كان كل من شطريه بيتاً وعلى وقوع التكلم بالبيت غير متزن مع إحراز المعنى كثيراً كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزود بالأخبار

فقال أبو بكر‏.‏ رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي ‏"‏ وفي خبر أخرجه أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة ويأتيك من لم تزود بالأخبار‏.‏

وأخرج ابن سعد‏.‏ وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت‏:‏ كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا *** فقال أبو بكر‏:‏ أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك، وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس‏:‏ أرأيت قولك‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبي *** د بين الأقرع وعيينة

فقال له أبو بكر‏:‏ رضي الله تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع، وروي أنه قيل له عليه الصلاة والسلام‏:‏ من أشعر الناس‏؟‏ فقال‏:‏ الذي يقول‏:‏

ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها وإن لم تطيب طيباً

وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً‏:‏

تفاءل بما تهوى يكن فلقلما *** يقال لشيء كان إلا تحقق

قالت عائشة ولم يقل تحققاً لئلا يعربه فيصير شعراً، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع هذا لم يكن يحب الشعر ففي مسند أحمد بن حنبل عن عائشة قالت‏:‏ كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر، وفي «الصحيحين» وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً ‏"‏ وهذا ظاهر في ذم الإكثار منه، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت عن المسند، ولعل الجمع بالتفصيل بين شعر وشعر، وقد تقدم الكلام في الشعر مفصلاً في سورة الشعراء فتذكر‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما القرآن ‏{‏إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ أي عظة من الله عز وجل وإرشاد للثقلين كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 104‏]‏ ‏{‏الرَ تِلْكَ‏}‏ أي كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز الذي ألقم من تصدى للمعارضة الحجر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ أي القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيده قراءة نافع‏.‏ وابن عارم ‏{‏لّتُنذِرَ‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ اليماني ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ مبنياً للمفعول ونقلها ابن خالويه عن الجحدري وقال‏:‏ عن أبي السمال‏.‏ واليماني أنهما قرءا ‏{‏ليذنر‏}‏ بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء بكسر الذال إذا علم به‏.‏

‏{‏لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً‏}‏ أي عاقلاً كما أخرج ذلك ابن جرير‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك، وفيه استعارة مصرحة بتشبيه العقل بالحياة أو مؤمناً بقرينة مقابلته بالكافرين، وفيه أيضاً استعارة مصرحة لتشبيه الإيمان بالحياة، ويجوز كونه مجازاً مرسلاً لأنه سبب للحياة الحقيقية الأبدية، والمضي في ‏{‏كَانَ‏}‏ باعتبار ما في علمه عز وجل لتحققه، وقيل كان بمعنى يكون، وقيل في الكلام مجاز المشارفة ونزلت منزلة المضي وهو كما ترى، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع بذلك ‏{‏وَيَحِقَّ القول‏}‏ أي تجب كلمة العذاب ‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏ الموسومين بهذا الوسم المصرين على الكفر، وفي إيرادهم بمقابلة من كان حياً إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها كالمعرفة أموات في الحقيقة، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية قرينتها استعارة أخرى‏.‏ وكأنه جىء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ الخ رجوعاً إلى ما بدىء به السورة من قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏ ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علماً يقينياً مشابهاً للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 31‏]‏ الخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم‏}‏ أي لأجلهم وانتفاعهم ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقاً ولا كسباً‏.‏

والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازاً متفرعاً على الكناية، وقال بعضهم‏:‏ المراد بالعمل الإحداث وبالأيدي القدرة مجازاً، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيماً لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عز وجل في عامل الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم، ولا يخفى ما فيه‏.‏

ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عز وجل‏.‏

وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت ك ‏{‏يد الله فوق أيديهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ أو ثنيت ك ‏{‏خلقت بيدي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عز وجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة ‏{‏أنعاما‏}‏ مفعول ‏{‏خَلَقْنَا‏}‏ وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقاً إلى المؤخر وجمعاً بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه، والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع القطرة وكثرة المنافع، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مالكون‏}‏ أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاماً وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء‏.‏ وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجيب إذا أجدت عجنه، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر‏:‏ أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا

والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيساً لا تأكيداً، وأياً ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وذللناها لَهُمْ‏}‏ أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏ فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس‏.‏ وقرأ أبي‏.‏ وعائشة ‏{‏ركوبتهم‏}‏ بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة، وقيل جمع ركوب، وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو البرهسم ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏ بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فإما أن يؤول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند أي فمن منافعها ركوبهم ‏{‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏ أي وبعض منها يأكلون لحمه، والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها، وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل، وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الأنعام بكلا قسميها ‏{‏منافع‏}‏ جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن، وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به، وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها، وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع، وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب‏.‏

قال الإمام‏:‏ وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها، وقال الخفاجي‏:‏ إذا كان موضعاً فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِيهَا‏}‏ فإنها مقرة، ولعله أظهر من قول الإمام ‏{‏أَفَلاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله‏}‏ أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ من الأصنام وأشركوها به عز وجل في العبادة ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ‏}‏ الخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم، وقول ابن عطية، يحتمل أن يكون ضمير ‏{‏يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ للمشركين وضمير ‏{‏نَصَرَهُمُ‏}‏ للأصنام ليس بشيء أصلاً ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي أولئك المتخذون المشركون ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي لآلهتهم ‏{‏جُندٌ مٌّحْضَرُونَ‏}‏ أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا‏.‏

أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وابن المنذر‏.‏ عن الحسن‏.‏ وقتادة، وقيل‏:‏ المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة، وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن، واختار بعض الأجلة أن المعنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جنداً من باب التهكم والاستهزاء‏.‏

وكذلك لام لهم الدالة على النفع، وقيل ‏{‏هُمْ‏}‏ للآلهة وضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهاراً لعجزهم وإقناطاً للمشركين عن شفاعتهم وجعلهم جنداً، والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفاً، واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور، والواو في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ‏}‏ الخ على جميع ما مر إما عاطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى‏.‏

‏[‏بم والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عز وجل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عز وجل وشأنك، والاقتصار في بيان قولهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 69‏]‏ وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال، وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولاً هو المناسب لما روي عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 75‏]‏ وبما ذكرنا ثانياً هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك، وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عز وجل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى، وأياً ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه‏.‏

‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناءً على التقدير الثاني في الشرط فإنّ العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الانتقام منه مقتض لمجازاته والانتقام منه، وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فماذا تصنع بهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ‏}‏ الخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم، وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل، وما موصلة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها، وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم إسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى‏.‏

وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث أن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن، وقيل‏:‏ لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة، وقيل‏:‏ للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان، وشاع أن الوقف على ‏{‏قَوْلُهُمْ‏}‏ متعين، وقيل‏:‏ ليس به لأنه جوز في ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ‏}‏ الخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ أو على أن المراد فلا يحزنك قولهم على سبيل السخرية والاستهزاء إنا نعلم الخ، ومنه يعلم أنه لو قرأ قارىء أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلاً من ‏{‏قَوْلُهُمْ‏}‏ لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلاً على حذف حرف التعليل، والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر، وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه أنه على قولهم كالمتعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عز وجل بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام، وقيل‏:‏ إنه تسلية له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 76‏]‏ وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء‏.‏

والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ الخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيداً للنكير السابق وتمهيداً لإنكار هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم، ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشتهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضاً مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية، ويشير كلام بعض الأجلة إلى أن العطف على ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً فطغى وتكبر وخاصم، وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ‏}‏ أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل‏:‏ أولم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة، وإيراد الجملة اسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها‏.‏ وفي «الحواشي الخفاجية» أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب، والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقاً، نعم نزلت الآية في كافر مخصوص، أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال‏:‏ جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال‏:‏ يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم‏؟‏ قال‏:‏ نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنسان‏}‏ إلى آخر السورة، وفي رواية ابن مردويه عنه أن الجائي القائل ذلك أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة، وروي ذلك عن أبي مالك‏.‏

ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي‏.‏ وعكرمة‏.‏ وغيرهم كما في «الدر المنثور»، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه أبو جهل بن هشام، وفي أخرى عنه أيضاً أنه عبد الله بن أبي، وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة، وحكي عن مجاهد‏.‏ وقتادة أنه أمية بن خلف، والذي اختاره وادعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال‏:‏ ويحتمل أن كلاً من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك، وقيل معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ فإذا هو بعدما كان ماءً مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذٍ معطوف على ‏{‏خلقناه‏}‏ والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه، و‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث

‏[‏بم فقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً‏}‏ معطوف حينئذٍ على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار، وأما على الأول فهو عطف على الجملة الفجائية، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلاً أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر هي في الغرابة كالمثل وهي إنكار أحيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي أحياؤنا إياها أو جعل لنا مثلاً ونظيراً من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفى الكل على العموم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَسِىَ خَلْقَهُ‏}‏ أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه إما عطف على ‏{‏ضُرِبَ‏}‏ داخل في حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمال قد أو بدونه، ونسيان خلقه بأن لم يتذكره على ما قيل وفيه دغدغة أو ترك تذكره لكفره وعناده أو هو كالناسي لعدم جريه على مقتضى التذكر وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل‏:‏ أي مثل ضرب أو ماذا قال‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ‏}‏ منكراً ذلك ناكراً من أحوال العظام ما تبعد معه من الحياة غاية البعد وهو كونها رميماً أي بالية أشد البلى، والظاهر أن ‏{‏رَمِيمٌ‏}‏ صفة لا اسم جامد فإن كان من رم اللازم بمعنى بلى فهو فعيل بمعنى فاعل، وإنما لم يؤنث لأنه غلب استعماله غير جار على موصوف فالحق بالأسماء الجامدة أو حمل على فعيل بمعنى مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال محيي السنة‏:‏ لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن أخواته، ومثله ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَت أُمُّكِ بغياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏ أسقط الهاء منها لأنها كانت مصروفة عن باغية، وقال الأزهري‏:‏ إن عظاماً لكونه بوزن المفرد ككتاب وقراب عومل معاملته فقيل رميم دون رميمة وذكر له شواهد وهو غريب، وإن كان من رم المتعدي بمعنى إبلي يقال رمه أي أبلاه؛ وأصل معناه الأكل كما ذكره الأزهري من رمث الإبل الحشيش فكان ما بلى أكلته الأرض فهو فعيل بمعنى مفعول، وتذكيره على هذا ظاهر للإجماع على أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث‏.‏ وفي المطلع الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث‏؟‏ ولا يخفى أن له فعلاً وهو رم كما ذكره أهل اللغة وهو وزن من أوزان الصفة فكونه جامداً غير ظاهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها ‏{‏يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا‏}‏ أي أوجدها ورباها ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي في أول مرة إذ لم يسبق لها إيجاد ولا شك أن الأحياء بعد أهون من الإنشاء قبل فمن قدر على الإنشاء كان على الأحياء أقدر وأقدر، ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عز وجل ذاتية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه‏.‏ وفي «الحواشي الخفاجية» كان الفارابي يقول وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا‏}‏ الخ وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة وكل من أنشأ شيئاً أولاً قادر على إنشائه وإحيائه ثانياً فيلزم أن الله عز وجل قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانياً، والآية ظاهرة فيما ذهب إليه الإمام الشافعي قيل ومالك‏.‏ وأحمد من أن العظم تحله الحياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء وبنوا على ذلك الحكم بنجاسة عظم الميتة ومسألة حلول الحياة في العظم وعدمه مما اختلف فيه الفقهاء والحكماء، واستدل من قال منهما بعدم حلولها فيه بأن الحياة تستلزم الحس والعظم لا إحساس له فإنه لا يتألم بقطعه كما يشاهد في القرن، وما قد يحصل في قطع العظم من التألم إنما هو لما يجاوره، وقال ابن زهر في كتاب التيسير‏:‏ اضطرب كلام جالينوس في العظام هل لها إحساس أم لا والذي ظهر لي أن لها حساً بطيئاً وليت شعري ما يمنعها من التعفن والتفتت في الحياة غير حلول الروح الحيواني فيها انتهى‏.‏

وبعض من ذهب من الفقهاء إلى أن العظام لا حياة فيها بني عليه الحكم بطهارتها من الميتة إذ الموت زوال الحياة فحيث لم تحلها الحياة لم يحلها الموت فلم تكن نجسة‏.‏ وأورد عليهم هذه الآية فقيل المراد بالعظام فيها صاحبها بتقدير أو تجوز أو المراد بإحيائها ردها لما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس، ورجح هذا على إرادة صاحبها بأن سبب النزول لا بد من دخوله وعلى تلك الإرادة لا يدخل، ويدخل على تأويل إحيائها بإعادتها لما كانت عليه، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر، والظاهر مع الشافعية ومن الفقهاء القائلين بعدم نجاسة عظام الميتة من رأى قوة الاستدلال بالآية على أن العظام تحلها الحياة فعلل الطهارة بغير ما سمعت فقال‏:‏ إن نجاسة الميتة ليست لعينها بل لما فيها من الرطوبة والدم السائل والعظم ليس فيه ذلك فلذا لم يكن نجساً، ومنع الشافعية كون النجاسة للرطوبة وتمام الكلام في الفروع ‏{‏وَهُوَ‏}‏ عز وجل ‏{‏بِكُلّ خَلْقٍ‏}‏ أي مخلوق ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ مبالغ في العلم فيعلم جل وعلا بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلاً من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما تقدم أو معطوفة على الصلة، والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً‏}‏ بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة، والظرفان متعلقان بجعل قدما على ‏{‏نَارًا‏}‏ مفعوله الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، و‏{‏الاخضر‏}‏ صفة الشجر وقرىء الخضراء، وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء مثل الشجر إذ يقال في واحده شجرة، وأهل نجد يذكرونه إلا ألفاظاً استثنيت في كتب النحو، وذكر بعضهم أن التذكير لعاية اللفظ والتأنيث لرعاية المعنى لأنه في معنى الأشجار والجمع تؤنث صفته، وقيل لأنه في معنى الشجرة وكما يؤنث صفته يؤنث ضميره كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 53، 52‏]‏ والمشهور أن المراد بهذا الشجر المرخ والعفار يتخذ من المرخ وهو ذكر الزند الأعلى ومن العفار بفتح العين وهو أنثى الزندة السفلى ويسحق الأول على الثاني وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار بإذن الله تعالى، وكون المرخ بمنزلة الذكر والعفار بمنزله الأنثى هو ما ذكره الزمخشري وغيره واللفظ كالشاهد له، وعكس الجوهري‏.‏ وعن ابن عباس‏.‏ والكلبي في كل شجر نار إلا العناب قيل ولذا يتخذ منه مدق القصارين، وأنشد الخفاجي لنفسه‏:‏ أيا شجر العناب نارك أوقدت *** بقلبي وما العناب من شجر النار

واشتهر العموم وعدم الاستثناء ففي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثرا من النار من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير، ومنه رجل ماجد أي مفضال، واختار بعضهم حمل الشجر الأخضر على الجنس وما يذكر من المرخ والعفار من باب التمثيل، وخصا لكونهما أسرع ورياً وأكثر ناراً كما يرشد إليه المثل، ومن إرسال المثل المرخ والعفار لا يلدان غير النار‏.‏

‏{‏فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ‏}‏ كالتأكيد لما قبله والتحقيق له أي فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون النار لا تشكون في أنها نار حقيقة تخرج منه وليست كنار الحباحب، وأشار سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى‏}‏ الخ إلى أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته فإن الماء بارد رطب والنار حارة يابسة كان جل وعلا أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضاً فيبس وبلى، ثم إن هذه النار يخلقها الله تعالى عند سحق إحدى الشجرتين على الأخرى لا أن هناك ناراً كامنة تخرج بالسحق و‏{‏مّنَ الشجر‏}‏ لا يصلح دليلاً لذلك، وفي كل شجر نار من مسامحات العرب فلا تغفل، وإياك واعتقاد الكمون‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ الخ استئناف مسوق من جهته تعالى لتحقيق مضمون الجواب الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم به ويلزمهم الحجة، والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما ‏{‏بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما على أن المراد بمثلهم هم وأمثالهم أو على أن المراد به هم أنفسهم بطريق الكناية كما في مثلك يفعل كذا، وقال بعضهم‏:‏ مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، وزعم جماعة من المفسرين عود ضمير ‏{‏مّثْلُهُمْ‏}‏ للسموات والأرض لشمولهما لمن فيهما من العقلاء فلذا كان ضمير العقلاء تغليباً والمقصود بالكلام دفع توهم قدم العالم المقتضى لعدم إمكان إعادته وهو تكلف ومخالف للظاهر والمشركون لا يقولون بقدم العالم فيما يظهر‏.‏ وتعقب أيضاً بأن قدم العام لو فرض مع قدم النوع الإنساني وعدم تناهي أفراده في جانب المبدأ لا يأبى الحشر الجسماني إذ هو بالنسبة إلى المكلفين وهم متناهون‏.‏ وزعم أن ما ثبت قدمه استحال عدم غير تام كما قرر في محله فلا تغفل، وقرأ الجحدري‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ والأعرج‏.‏ وسلام‏.‏ ويعقوب في رواية ‏{‏يُقَدّرُ‏}‏ بفتح الياء وسكون القاف فعلاً مضارعاً‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي من القدرة على الخلق وإيذان بتعيينه للجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الالتزام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الخلاق العليم‏}‏ عطف على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو سبحانه قادر على ذلك وهو جل وعلا المبالغ في الخلق والعلم كيفاً وكماً‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والجحدري‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ ومالك بن دينار ‏{‏الخالق‏}‏ بزنة الفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ‏}‏ أي شأنه تعالى شأنه في الإيجاد، وجوز فيه أن يراد الأمر القولي فيوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ ويراد به القول النافذ‏.‏

‏{‏إِذَا أَرَادَ شَيْئاً‏}‏ أي إيجاد شيء من الأشياء ‏{‏أَن يَقُولَ لَهُ كُن‏}‏ أي أوجد ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ أي فهو يكون ويوجد، والظاهر أن هناك قولاً لفظياً هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام والخصام، وقيل ليس هناك قول لفظي لئلا يلزم التسلسل، ويجوز أن يكون هناك قول نفسي وقوله للشيء تعلقه به، وفيه ما يأباه السلف غاية الإباء، وذهب غير واحد إلى أنه لا قول أصلاً وإنما المراد تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ والكسائي ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏يِقُولُ‏}‏ وجوز كونه منصوباً في جواب الأمر، وأباه بعضهم لعدم كونه أمراً حقيقة، وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء‏}‏ تنزيه له عز وجل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه، والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان أو سببية لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه، والملكوب مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام، وفي تعليق سبحانه بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكاً للملك كله قادراً على كل شيء مقتضى للتسبيح، وفسر الملكوت أيضاً بعالم الأمر والغيب فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏ملكة‏}‏ على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء، وقرىء ‏{‏مملكة‏}‏ على وزن مفعلة وقرىء ‏{‏لَّهُ مُلْكُ‏}‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين، وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخاً لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضباً عظيماً‏.‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏

هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه، وهذه المسألة من مهمات الدين وحيث أن هذه السورة الكريمة قد تضمنت من أمره ماله كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء في تحقيق أمر ذلك فأقول طالباً من الله عز وجل التوفيق إلى القول المقبول‏:‏ اعلم أولاً أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو فقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وهي جسم لطيف نوارني مخالف بالحقيقة والماهية للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وإن كان لسريانه فيه بشبهه صورة ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن علاقة بعير عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجاً اضطرارياً وتزول الحياة، وما دام باقياً على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقي الروح والحياة، وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر بمعنى أنه لا يفنى وإن فارق البدن المحسوس، وذكر فيها أن من قال إنه يفنى فهو ملحد، وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم، وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحليمي‏.‏

والغزالي‏.‏ والراغب‏.‏ وأبو زيد الدبوسي‏.‏ ومعمر من قدماء المعتزلة‏.‏ وجمهور متأخري الإمامية‏.‏ وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليس وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله سبحانه وتعالى إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضاً‏.‏

ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته بكل قال بعض، ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر استثنائه من البلى، وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة، ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معاً بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقاً به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن إذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلاً بعد تحققه فالحشر عند هؤلاء يجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها، والمراد بالأجزاء الأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ كما قيل‏:‏ والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من أن تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا تختلط بالتراب ولا يحصل منها نماء أو حيوان؛ وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ مَنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب، ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المنى كما ورى في الحديث الصحيح وهو لا ينثر تراباً واحداً مرتين ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً» ثم يزاد في إجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم عليه السلام طولاً وعرضاً، وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافاً للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد، وجاء كل من الزيادتين في الحديث فالمقطوع أو المجذوع مثلاً لا يحشر إلا كامل كما كان قبل القطع أو الجذع ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلاً يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلاً، والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشيء عن غفلة عظيمة إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد وحرقه بالنار ليس تعذيباً له نفسه وءلا لكان حرق الخشب تعذيباً له بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد مثلاً ووضع في النار أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى تخرق الثوب فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب، وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضاً إذ ليس كل حي تؤلمه النار، واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عز وجل‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن البدن يعدم لا أنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه، ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به‏.‏ واستدل للقول الأول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏ فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع استبعادهم بأن الإنشاء أبعد وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تميزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏ ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجياً نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح ولا كذلك ما يكون يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏ وحيث كان هذا معروفاً بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفار والذباب دافع لذلك‏.‏

ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء، وهو مما لا يحتاج إلى التزامه، وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم عليه السلام حين قال‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ‏}‏

‏[‏القيامة‏:‏ 3، 4‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات وفي الأخبار ما يقتضيه أيضاً، واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتاً في القول الثاني بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكاً بل قال بعض المحققين‏:‏ إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته، ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم من، واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏ وأجيب بأن المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم، ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج‏.‏ ومن الناس من توهم وجوب التزامه إن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم‏.‏

واستدل على الاستحالة بأنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال‏.‏

ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل ههنا محال لأن معناه أنه كان موجوداً زماناً ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زماني الوجوي ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجوداً ولم يكن نفسه موجوداً ثم يوجد نفسه وههنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوباً معيناً ثم خلعه ثم لبسه‏.‏ واستدل أيضاً بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معاداً دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح، وإما أن يكونا معادين وهو أيضاً باطل مستلزم لاتحاد الإثنين، وإما أن لا يكون شيء منهما معاداً وهو أيضاً باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معاداً، وفيه أنه لا يتم إلا باثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم، ويجوز أن يقال‏:‏ الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزاً ثابتاً في العدم ثبوتاً منفكاً عن الوجود الخارجي كما ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم، وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إلا لا وحدة بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجوداً خارجياً أو ذهنياً، والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجريدها عنها، وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عينها فليست إياها مطلقاً بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلاً عن عدمها في الواقع وقطع النظر لا يمنع من الاتحاد في الواقع، والقول بأن قولنا‏:‏ هذا معاذ وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط فلا بد من انحفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انحفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم فتدبر، وقيل‏:‏ كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضاً فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض‏.‏

وتعقب بأن فيه بحثاً، أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبقة للأفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معاداً وإذا وجد بالصورة الكلية كان مستأنفاً، وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضاً صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها وإن كانت جزئية حقيقية أيضاً إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر، ولا شك أن المرتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انخفض وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاضها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى، والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضاً فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية وو خلاف ما صرحوا‏.‏

واستدل أيضاً بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى واللازم باطل باتفاق العقلاء‏.‏ وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر إلا أن الأصل عدم الوجود السابق وبه يحصل نوع من العلم، ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهباً مع تجويز العقل انقلابه وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب الكلام، وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انخفاض الوحدة الشخصية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏ والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر بجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصرها أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها لا سيما حديث عنصر النار لم يصح فيه شيء من الشارع صلى الله عليه وسلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة، على أن أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير تراباً يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم ‏{‏أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏ وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولي أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفراداً النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هومذهب النافين لتركب الجسم من الهيولي والصورة من المتكلمين يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفى بالقول بجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكليها بشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة لم يتوقف القول به على ذلك أصلاً والمغايرة في الشكل وعمد اتجاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعاً وعرفاً، ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى‏.‏ وفي إبكار الأفكار للآمدي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحدايث الدالة على وقوع المعاد الجسماني والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها مع إمكان ذلك في نفسه فلا يجوز تركها من غير دليل لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها فقد اختلف فيه، والحق إمكان كل واحد من الأمرين والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين، وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها فهل تجب إعادة عين ما تقضي ومضى من التأليفات في الدنيا أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر فذهب أبو هاشم إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيراً منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليف الخاص فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم، ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلاً ولا دليل على التعيين من سمع وغيره، وما قيل من أن تعيين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر مع التأليف‏.‏

ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الإعراض فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما قضي من التأليف ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه اه‏.‏

وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجمع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذاك لما سمعت من الخلاف في كيفيته وهو مذكور في المواقف وغيره‏.‏ ومسألة إعادة الأعراض أكثر خلافاً من مسألة إعادة الجواهر فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقاً حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها‏.‏ والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقياً غير متولد واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والإرادات فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره‏.‏ وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقاً من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية‏.‏ ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتاً ووجوداً وجوز فيما عدم وجوداً‏.‏ وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص عليه الدواني لكن ذكر الإمام في المحصل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني‏.‏

وقال المحقق الطوسي في «تلخيصه»‏:‏ أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلى الله عليه وسلم فالظاهر من كلام أممهم أن موسى عليه السلام لم يذكر المعاد البدني ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاؤا بعده كحزقيل وشعيا عليهما السلام ولذا أقر اليهود به، وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام، ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذا وأزيد ثم يصيرون شياطين فإنه ظاهر في أن موسى عليه السلام ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة، والحق أن الأناجيل مملوأة ظاهراً على الإنسان يحشر نفساً وجسماً وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمين أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط، وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة إعادة المعدوم وفيه ما فيه أو على استحالة عدم تناهي الأبعاد فإن منهم من قال‏:‏ الإسان قديم بالنوع والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان الغير المتناهية في الوجود إذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان الغير المتناهية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن الإنسان افراده غير متناهية والعناصر متناهية فأجزاؤها لا تفي بتلك الأبدان فكيف تحشر‏.‏ وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لإفراده مما لا يتم لهم عليه برهان‏.‏

وقال ابن الكمال‏:‏ بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الابعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرية وليس الأمر كما توهم فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب والعاصي المستحق للعقاب لا حشر جميع أفراد البشر مكلفاً كان أو غيره فإنه ليس من ضروريات الدين لأن الاخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال‏:‏ والسمع دل عليه ويتناول في المكلف بالتفريق، وقال الشارح‏:‏ يعني لا إشكال في غير المكلفين فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء‏.‏

وفي «تلخيص المحصل» أيضاً حيث قال‏:‏ وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم أن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم ونبه على ذلك أيضاً الآمدي في إبكار الأفكار حيث قرر الخلاف في إعادة المكلف ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الابعاد الغير المتناهية اه‏.‏

والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال الغير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع ترتب أم لم تترتب، وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء، والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى، وذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني، ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الواحدة ثلاث مرات على ما قيل‏.‏

وحكى عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال‏:‏ لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باقي بعد فساد البنية فيمكن المعاد، والمشركون في شك منه مريب ولذا ترى كلامهم مضطرباً فيه، والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعاً أو عقلاً، فأهل السنة على وجوبه سمعاً مطلقاً، والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلاً لوجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر، وفيه نظر والله تعالى أعلم‏.‏ وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلية ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلى الله عليه وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّتُنذِرَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏ الخ ثم بينه إجمالاً أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتممه بضرب المثل مدمجاً فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل والتنبيه عليه ثانياً بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابياً في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عز وجل لا يتعاظمه شيء ولا ينقص خزائنه عطاء وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعد إباء تحقيقاً لكل ما سلف على الوجه الأتم، ولما كان كلاماً صادراً عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 83‏]‏ ليكون إجمالاً لتوضيح التفصيل كذا قرره «صاحب الكشف» والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ قيل إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يس‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1‏]‏ إشارة إلى سيادته عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي ههنا جميع الخلق فكأنه قيل‏:‏ يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة والسلام عليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والإمداد؛ وفي الخبر الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلى الله عليه وسلم من العالم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع

‏{‏يس والقرءان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1، 2‏]‏ قد يكون إشارة إليه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار به إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ إنا القرآن والسبع المثاني *** وروح الروح لا روح الأواني

ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة والسلام، وطبق بعضهم قصة أهل إنطاكية على ما في الأنفس بجعل القرية إشارة إلى القلب وأصحابها إشارة إلى النفس وصفاتها والإثنين إشارة إلى الخاطر الرحماني والإلهام الرباني والثالث المعزز به إشارة إلى الجذبة والرجل الجائي من أقصى المدينة إشارة إلى الروح، وطبق كثيراً من آيات هذه السورة على هذا الطرز، وقيل‏:‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏طائركم مَّعَكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 19‏]‏ إنه إشارة إلى استعدادهم السيء الذي طار بهم عنقاء مغربة‏:‏ إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم *** وقيل‏:‏ في ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون وَهُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55، 56‏]‏ إنه إشارة إلى طائفة من المؤمنين كان الغالب عليهم في الدنيا طلب الجنة ولذا أضيفوا إليها وهم دون أهل الله تعالى وخاصته الذين لم يلتفتوا إلى شيء سواه عز وجل فأولئك مشغولون بلذائذ ما طلبوه وهؤلاء جلساء الحضرة المشغولون بمولاهم جل شأنه المتنعمون بوصاله ومشاهدة جماله وفرق بين الحالين وشتان ما بين الفريقين، ولذا قيل‏:‏ أكثر أهل الجنة البله فافهم الإشارة‏.‏

والشيطان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ *أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏ إشارة إلى كل ما يطاع ويذل له غير الله عز وجل كائناً ما كان وعداوته لما أنه سبب الحجاب عن رب الأرباب، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 76‏]‏ إشارة إلى أنه لا ينبغي الاكتراث بأذى الأعداء والالتفات إليه فإن الله تعالى سيجازيهم عليه إذا أوقفهم بين يديه، هذا ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأرار وأن ينور قلوبنا بمعرفته كما نور قلوب عباده الأبرار ونصلي ونسلم على حبيبه قلب جسد الأعيان وعلى آله وصحبه ما دامت سورة يس قلب القرآن‏.‏