فصل: تفسير الآية رقم (159)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلاً منه ويفسر ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بما يعم وهو خلاف الظاهر وجوز كونه استثناء منقطعاً من ضمير ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏ وكونه استثناء متصلاً منه وهو خلاف الظاهر أيضاً‏.‏

وجوز كونه استثناء من ضمير ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول‏.‏ قال الطيبي‏:‏ ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين‏:‏ ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏ أي أنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في إغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحاً للمخلصين وتعريضاً بالمشركين وإرغاماً لأنوفهم ومزيداً لغيظهم أي أنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه‏.‏ وفي بيان المعنى نوع قصور

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161 - 163‏]‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم‏}‏ عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين ‏{‏فَإِنَّكُمْ‏}‏ الخ، والواو للعطف ‏{‏وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ معطوف على الضمير في ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ وضمير ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر و‏{‏أَنتُمْ‏}‏ خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم ومعبودوكم مفسدين أحداً على الله عز وجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة‏.‏

وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة ‏{‏مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ الخ مستقلة ليست خبراً لإن وضمير ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضاً بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل‏:‏ إنكم وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحداً إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر التغليب في ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ على هذا على حاله، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة ‏{‏مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ الخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهلة يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ فإنك والكتاب إلى علي *** كدابغة وقد حلم الأديم

قال في «الكشف»‏:‏ ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم، وهو بيان لخلاصة المعنى، واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ وكون الجملة المنفية خبر إن‏.‏ وحكي عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء والضمير المجرور به لما تعبدون فتأمل‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏صَالُو الجحيم‏}‏ بالواو على ما في كتاب الكامل للهذلي، وفي كتاب ابن خالويه عنهما ‏{‏صَالِ‏}‏ بالضم ولا واو‏.‏ وفي «اللوامح» و«الكشاف» عن الحسن ‏{‏صَالُو الجحيم‏}‏ بضم اللام فعلى إثبات الواو هو جمع سلامة سقطت النون للإضافة، وفي الكلام مراعاة لفظ من أولاً ومعناها ثانياً كما هو قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه، الأول‏:‏ أن يكون جمعاً حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون مفرداً حذفت لامه وهي الياء تخفيفاً وجعلت كالمنسي وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَنَى الجنتين دَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 54‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الجوار المنشآت‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 24‏]‏ بضم نون ‏{‏الجنتين دَانٍ‏}‏ وراء ‏{‏الجوار‏}‏ وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حذفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها، الثالث‏:‏ أن يكون مفرداً أيضاً ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معرباً كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكى بلفظهم وأصله وما منهم إلا الخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعاً لعظمته تعالى وخشوعاً لهيبته سبحانه وتواضعاً لجلاله جل شأنه كما روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه» وقد أخرج الترمذي وحسنه‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن مردويه عن أبي ذر قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعاً جبهته ساجداً لله» وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون» وعن السدي ‏{‏إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ في القرب والمشاهدة، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلاً بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ إلى ‏{‏المسبحون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159، 166‏]‏ فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة‏:‏ إن ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على ‏{‏عَلِمَتِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ و‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 160‏]‏ شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على أنه استثناء منقطع من واو ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف، و‏{‏فَإِنَّكُمْ‏}‏ الخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ‏}‏ الخ تبيين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول‏:‏ المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جداً وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن، وقيل‏:‏ هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله‏:‏

‏{‏فاستفتهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏]‏ كأنه قيل فاستفتهم وقال وما منا الخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم‏.‏ و‏{‏مِنَّا‏}‏ خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي ‏{‏مَا مِنَّا‏}‏ أحد إلا له مقام معلوم‏.‏

وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى مطرد وهذا اختيار الزمخشري‏.‏

وقال أبو حيان ‏{‏مِنَّا‏}‏ صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم‏.‏

وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غيراً إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره‏:‏ إن فيه أيضاً التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا أحد إلا أحد له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافاً بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبراً وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال‏:‏ القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبراً وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين‏:‏ أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل‏:‏ الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي «البحر» داعين للمؤمنين، وقيل‏:‏ صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال‏:‏ كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجداً وجعلت لنا ترتبها طهوراً إذا لم نجد الماء ‏"‏ وأخرج هو أيضاً‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ‏"‏ وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏ أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل‏:‏ أي القائلون سبحان الله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن قتادة أنه قال‏:‏ المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين‏:‏ لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائماً من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها‏.‏

وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ الآية قال ابن العربي‏:‏ ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض‏.‏

وقال الجلال السيوطي‏:‏ لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل به بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئاً المقحمات انتهى فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ‏}‏ إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين‏}‏ أي كتاباً من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

‏{‏لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم

‏[‏بم والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَفَرُواْ بِهِ‏}‏ فصيحة مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الاذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علماً من الذين تقدموا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهمب النصرة والغلبة وهو قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172 - 173‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ فيكون تفسيراً أو بدلاً من ‏{‏كَلِمَتُنَا‏}‏ وجوز أن يكون مستأنفاً والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ والأول أظهر، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم إليه تعالى تشريفاً لهم وتنويهاً بهم، وقال بعض الأجلة‏:‏ هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة، وقال الحسن‏:‏ المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل، وقال ناصر الدين‏:‏ هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء أما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال‏:‏ إن استمرار ذلك عرفي، وقيل‏:‏ هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لاخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل، وسمى الله عز وجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامنت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، وقال بعض العلماء‏:‏ إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل، وقرأ الضحاك ‏{‏كلماتنا‏}‏ بالجمع، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن، وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏على‏}‏ على تضمين ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ‏}‏ معنى حقت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏174‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ فأعرض عنهم واصبر ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل‏:‏ إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال‏:‏ إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضاً، وقال ابن زيد‏:‏ إلى يوم القيامة، وهو والذي قبله ظاهران في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏175‏]‏

‏{‏وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏وأبصارهم‏}‏ وهم حينئذٍ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصاً إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ما يكون لك من التأييد والنصر، وقيل‏:‏ المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم إرادة التبعيد منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت، وروي أنه لما نزل ‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ قالوا متى هذا‏؟‏ فنزلت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏177‏]‏

‏{‏فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا نَزَلَ‏}‏ أي العذاب الموعود ‏{‏بِسَاحَتِهِمْ‏}‏ وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقاً وتجمع على سوح قال الشاعر‏:‏ فكان سيان أن لا يسرحوا نعما *** أو يسرحوه بها واغبرت السوح

وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل‏.‏

وقرأ ابن مسعود ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل، وقرىء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضاً وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب ‏{‏فَسَاء صَبَاحُ المنذرين‏}‏ أي فبئس صباح المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلي الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلاً ليهجم عليه وهو في غفلته صباحاً، وكثيراً ما يسمون الغارة صباحاً لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم‏.‏

وجوز حمل الصباح هنا على ذلك، وفي «الكشاف» مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوماً بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا اهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيراً ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أصباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر؛ وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر، وقيل‏:‏ ضمير نزل للنبي صلى الله عليه وسلم ويراد حينئذٍ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم إلا على تأويل ولا بخيبر لقوله صلى الله عليه وسلم حين صبيحها‏:‏ ‏"‏ الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ‏"‏ لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام ثمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178 - 179‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهراً بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذٍ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكى عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولاً وإلى العزة ثانياً كأنه قيل‏:‏ سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز وجل مالكها، وقال الزمخشري‏:‏ أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز وجل العزيز بنفسه، ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏181‏]‏

‏{‏وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏‏}‏

‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏182‏]‏

‏{‏وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز وجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقاً عليهم‏.‏

وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم، وقد يقال‏:‏ تقديم التنزيه لأهميته ذاتاً ومقاماً، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز وجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جل وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه، وأتى عز وجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظراً للمقام وإن كان هواهم منه ذاتاً والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب، ولا يحتاج إلى ما قيل‏:‏ إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدماً على الباعث في الرتبة فتدبر‏.‏

وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله‏.‏

وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يسلم‏:‏ سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من قال دبر كل صلاة ‏"‏ سبحان رب رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة ‏"‏ إلى آخر السورة، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفاً، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة ‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وسلام على المرسلين والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات ما قالوا‏:‏ ‏{‏والصافات صَفَّا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1‏]‏ هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء ‏{‏فالزجرات زَجْراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 2‏]‏ عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية ‏{‏فالتاليات ذِكْراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 3‏]‏ آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل الصافات جماعة الملائكة المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء‏.‏

قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح‏:‏ أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فاسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبياً وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه، وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة‏:‏ اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبداً إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أو يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه، وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر‏.‏

‏{‏إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 4‏]‏ إخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه عز وجل واحداً تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معهس بحانه في شيء من اوشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 24‏]‏ فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفاً رهيناً بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف ‏{‏فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏ ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏ وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها ‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين‏.‏

‏[‏سورة ص‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ص‏}‏ بالسكون على الوقف عند الجمهور، وقرأ أبي‏.‏ والحسن‏.‏ وابن أبي إسحق وأبو السماء‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ ونصر بن عاصم ‏{‏صاد‏}‏ بكسر الدال؛ والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو ‏{‏تَعْمَلُونَ ق‏}‏ و‏{‏ن‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادي أي عارض، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية، والمعنى عارض القرآن بعملك أي إعمل بأوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب‏:‏ أي أعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن، وقيل هو أمر من صادى أي حادث، والمعنى حادث القرآن، وهو رواية عن الحسن أيضاً وله قرب من الأول‏.‏ وقرأ عيسى‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو‏.‏ وفرقة ‏{‏صاد‏}‏ بفتح الدار، وكذا قرؤا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضاً طلباً للخفة، وقيل هو حركة إعراب على أن ‏{‏صاد‏}‏ منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم للسورة، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحق في رواية ‏{‏صاد‏}‏ بالجر والتنوين، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إن الأرجح، وإما لاعتبار ذلك اسماً للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه، والقول بأن ذاك لكونه علماً لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة‏.‏ وقرأ ابن السميقع‏.‏ وهرون الأعور‏.‏ والحسن في رواية ‏{‏صاد‏}‏ بضم الدال، وكأنه اعتبر اسماً للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال‏:‏ سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ‏{‏العالمين ص‏}‏ فقالا‏:‏ ما ندري ما هو، وهو مذهب كثير في نظائره، وقال عكرمة‏:‏ سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن ‏{‏ص‏}‏ فقال‏:‏ ص كان بحراً بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار‏.‏

وقال ابن جبير‏:‏ هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال ‏{‏ص‏}‏ صدق الله، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ يقول إني أنا الله الصادق، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ هو مفتاح أسماء الله تالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد‏.‏

وقيل هو إراشة إلى صدور الكفار عن القرآن، وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل‏.‏ وسيبويه‏.‏ والأكثرون، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراآت كما سمعت عن قريب، ومن الغرييب أن المعنى صاد محمد صلى الله عليه وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ولعل القائل به اعتبره فعلاً ماضياً مفتوح الآخر أو ساكنه للوقف، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجهالً، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسماً به ومفعولاً لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسماً به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسماً به فالواو في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ص والقرءان ذِى‏}‏ للقسم وإن اعتبر مقسماً به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسماً منصوباً على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و‏{‏بص‏}‏ السورة أو بالعكس أو أريد ‏{‏بص‏}‏ البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف‏.‏

وضعف جعل الواو للقسم أيضاً بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أو الذكرى والموعظة للناس على ما روى عن قتادة‏.‏ والضحاك، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون‏.‏ والزجاج‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ الناس‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏ وتعقبه الفراء بقوله‏:‏ لا نجده مستقيماً لتأخر ذلك جداً عن القسم، وقال الأخفش هو ‏{‏إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل‏}‏ وقال قوم‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ ‏[‏الشمسِ‏:‏ 9‏]‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏ حكاه الفراء‏.‏ وثعلب، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول و‏{‏كَمْ‏}‏ مفعول‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ إن هذه الأقوال يجب إطراحها، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه ‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏ الخ فإن ‏{‏بَلِ‏}‏ لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق‏.‏

وجوز أن يريد هذا القائل أن ‏{‏بَلِ‏}‏ زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء‏.‏ وثعلب، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن ‏{‏ص‏}‏ تدل على ماذكر، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه‏:‏ قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول‏:‏ هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وهو مبني على جواز التقدم أيضاً، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الذين‏}‏ الخ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في ‏{‏ص‏}‏ من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه ‏{‏ص‏}‏ بناء على كونه أمراً من المصاداة، وقدره بعضهم غير ذلك، وفي «البحر» ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جواباً للقسم بالقرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يس والقرءان الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

ويقوى هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ وهناك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً‏}‏ فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة

‏[‏بم وجعل بل في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلاً‏:‏ إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل‏:‏ من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبراً عن اتباع الحق وعناداً، وهو أظهر من جعل ذلك إضراباً عن صريحه، وإن قدر نحو هذا المفهوم جواباً فالإضراب عنه قطعاً‏.‏ وفي «الكشف» عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق، ووجه دلالة ما في النظم الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون الخ ظاهر، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك‏.‏

والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتنكير للدلالة على شدتهما، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما‏.‏

وقرأ حماد بن الزبرقان‏.‏ وسورة عن الكسائي‏.‏ وميمونة عن أبي جعفر‏.‏ والجحدري من طريق العقيلي في ‏{‏غرة‏}‏ بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام‏:‏ إنه قرأ بها رجل وقال‏:‏ إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه وفيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب اضرابهم، و‏{‏كَمْ‏}‏ مفعول ‏{‏أَهْلَكْنَا‏}‏ و‏{‏مّن قَرْنٍ‏}‏ تمييز، والمعنى، قرناً كثيراً أهلكنا من القرون الخالية ‏{‏فَنَادَوْاْ‏}‏ عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك، وقال الحسن‏.‏ وقتادة‏:‏ رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجو منه ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏نَادُواْ‏}‏ والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط، وقال الرضى‏:‏ إنها لتأنيث الكلمة فتكون فتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه، وقول المتنبي‏:‏ لقد تصبرت حتى لات مصطبر *** والآن أقحم حتى لات مقتحم

وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيها على لفظ حين مقدر بعدها؛ والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص، ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم، وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلاً فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص، وقرأ أبو السمال ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ‏}‏ بضم التاء ورفع النون فعلى مذهب سيبويه ‏{‏حِينٍ‏}‏ اسم ‏{‏لأَتٍ‏}‏ والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلاً لهم، وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في «البحر» أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء أي فلاحين مناص كائن لهم‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ‏}‏ بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني‏:‏ طلبوا صلحنا ولات أوان *** فأجبنا أن لات حين بقاء

وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه، وإما على إضمار من كأنه قيل‏:‏ لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك أي من جذع في أصح القولين، وقولهم‏:‏ ألا رجل جزاه الله خيراً‏.‏‏.‏‏.‏

يريدون ألا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائماً، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل‏:‏ أن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه باذ في قول أبي ذؤيب‏:‏ نهيتك عن طلابك أم عمرو *** بعاقبة وأنت إذ صحيح

ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الأصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر للالتقاء الساكنين لكونه مبنياً مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرها للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زماناً قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعاً عن الإلحاق بها فإنها تبني إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضاً فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين ههنا تشبيهاً باذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ على أوان في البيت تنزيلاً لما أضيف إليه الظرف وهو ‏{‏حِينٍ‏}‏ منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافاً إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بنى ما أضيف إليه وهو ‏{‏حِينٍ‏}‏ على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضاً وتقديراً وهو ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ المشابه لأوان‏.‏ وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروى عن عيسى ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ‏}‏ بالضم ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ بالفتح، قال «صاحب اللوامح»‏:‏ فإن صح ذلك فلعله بني ‏{‏حِينٍ‏}‏ على الضم تشبيهاً بالغايات وبني ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ على الفتح مع ‏{‏لأَتٍ‏}‏ وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون ‏{‏حِينٍ‏}‏ معرباً مضافاً إلى ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَعَجِبُواْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ نظير فتح الراء من غير في قوله‏:‏ لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أرقال

على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة‏.‏ وقرأ عيسى أيضاً كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء ‏{‏لأَتٍ‏}‏ وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه، والفراء وابن كيسان‏.‏ والزجاج‏:‏ يوقف عليها بالتاء، وقال الكسائي‏:‏ والمبرد‏.‏ بالهاء، وقال أبو علي‏:‏ ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء؛ وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة، وذكر أنه رأى في الإمام ‏{‏وَلاَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ برسم التاء مخلوطاً بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسوماً على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال السخاوي في «شرح الرائية» أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون‏:‏ اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله‏:‏ العاطفون تحين لا من عاطف *** والمطعمون زمان ما من مطعم

وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأول اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم‏:‏ إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فأبدلت ألفاً لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس، وقيل‏:‏ إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه، والمناص المنجا والفوت يقال‏:‏ ناصه ينوصه إذا فاته، وقال الفراء‏:‏ النوص التأخر يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً أي فروزاغ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرساً له‏:‏ غمر الجراء إذا قصرت عنانه *** بيدي استناص ورام جرى المسحل

وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال‏:‏ المعنى نادوا واستغاثوا طلباً للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة؛ وعن مجاهد تفسيره بالفراء، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له‏:‏ اخبرني عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ فقال‏:‏ ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى‏:‏ تذكرت ليلى لات حين تذكر *** وقد بنت عنها والمناص بعيد

وعن الكلبي أنه قال‏:‏ كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض‏:‏ مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا‏:‏ مناص فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ قال القشيري‏:‏ فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار، وقال أبو حيان‏:‏ في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال الجرجاني‏:‏ أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل جاء زيد راكباً ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ‏}‏ انتهى‏.‏

وكون الأصل ما ذكر أن ‏{‏حِينٍ‏}‏ ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أنجاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي، والمراد أنهم عدوا ذلك أمراً عجيباً خارجاً عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه ‏{‏وَقَالَ الكافرون‏}‏ وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضباً عليهم وذماً لهم وإيذاناً بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق ‏{‏هذا ساحر‏}‏ فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلاً ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا‏}‏ بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييراً في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد إلهتهم معه عز وجل في الوجود ‏{‏إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ‏}‏ أي بليغ في العجب فإن فعالاً بناء مبالغة كرجل طوال وسراع، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيباً بل محالاً، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علماً وقدرة، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي‏.‏ وعيسى‏.‏ وابن مقسم ‏{‏عُجَابٌ‏}‏ بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف، وقال مقاتل ‏{‏عُجَابٌ‏}‏ لغة أزد شنوءة، أخرج أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جعفل فقالوا‏:‏ إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشى أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب‏:‏ أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم‏:‏ ما هي‏؟‏ وأبيك لنعطينكها وعشراً قال؛ لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون‏:‏ أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب‏.‏ وفي رواية أنهم قالوا‏:‏ سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقاموا غضاباً وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا‏.‏»

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وانطلق الملا مِنْهُمْ‏}‏ أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل‏.‏ والعاص بن وائل‏.‏ والأسود بن المطلب بن عبد يغوث‏.‏ وعقبة بن أبي معيط‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال‏:‏ قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل هم الملأ وتلا ‏{‏وانطلق الملا مِنْهُمْ‏}‏ ‏{‏أَنِ امشوا‏}‏ الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس، و‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالاً من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول، وقال بعضهم‏:‏ المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلاً بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا، وقيل‏:‏ هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال أسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم‏.‏ وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشي إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد، وأياً ما كان فالبعض قال للبعض ذلك، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم، وقرىء ‏{‏امشوا‏}‏ بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا ‏{‏وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ‏}‏ أي أثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح‏.‏

وقرأ ابن مسعود ‏{‏وانطلق الملا مِنْهُمْ يَمْشُونَ ءانٍ اصبروا‏}‏ فجملة ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ حالية أو مستأنفة والكلام في ‏{‏ءانٍ اصبروا‏}‏ كما في ‏{‏أَنِ امشوا‏}‏ سواء تعلق تعليق بانطلق أو بما يليه ‏{‏إِنَّ هَذَا لَشَىْء يُرَادُ‏}‏ تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي ألوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى الله عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إراتكم واصبروا على عبادة آلهتكم، وقيل‏:‏ إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر، وقيل‏:‏ إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يرده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمنتاه أو يريده فاصبروا، وقيل‏:‏ أن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد إبطاله، وقيل‏:‏ الإشارة إلى الصبر المفهوم من ‏{‏اصبروا‏}‏ أي أن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة‏.‏ وقال القفال‏:‏ هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل‏.‏