فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة‏}‏ الخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من ‏{‏إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69‏]‏ بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ الخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملا الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله‏:‏ ‏{‏أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 33‏]‏ ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة‏.‏ ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملا الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز وجل مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ومراد، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضاً، وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفاً، وجعل الله عز وجل من الملا الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائماً به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز وجل ينبو المقام عنه نبواً ظاهراً، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصاراً بما كرر مراراً ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة‏.‏

وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمناً دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله «صاحب الكشف» وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مراراً لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعاً منه صلى الله عليه وسلم وكان عالماً بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآناً فاختصرت ههنا لما ذكر في «الكشف» اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضاً‏:‏ وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال‏:‏

‏{‏أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏ تبكيتاً لهم بما نسبوا إليه من قولهم ‏{‏أَتَجْعَلُ‏}‏ فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفرداً في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه لما أسمع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ الخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأن من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفاً مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضاً لا سيما إذ جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ من ‏{‏إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلاً لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله ‏{‏مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69‏]‏ فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَّيَقُولَنَّ خَلْقَهُمْ العزيز العليم الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9، 10‏]‏ فالخطاب بلكم نظراً إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك ههنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول‏:‏ مخاطبك جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول‏:‏ يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وإن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقال‏:‏ إن ‏{‏إِذْ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏ ظرف ليختصمون، والمراد بالملا الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ في مقابلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم تفصيل الاختصام مطلقاً بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآناً أم لا، ويجرح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضاً وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات، فقد أخرج الترمذي وصححه‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهما عن معاذ بن جبل قال‏:‏ «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعاً فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال‏:‏ على مصفاكم ثم التفت إلينا ثم قال‏:‏ أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال‏:‏ يا محمد قلت‏:‏ لبيك ربي قال‏:‏ فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال‏:‏ يا محمد قلت‏:‏ لبيك قال‏:‏ فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ في الدرجات والكفارات فقال‏:‏ ما الدرجات‏؟‏ فقلت‏:‏ إطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال‏:‏ صدقت فما الكفارات‏؟‏ قلت‏:‏ إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الإقدام إلى الجماعات قال‏:‏ صدقت سل يا محمد فقلت‏:‏ اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعملوهن وادرسوهن فإنهم حق ‏"‏ ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشكرون له عليه الصلاة والسلام أصلاً، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام، وجعل هؤلاء إذ في ‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ منصوباً باذكر مقدراً، وكذا كل من قال‏:‏ إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك‏.‏

والشهاب الخفاجي قال‏:‏ الأظهر أي مطلقاً تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى ‏{‏إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشتمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ انتهى، وفيه شيء لا يخفى‏.‏

ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم عليه السلام والرد به حاصل أيضاً، والمراد بالملائكة في ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة‏}‏ ما يعم إبليس لأنه إذ ذاك كان مغموراً فيهم، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملا الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جداً قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة‏}‏ ‏{‏إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ‏}‏ وقيل‏:‏ عبر بذلك إظهاراً للاستغراق في المقول له، والمراد إني خالق فيما سيأتي، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف، والبشر الجسم الكثيق يلاقي ويباشر أو بادي البشرة أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف، والمراد به آدم عليه السلام؛ وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمإ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة في بعض المادة البعيدة، ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلاً عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ‏}‏ أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمت نفخ ولا منفوخ أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروم الطاهرة التي هي أمري ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ‏}‏ أمر من وقع، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل‏:‏ أي فاسقطوا له ‏{‏ساجدين‏}‏ تحية له وتكريماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَجَدَ الملائكة‏}‏ أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة ‏{‏كُلُّهُمْ‏}‏ بحيث لم يبق أحد منهم إلا سجد ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر أحد منهم عن أحد فكل للإحاطة وأجمع للاجتماع، ولا اختصاص لإفادته ذلك بالحالية خلافاً لبعضهم، وتحقيقه على ما في «الكشف» أن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والضم والأصل في الإطلاق الخطابي التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيداً أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صوناً للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى النصوص، و‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد، واستخراج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه، والنقض بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكي من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ استثناء متصل لما أنه وإن كان جنياً معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليباً ثم استثني استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استكبر‏}‏ على الأول‏:‏ استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والاستكبار وعلى الثاني‏:‏ يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظيم ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏ أي وصار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى، وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد‏.‏

وكون التعاظم على أمره عز وجل لا سيما الشفاهي موجباً للكفر مما لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الاستكبار كان متضمناً استقباح الأمر وعده جوراً، ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عز وجل أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عز وجل على سبيل الإنكار والتوبيخ ‏{‏قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ‏}‏ أي من السجود ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ‏}‏ أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف، واستدل به على جواز إطلاق ‏{‏مَا‏}‏ على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال‏:‏ إن ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق ‏{‏بِيَدَىَّ‏}‏ وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتني بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسماً صغيراً انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلاً لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره إلى غير ذلك من مزايا الآدمية‏.‏ وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو ‏{‏ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ فأريد به لازمه وهو التأكيد وذلك لأن لله تعالى في خلقه أفعالاً مختلفة من جعله طيناً مخمراً ثم جسماً ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين‏.‏ وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مرو إما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة‏.‏

والسلف يقولون‏:‏ اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت في «الصحيح» أنه سبحانه قال في جواب الملائكة‏:‏ اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة‏.‏ والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ خلق الله تعالى أربعاً بيده‏.‏ العرش‏.‏ وجنات عدن‏.‏ والقلم‏.‏ وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى‏:‏ أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له‏:‏ أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ‏}‏ على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل‏:‏ ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده‏.‏

وزعم الزمخشري أن ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث أن إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيماً لأمر ربهم وإجلالاً لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقاً امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلاً ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز، وأيضاً الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضاً جعل سجود الملائكة لآدم راجعاً إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذراً من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذٍ لا تدل على الأفضلية مطلقاً حتى يلزم خرم مذهبه، ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالاً لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالاً لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعامع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام، وقرىء ‏{‏بِيَدَىَّ‏}‏ بكسر الدال كمصرخي و‏{‏بِيَدَىَّ‏}‏ على التوحيد ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ‏}‏ بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق ‏{‏أَمْ كُنتَ مِنَ العالمين‏}‏ أو كنت مستحقاً للعلو فائقاً فيه، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول‏:‏ باعتبار الاستحقاق وعدمه وعلى الثاني‏:‏ باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل ‏{‏كُنتَ مِنَ العالين‏}‏ دون أنت من العالين، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم ولم يؤمروا بالسجود وإنما المؤمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكباراً أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيداً أم قتلته‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه‏.‏ وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ‏}‏ بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله‏:‏ بسبع رمينا الجمر أم بثمان *** واحتمل أن يكون الكلام إخباراً وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ قيل هو جواب عن الاستفهام الأخير يؤدي مؤدى أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الاستكبار سابقاً ولاحقاً في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل لكونه فائقاً إلا أنه لما لم يكن وافياً بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ أما الأول‏:‏ فظاهر وأما الثاني‏:‏ فلأنه ذكر النوعين تنبيهاً على أن المماثلة كافية فضلاً عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر ‏{‏خَلَقْتَنِي وَخَلَقْتَهُ‏}‏ دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انضم إليها خيرية المادة، وفيه تنبيه على أن الآمر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر، واستلطفه صاحب الكشف ثم قال‏:‏ ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق‏.‏ وجعل غير واحد قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ جواباً أولاً وبالذات عن الاستفهام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه، وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي‏}‏ الخ تعليلاً لدعوى الخيرية‏.‏

وأياً ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضاً وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى، وكأن خطأه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فاخرج مِنْهَا‏}‏ والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها‏.‏

وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم إنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطناً ومسكناً ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم صاحبه في السوق أو غيره في دار‏:‏ أخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل‏:‏ إن المحاورة لم تكن في الجنة، وقيل‏:‏ منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحسن بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيراً من العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية، بناءً على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض، وقيل‏:‏ أخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين، وكان عليه اللعنة يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً وأظلم بعد ما كان نورانياً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ تعليل للأمر بالخروج أي مطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا، وقد يقال‏:‏ المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة، وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في الأعراف من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى‏}‏ أي إبعادي عن الرحمة، وفي الحجر ‏{‏‏}‏ 1649‏;‏للَّعْنَةَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 35‏]‏ فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضاً عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضاً من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته ‏{‏إلى يَوْمِ الدين‏}‏ يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم، لكن لا على أنها تنقطع يومئذٍ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى‏}‏ أي أمهلني وأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال‏:‏ إذا جعلتني رجيماً فامهلني ولا تمتني ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفاً بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلاً حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لا بد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالانظار المقدر لهم أزلاً لا إنشاءً لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلباً لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً حسبما تقتضيه حكمة التكوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏إلى يَوْمِ الوقت المعلوم‏}‏ الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول فالفاء ليست لربط نفس لإنظار بالاستنظار بل لربط الاخبار المؤكد به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ وقول الشافعي‏:‏ فإن ترحم فأنت لذلك أهل‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ‏}‏ قسم بسلطان الله عز وجل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار أي فاقسم بعزتك ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية‏.‏ وقرىء ‏{‏المخلصين‏}‏ على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله عز وجل ‏{‏فالحق والحق أَقُولُ‏}‏ برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق، والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ‏}‏ على أن الحق إما اسمه تعالى أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به، ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ الخ حينئذٍ جواب لقسم محذوف أي والله لأملأن الخ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحق أَقُولُ‏}‏ على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق‏.‏

وقول ‏{‏فالحق‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ لأن المعنى أن أملأ ليس بشيء أصلاً‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فالحق والحق‏}‏ بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب‏:‏ إن عليك الله أن تبايعا *** تؤخذ كرهاً أو تجىء طائعاً

وقولك‏:‏ الله لأفعلن وجوابه ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق و‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ جواب قسم محذوف، وقال الفراء‏:‏ هو على معنى قولك حقاً لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقاً فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدان جموداً محضاً‏.‏ وقال صاحب البسيط‏:‏ وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميراً نحو هو زيد معروفاً وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخراً ويكون ظاهراً نحو زيد أبوك عطوفاً وأخوك زيد معروفاً اه فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والأعمش بالرفع فيهما، وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر ‏{‏وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ وقول أبي النجم‏:‏ قد أصبحت أم الخيار تدعي *** علي ذنباً كله لم أصنع

برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر، وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما، وخرج على أن الأول‏:‏ مجرور بواو القسم محذوفة أي فوالحق، والثاني‏:‏ مجرور بالعطف عليه كما تقول‏:‏ والله والله لأقومن، و‏{‏أَقُولُ‏}‏ اعتراض بين القسم وجوابه، وجعله الزمخشري مفعولاً مقدماً لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال‏:‏ ومعناه التوكيد والتشديد وإفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الاعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها بمكان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد‏.‏

وقرىء بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية ‏{‏مِنكَ‏}‏ أي من جنسك من الشياطين ‏{‏وَمِمَّن تَبِعَكَ‏}‏ في الغواية والضلالة ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من ذرية آدم عليه السلام ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ توكيد للضمير في ‏{‏مِنكَ‏}‏ والضمير المجرور بمن الثانية، والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحداً أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم، وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين‏.‏ وقال صاحب الكشف‏:‏ صاحب هذا القول اعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للاكتفاء‏.‏ هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون فيها في موضعين مثلاً لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظاً رعاية للتفنن، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلاً‏:‏ إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة ‏{‏ص‏}‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ‏}‏ وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عز وجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى‏}‏ وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 14‏]‏ ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 15‏]‏ في الأعراف مع ذكرها فيهما في ‏{‏ص‏}‏ والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعي وقد لا تراعي حسب اقتضاء المقام، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعي عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلاً حيث أن مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي أجراً دنيوياً جل أو قل ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين‏}‏ من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعاً ولا مدعياً ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف‏.‏

وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ هم الرحماء بينهم قال‏:‏ ألا أنبئكم بأهل النار‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى قال‏:‏ هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم، وفي «الصحيحين» أن ابن مسعود قال‏:‏ أيها الناس من علم منكم علماً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما هو أي القرآن ‏{‏إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ جليل الشأن من الله تعالى ‏{‏للعالمين‏}‏ للثقلين كافة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ‏}‏ أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق ‏{‏بَعْدَ حِينِ‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ وابن زيد‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال قتادة‏.‏ والفراء‏.‏ والزجاج‏:‏ بعد الموت، وكان الحسن يقول‏:‏ يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي، وأياً ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى‏.‏

هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات‏:‏ قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18، 19‏]‏ إنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عز وجل، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجاً عنها من جنسها، وقال‏:‏ ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها‏.‏ وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول‏:‏ إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان‏.‏

وقيل‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جداً بالنسبة إلى الآخرين ‏{‏ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاماً معلوماً عينه له ربه سبحانه، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة وهو كفر صراح، وفرق العلماء بين الخليفة والملك‏.‏

أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال‏:‏ حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة‏.‏ والزبير‏.‏ وكعباً‏.‏ وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك‏؟‏ فقال طلحة‏.‏ والزبير‏:‏ ما ندري فقال سلمان‏:‏ الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب‏:‏ ما كنت أحسب أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى‏:‏

‏{‏فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والاعناق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 33‏]‏ فيه إشارة بناءً على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفى لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال‏:‏ ‏{‏رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عز وجل وليس فيه ما يخل بكماله عليه السلام وإلا لعوتب عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلاً عن الخواص قال‏:‏ بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام قالت‏:‏ يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت‏:‏ إني أشم من قولك‏:‏ ‏{‏هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ رائحة الحسد فتغير سليمان واغبر لونه ثم قالت له‏:‏ قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطى أحداً بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح أن تملك معه شيئاً مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له، وكفى بذلك جهلاً ثم قالت له‏:‏ يا سليمان وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال‏:‏ خاتمي قالت‏:‏ اف الملك يحويه خاتم انتهى، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضاً لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر، واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام‏.‏ وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال‏:‏ الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة‏؟‏ ثم قال‏:‏ والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك هو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع‏.‏

أرواح تدبر أجساداً نورية وهم الملأ الأعلى‏.‏ وأرواح تدبر أجساداً نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجساداً ترابية وهم البشر، فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقاً قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم‏.‏

‏[‏سورة الزمر‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ قال الفراء‏.‏ والزجاج‏:‏ هو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل، و‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق بتنزيل والوجه الأول لوجه كما في «الكشف»، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكراً للعالمين أو لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 88‏]‏ والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها، و‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ بمعنى منزل أو قصد به المبالغة، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائداً على الذكر في ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 87‏]‏ وجعل الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن عليه القرآن وفي ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ الاحتمالان، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون ‏{‏مِنَ الله‏}‏ خبراً ثانياً وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضاً أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالاً من ‏{‏الكتاب‏}‏ وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالاً من الضمير المستتر في ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالاً من ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ نفسه والعامل فيه معنى الإشارة‏.‏ وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق‏:‏ وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلاً لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفاً، وقرأ ابن أبي عبلة‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وعيسى ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم‏.‏ والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جمع ما فيه على أساس الحكم الباهرة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق‏}‏ بيان لكونه نازلاً بالحق وتوطئة لما يذكر بعد‏.‏ وفي «إرشاد العقل السليم» أنه شروع في بيان المنزل إليه وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى، وإياً ما كان لا يتكرر مع ما تقدم، نعم كان الظاهر على تقدير كون المراد بالكتاب هناك القرءان الإتيان بضميره ههنا إلا أنه أظهر قصداً إلى تعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الذي يظهر لي أن الكتاب الأول عام لجميع ما تنزل من عند الله تعالى والكتاب الثاني خاص بالقرآن فكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتب الهادية الشارعة تنزيلها من الله عز وجل وجعله توطئة لقوله سبحانه‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب‏}‏ اه وهو كما ترى، والباء متعلقة بالإنزال وهي للسببية أي أنزلناه بسبب الحق أي إثباته وإظهاره أو بمحذوف وقع حالاً من المفعول وهي للملابسة أي أنزلناه ملتبساً بالحق والصواب، والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتماً، وجوز كون المحذوف حالاً من الفاعل أي أنزلناه ملتبسين بالحق أي في ذلك، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين‏}‏ لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضاً له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما بين في تضاعيف ما أنزل إليك، والعدول إلى الاسم الجليل مما يلائم هذا الأمر أتم ملاءمة‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏الدين‏}‏ بالرفع كما رواه الثقاة فلا عبرة بإنكار الزجاج، وخرج ذلك الفراء على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم للاختصاص أو لتأكيده‏.‏ واعترض بأنه يتكرر مع قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ وأجيب بأن الجملة الأول استئناف وقع تعليلاً للأمر بإخلاص العبادة وهذه الجملة تأكيد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو سبحانه الذي يجب أن يخص بإخلاص الدين له تعالى لأنه المتفرد بصفات الألوهية التي من جملتها الإطلاع على السرائر والضمائر، وهي على قراءة الجمهور استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له عز وجل ووجوب الامتثال به، وفي الإتيان بالا واسمية الجملة وإظهار الجلالة والدين ووصفه بالخالص والتقديم المفيد للاختصاص مع اللام الموضوعة له عند بعض ما لا يخفى من الدلالة على الاعتناء بالدين الذي هو أساس كل خير، قيل ومن هنا يعلم أنه لا بأس يجعل الجملة تأكيداً للجملة قبلها على القراءة الأخيرة وإليه ذهب «صاحب التقريب» وقال‏:‏ بتغاير دلالتي الجملتين إجمالاً وتفصيلاً‏.‏ ورد بذلك زعم إباء هذه الجملة صحة تخريج الفراء‏.‏

والحق إنه تخريج لا يعول عليه، ففي «الكشف» لما كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ بمنزلة التعليل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاعبد الله مُخْلِصاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏ كان الأصل أن يقال فلله الدين الخالص ثم ترك إلى ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقاً بأن غير الخالص كالعدم فلو قدر الاستئناف التعليلي أولاً من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة كان كلاماً متنافراً ويلزم زيادة التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانياً لدلالته على العي في الأول إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الاجمال والتفصيل؛ وأما جعله تأكيداً فلا وجه له للوصف المذكور ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ فإنها يؤتى بها في ابتداء الاستئناف المضاف لقصد التأكيد اه‏.‏

ونص العلامة الثاني أيضاً على أن كون الجملة الثانية تأكيداً للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني ففيها ما ينبو عنه مقام التأكيد ولا يكاد يقترن به المؤكد لكن في قول «صاحب الكشف»‏:‏ ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الاجمال والتفصيل بحثاً إذ لقائل أن يقول‏:‏ إن ‏{‏لَّهُ الدين‏}‏ على معنى له الدين الكامل ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصاً فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف نعم وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الدين مرفوع على أنه فاعل بمخلصاً الواقع حالاً والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين أي الدين منك أو تكون أل عوضاً من الضمير أي دينك وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة وكم من آية تدل على ذلك‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا من أجر‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا قال‏:‏ يا رسول الله إنا نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له ‏"‏ ثم تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه الآية ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روى عن قتادة من أنه شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن من أنه الإسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ الخ تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى، والموصول عبارة عن المشركين من قريش وغيرهم كما روى عن مجاهد، وأخرج جويبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء‏.‏ عامر‏.‏ وكنانة‏.‏ وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون‏:‏ الملائكة بنات الله فالموصول إما عبارة عنهم أو عبارة عما يعمهم وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه وهو الظاهر فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل كالملائكة وعيسى عليهم السلام والأصنام، ومحل الموصول رفع على الابتداء خبره الجملة الآتية المصدرية بأن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ حال بتقدير القول من واو ‏{‏اتخذوا‏}‏ مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم أي اتخذوا قائلين ذلك، وجوز أن يكون القول المقدر قالوا ويكون بدلاً من ‏{‏اتخذوا‏}‏ وأن يكون المقدر ذلك ويكون هو الخبر للموصول والجملة الآتية استئناف بياني كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر‏:‏ فماذا يفعل الله تعالى بهم‏؟‏ فقيل إن الله يحكم بينهم الخ، والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن، نعم قرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جبير قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ‏}‏ الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية، وقد اعترض البدلية «صاحب الكشف» بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه لا سيما وحذف البدل ضعيف بل ينافي الغرض من الإتيان به، والاستثناء مفرغ من أعم العلل و‏{‏زلفى‏}‏ مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريباً‏.‏

وقرىء ‏{‏نَعْبُدُهُمْ‏}‏ بضم النون اتباعاً لحركة الباء ‏{‏إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره، وعلى قول النابغة

فما كان بين الخير لو جاء سالما *** أبو حجر إلا ليال قلائل

أي بين الخير وبيني، وقيل الضمير للفريقين المتخذين والمتخذين وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك وادعى كل صحة ما اتصف به بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم سبحانه تمييزاً يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك، والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم وهم يتبرؤن منهم ويلعنونهم قالا أو حالاً بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة وإدخال العابدين ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار، وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما يضعفه‏.‏

وأجاز الزمخشري كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من غير ذكر تعويلاً على دلالة السياق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار‏.‏ وتعقب بأنه بعد الإغضاء عما فيه من التعسفان بمعزل من السداد كيف لا وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافاً محوجاً إلى الحكم والفصل فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل‏.‏

وقرىء ‏{‏مَا‏}‏ حكاية لما خاطبوا به آلهتهم ‏{‏مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى‏}‏ أي لا يوفق للاهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب ‏{‏مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ‏}‏ في حد ذاته وموجب سيء استعداده لأنه غير قابل للاهتداء والله عز وجل لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 84‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏ وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه لسيء استعداده بالموافاة على الضلال قاله بعض الأجلة، وقال الطبرسي‏:‏ لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره وهذا ليس بشيء أصلاً، والمراد بمن هو كاذب كفار قيل من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم، وقيل‏:‏ أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالى للعبادة أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله إنهم بنات الله سبحانه أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم مقام المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلاً عليهم بالكذب والكفر وجعل تمهيداً لما بعده، وقال بعضهم‏:‏ الجملة تعليل للحكم‏.‏

وقرأ أنس بن مالك‏.‏ والجحدري‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ وابن يعمر ‏{‏كَذَّابٌ كَفَّارٌ‏}‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏لَيَئُوسٌ كَفُورٌ‏}‏ وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القراءتين وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الاعتقاد لقراءة زيد، وذكر الإمام فيه احتمالين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجاً أولياً، وحاصل المعنى لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض‏.‏

وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيهاً على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صوبة؛ ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب لو لم يخف الله لم يعصه فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء وقد اصطفى سبحانه من مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ، والجواب على هذا الوجه أيضاً محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة، وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى ولو لم يرد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه، وعلى الوجهين هو من أسلوب‏:‏ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولداً لجعل المخلوق ولداً إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى ‏{‏لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ على معنى لاتخذه ابناً على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحان مصدر من سبح إذا بعض أو أسبحه تسبيحاً لائقاً به لأنه علم للتسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحاً لائقاً بشأنه جل شأنه، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏هُوَ الله الواحد القهار‏}‏ استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضاً فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضاً وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهراً لأنهما من خواص الكم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه، ولعل مراده نحو ما مر عن الماتريدي وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل، وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضاً منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من يذكر، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه، فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها، وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة وإعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه هُوَ الغنى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ وقيل‏:‏ إن اتخاذ الولد يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثراً مقهوراً لا مؤثراً قهاراً تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فحيث كان جل وعلا قهاراً كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عز وجل ولد، وقيل‏:‏ إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهوراً إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحانه من قهر العباد بالموت‏.‏

والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزامياً لا يخلو عن بحث كما لا يخفى‏.‏

والزمخشري جعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه هُوَ الله‏}‏ الخ متصلاً بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ الخ على أنه مقرر نفى أن يكون له تعالى ولي ونفى أن يكون له ولد، ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏خُلِقَ السموات والارض بالحق‏}‏ إثبات لما ذكر أولاً من الوحدة والقهر، وفيه أيضاً ما ستعمله إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهدة ملتبساً بالحق والصواب مشتملاً على الحكم والمصالح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل‏}‏ بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية، والتكوير في الأصل هو اللف واللي من كان العمامة على رأسه وكورها، والمراد على ما روى عن قتادة يغشى أحدهما الآخر، وهو على ماقيل على معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان، ويجوز أن يكون المغشي الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفاً، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشياً للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به‏.‏

وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطاً على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور‏.‏

وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضاً كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل لية تسمى كوراً حقيقة‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهاراً فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلاً فيطول الليل ويقصر النهار‏.‏

وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 61‏]‏ في قول، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ اليل والنهار خَلْفِهِ *لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏ وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى‏:‏

‏{‏واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1، 2‏]‏ وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يغشى إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ وإنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار؛ وأياً ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ جعلهما منقادين لأمره عز وجل ‏{‏كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته، وقد مر تمام الكلام عليه، وفيه دليل على أن الشمس متحركة، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الآيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريباً من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركاً على محور الانصاف ساكتاً عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك‏.‏

‏{‏إِلاَّ هُوَ العزيز‏}‏ القادر على عقاب المصرين ‏{‏الغفار‏}‏ لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحلم عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك‏.‏

وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل، والأول أبلغ وأحسن، وهذان الوجهان في ‏{‏العزيز الغفار‏}‏ قد ذكرهما الزمخشري، وظن بعضهم أن الداعي للأول رعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال‏:‏ العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة، ففي «الكشف» أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات والارض بالحق‏}‏ من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصر وغفران ذنوب التائب، وثانيهما‏:‏ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات‏}‏ الخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفياً للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولاً من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل ‏{‏بالحق‏}‏ كما قيل هنالك

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏ وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السموات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بإلا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ الخ تحذيراً من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلاً للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه‏:‏ من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا هُوَ العزيز الغفار‏}‏ للتوكيد المذكور، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏