فصل: (سورة الصافات)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏[‏سورة الصافات‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسْم الله الرحمن الرَّحيم ‏{‏والصافات صَفَّا‏}‏ اقسام من الله تعالى بالملائكمة عليهم السلام كما روى عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ ومسروق‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي، وأبى أبو مسلم ذلك وقال‏:‏ لا يجوز حمل هذه اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرؤن عن هذه الصفة، وفيه أن هذا في معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة، ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظ فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة، والوصف المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلان للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ وذلك باعتبار تقديم الرتبة والقرب من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفاً للعبادة، وقيل‏:‏ الصافات أقدامها للصلاة، وقيل‏:‏ الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى، وقيل‏:‏ المراد بالصافات الطير من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 41‏]‏ ولا يعول على ذلك، و‏{‏صَفَّا‏}‏ مصدر مؤكد وكذا ‏{‏زَجْراً‏}‏ في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏فالزجرات زَجْراً‏}‏ وقيل‏:‏ صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك، والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم السلام أيضاً عند الجمهور، والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا‏:‏ زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم

ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع، والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بالهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية، وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عز وجل، والمعول عليه ما تقدم، وكذا المراد كما روي عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وغيرهما في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏فالتاليات ذِكْراً‏}‏ الملائكة عليهم السلام‏.‏ و‏{‏ذِكْراً‏}‏ نصب على أنه مفعول وتنوينه للتفخيم، وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عز وجل‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عز وجل إلى الناس فالمراد بتلاوته تلاوته على الغير، وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم، وقال بعض‏:‏ أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها، وقيل ‏{‏ذِكْراً‏}‏ نصب على أنه مصدر مؤكد على غير اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد، وقال قتادة‏:‏ التاليات ذكراً بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره، وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقاً أو العدو في المعارك طرداً التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك‏.‏

وجوز أيضاً أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم؛ وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقاً كما لا يخفى، والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله‏:‏

يا لهف زيابة للحادث الس *** ابح فالغانم فالآيب

أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضاً كما في قولك‏:‏ أتم العقل فيك إذا كنت شاباً فكهلاً أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك‏:‏ وفقت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين، وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي، وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى وأعلى لما فيها من نقع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولاً لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناءً على أنها إفاضة على الغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناءً على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الاستعداد الذي هو من آثار الزجر، وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم السلام متعددة بمعنى أن صنفاً منهم كذا وصنفاً آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق، وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عز وجل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكراً جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بالهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكراً المهمات للخير والجهات المرغبة فيه، ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات، وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في السفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصافات المصطفون للعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلاً ملائكة كانوا أم أناسى أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون عن ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكراً التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحو كذلك، ولا عناد بين هذه الصفات فتجتمع في بعض الأشخاص، ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالاصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلي أمور أخر أكمل وأكمل؛ وجعل الصفات المذكورة لموصوف وأحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفاً للعبادة وتاليات ذكراً بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء عليهم السلام لا يخلو عن بعد فيما أرى على أن تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفاً مستقلاً أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه السلام لا غير، نعم من الآيات ما ينزل مشيعاً بجمع من الملائكة عليهم السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند إبلاغ الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك، وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل‏.‏

وأياً ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عز وجل فله سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلاً، والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه‏.‏ والخليل في مثل ‏{‏واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1، 2‏]‏ من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافاً لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب‏.‏ وأدغم ابن مسعود‏.‏ ومسروق‏.‏ والأعمش وأبو عمرو‏.‏ وحمزة التاآت الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ‏}‏ جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم ههنا فلا يقال‏:‏ إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم، وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد، وقد أشير إلى البرهان

‏[‏بم في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق‏}‏ فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل على وحدته عز وجل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك‏.‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السموات الخ‏.‏

وجوز أبو البقاء‏.‏ وغيره كونه بدلاً من ‏{‏واحد‏}‏ فهو المقصود بالنسبة أي خالق السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عز وجل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة، وفسر بعضهم الرب هنا بالمالك وبالمربي، ولعل الأول أظهر‏.‏ وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث، والمرادب المشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها المعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق، وكأن الاكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، ولهذا استدل به إبراهيم عليه السلام عند محاجة النمروذ، وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون، ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحداً كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلثمائة وستين، وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موقعه، وفسرت المشارق أيضاً بمشارق الكواكب، ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ الخ، وهي للسيارات منها متفاوتة في العدد، وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقه إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف، ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر، وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 17‏]‏ على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما، وإعادة ‏{‏رَبّ‏}‏ هنا مع المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا‏}‏ أي أقرب السموات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل ‏{‏بِزِينَةٍ‏}‏ عجبية بديعة ‏{‏الكواكب‏}‏ بالجر بدل من ‏{‏زِينَةُ‏}‏ بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة‏:‏ فكأن أجرام النجوم لوامعا *** درر نثرن على بساط أزرق

وجوز أن تكون عطف بيان‏.‏ وقرأ الأكثرون ‏{‏بِزِينَةٍ الكواكب‏}‏ بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بياناً لها، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون الزينة مصدراً كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب، وقرأ ابن وثاب‏.‏ ومسروق‏.‏ بخلاف عنهما‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبو بكر ‏{‏بِزِينَةٍ‏}‏ منوناً ‏{‏الكواكب‏}‏ نصباً فاحتمل أن يكون زينة مصدراً والكواكب مفعول به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ طَعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14، 15‏]‏ وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح إعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة، وأيضاً ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة، واحتمل أن يكون ‏{‏الكواكب‏}‏ بدلاً من ‏{‏السماء‏}‏ بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر كما قرروه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أصحاب الاخدود النار‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ اللام بدل منه، وجوز كونه بدلاً من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين، وكونه منصوباً بتقدير أعني‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏بِزِينَةٍ‏}‏ منوناً ‏{‏الكواكب‏}‏ رفعاً على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة، وزعم الفراء أنه ليس بمسموع‏.‏ وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض‏.‏ وحكى النسيابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة‏.‏ وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على ‏{‏زَيَّنَّا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ أي وحفظناها حفظاً أو عطف على ‏{‏زِينَةُ‏}‏ باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل‏:‏ إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً لها، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضع وغير عطف التوهم وجوز كونه مفعولاً له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ‏}‏ متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئاً، ومنه الأمر لتجرده عن الشعر، وفسر هنا أيضاً بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى‏}‏ أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين، وضمير الجمل لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ بالتخفيف، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤن العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقاً، والمراد بالملأ إلا على الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هم أشراف الملائكة عليهم السلام، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي‏.‏

وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وعبد الله بن مسلم‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وحفص بناءً على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع بمعنى طلب السماع، قيل‏:‏ ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل‏:‏ إنه يركب بعضهم بعضاً لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع، وقال أبو حيان‏:‏ إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع‏.‏

وقال ابن كمال‏:‏ عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ الأعلى وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافاً نحوياً ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيامه لعدم الحفظ عمن عداها‏.‏ وكذا لم يجوز كونها استئنافاً بيانياً واقعاً جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذٍ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية، وكذا كونها حالاً مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السموات ممن لا يسمع أو لا يسمع بسبب هذا الحفظ، وهو نظير ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ‏}‏

‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏ ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» من مجاز الأول‏.‏ وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروباً بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافاً بيانياً أيضاً ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال‏:‏ المعنى لا يمكنون من السماع مع الإصغاء أولاً يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك، ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفاً ولا جمعاً بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذٍ يكون الوصف شديد الطباق؛ ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ‏؟‏ وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 7‏]‏ مما يحرك الذهن له فقيل ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ جواباً عما يكون عنده ‏{‏وَيَقْذِفُونَ‏}‏ لكيفية الحفظ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى‏.‏

واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتاً تاماً تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏ الخ ينادي على صحته، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد، وقيل‏:‏ إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظاً فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله‏:‏ ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعاً في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه‏.‏ وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافاً وكونها حالاً فلا تغفل‏.‏

‏{‏وَيَقْذِفُونَ‏}‏ أي يرمون ويرجمون ‏{‏مِن كُلّ جَانِبٍ‏}‏ من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود عليها، وليس المراد أن كل واحد يرمي من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمى منه‏.‏

وقرأ محبوب عن أبي عمرو ‏{‏يقذفون‏}‏ بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة، وجوز أن يكون الكواكب، وأمر ضمير العقلاء سهل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏جَانِبٍ دُحُوراً‏}‏ مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوساً لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحوراً مقام قذفاً أو ‏{‏يقذفون‏}‏ مقام يدحرون، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير ‏{‏يقذفون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 8‏]‏ على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين، وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناءً على القراءة الأخرى، وجوز أن يكون منصوباً بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ والطبراني عن أبي جعفر ‏{‏جَانِبٍ دُحُوراً‏}‏ بفتح الدال فاحتمل كونه نصباً بنزع الخافض أيضاً وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولاً بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفاً دحوراً طارداً لهم، وأن يكون مصدراً كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب ‏{‏وَاصِبٌ‏}‏ أي دائم كما قال قتادة‏.‏ وعكرمة‏.‏ وابن عباس، وأنشدوا لأبي الأسود‏:‏

لا أشتري الحمد القليل بقاؤه *** يوماً بذم الدهر أجمع واصبا

وفسره بعضهم بالشديد، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه‏.‏ والآية على ما سمعت كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائماً وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة‏}‏ استثناء متصل من واو ‏{‏يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 8‏]‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك‏:‏ إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في «البحر» هنا وجهاً ثانياً، وقيل‏:‏ هو منقطع على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولاً به على إرادة الكلمة‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة ‏{‏خَطِفَ‏}‏ بكسر الخاء والطاء مشددة، قال أبو حاتم‏:‏ ويقال هي لغة بكر بن وائل‏.‏ وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها‏.‏ وقرىء ‏{‏خَطِفَ‏}‏ بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وعيسى، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها، وأما كسر الطاء فلا وجه له، وقيل في توجيهها‏:‏ إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى، وعن ابن عباس ‏{‏خَطِفَ‏}‏ بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في «البحر» حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم ‏{‏فَأَتْبَعَهُ‏}‏ أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد ‏{‏شِهَابٌ‏}‏ هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء ‏{‏ثَاقِبٌ‏}‏ مضىء كما قال الحسن‏.‏ وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاضي أنه قال‏:‏ يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال‏:‏ ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوؤه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد ‏{‏الثاقب‏}‏ المتوقد وهو قريب مما تقدم‏.‏

وأخرج عن السدي ‏{‏الثاقب‏}‏ المحرق، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلاً‏.‏

وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمي به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه‏:‏ إنه حينئذٍ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضاً عدم مشاهدة جرم كوكب هابطاً أو صاعداً يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أوذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وأنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد‏.‏ والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت ناراً ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زماناً كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمي بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقاً، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم، ولعل أقرب الاحتمالات في أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء متكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت‏:‏ إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قابل الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال‏:‏ إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك مسترق، ويمكن أن يقال‏:‏ إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضاً‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، والله عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداءً عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا‏:‏ إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏.‏

ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ لأن جعلها رجوماً يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتها على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجوماً على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول‏:‏ جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق‏.‏ وزعم بعضالناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وجعلناها رُجُوماً‏}‏ على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه والصلاة والسلام خبر، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة السماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين كذلك، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما مزينة بالكواكب‏.‏ وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها‏.‏ وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفاً زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه، نعم يجوز أن يقال‏:‏ إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب ناراً ورؤي منقضاً ولا يعجز الله عز وجل شيء، وقد يقال‏:‏ إن في السماء كواكب صغاراً جداً غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ من باب عندي درهم ونصفه و

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب وَحِفْظاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6، 7‏]‏ الآية ان كان على معنى وحفظاً بها فهو من ذلك الباب أيضاً وإلا فالأمر أهون فتدبر‏.‏ واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذي به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك، ولا يأبى تأثير الشهاب في كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، وأياً ما كان لا يقال‏:‏ إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم لأنا نقول‏:‏ لا نلسم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلاً عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنافيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصه فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل‏:‏ يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولاً فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحياناً مم حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حباً لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلاً كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حباً لمثل ذلك، ولعل في وصف الشياطين بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل‏:‏ إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأساً فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة عن ان عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد ياليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال‏:‏ انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال‏:‏ إنه حدث بعد عشرين يوماً من مبعثه، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا انه يحتمل انه لم يكن طارداً للشياطين وأن يكون طارداً لهم لكن لا بالكلية وان يكون طارداً لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طارداً لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقال قريش‏:‏ قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة‏:‏ انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا، وقال بعضهم‏:‏ اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى‏:‏

‏{‏مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8‏]‏ ولم يقل حرست، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الاعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور، منها إن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن نئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على ‏{‏محدبها‏}‏ والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء‏.‏

وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية، و‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8‏]‏ طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون‏؟‏ فيخبونهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء، وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏

عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال‏:‏ «إذا قضي الله تعالى أمراً تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجداً فتحسب الجن أن أمراً يقضي فتسترق فإذا عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا لأرؤوسهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا جميعاً‏:‏ الحق وهو العلي الكبير» وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن إبراهيم التيمي‏:‏ «إذا أراد ذو العرش أمراً سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قال من شاء الله‏:‏ الحق وهو العلي الكبيرولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضاً أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للافلاك ليس عدم الحجب أغرب منها‏.‏

ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع، أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم‏.‏ وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء، وفيه أيضاً من الحكم ما فيه، ولا يخفى أن مثل هذا الاشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيماً وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل‏:‏ ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فاستفتهم‏}‏ أي فاستخبرهم، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث، ومنه الفتى لحداثة سنه، والضمير لمشركي مكة، قيل‏:‏ والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت ‏{‏أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً‏}‏ أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقاً وأشق إيجاداً ‏{‏أَم مَّنْ خَلَقْنَا‏}‏ من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب، وتعريف الموصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري، وجوز أن يكون انكارياً، وفي مصحف عبد الله ‏{‏أَم مَّنْ‏}‏ وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏إِلَيْهِ مِن‏}‏ بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاماً ثانياً تقريرياً فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد ‏{‏إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ‏}‏ أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير‏.‏ وجماعة عن ابن عباس، وفي رواية أخرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة

فلا تحسبون الخير لا شر بعده *** ولا تحسبون الشر ضربة لازب

قيل‏:‏ والمراد ملتزق بعضه ببعض، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن جيد التخمير، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بهاد وقال الطبري‏:‏ خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً يلزم ما جاوره، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم، وقد قرىء ‏{‏لازم‏}‏ بالميم بدل الباء و‏{‏لاتب‏}‏ بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد‏.‏ وحكي في البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد، وفي رواية أنه قال‏:‏ اللازب الجيد‏.‏

وأخرج عبد بن حيمد‏.‏ وابن المنذر عن مجاهد أنه قال‏:‏ لازب أي لازم منتن، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 26‏]‏ لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ اللازب والحماء والطين واحد كان أوله تراباً ثم صار حمأ منتنا ثم صار طيناً لازباً فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام‏.‏

وأياً ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا‏:‏ ‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16‏]‏ ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعثث‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله‏.‏ ‏{‏وبل‏}‏ للاضراب إما عن مقدر يشعر به ‏{‏فاستفتهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ الخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو الحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها ‏{‏وَيَسْخُرُونَ‏}‏ أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسموات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السموات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم‏:‏ فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنهكم لستم أشد خلقاً منهم فوضع موضعه ‏{‏فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقناهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقاً أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد‏.‏ وأيده بدلالة الإضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الاضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الاهلاك كسالف الأمم؛ وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك، وكم من ذلك في الكتاب العزيز، وأما الاضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه ‏{‏وَيَسْخُرُونَ‏}‏ وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وابن مقسم ‏{‏عَجِبْتَ‏}‏ بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ والنخعي‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وطلحة وشقيق‏.‏ والأعمش‏.‏

وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال‏:‏ إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم، وانكار هذا القاضي مما أفتى بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة، وقد جاء أيضاً في الخبر عجب ربكم من الكم وقنوطكم‏.‏

وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لانكاره لحالهم يعدها أمراً غريباً ثم يثبت له سبحانه العجب منها، فعلى الأول تكون الاستعارة تخييلية تمثيلية كما في قولهم‏:‏ قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحن لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازاً مرسلاً فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيماً أي بالغا الغاية في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقاً بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال‏:‏ إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ يؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجباً، وقال مكي‏.‏ وعلي بن سليمان‏:‏ ضمير ‏{‏عَجِبْتَ‏}‏ للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قب بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف ان العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل‏:‏ إذ ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ‏}‏ أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش ‏{‏ذَكَرُواْ‏}‏ بتخفيف الكاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً‏}‏ أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر ‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها، روي أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنماً له وكان من أقوى الناس فقال له‏:‏ يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بي‏؟‏ قال‏:‏ نعم فصرعه ثلاثاً ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فاقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال‏:‏ يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي اضرابه‏.‏ وقرىء ‏{‏يستسحرون‏}‏ بالحال المهملة أي يعدونها سحراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُواْ إِن هذا‏}‏ ما يرونه من الآيات الباهرة ‏{‏إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر سحريته في نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما‏}‏ أي كان بعض أجزائنا تراباً وبعضها عظاماً وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضاً لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي انبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخراً فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية لع غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة‏.‏ وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب بطرح الثانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون‏}‏ مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر إن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضاً والجملة معطوفة على الجملة قبلها‏.‏ وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب‏.‏ وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال‏:‏ قال من نحا إلى هذا المذهب الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعاً بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد‏.‏ وثاني المذاهب أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكداً أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما والا ضعف العطف‏.‏ ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين‏.‏ وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان‏:‏ إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها‏.‏ والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

وثالثها أن يكون عطفاً على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفاً على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات‏.‏

واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي‏.‏ وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهة بالزائد من حيث أنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط‏.‏ واعترض أيضاً بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبراً عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد‏.‏ وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره؛ وقد قال أبو حيان‏:‏ إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأياً ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وابن عامر‏.‏ ونافع في رواية‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏أَوْ‏}‏ بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ نَعَمْ‏}‏ أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ داخرون‏}‏ لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه ‏{‏نِعْمَ‏}‏ أي تبعثون كلكم والحال إنكم صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي بن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول‏:‏ يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» وقال غير واحد‏:‏ إن ذلك من الأسلوب الحكيم‏.‏ وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحاً جديداً فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في جواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جواز في قوله سبحانه ‏{‏فاستفتهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ الخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏ وهزؤهم وتسميتهم لها سحراً لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏.‏ والكسائي ‏{‏نِعْمَ‏}‏ بكسر العين وهي لغة فيه‏.‏ وقرىء ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة‏}‏ الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر‏.‏ والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها‏.‏ والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً‏.‏ والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة‏.‏ وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث‏.‏ وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به‏.‏ وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد‏.‏ والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية‏.‏ وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به‏.‏

وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال‏:‏ لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم أما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلافه والحق معهم، وهذه الجلمة اما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل‏.‏

‏{‏فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع ‏{‏يَا وَيْلَنَا‏}‏ أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك ‏{‏وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين‏}‏ استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل‏.‏

والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضاً

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ كلام الملائكة جواباً لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل‏:‏ هو من كلام بعضهم لبعض أيضاً، ووقف أبو حاتم على ‏{‏يا ويلنا‏}‏ وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهمأجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏بِهِ تُكَذّبُونَ احشروا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية‏:‏ احشروا الخ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المخلتلفة إلى موقف الحساب؛ وقيل من الموقف إلى الجحيم، والسباق والسياق يؤيدان الأول ‏{‏وأزواجهم‏}‏ أخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وابن منيع في مسنده‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا من أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر‏.‏ وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم‏.‏ وروي تفسير الأزواج بذلك أيضاً عن ابن جبير‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة، وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل‏.‏ وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني‏.‏ وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك‏.‏ والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية‏.‏ وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي دوأزواجهم‏}‏ بالرفع عطفاً على ضمير ‏{‏‏}‏ بالرفع عطفاً على ضمير ‏{‏ظَلَمُواْ‏}‏ عل ما في البحر أي وظلم أزواجهم‏.‏

وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مقله، والقراءة شاذة ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ من الأصنام ونحوها، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل، و‏{‏مَا‏}‏ قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية‏.‏

وقيل ‏{‏مَا‏}‏ كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك، وقيل ‏{‏مَا‏}‏ على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها، ولا يناسب هذا تفسير ‏{‏أزواجهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ بقرنائهم من الشياطين، ومع هذا التخصيص أقرب، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشركح لظلم عظيم ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ فعرفوهم طريقها وأروهم إياه، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ‏}‏ أي احبسوهم في الموقف ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ عن عقائدهم وأعمالهم، وفي الحديث ‏{‏لا تزول قدما عبد حتى يسئل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله، وعنه أيضاً يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم‏.‏ وروي بعض الأمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه، ورووه أيضاً عن أبي سعيد الخدري وأولي هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال‏.‏ ورأس ذلك لا إله إلا الله، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى إدخالهم فيه وإيصالهم إليه، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخراً عن بعض، وفيه من البعد ما فيه، وقيل‏:‏ إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى‏:‏