فصل: تفسير الآية رقم (42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏اركض بِرِجْلِكَ‏}‏ إما حكاية لماق يل له أو مقول لقول مقدر معطوف على ‏{‏نادى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 41‏]‏ أي فقلنا له أركض برجلك أي اضرب بها وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏ فإنه أيضاً إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالأمر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل‏:‏ فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك، فالمغتسل اسم مفعول على الحذف والإيصال وكذا الشراب، وعن مقاتل أن المغتسل اسم مكان أي هذا مكان تغتسل فيه وليس بشيء، وظاهر الآية اتحاد المخبر عنه بمغتسل وشراب، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها وبرجله اليسرى فنبعت باردة فشرب منها، وقال الحسن‏:‏ ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ثم ركض برجله فنبعت أخرى فشرب منها، ولعله عنى بالأولى عيناً حارة، وظاهر النظم عدم التعدد‏.‏ و‏{‏بَارِدٌ‏}‏ على ذلك صفة ‏{‏شَرَابٌ‏}‏ مع أنه مقدم عليه صفة ‏{‏مُغْتَسَلٌ‏}‏ وكون هذا إشارة إلى جنس النابع أو يقدر وهذا بارد الخ تكلف لا يخرج ذلك عن الضعف، وقيل أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء بجسده‏.‏

وكان ذلك على ما روي عن قتادة‏.‏ والحسن‏.‏ ومقاتل بأرض الجابية من الشام، وفي الكلام حذف أيضاً أي فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ‏}‏ بإحيائهم بعد هلاكهم على ما روي عن الحسن‏.‏

وروى الطبرسي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية وأهله الذين ماتوا وهو في البلية، وفي «البحر» الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله وعافى المرضى وجمع عليه من تشتت منهم، وقيل وإليه أميل وهبه من كان حياً منهم وعافاه من الأسقام وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى ‏{‏وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ‏}‏ فكان له ضعف ما كان، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا، وزعم بعض أن هذا وعد وتكون تلك الهبة في الآخرة ‏{‏رَحْمَةً مّنَّا‏}‏ أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا‏.‏

‏{‏وذكرى لاِوْلِى الالباب‏}‏ وتذكيراً لهم بذلك ليصيروا على الشدائد كما صبر ويلجؤا إلى الله تعالى فيما يصيبهم كما لجأ ليفعل سبحانه بهم ما فعل به من حسن العاقبة‏.‏ روي عن قتادة أنه عليه السلام ابتلي سبع سنين وأشهراً وألقي على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده فصبر ففرج الله تعالى عنه وأعظم له الأجر وأحسن، وعن ابن عباس أنه صار ما بين قدميه إلى قرنه قرحة واحدة وألقى على الرماد حتى بدا حجاب قلبه فكانت امرأته تسعى إليه فقالت له يوماً‏:‏ أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله تعالى أن يشفيك ويريحك فقال‏:‏ ويحك كنا في النعيم سبعين عاماً فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاماً فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل عليه السلام فأخذ بيده ثم قال‏:‏ قم فقام عن مكانه وقال‏:‏ ‏{‏اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ فاغتسل وشرب فبرأ وألبسه الله تعالى حلة من الجنة فتنحى فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت‏:‏ يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ههنا‏؟‏ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة فقال‏:‏ ويحك أنا أيوب قد رد الله تعالى على جسدي ورد الله تعالى عليه ماله وولده ومثلهم معهم وأمطر عليه جراداً من ذهب فجعل يأخذ الجراد بيده ويجعله في ثوبه وينشر كساءه فيجعل فيه فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب أما شبعت‏؟‏ قال‏:‏ يا رب من الذي يشبع من فضلك ورحمتك، وفي «البحر» روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ولم يصبر عليه إلا امرأته» وعظم بلائه عليه السلام مما شاع وذاع ولم يختلف فيه اثنان لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك فيه خلاف قال الطبرسي‏:‏ قال أهل التحقيق إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها لأن في ذلك تنفيراً فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك‏.‏

وفي هداية المريد للقاني أنه يجوز على الأنبياء عليهم السلام كل عرض بشري ليس محرماً ولا مكروهاً ولا مباحاً مزرياً ولا مزمناً ولا مما تعافه الأنفس ولا مما يؤدي إلى النفرة ثم قال بعد ورقتين، واحترزنا بقولنا ولا مزمناً ولا مما تعافه الأنفس عما كان كذلك كالإقعاد والبرص والجذام والعمى والجنون، وأما الإغماء فقال النووي لا شك في جوازه عليهم لأنه مرض بخلاف الجنون فإنه نقص، وقيد أبو حامد الإغماء بغير الطويل وجزم به البلقيني، قال السبكي‏:‏ وليس كإغماء غيرهم لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم لأنها معصومة من النوم الأخف، قال‏:‏ ويمتنع عليهم الجنون وإن قل لأنه نقص ويلحق به العمى ولم يعم نبي قط، وما ذكر عن شعيب من كونه كان ضريراً لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت اه‏.‏

وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ وحصول الغرض من النبوة فيجوز وبين أن يكون قبل فلا يجوز، ولعلك تختار القول بحفظهم مما تعافه النفوس ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة مطلقاً وحينئذٍ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب عليه السلام لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة ونقله القصاص في كتبهم، وذكر بعضهم أن داءه كان الجدري ولا أعتقد صحة ذلك والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً‏}‏ عطف على ‏{‏اركض‏}‏ أو على ‏{‏وَهَبْنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 43‏]‏ بتقدير قلنا خذ بيدك الخ‏.‏ والأول أقرب لفظاً وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة واعتدال الوقت فإن امرأته رحمة بنت إفرائيم أو مشيا بن يوسف أولياً بنت يعقوب أو ما خير بنت ميشا بن يوسف على اختلاف الروايات‏.‏

ولا يخفى لطف ‏{‏رَحْمَةً مّنَّا‏}‏ على الرواية الأولى ذهبت لحاجة فأبطأت أو بلغت أيوب عن الشيطان أن يقول كلمة محذورة فيبرأ وأشارت عليه بذلك فقالت له إلى متى هذا البلاء كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك أو جاءته بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز فظن أنها ارتكبت في ذلك محرماً فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل‏:‏ القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب والضغث القبضة من الحطب أيضاً عليها، ومنه قول الشاعر‏:‏ وأسفل مني نهدة قد ربطتها *** وألقيت ضغثاً من خلى متطيب

وقال ابن عباس هنا‏:‏ الضغث عثكال النخل، وقال مجاهد‏:‏ الأثل وهو نبت له شوك، وقال الضحاك‏:‏ حزمة من الحشيش مختلفة، وقال الأخفش‏:‏ الشجر الرطب، وعن سعيد بن المسيب أنه عليه السلام لما أمر أخذ ضغثاً من ثمام فيه مائة عود، وقال قتادة‏:‏ هو عود فيه تسعة وتسعون عوداً والأصل تمام المائة فإن كان هذا معتبراً في مفهوم الضغث ولا أظن فذاك وإلا فالكلام على إرادة المائة فكأنه قيل‏:‏ خذ بيدك ضغثاً فيه مائة عود ‏{‏فاضرب بّهِ‏}‏ أي بذلك الضغث ‏{‏وَلاَ تَحْنَثْ‏}‏ بيمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله تعالى ذلك رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهي رخصة باقية في الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضاً لكن غير الحدود يعلم منها بالطريق الأولى فقد أخرج عبد الرزاق‏.‏ وسعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال‏:‏ حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها‏:‏ ممن حملك‏؟‏ قالت‏:‏ من فلان المقعد فسئل المقعد فقال‏:‏ صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان أن رجلاً أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض على شفا موت فأخبر أهله بما صنع فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقنو فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة، وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامرأة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، ولا دلالة في هذه الأخبار على عموم الحكم من يطيق الجلد المتعارف لكن القائل ببقاء حكم الآية قائل بالعموم لكن شرطوا في ذلك أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ إنهم شرطوا فيه الايلام أما مع عدمه بالكلية فلا فلو ضرب بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة من حلف على ضربه مائة بر إذا تألم فإن لم يتألم لا يبر ولو ضربه مائة لأن الضرب وضع لفعل مئلم بالبدن بآلة التأديب، وقيل‏:‏ يحنث بكل حال كما فصل في «شروح الهداية» وغيرها انتهى‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام، وفي أحكام القرآن العظيم للجلال السيوطي عن مجاهد قال‏:‏ كانت هذه لأيوب خاصة، وقال الكيا‏:‏ ذهب الشافعي‏.‏ وأبو حنيفة‏.‏ وزفر إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه، وخالف مالك ورآه خاصاً بأيوب عليه السلام، وقال بعضهم‏:‏ إن الحكم كان عاماً ثم نسخ والصحيح بقاء الحكم، واستدل بالآية على أن للزوج ضرب زوجته وأن يحلف ولا يستثنى وعلى أن الاستثناء شرطه الاتصال إذ لو لم يشترط لأمره سبحانه وتعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث‏.‏

واستدل عطاء بها على مسألة أخرى فأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عنه أن رجلاً قال له‏:‏ إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعاً حتى تقف بعرفة فقال‏:‏ احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة فقال‏:‏ إنما عنيت يوم عرفة فقال عطاء‏:‏ أيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أنوي أن يضربها بالضغث إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به ثم قال‏:‏ إنما القرآن عبر إنما القرآن عبر، وللبحث في ذلك مجال، وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل وجعلها أصلاً لصحته، وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الاستبراء وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقاً ومنهم من لا يجوزها مطلقاً، وقد أطال الكلام في ذلك العلامة ابن تيمية ‏{‏إِنَّا وجدناه صَابِراً‏}‏ فيما أصابه في النفس والأهل والمال‏.‏

وقد كان عليه السلام يقول كلما أصابته مصيبة‏:‏ اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت ويحمد الله عز وجل، ولا يخل بذلك شكواه إلى الله تعالى من الشيطان لأن الصبر عدم الجزع ولا جزع فيما ذكر كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك على ما قيل خيفة الفتنة في الدين كما سمعت فيما تقدم، ويروى أنه قال في مناجاته‏:‏ الهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم يلهني ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ‏{‏نِعْمَ العبد‏}‏ أي أيوب ‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ تعليل لمدحه وتقدم مهنى الأواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ الثلاثة عطف بيان لعبادنا أو بدل منه‏.‏

وقيل‏:‏ نصب باضمار أعني، وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأهل مكة ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ بالإفراد فإبراهيم وحده بدل أو عطف بيان أو مفعول أعني، وخص بعنوان العبودية لميزد شرفه، وما بعده عطف على ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ وجوز أن يكون المراد بعبدنا عبادنا وضعاً للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان ‏{‏أُوْلِى الايدى والابصار‏}‏ أولى القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضاً لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب، والأبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضاً، وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة الباطلين أنهم كفاقدى الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما، وقيل‏:‏ الأيدي النعم أي أولى التي اسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولى النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم، وفيه ما فيه‏.‏ وقرىء ‏{‏الأيادي‏}‏ على جمع الجمع كأوطف وأواطف، وقرأ عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ والأعمش ‏{‏ذَا الايد‏}‏ بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال‏:‏ وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر، وقيل‏:‏ الأيد القوة في طاعة الله تعالى نظر ما تقدم‏.‏ وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالاكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ‏}‏ تعليل لما وصفوا به، والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذِكْرَى الدار‏}‏ بيان لها بعد إبهامها للتفخيم، وجوز أن يكون خبراً عن ضميرها المقدر أي هي ذكرى الدار، وأياً ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الأخرة، وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي نذكرهم دائماً الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح انظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويدرون جواز الله عز وجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة‏.‏

وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك‏:‏ أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالماً، وقد يتخيل في الثاني أنه صلة، ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش‏.‏ وطلحة ‏{‏بخالصتهم‏}‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام، وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم‏.‏ وحكى ذلك عن الجبائي‏.‏ وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالاً، وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ والأعرج‏.‏ ونافع‏.‏ وهشام بإضافة ‏{‏الانعام خَالِصَةٌ‏}‏ إلى ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ للبيان أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلاً أو على غير ذلك من المعاني، وجوز على هذه القراءة أن تكون ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ مصدراً كالعاقبة والكاذبة مضافاً إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار‏.‏ وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضاً لكنه قال‏:‏ الأظهر أن تكون اسم فاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين‏}‏ أي المختارين من بين أبناء جنسهم، وفيه إعلال معروف‏.‏

وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وإن يكون من صلة محذوف دل عليه ‏{‏لَمِنَ المصطفين‏}‏ أي وإنهم مصطفون عندنا، ولم يجوزوا أن يكون من صلة ‏{‏المصطفين‏}‏ المذكور لأن أل فيه موصولة ومصطفين صلة وما في حيز الصلة لا يتقدم معمولة على الموصول لئلا يلزم تقدم الصلة على الموصول‏.‏ واعترض بأنا لا نسلم أن أل فيه موصولة إذ لم يرد منه الحدوث ولو سلم فالمتقدم ظرف وهو يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، والظاهر أن الجملة عطف على ما قبلها، وتأكيدها لمزيد الاعتناء بكونهم عنده تعالى من المصطفين من الناس‏.‏ ‏{‏الاخيار‏}‏ الفاضلين أن لا يجمع على أفعال لكنه للزوم تخفيفه حتى أنه لا يقال أخير إلا شذوذاً أو في ضرورة جعل كأنه بنية أصلية؛ وقيل جمع خير المشدد أو خير المخف منه كأموات في جمع ميت بالتشديد أو ميت بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر إسماعيل‏}‏ فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه اعتنار بشأنه من حيث أنه لا يشرك العرب فيه غيرهم أو للأشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالذكر ‏{‏واليسع‏}‏ قال ابن جرير هو ابن أخطوب بن العجوز، وذكر أنه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء، واللام فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع، ولا ينافي كونه غير عربي فإنها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجمية كالاسكندر فقد لحن التبريزي من قال اسكندر مجرداً له منها، والأولى عندي أنه إذا كان اسما أجمياً وأل فيه مقار نة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيه، وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع حكاه الجلال السيوطي في الاتقان‏.‏ وفي القاموس يسع كيضع اسم أعجمي أدخل عليه أل ولا تدخل على نظائره كيزيد‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏والليسع‏}‏ بلامين والتشديد كان أصله ليس بوزن فيعل من اللسع دخل عليه أل تشبيهاً بالمنقول الذي تدخله للمح أصله، وجزم بعضهم بأنه على هذه القراءة أيضاً علم أعجمي دخل عليه اللام‏.‏

‏{‏وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل‏}‏ قيل هو ابن أيوب، وعن وهب أن الله تعالى بعث بعد أيوب شرف بن أيوب نبياً وسماه الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده وكان مقيماً بالشام عمره حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة‏.‏

وفي العجائب للكرماني قيل هو الياس، وقيل هو يوشع بن نون، وقيل هو نبي اسمه ذو الكفل، وقيل كان رجلاً صالحاً تكفل بأمور فوفي بها، وقيل هو زكريا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ اه، وقال ابن عساكر‏:‏ هو نبي تكفل الله تعالى له في عمله بضعف عمل غيره من الأنبياء، وقيل لم يكن نبياً وان البسع استخلفه فتكفل له أن يصوم النهار ويقوم الليل، وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة، وقيل‏:‏ كان رجلاً من الصالحين كان في زمانه أربعمائة نبي من بني إسرائيل فقتلهم ملك جبار إلا مائة منهم فروا من القتل فآواهم وأخفاهم وقام بمونتهم فسماه الله تعالى ذا الكفل، وقيل هو اليسع وأن له اسمين ويأباه ظاهر النظم ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ أي ولكهم ‏{‏مّنَ الاخيار‏}‏ المشهورين بالخيرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ أي شرف لهم وشاع الذكر بهذا المعنى لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم، والمراد في ذكر قصصهم وتنويه الله تعالى بهم شرف عظيم لهم أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر كما يقول الجاحظ في كتبه‏:‏ فهذا باب ثم شرع في باب آخر ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر‏:‏ هذا وكان كيت وكيت، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيراً وعليه ‏{‏هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَئَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ وستسمع إن شاء الله تعالى الكلام فيه فلا يقال‏:‏ إنه لا فائدة فيه لأنه معلوم أنه من القرآن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذا ذكر من مضي من الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي مرجع شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل، والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحاً لهم بالتقوى التي هي الغاية القصوى في الكمال، والجلمة فيما أرى عطف على الجملة قبلها كأنه قيل‏:‏ هذا شرف لهم في الدنيا وإن لهم ولأضرابهم أو إن لهم في الآخرة لحسن مآب أو هي من قبيل عطف القصة على القصة، وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة‏:‏ هي حالية ولم يبين صاحب الحال، ويبعد أن يكون ‏{‏ذِكْراً‏}‏ لأنه نكرة متقدمة وأن يكون ‏{‏هذا‏}‏ لأنه مبتدأ ومع ذلك في المعنى على تقدير الحالية خفاء، وقال بعض أجلة المعاصرين‏.‏ إنه أراد أن الكلام على معنى والحال كذا أي الأمر والشأن كذا ولم يرد أن الجملة حال بالمعنى المعروف الذي يقتضي ذا حال وعاملا في الحال إلى غير ذلك وادعى أن الأمر كذلك في كل جملة يقال إنها حال وليس فيها ضمير يعود على ما قبلها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقال‏:‏ إنه الذي ينبغي أن يعول عليه وإن لم يذكره النحويون اه، والحال لا يخفي على ذي تمييز، وإضافة ‏{‏حُسْنُ‏}‏ إلى ‏{‏مَئَابٍ‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف إما بتأويل مآب ذي حسن أو حسن وأما بدونه قصداً للمبالغة‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل اشتمال، وجوز أن يكون نصباً على المدح، وجعله الزمخشري عطف بيان لحسن مآب، وعدن قيل من الإعلام الغالبة غلبة تقديرية ولزوم الإضافة فيها أو تعريفها باللام أغلبي كما صرح به ابن مالك في التسهيل، وجنات عدن كمدينة طيبة لا كإنسان زيد فإنه قبيح، وقيل العلم مجموع ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ وهو أيضاً من غير الغالب لأن المراد من الإضافة التي تعوضها العلم بالغلبة إضافة تفيده تعريفاً، وعلى القولين هو معين فيصلح للسان لكن تعقب ذلك أبو حيان بأن للنحويين في عطف البيان مذهبين، أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة وهو مذهب البصريين، والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي؛ وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى الزمخشري كما قد صرح به ابن مالك في التسهيل فهو بناء للأمر على مذهبه‏.‏

وذهب آخرون أن عدنا مصدر عدن بمكان كذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ولا علمية ولا نقل هناك ومعنى ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ جنات استقرار وثبات فإن كان عطف بيان فهو على مذهب الكوفيين والفارسي‏.‏

ومن الغريب ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ سألت كعباً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ فقال‏:‏ جنات كروم وأعناب بالسريانية، وفي تفسير ابن جرير أنه بالرومية، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب‏}‏ إما صفة لجنات عدن وإليه ذهب ابن اسحق وتبعه ابن عطية أو حال من ضميرها المستتر في خبر إن والعامل فيه الاستقرار المقدر أو نفس الظرف لتضمنه معناه ونيابته عنه وإليه ذهب الزمخشري ومختصر وكلامه أو حال من ضميرها المحذوف مع العامل لدلالة المعنى عليه والتقدير يدخلونها مفتحة وإليه ذهب الحوفي، و‏{‏الابواب‏}‏ نائب فاعل ‏{‏مُّفَتَّحَةً‏}‏ عند الجمهور والرابط العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها، واكتفى الكوفيون عن ذلك بأل لقيامها مقام الضمير فكأنه قيل‏:‏ مفتحة لهم أبوابها، وذهب أبو على إلى أن نائب فاعل ‏{‏مُّفَتَّحَةً‏}‏ ضمير الجنات والأبواب بدل منه بدل اشتمال كما هو ظاهر كلام الزمخشري، ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات على ما قال أبو حيان‏.‏ وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً‏}‏ برفعهما على أنهما خبران لمحذوف أي هو أي المآب جنات عدن مفتحة لهم أبوابه أو هو جنات عدن هي مفتحة لهم أبوابها أو على أنهما مبتدأ وخبر‏.‏

ووجه ارتباط الجملة بما قبلها انها مفسرة لحسن المآب لأن محصلها جنات أبوابها فتحت أكراماً لهم أو هي معترضة‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ‏}‏ قيل حالان من ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ وهما حالان مقدران لأن الاتكاء وما بعده ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده، وقيل‏:‏ الأول حال مقدرة من الضمير المذكور الثاني حال من ضمير متكئين، وجوز جعلهما حالين من المتقين، ولا يصح إلا إن قلنا بأن الفاصل ليس بأجنبي والظاهر أنه أجنبي، وقال بعض الأجلة‏:‏ الأظهر ان ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ قدم رعاية للفاصلة ويدعون استئناف لبيان حالهم كأنه قيل ما حالهم بعد دخولها‏؟‏ فقيل‏:‏ يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب متكئين فيها، والاقتصار على الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التعدي فإنه لتحصيل بدل ولا تحلل ثمت ولما كانت الفاكهة تتنوع وصفها سبحانه بالكثرة وكثرتها باختلاف أنواعها وكثرة كل نوع منها، ولما كان الشراب نوعاً واحداً وهو الخمر افرد، وقيل‏:‏ وصفت الفاكهة بالكثرة ولم يوصف الشراب للإيذان بأنه يكون على الشراب نقل كثير سواء تعددت أنواعه أم اتحدت، ويمكن أن يقال والله تعالى أعلم‏:‏ التقدير وشراب كثير لكن حذفت كثير لدلالة ما قبل ورعاية للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف‏}‏ أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو قاصرات طرف أزواجهن عليهن فلا ينظرون إلى غيرهن لشدة حسنهن، وتمام الكلام قد مر وحلا ‏{‏أَتْرَابٌ‏}‏ أي لذات على سن واحدة تشبيهاً في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لسقوطهن معا على الأرض حين الولادة ومسهن ترابها فكأن الترب بمعنى المتارب كالمثل بمعنى المماثل، والظاهر أن هذا الوصف بينهن فيكون في ذلك إشارة إلى محبة بعضهن لبعض وتصادقهن فيما بينهن فإن النساء الأتراب يتحابين ويتصادقن وفي ذلك راحة عظيمة لأزواجهن كما أن في تباغض الضرائر نصباً عظيماً وخطباً جسيماً لهم، وقد جرب ذلك وصح نسأل الله تعالى العفو والعافية‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك بينهن وبين أزواجهن أي أن اسنانهن كأسنانهم ليحصل كمال التحاب، ورجح بأن اهتمام الرجل بحصول المحبة بينه وبين زوجته أشد من اهتمامه بحصولها بين زوجاته، وفيه توقف، ثم أن الوصف الأول على المعنى الأول متكفل بالدلالة على محبتهن لأزواجهن وعلى المعنى الثاني متكفل بالدلالة على محبة أزواجهن لهن وإذا حصلت المحبة من طرف فالغالب حصولها من الطرف الآخر، وقد قيل‏:‏ من القلب إلى القلب سبيل والأمر في الشاهد أن كون الزوجات أصغر من الأزواج أحب لهم لا التساوي، واختار بعضهم كون ذلك بينهن وبين أزواجهن ويلزم منه مساواة بعضهن لبعض وهذا إذا كان المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ‏}‏ الخ وعند كل واحد منهم ولو كان المراد وعند مجموعهم وكان الجمع موزعاً بأن يكون لكل واحد واحد من أهل الجنة واحدة واحدة من قصارات الطرف الأتراب كان اعتبار كون الوصف بينهن وبين الأزواج كالمتعين لكن هذا الفرض خلاف ما نطقت به الأخبار سواء قلنا بما روي عن ابن عباس من أن الآية في الآدميات أو قلنا بما قاله صاحب الفينان من أنها في الحور، وقيل بناء على ما هو الظاهر في الوصف إن التساوي في الأعمار بين الحور وبين نساء الجنة فالآية فيهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب‏}‏ أي لأجل يوم الحساب فإن ما وعدوه لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة وهي تظهر بالحساب فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد فالنسبة لليوم والحساب مجازية، وجوز أن يكون اللام بمعنى بعد كما في كتب لخمس خلون من جمادي الآخرة مثلاً وهو أقل مؤونة‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏يُوعَدُونَ‏}‏ بياء الغيبة وعلى قراءة الجمهور بتاء الخطاب فيها التفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات ‏{‏لَرِزْقُنَا‏}‏ أعطيناكموه ‏{‏مَالَهُ مِنْ‏}‏ انقطاع أبدا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَبْلَ هذا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو علي‏:‏ أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكر‏.‏

وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبراً محذوف المبتدأ، وجوز بعضهم كونه فاعل فعل محذوف أي مضي هذا وكونه مفعولاً للفعل محذوف أي خذ هذا، وجوز أيضاً كون ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلاً يبعده والتقدير أسهل منه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ‏}‏ عطف على ما قبله، ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الاحتمالات جوابه سهل، وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضاً ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين، والطاغون هنا الكفار كام يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال‏:‏ أي الذين طغوا علي وكذبوا رسلي، وقال الجبائي‏:‏ أصحاب الكبائر كفاراً كانوا أو لم يكونوا، وإضافة ‏{‏شَرُّ‏}‏ إلى ‏{‏مَئَابٍ‏}‏ كإضافة ‏{‏حُسْنُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏ إليه فيما تقدم، وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال‏:‏ لقبح مآب هنا أو لبخير مآب فيما مضى لكن مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوفي في «شرح الحماسة» كذا قيل، وقيل إنه من الاحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ يعلم إعرابه مما سلف؛ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ أي يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر إن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة ‏{‏فَبِئْسَ المهاد‏}‏ أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف، والمهاد كالفراش لفظاً ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم، والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏هذا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏ جملة مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشاربه للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في

قوله‏:‏ حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس *** وغودر البقل ملوى ومحصود

أي منه ملوى ومنه محصود أو ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏حَمِيمٍ‏}‏ وجملة ‏{‏فليذوقوع‏}‏ معترضة كقولك زيد فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ خبره ‏{‏هذا فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏ على مذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلاً بقوله‏:‏

وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** أو ‏{‏هذا‏}‏ في محل نصب بفعل مضمر يفسره ‏{‏فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏ أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ولعلك تختار القول بأن ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة، وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الاحتمالان المذكوران أولاً والحميم الماء الشديد الحرارة‏.‏

والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي اسحاق‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وطلحة‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وحفص والفضل‏.‏ وابن سعدان‏.‏ وهارون عن أبي عمرو، وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد، وعن السدى ما يسيل من دموعهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير، وقيل‏:‏ هو مشدداً ومخففاً وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا، والوصيفة في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء، ومنه الغياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوي به من النبات، ومن الغريب ما قاله الجواليقي‏.‏ والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم، فقد أخرج أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن حبان‏.‏ وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولو أن دلو من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عز وجل ويبعده هذا الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَخَّرَ‏}‏ أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن جبير‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو عمرو و‏{‏ءاخَرَ‏}‏ على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب آخر ‏{‏مِن شَكْلِهِ‏}‏ أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة، وتوحيد الضمير دون تثنيته نظراً للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏شَكْلِهِ‏}‏ بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير ‏{‏أزواج‏}‏ أي أجناس و‏{‏ءاخَرَ‏}‏ على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب آخر، والجلمة معطوفة على هذا حميم، وإن شئت فقدر هو أو هي واعطف الجملة على هو حميم، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على ‏{‏هذا فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 57‏]‏ ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتاه لآخر أو أخر‏.‏ و‏{‏ءاخَرَ‏}‏ وإن كان مفرداً في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى‏.‏

ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ و‏{‏مِن شَكْلِهِ‏}‏ صفته و‏{‏أزواج‏}‏ خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الأفراد ما سمعت، وأن يكون ذلك عطفاً على حميم عطف المفرد على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة، وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف، وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر، وصح الابتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوف آخر، وقيل لأنه جيء به للتفصيل، ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغنى، وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائداً على آخر وهما لا يكادات يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏هذا فَوْجٌ‏}‏ جمع كثير من أتباعكم في الضلال‏.‏

‏{‏مُّقْتَحِمٌ‏}‏ راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخيفة ‏{‏مَّعَكُمْ‏}‏ والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه، وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعاً لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا الخ‏.‏

وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكابة كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضاً في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم، والظرف متعلق بمقتحم، وجوز فيه أن يكون نعتاً ثانياً لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه، ومنع أبو البقاء جواز كونه طرفاً قائلاً‏:‏ إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار‏.‏ وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لانبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين ونهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة غير لازم لأن الاقتحام لا ينبىء عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيداً ينبىء عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبىء عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفاً، ولو قيل هذا فوج معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضاً كذلك وفسد المعنى المقصود، والعجب ممن جوز أن يكون حالاً من ضمير ‏{‏مُّقْتَحِمٌ‏}‏ ولم يجوز أن يكون ظرفاً وإن كان بغير ذلك فليفد أولاً ثم ليعترض انتهى، وقال بعضهم‏:‏ إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم، وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الاجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الاقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغنى، ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ مَرْحَباً بِهِمْ‏}‏ دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره، وأياً ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحباً لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به، وكذا لا يكون حالاً بدون تأويل، والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذل لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل، وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة عليهم السلام إن كانوا هم القائلين أو من كلام بعض الرؤساء، وجوز كونه ابتداء كلام منهم و‏{‏مَرْحَباً‏}‏ من الرهب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار و‏{‏بِهِمُ‏}‏ بيان للمدعو عليهم، وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقياً له، وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحباً وسعة، وقيل‏:‏ الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان، وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلاً على خلافه، ويقال‏:‏ مرحباً بك على معنى رحبت بلادك رحباً كما يقال على معنى أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً؛ ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون ‏{‏مَرْحَباً‏}‏ مفعولاً مطلقاً لمحذوف أي لارحبت بهم الدار مرحباً، والجمهور على الأول، وأياً ما كان فالمراد بذلك مثبتاً الدعاء بالخير ومنفياً الدعاء بالسوء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ صَالُو النار‏}‏ تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك، والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل‏:‏ إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا فلا مرحباً بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء‏.‏

‏{‏بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ‏}‏ أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا، ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحباً بهم قصداً منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعاً في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصائصهم‏.‏

وفي «البحر» خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء، وهذا أيضاً بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبراً أي بل أنتم مقول فيكم لا مرحباً بكم ‏{‏أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا‏}‏ تعليل لأحقيتهم بذلك، وضمير الغيبة في ‏{‏قَدَّمْتُمُوهُ‏}‏ للعذاب لفهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمه ‏{‏صَالُو‏}‏ وهو الصلي أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى ودخول النار لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا‏.‏

وفي الكلام مجازان عقليان، الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم، والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلي مع أنه ليس المقدم بل المقدم عمل السوء الذي هو سبب له، وقيل‏:‏ أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازاً لغوياً، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازاً لغوياً، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى بتأخير الرحمة منهم ‏{‏فَبِئْسَ القرار‏}‏ أي فبئس المقر جهنم، وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكار وإن ذلك المقر مشترك، وقيل‏:‏ قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤياء عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الأتباع أيضاً، وقول ابن السائب‏:‏ القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جداً فلا يصار إليه، وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتاً وخطاباً أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار‏}‏ أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف أي مثل وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره، ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة‏.‏

وقال ابن مسعود هنا‏:‏ الضعف حيات وعقارب، والظاهر من بعض عباراتهم أن ‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة، ونص الخفاجي على أنها شرطية‏.‏ وفي «البحر» ‏{‏مَن قَدَّمَ‏}‏ هم الرؤساء، وقال الضحاك‏:‏ هو إبليس وقابيل، وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر ‏{‏مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا‏}‏ في الدنيا ‏{‏نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار‏}‏ أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين، وقيل‏:‏ الضمير لصناديد قريش كأبي جهل‏.‏ وأمية بن خلف‏.‏ وأصحاب القليب، والرجال عمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وسلمان‏.‏ وخباب‏.‏ وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، واستضعف «صاحب الكشف» وسبب النزول لا يكون دليلاً على الخصوص، واستظهر بعضهم أن الضمير للأتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏ الخ لهم أيضاً، وكانوا أيضاً يسخرون من فقراء المؤمنين تبعاً لرؤسائهم، وأياً ما كان فجملة ‏{‏كُنَّا‏}‏ الخ صفة ‏{‏رِجَالاً‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أتخذناهم سِخْرِيّاً‏}‏ بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر‏.‏ وعاصم‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والأعرج‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لم يروهم معهم إنكاراً على أنفسهم وتأنيباً لهم في الاستسخار منهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار‏}‏ متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَنَا لاَ نرى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 62‏]‏ الخ، وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري، والمعنى ما لنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتخذناهم‏}‏ الخ، وأم فيه إما متصلة أيضاً، والمقابلة باعتبار اللازم، والمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الإزدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم، وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه، وفي ‏{‏زَاغَتِ‏}‏ دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرهم وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوباً مكرماً‏.‏ وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الانقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين‏.‏ وقرأ النحويان‏.‏ وحمزة ‏{‏أتخذناهم‏}‏ بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان، وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام إخباراً فقال ابن الأنباري‏:‏ الجملة حال أي وقد اتخذناهم، وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها‏.‏ وقال الزمخشري‏.‏ وجماعة‏:‏ صفة ثانية لرجالاً و‏{‏أَمْ زَاغَتْ‏}‏ متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَنَا لاَ نرى‏}‏ الخ كما سمعت أولاً‏.‏

وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان إن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم، وقرأ عبد الله‏.‏ وأصحابه‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ والأعرج‏.‏ ونافع‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ بضم السين ومعناه على ما في «البحر» من السخرة والاستخدام، ومعنى سخرياً بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكى عن أبي عمرو قال‏:‏ ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر، وقيل‏:‏ هو بالكسر من التسخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي الذي حكى عنهم ‏{‏لَحَقُّ‏}‏ لا بد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَخَاصُمُ أَهْلِ النار‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم، والجملة بيان لذلك، وفي الإبهام أولاً والتبيين ثانياً مزيد تقرير له، وقال ابن عطية‏:‏ بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة، وقيل بدل من محل اسم إن، والمراد بالتخاصم التقاول، وجوز إرادة ظاهره فإن قول الرؤساء ‏{‏لا مرحباً بهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 59‏]‏ وقول الأتباع ‏{‏بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏ من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصماً لاشتماله عليه، قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا، ولو جعل ‏{‏لاَ مَرْحَباً‏}‏ من كلام الرؤساء و‏{‏هذا فَوْجٌ‏}‏ من كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصماً مجازاً‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏تَخَاصُمُ‏}‏ بالنصب فهو بدل من ذلك‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ صفة له، وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفاً بأل كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح‏.‏ وأجاب «صاحب الكشف» بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولاً، وهذا القدر لا يخرج الاسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفاً لاسم الإشارة، وأما الاستعمال فمعارض بأصل الاستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى، ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الاستقلال أقل لم يتعرض له، وقد بين في موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيراً ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر، والإشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لاسيما على تقدير استقلال اسم الإشارة اه‏.‏ ولا يخلو عن شيء‏.‏

وقرأ ابن السميقع ‏{‏تَخَاصُمُ‏}‏ فعلاً ماضياً ‏{‏أَهْلُ‏}‏ بالرفع على أهل فاعل له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لمشركي مكة ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ‏}‏ أنذرتكم عذاب الله تعالى للمشركين، والكلام رد لقولهم هذا ساحر كذاب فإن الإنذار ينافي السحر والكذب‏.‏

وقد يقال‏:‏ المراد إنما أنا رسول منذر لا ساحر كذاب، وفيه من الحسن ما فيه فإن كل واحد من وصفي الرسالة والإنذار ينافي كل واحد من وصفي السحر والكذب لكن منافاة الرسالة للسحر أظهر وبينهما طباق فكذلك الإنذار للكذب، وضم إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله‏}‏ لإفادة أن له صلى الله عليه وسلم صفة الدعوة إلى توحيده عز وجل أيضاً فالأمران مستقلان بالإفادة‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة للتأكيد أي ما إله أصلاً إلا الله ‏{‏الواحد‏}‏ أي الذي لا يحتمل الكثرة في ذاته بحسب الجزئيات بأن يكون له سبحانه ماهية كلية ولا بحسب الأجزاء ‏{‏القهار‏}‏ لكل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من الموجودات منه سبحانه خلقها وإليه تدبير جميع أمورها ‏{‏العزيز‏}‏ الذي يغلب ولا يغلب في أمر من أموره جل شأنه فتندرج في ذلك المعاقبة ‏{‏الغفار‏}‏ المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء تقرير للتوحيد، أما الوصف الأول فظاهر في ذلك غير محتاج للبيان، وأما القهار لكل شيء فلأنه لو كان إله غيره سبحانه لم يكن قهاراً له ضرورة أنه لا يكون حينئذ إلهاً بل ربما يلزم أن يكون مقهوراً وذلك مناف للألوهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأما ‏{‏رَبّ السموات‏}‏ الخ فلأنه لو أمكن غيره معه تعالى شأنه جاء دليل التمانع المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ فلم تتكون السماوات والأرض وما بينهما، وقيل‏:‏ لأن معنى ‏{‏رَبّ السموات‏}‏ الخ رب كل موجود فيدخل فيه كل ما سواه فلا يكون إلهاً، وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يغلب غيره ولا يغلب ومع الشكرة لا يتم ذلك‏.‏

وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما شاء مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس بإله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلهاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وما قيل في برهان التمانع سؤالاً وجواباً يقال هنا، وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى، وللاقتصار على وصف الإنذار صريحاً فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا، وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميماً له وإيضاحاً لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه، والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الاعتناء به أمراً وائتماراً ‏{‏هُوَ‏}‏ أي ما أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله تعالى واحداً لا شريك له ‏{‏عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ خبر ذو فائدة عظيمة جداً لا ريب فيه أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة‏.‏ واستظهر بعض الأجلة أن ‏{‏هُوَ‏}‏ للقرآن كما روى عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة، واستشهد بآخر السورة وقال‏:‏ إنه يدخل ما ذكر دخولاً أولياً، واختار كون هذه الجملة استئنافاً ناعياً عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول؛ وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما في أول السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقرءان ذِى بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1، 2‏]‏ جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ الخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضاً كذلك؛ وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيداً لإرشاد الطريق وتذكيراً للباقي وتسلقاً منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضاً طرياً وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفاً، فلا يقال‏:‏ إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميماً لذلك‏.‏

وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحياً من عند الله تعالى متلازمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو من صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 67‏]‏ فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روى عن ابن عباس ومن معه، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النبإ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏ وقيل‏:‏ ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام، وقيل تخاصم أهل النار، وعدى العلم بالباء نظراً إلى معنى الإحاطة، والملأ الجماعة الإشراف لأنهم يملؤن العيون رواء والنفوس جلالة، وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني ‏{‏الاعلى‏}‏ والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملا إلا على وقت اختصامهم، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملا إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضاً من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضاً، وقيل‏:‏ إذ بدل اشتمال من ‏{‏الملا‏}‏ أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ الخ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال، وضمير الجمع للملأ‏.‏ وحكى أبو حيان كونه لقريش وابتعده وكأن في ‏{‏يَخْتَصِمُونَ‏}‏ حينئذ التفاتاً من الخطاب في ‏{‏أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 68‏]‏ إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى الله عليه وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريراً لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعييناً لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئاً عن ثبوته الآن، ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه وسلم بشيء من مباديه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتماً فجعل ذلك أمراً مسلم الثبوت غنياً عن الاخبار به قصداً وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له، فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقاً أو ما يعمه وغيره، فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائداً إلى المصدر المفهوم من ‏{‏يُوحَى‏}‏ أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني الخ‏.‏

وجوز أيضاً كون الجار والمجرور نائب الفاعل ‏{‏وَإِنَّمَا‏}‏ على تقدير اللام، قال في «الكشف»‏:‏ ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك‏:‏ لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد‏.‏

وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاماً مقام الفاعل، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا لأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمناً وإما التزاماً أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى، وما ذكر أولاً أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبياً عن إدراك اللطائف‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلى إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمر عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفاً، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلاً فتدبر ولا تغفل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏